محمد راغب الطباخ
محمد راغب الطباخ (1292 - 1370هـ/1875 ـ 1950م) مؤرخ وتاجر من حلب.
محمد راغب بن محمود بن هاشم المشهور بالطباخ. ولد في مدينة حلب بحيّ باب قنسرين في أسرة عُرفت بالفهم والتصوف والتجارة، وقد نشأ وفي نفسه رغبة ملحّة تدعوه لمتابعة النهج الذي سارت عليه أسرته، فبدأ بالتفهم في الكتاتيب وحفظ القرآن الكريم وتلقى أصول الكتابة على بعض الأساتذة في الفترة الابتدائية حتى نال شهادتها، ثم انبتر عن الدراسة وكان قد أجاد اللغة الهجرية. ولما بلغ السادسة عشرة من عمره مضى بصحبة والده إلى الحجاز وأديّا فريضة الحج سنة 1308هـ. وبعد عودته راح يساعد والده في التجارة، وإلى جانب ذلك يتردد على بعض المعاهد الشرعية ولاسيما المدرسة الشعبانية ويحضر حلقات الدروس فيها ويحفظ بعض المتون الشعرية في النحووالتوحيد والمنطق. وفي الوقت نفسه أكَّب على المطالعة وحضور مجالس الفهماء إلى جانب اشتغاله بالتجارة.
وكان كثير التردد على فهماء حلب الذين كانوا يحملون راية الفهم حينئذ، منهم الشيخ محمد كلزية والشيخ محمد رضا والشيخ محمد الزرقا والشيخ بشير الغزي وغيرهم، ووجد لديهم توجيهاً روحيّاً سامياً وفهماً نافعاً وروحاً متوثبة مجاهدة، وثقافة فهمية واسعة.
وكان في حياته الفهمية مثال الأمانة والإخلاص والصدق، يتحلى بالمثابرة والبحث والجد وكثرة القراءة والاطلاع على مختلف الخط والمصادر، بل نسخ بخطه كثيراً منها مثل كتاب «درّ الحَبَب» للحنبلي و«الدرّ المنتخَب في تاريخ مملكة حلب» المنسوب إلى ابن الشِّحنة، و« غريب القرآن» للسجستاني وذلك قبل حتى تطبع هذه الخط.
وإلى جانب ذلك كان كثير الرحلة للاجتماع بأفاضل الفهماء وتبادل الآراء وإياهم، وربما كان عمله في التجارة سبباً في كثرة رحلاته تلك. وكان في الوقت نفسه يقوم بمراسلات كثيرة مع فهماء العرب مثل عيسى إسكندر المعلوف، وأحمد تيمور باشا، والأمير شكيب أوفدان ومع بعض المستشرقين أيضاً مثل سالم الكرنكوي ومرجليوث وكارل سوسهايم وغيرهم.
وقام في الوقت نفسه بمراسلة عدد من الجرائد والمجلات للاطلاع على ثمرات الفكر الحديث أوللكتابة في تلك الجرائد ومدها بمختلف الموضوعات والأبحاث المفيدة.
وكان من الطبيعي حتى يكلَّف التدريس في المدارس الثانوية بعد ذلك النشاط الجم؛ إذ عيّن في أول الأمر بمدرسة شمس المعارف، وعندما أغلقت انتقل للتدريس في المدرسة الخسروية في حلب (الثانوية الشرعية اليوم) فدرّس فيها اللغة العربية والتاريخ والحديث والثقافة الإسلامية، ثم عيّن مديراً لها وكان له فضل كبير في تأسيس تلك المدرسة وتعديل برامجها بما يوافق العصر الحديث، وهذا ما سبب له بعض العقبات التي حالت دون نهضة فهمية دينية تضم جميع المدارس الدينية في ذلك الوقت. ولكن هذا كله لم يثبط همته بل دفعه إلى الإصلاح الديني، والتوفيق بين الماضي والحاضر، والدعوة إلى الاطلاع على العلوم الحديثة والجمع بينها وبين العلوم الدينية. ولم تقتصر جهوده في الإصلاح على المدرسة الخسروية بل تعدتها إلى بقية المدارس الدينية القديمة، ولاسيما المدرستين: الشعبانية والعثمانية.
وقد تولى الطباخ في حياته عدداً من المناصب الفهمية، إذ كان عضواً في مجلس معارف حلب سنة 1328هـ/1910م، كما انتخب عضواً في المجمع الفهمي العربي سنة 1342هـ/1923م وعضواً في جمعية الآثار القديمة (جمعية العاديات اليوم) سنة1349هـ/1930م. وعضواً في اللجنة الإدارية للمتحف الوطني بحلب سنة1350هـ/1931م.
أما حياته في المجتمع فقد كانت زاخرة بالنشاط والحركة والعمل في سبل الخير، خير بلده ووطنه وخدمة أمته ودينه، لا يفرق بين أبناء وطنه بل يسعى إلى نشر التسامح والمعاملة الحسنة. وسعى إلى إنشاء جمعية البر والأخلاق الإسلامية التي كان لها الأثر الحميد في أعمال البر ومكافحة السقم والأمية. وختم حياته برئاسة رابطة الفهماء بحلب حتى وافته المنية. وقد مُنح قبل وفاته بعامين وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى من رئيس مجلس الوزراء الزعيم حسني الزعيم وجرى تقليده ذلك الوسام في دار الخط الوطنية بحلب.
كان الطباخ يتحلى بجملة من المزايا الطيبة إذ عُرف بأنه دائم البشر، واسع الصدر، حسن الملاقاة، لا يألوجهداً في قضاء حوائج الناس، يحب البحث الفهمي وأهله، ويكره الجدل. ولاشك حتى نشأته في بيت معروف بالتقى والصلاح كانت عاملاً أساسيّاً في تقواه وطيب سريرته وجميل أخلاقه، وكثيراً ما كان يزوره الفهماء والمستشرقون في داره المتواضعة.
وحين توفي شيع جثمانه بموكب اشهجر فيه لفيف من كبار أئمة المسلمين والفهماء والشخصيات الرسمية والنواب والأعيان والأصدقاء، ودفن في مقبرة السنابلة بحلب.
خطه
يعد الطباخ من الأعلام المعاصرين الذين شاركوا بنصيب وافر في الثقافة الحديثة وإحياء المآثر الفكرية والفهمية، وعلى هذا فقد أسس «المطبعة الفهمية» سنة 1341هـ/1922م، وطبع فيها مؤلفاته، كما نشر نفائس الخط التراثية القديمة في التاريخ والحديث واللغة والأدب، وهمُّه من ذلك كله إذاعة الفهم وتسهيل الاستفادة وتيسير الثقافة، وضحى بالكثير في سبيل تحقيق هذه الأمنية ماديّاً ومعنويّاً وقد قضى نحبه قبل حتى يتم مشروعاته الفهمية والثقافية. فمن الخط التي طبعها في مطبعته الفهمية: «معالم السنن» للخطابي البُستي (ت 388هـ)، وعلوم الحديث المعروف بـ«مقدمة ابن الصلاح» (ت643هـ)، و«الكوكب الساري في حقيقة الجزء الاختياري» لعبد الغني النابلسي (ت1143هـ)، و«القُرَب في فضل العرب» لعبد الرحيم العراقي (ت803هـ)، وغيرها.
أما الخط التي ألفها وطبعها في حياته فيبلغ عددها 14 ما بين رسالة وكتاب ومنها
- «الأنوار الجلية في مختصر الأثبات الحلبية» وختمه بإجازات مشايخه له وتراجم لبعضهم،
- «ذوالقرنين وسدّ الصين، من هووأين هو» وفي هذا الكتاب بحثٌ عن شخصية ذي القرنين الوارد ذكرها في القرآن الكريم، وعن سد الصين وما ورد فيهما من أحاديث نبوية، وما قام به العرب من بعثات لاكتشاف معالم السد،
- «الثقافة الإسلامية»، يتناول الكلام على العلوم التي تفرعت عن القرآن الكريم والحديث النبوي، كالتجويد والتفسير ومصطلح الحديث، وأشهر شرّاح الخط الحديثـيّة، كما تحدث عن علوم الفقه والمذاهب الفقهية، وعن التصوف والعلوم الأدبية والتاريخ وغير ذلك. وختم الكتاب ببحث عن ركود الحركة الفكرية ويقظتها الأخيرة في البلاد العربية،
- «الروضيـات» وهوأول كتاب يظهر في جمع ما تفرق من شعر أبي بكر الصنوبري الحلبي، أحد شعراء سيف الدولة الحمداني (ت334هـ) جمعه من أمهات المخطوطات والخط القديمة والحديثة، وضمنه ترجمة حافلة لحياة الصنوبري،
- «إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء» وهوأبرز خطه وأضخمها، ويقع في سبعة مجلدات، وقد ضمنه ما وضعه فهماء الشهباء من التواريخ الخاصة بها والتواريخ العامة التي وصل إليها فهمه، مطبوعة أومخطوطة أومفقودة، وأماكن وجودها في المخطات العالمية، وقد تحدث في الأجزاء الثلاثة الأولى على مدينة حلب وتاريخها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في مختلف العصور. ثم خصص المجلدات الأربعة الأخرى لتراجم الرجال الذين أنبتتهم حلب الشهباء من مختلف الطبقات منذ القرن الثالث للهجرة حتى سنة 1345هـ، وسار في تراجمه متبعاً التسلسل الزمني سنة فسنة. وملأ كتابه هذا بكثير من التحقيقات وتلافي الثغرات، وحل المشكلات والتضارب في الأقوال والروايات ولم يكتف بمجرد النقل والجمع. وعني خلال ذلك أيضاً بآثار حلب القديمة من قصور وقلاع ومساجد ومدارس وزوايا وما إليها، وكثيراً ما كان يزور تلك الآثار ليصفها وصفاً مفصلاً ويقرأ ما خط على جدرانها. وبذلك اتى كتابه هذا سجلاً حافلاً للحوادث التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى جانب عنايته بتراجم الأعلام من الرجال والنساء.
المصادر
- محمود فاخوري. "الطبـاخ (محمد راغب ـ)". الموسوعة العربية.
للاستزادة
- سامي الدهان، قدماء ومعاصرون (مصر 1961م).
- سامي الكيالي، محاضرات عن الحركة الأدبية في حلب (القاهرة 1957م).
- علي رضا كحالة، معجم المؤلفين (دمشق 1957ـ1961م).
- محمد يحيى الطباخ، محمد راغب الطباخ حياته وآثاره (رسالة جامعية، دمشق 1957م).