عصر إبراهيم باشا

عودة للموسوعة

عصر إبراهيم باشا

لم يكن يدور بخلد محمد علي على انه عندما تزوج – وهوفي سن صغيرة – من أمينة الشربجي وأنجب منها ثلاثة ذكور (ابراهيم وطوسون واسماعيل) وأنثيين (توحيدة ونازلي) ان ابنه الكبير ابراهيم يفترض أنقد يكون له الدور المهم على الساحة الدولية.

ولد ابراهيم عام 1204هـ/1789-1790 في نصرتلي بعد انتنطق والده اليه من قولة. وقد أثيرت قضية نسبه فيما بعد – كان وراءها المناهضون من أتباع عباس ابن طوسون الذي يكن له الكراهية – بأنه ليس من صلب محمد علي وانما هوابن لزوجته من آخر، ولكن أدحض ذلك لأكثر من سند:

الأول: ان الزوجة كان قد عقد عليها زوج قبل محمد علي، ولم يدخل بها حيث توفى، وهذا ما أكده محمد علي لكامبل – المبعوث البريطاني بقوله ان زوجته لم يكن لها قد بعل سواه. والثاني: ان محمد علي أسماه ابراهيم على اسم ابيه ابراهيم اغا. والثالث: في يناير 1812 ذكر محمد علي في احدى مراسلاته للسلطان ان ابناءه اعزاء لنفسه كحياته أوبصره، ولا يستطيع ان يفترق عن احدهم، وانه ارسل ابنه الكبير للسودان لمطاردة المماليك. والرابع: هذا الشبه الكبير بين الابن والاب، ليس في ملامح الوجه فحسب، وانكا كذلك في اعضاء الجسم، مثل قصر الذراعين. والخامس: ما اكده السفير النمساوي في استنابول (الآستانة) بان ابراهيم هوالابن البكر لوالي مصر. والسادس: ان الجبرتي الذي لم يكن الحب لمحمد علي وابنه، لم يكن ليغفل ذلك في سفره الضخم الذي خطه. والسابع: فرمان ولاية ابراهيم على مصر، مما يبرهن على اليقين من بنوته لمحمد علي. والأخير: انه اثناء حكم سعيد، اناب عنه اسماعيل بن ابراهيم في فترة غيابه، وهوالذي ورثه على عرش مصر، وبالطبع فانه لن يقدم على ذلك الا اذا كان متأكدا من ان ابرهيم هواخوه.

اهتم محم علي بتعليم اولاده الدروس الهجرية على يد احد شيوخ القرية، ووضح تميز ابراهيم، نظرا لتطلعه للفهم، وقد صحب والده في رحلاته وسط جبال وتلال مقدونيا الشرقية، وكان ينصت الى الناس ويعي حديثهم.

وهجر الاب اولاده وأبحر الى مصر مع الحملة العثمانية، وتلاحقت الاحداث في مصر، واصبح واليا عليها عام 1895، وهنا ارتأى له احضار اسرته، وكان أول الوافدين ابراهيم البالغ من العمر وقتئذ الست عشرة سنة، وأخوه طوسون ذوالاثنى عشر ربيعا، فوصلا القاهرة في 28 أغسطس من العام نفسه، وما لبث ان اصطحب محمد علي ولده ابراهيم الى القلعة، وعينه محافظا عليها.

وسرعان ما سقطت حادثة اثرت في كيان ابراهيم، حيث قرر الباب العالي رحيل محمد علي من مصر وتسلمه السلطة اما في كاندي أوسالونيك، وعندئذ استخدم الوالي سياسته وتفاوض مع القبطان باشا على ان يقدم لاستانبول مبلغ 4.000 كيس – 2 مليون قرش – ولما تعذر ذلك، قدم ابراهيم رهينة للباب العالي حتى يسدد المطلوب منه، فأبحر مع القبطان باشا في 18 أكتوبر 1806 حاملا معه الهدايا، حيث قضى حوالي العام هناك، وقد شكل له الاهمية، اذ تلقى التعليم، وتعهد على بواطن الكثير من الأمور في عاصمة الخلافة، وادرك حالة الضعف التي وصلت اليها الدولة عن قرب، ومن ثم اتضحت امامه صورة العثمانيين دون رتوش، فامتلأ صدره بالحنق عليهم، وأسفر ذلك عن موقفه المعادي للدولة بصفة عامة، والعنصر الهجري بصفة خاصة.

وعقب عودة ابراهيم باشا على مصر، وفي 24 ديسمبر 1807، ومع صدور فرمان تجديد الولاية لمحمد علي وانسحاب الحملة الانجليزية من مصر، عين ابنه دفتردارا، وهومنصب يعد بمثابة وزير المالية، وأصبح عليه حتى يدبر الأموال الازمة لاحتياج حملة شبه الجزيرة العربية، ولتحقيق سياسة أبيه، فقام بواجبه، واشتدت يده على الملتزمين. ومما يذكر أنه عارض والده في مسالة فرض ضرائب جديدة على الفلاحين، حتىى لا يهجروا الارض ويتسحبوا.

وعندما عقد محمد علي العزم على تولي طوسون حملة شبه الجزيرة العربية، منحه السلطان محمود الثاني لقب الباشوية، مما أثر على ابراهيم باشا الذي لم يكن والده يستغني عنه حينئذ داخل البلاد، اذ عده خليفته المنتظر، في وقت ضربت فيه الفوضى أطنابها بالصعيد، اذ سقطت اضطرابات المماليك والبدووقطاع الطرق، وهنا أيقن محمد علي ان ابراهيم لديه القدرة على ضبط الامور، فعينه حاكما على الصعيد، واصدر بذلك فرمانا في يوليو1813. وقد تمكن بمهارة من تدعيم نفوذ الدولة على صعيد مصر، فاستتب الأمن، واستخدم أدواته الصارمة، فأقام مذبحة للماليك في اسنا، ومسح جميع الاراضي الاميرية والاقطاعات – التأريع – التي كانت للمتلزمين والأمراء الهوارة وذوي البيوت القديمة، وأراضي الرزق والأحباسية والأوقاف وغيرها، وذلك لتقدير الضرائب، وغير نظام الحيازة – بدأ الغاء نظام الالتزام في الصعيد أولا ثم انتقل للوجه البحري عام 1814 – ونجح ابراهيم باشا في فرض نظام صارم عن طريق القسوة، والشدة لغير المتعاونين معه، وكان قد تجاوز ان طلب محمد علي من الباب العالي منح ابراهيم رتبة ميرمان – أمير الأمراء – فمنحت له في عام 1813.

كانت الحملة المصرية على شبه الجزيرة العربية – توجهت بناء على تكليف من السلطان – قد بترت شوطا من النجاح، ومع تقدم طوسون داخل نجد، طلب عبد الله بن سعود الصلح، وعقدت الهدنة بين الطرفين، ووصل طوسون للقاهرة فيثمانية نوفمبر 1815، وذلك في وقت أعدت فيه حملة جديدة، وعقدت قيادتها لابراهيم – كان آنئذ في سنة السابعة والعشرين، فودع أمه التي كان لها الأثر الكبير في أعماقه – ووصل ينبع في 29 سبتمبر 1816، وهواليوم الذي توفى فيه طوسون ووالى فوزاته على الوهابيين، وهدم الدرعية العاصية في سبتمبر 1818، تطبيقا لتعليمات محمد علي. وقد مثلت الحرب في الصحراء صعوبة بالغة سواء من حيث المناخ أوالسكان، وتمكن ابراهيم من تطويع الظروف، وأثبت أنه رجل حرب، وفي الوقت نفسه رجل ادارة وسياسة، ففي كثير من الاحيان تلازمه الشدة والصرامة والحزم، كما أنه أولى عناية خاصة بتسهيل مهمة حجاج بيت الله الحرام. وقد لفتت براعته الحربية نظر حكومة الهند البريطانية، فبعثت سادلير احد ضباطها ليتعاون مع ابراهيم في حملة عسكرية ضد راس الخيمة، لكن محمد علي رفض هذا التعاون. وتقديرا لما قام به ابراهيم، منحه السلطان في 19 يناير 1817 الباشوية ذات الثلاثة أذناب – تخول لصاحبها حمل ثلاث خصلات من شعر ذنب الخيل، وتوضع فوق الرمح الذي يتقدم الباشا في الحفلات الرسمية، وهي أعلى رتبة يمنحها السلطان لوزراء الدولة – وخلعة الوزارة.

دخل ابراهيم القاهرة فيتسعة ديسمبر 1819 مكللا بالغار، فاقيمت له الاحتفالات، وذلك أثناء الاعداد لحملة السودان التي تولى قيادتها اسماعيل أصغر أبناء محمد علي، وتحركت في يوليو1829، وضمت المدن. وللقاءة الصعوبات التي اعترضتها، سافر ابراهيم الى السودان لانقاذ الموقف، وتم التخطيط للاستيلاء على ما تظل من أراضي سودانية، ولكنه لم يستكمل مهمته ، واضطر الى العودة لمصر بسبب اشتداد سقم الدوستناريا عليه.

وفي مصر تفرغ للادارة، حيث أصدر محمد علي امرا في مارس 1821 باستعادته لمنصبه الخاص بتنظيم الانطقيم القبلية ومسح ارض القرى، وبذل همته في ذلك متوخيا الدقة المتناهية، مستعينا بالمهندسين الاجانب ، هذا بالاضافة الى توليه وظيفة الكخيا أي النيابة عن ابيه – ابان سفره – للنظر في الاحكام والشكاوى والنادىوى.

ونظرا لسياسة السلطان واحتياجه لمجهودات ابراهيم ، ورد للأخير الفرمان الشاهاني سنة 1823 بتوليه ولاية جدة والحبشة ومشيخة الحرم المكي ومحافظة المدينة المنورة، مما جعل له المقام الاول بني امراء الدولة العثمانية، واصبح على مرتبة من محمد علي، وربما أراد السلطان ان يضع حجر اساس للعداء بين الشخصيتين ليكون هوالفائد باستقطاب المنعم عليه.

وسرعان ما تولى ابراهيم قيادة حملة جديدة أقلعت الى المورة في 19 يوليو1824 تلبية لطلب السلطان ، لتشهجر مع اسطول الدولة لاخماد الثورة هناك، وأبلى في البحر بلاء حسنا، وراى ان الهزيمة الساحقة لليونانيين تكون بالتعاون بين الجيش والبحرية، وعليه سقطت في يديه مدن يونانية بعد ان استخدم مواهبه الحربية، ومنحه السلطان ولاية المورة. ولكن ما لبثت ان تدخلت الدول الأوروبية – بريطانيا ، فرنسا ، روسيا – خشية عوامل عدة، اهمها الا يتحول البحر المتوسط الى بحيرة مصرية. ومن ثم انتصرت أساطيلها وحطمت الاسطولين المصري والعثماني في معركة نفارين في 20 أكتوبر 1827.

وعاد ابراهيم الى مصر ليكون الذراع اليمنى لمحمد علي، اذ نظمت الادارة ، وتلى ابراهيم مديري الشرقية، فقام باستحداث طرق جديدة، وخاصة فيما يتعلق بالادارة المالية، كما أشرف على أعمال الترسانة البحرية بالاسكندرية التي تولت تجديد عمارة الاسطول، وأصبح على رأس الادارة المدنية والعسكرية، وكان لا يمل ولا يكل من الحركة الذاتية في المتابعة والمراقبة والتفتيش.

وفي الفترة الممتدة من ثلاثة أغسطس الى 14 يونيو1830 فاوضت فرنسا محمد علي وابراهيم ، وركزت على الاخير – وفقا لنصيحة قنصلها في مصر – وذلك بشأن توليه قيادة حملة عسكرية لصالحها في الجزائر، واعطاء والده حق المفاوضة مع المسئولين الفرنسيين، فلفها بدبلوماسية وحزم، ومما يذكر انه كان أحد مسببات فشلها، حيث كان يرنوببصره للشرق.

ووفقا لسياسة محمد علي، وفي عام 1829، وبناء على ما أشار به ابراهيم، تم انشاء مجلس المشورة وهوالهيئة شبه النيابية الأولى التي عهدتها مصر، وكانت سلطته استشارية، وشارك فيه المصريون بعدد لا بأس به من الاعيان، وذلك لمكانتهم الاقتصادية والاجتماعية لدى الناس. وحتى تصبح هناك مرونة في اداء التكليفات، تولى ابرهيم رئاسة المجلس، ووصفه بانه برلمانه مما يشير على أوتقراطيته. ومن المعروف وقتئذ حتى تلك الصفة، اتسم بها أصحاب السلطة ليس فقط في مصر ، وانما في خارجها.

فوزات الشام المدوية

من الامور المسلم بها ان اشتراك مصر بحملتي شبه الجزيرة العربية والمورة، قد اتى تلبية لطلب السلطان، بمعنى ان القيادة التي تولاها ابراهيم كانت تحت المظلة العثمانية، وفي الواقع فانه لم يحمل اي تقدير للاتراك منذ ان كان رهيبة لدى استنابول، واتسعت الهوة في حرب المورة نتيجة للاحتكاك المباشر مع قادتهم من ذوي المستوى المتدني، بالاضافة الى زيادة معهدته بخفايا الدولة العثمانية وما وصلت اليه من تعثر وتخبط، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فان فترة ما بعد هزيمة نفارين، وحصول اليونان على استقلالها، مثلت فترة نشطة لمحمد علي وابنه ، تم فيها اعادة البناء وترتيب الاوراق. وأسفرت النتيجة عن الخروج من تحت عباءة العثمانيين، وخاصة بعد الفوزات التي حققها الجيش المصري الذي ثبت خضوعه لقيادة على أعلى درجة من الكفاءة وتمتعه بأحدث النظم العسكرية الحديثة.

واختمرت في ذهن الاب والابن مسألة الإرادة على نجاح المشروع التوسعي، وبالتالي أصبح لابد من لقاءة الدولة صاحبة السلطة الشرعية على مصر وجسدت الشام هذه اللقاءة، وغدت بيت القصيد لتحقيق الغرض، لأهميتها الاستراتيجية، والاقتصادية، والدينية والثقافية، اذ كان محمد علي وابنه على وعي بحركة التاريخ، زد على ذلك مسقطها المتميز على خريطة المشروع، فيحدث ابراهيم أباه عن حتى مصر لن تأمن على حياتها وتطمئن الى سلامتها، الا اذا كانت حدودها الشرقية آمنة، وينوه الى غزوها عن طريق برزخ السويس، وأن الواقع يفرض حتى تكون حدودها الشمالية جبال طوروس، وأن ضم الشام اليها لنقد يكون هجوما وعدوانا وانما دفاعا وتأمينا.

وكان باشا مصر قد تجاوز وأبدى السلطان رغبته فيها، منذ حتى طلب منه الأخير المعونة الحربية، لكنه يفترض أن الطلب. وعلى جانب آخر، وتدريجيا شغلت الشام الحيز في السياسة المصرية، وعمل ابراهيم جنبا الى جنب مع محمد علي في الاسهام بالاتصالات مع حكام الشام، لدرجة أنه – الابن – كان يبعث المراسلات المتضمنة المعارك العسكرية التي انتصر فيها اثناء حرب المورة الى عبد الله باشا والي صيدا، وسرعان ما ساءت العلاقات بين الطرفين، وهيأت الفرصة لوالي مصر بعد حتى أعد عدته لحملة الشام.

من المعروف ان للشام طابعه الخاص الذي منحه شكلا أثر في تكوينه السكاني، فضم بين جناحيه التنوع العنصري واللغوي والعقائدي، فهناك الساميون والأكراد والسريان والأتراك والبشناق والكريتيون والألبان والأرمن والأوروبيون. ونتج عن هذا الخليط اختلاف اللغة والدين والعادات والتنطقيد، ومن ثم اصبح من الصعب حتى يربط هذا المجتمع سياج من الوحدة الطبيعية، لذا فتحديد الوجود البشري يعتمد على التقسيمات الدينية التي أصبحت المقياس للحصر، فالهجري والعربي على قدم المساواة، وانما التفرقة بين المسلم والمسيحي الذي تبعه التفرقة في المذاهب الدينية، مما نتج عنه حشد متباين، تمثل في العداوات والمشاحنات والمشاغبات التي فرضت نفسها على المجتمع ، لتتبلور في قلاقل تصاحبها ثورات، حيث يقوم السلاح بدوره في هذا الشأن، ومن هنا أصبح التعصب المفتاح في انفجار أية أزمة.

وقضت هذه الاواضح بجعل حكم المنطقة وادارتها غاية في الصعوبة، ولذا اخضعتها الدولة العثمانية لنظام اداري تعددت فيه الباشاوات، اذ كان غير الملائم تطبيق المركزية. وبضعف الولة ، فقدت السيطرة على ولاتها الذين عاثوا في ارض الشام فسادا، بالاضافة الى ما اقدم عليه جنودها من سلب ونهب للأهالي. وفي الوقت ذاته عانى المجتمع من الاقطاع الذي تجلى بصورة واحضة في جبل لبنان، ومما زاد الامر وبالا بالاضطهاد الذي تعرض له اهل الذمة، وبالتالي ألقت الفوضى والفساد بظلالها على المجتمع الذي أصبح يئن بعد حتى طفح به الكيل، وكان ذلك عاملا مهما لتمهيد السبيل ومنح التسهيلات لنجاح الحملة المصرية على الشام.

أعدت الحملة البرية على الشام في نوفمبر 1831 وفقا للتقنية العسكرية الحديثة، وصحبها الأسطول ، وأنيطت القيادة العليا لابراهيم صاحب الفوزات العسكرية الحديثة، ومعه نخبة من القادة، بالاضافة الى الاجانب من ذوي الخبرة، ودون حرب أصبحت المنطقة من غزةالى يافا في أيدي ابراهيم، وخضع متسلموها وشيوخها للوافد الجديد، وقلدهم القائد أمر الحكم وألبسهم الخلع. وقد دل ذلك على الترحيب بالوجود المصري، وتم تفويض الأمير بشير بحكم لبنان، وحاصر ابراهيم عكا، وأعد الخطة للاستيلاء على باقي المدن الشامية، ثم استسلمت عكا في 27 مايو1832 للقائد الذي منحها الأمان وأصدر أوامره بترميم واصلاح ما تهدم بها، ونهى عن السلب والنهب.

وتباعا أصبحت موانئ الشام في قبضة ابراهيم الذي منح أعيانها وفهماءها الأمان، وكان قاسيا على من لا يتبعه، ومنذ اللحظة الأولى أثبت سطوته وقوته، وان كان قد تخللتها الرأفة أحيانا، واتى الدور على دمشق التي وصفت بأنها "احدى جنات الدنيا" فاستسلمت بعد مقاومة عابرة، وتلا ذلك دخول ابراهيم حمص، ولم يحتاج ما تظل من مدن المجهود. وهزم ابراهيم قوات السلطان في حلب، ورحب أهلها به، وعرض أعيانها مشاكلها عليه، فوعدهم خيرا بما ترتاح اليه انفسهم، واستقبل وفود اورفا وديار بكر التي اعلنت خضوعها للحكم المصري.

وواصل القائد تقدمه، وانسحبت القوات العثمانية عبره، وضم بيلان والاسكندرونة وبنياس وانطاجية واللاذقية والسويدية وطرطوس، وزحف تجاه الأناضول، ودخل أدنة وعنتاب ومرعش وقيصرية، واستولى على قونية في 21 ديسمبر 1832 بعد فوز باهر على الاتراك، وغدا الطريق مفتوحا أماما الى استنبول.

وأصبح ابراهيم يمتلك القوة التي تمكنه من مواصلة فوزاته، وخاصة أنه استوعب تماما حتى أصحاب الشام يؤيدونه ويستنجدون به للخلاص من أيدي العثمانيين الظالمين، فاستمر في النديد بالحكم الهجري ، وكان قبل قونية قد هاجم السلطان، وركز على ما يتعرض له الاسلام من أخطار بتسلط الدولة الأوروبية وتحكمها في هذه الشخصية، وطرح سؤالا على المفتين: اذا كان امام المسلمين متهما بعدم استقامته، فهل للمسلمين الحق الشرعي في اسقاطه،يا ترى؟ فاتىه الرد بشرط حتىقد يكون باجماع 12 ألفا.

واستأذن والده في حتى يحمل خطباء المساجد على القاء الخطب باسمه لأنه يريد ان يسلك المعدن وهوحام، ولكن يرفض محمد علي، اذ رأى حتى تكون الفتوى "من بلاد السلطان لا من مصر، حتى ينطق ان الشعب هوالذي أسقط سلطانه" ولم يقتنع الابن متعللا بالقول "ان الأمة لا تملك المقدرة على العمل، فالواجب ان نعمل نحن، ثم نطلب ثقتها".

وبعد أسبوع من فوز قونية، خط ابراهيم الى محمد علي ليأذن له بالتقدم – وخاصة بعد حتى أسر مصطفى رشيد باشا القائد الهجري – كما أبلغه مقدرته على خلع السلطان، وزحف واستولى على كوتاهية، وخط الى أبيه مشروحا بأنه لا توجد في طريقه قوة تقاومه حتى دخول استنابول – المسافة 50 فرسخا – ورجاه بقوله "بحق حبنا للأمة الاسلامية وغيرتنا الدينية، أرى الواجب المحتم علينا لا العمل لمصلحتنا فقط، ولكن العمل فوق جميع شئ وقبل جميع شئ لمصلحة هذه الأمة كلها، من أجل ذلك يجب علينا خلع السلطان المسئوم، ووضع ابنه ولي العهد على العرش، ليكون ذلك بمثابة محرك يحرك هذه الأمة من سباتها العميق، فاذا اعترضت على بأن اوروبا تعتضرنا، قلت لك إننا لا ندع لها الوقت للتدخل، وبذلك ينتفي الخطر من ذلك الجانب، لأن مشروعنا ينفذ قبل حتى يعهد، وبذلك نضع أوروبا أمام الأمر الواقع، واذا كانت اوروبا تغتنم الفرصة لاشباع مطامعها من هذه الدولة فأية تبعة تقع علينا"؟

ولم يقر محمد علي ذلك الاتجاه آنئذ، وتلقى ابراهيم الأمر منه بالتوقف عن الزحف، بناء على السياسة الأنجلوفرنسية حيال التدخل الروسي في شئون الدولة العثمانية والمحافظة على الوضع الراهن ، الذي كان في طريقه للإنزواء بفوزات القائد. وأجريت الاتصالات الأوروبية مع محمد علي وابراهيم لحسم الموقف مع السلطان، وأمام ذلك رأى ابراهيم حتىقد يكون استقلال مصر مقدما على جميع شئ في المناقشات لحيويته، وأنه بناء على عدم الحصول عليه، تصبح المجهودات التي بذلت هباء منثورا، وتجعل مصر تحت سيطرة الدولة الخبيثة – العثمانية – وأنه بعد الاعتراف بالاستقلال ، تضم الى مصر أضاليا وأدنة، لشدة الحاجة الى الاخشاب، وكذلك قبرص لتكون مركزا للأسطول ولسد الطريق أمام الباب العالي، وان أمكن طرابلس وتونس، وأنه لا مانع من طرح مسألة ضح بغداد في المباحثات.

من هنا يتضح ان ابراهيم عندما عثر حتى هناك عقبات أمام تقدمه لأستبول، وأهمها عدم موافقة أبيه الذي كان يتلقى منه الأوال، نظرا لاختلاف الرؤية نتيجة للظروف التي أحاطت بالأخير، اتجه الى توسيع حدود مصر، فهل كان ذلك الأمر يحمل أبعادا عربية؟

الواقع حتى فكر القومية العربية لم تكن قد تبلورت بعد أثناء القرن التاسع عشر في الشرق، حيث تواجد نفوذ الدولة العثمانية، وهي الدولة الأم ذات الطابع الديني التي خضعت لحكمها الولايات العربية – ما عدا المغرب الأقصى الذي كانت تربطه به علاقة طيبة، ولكن بحكم احتكاك ابراهيم بجنوده المصريين، وبالعرب سواء في شبه الجزيرة العربية أوالشام، ومشاعره العدائية للأتراك، قد جعله يميل للعنصر العربي، وبالتالي فانه عندما رصد قناصل الدول تصرفاته، التقطوا صورا تنم عن ذلك الارتباط، ونقولها الى مسئوليتهم ، منها حتى المنشورات والتوجيهات والتعليمات الصادرة لجنوده كانت باللغة العربية، وان الاشادة بأمجاد العرب ترددت على لسانه في وقت ازدادت فيه نقمته على الاتراك، وتشير لتصريحه بأنه اتى مصر صغيرا، وحرارة شمسها صهرت ما يجري في عروقه من دماء، فانسابت دماء عربية نقية.

ان شخصية ابراهيم استحوذت عل المكانة في المراسلات، فيسجل القنصل النمساوي في 16 يوليو1833 قوله عنه "انه ابن هذا العصر، وقد تربى تربية عصرية، وتنزه عقله عن الانبطاع على الخضوع على السلطان بحكم المبادئ الدينية، واني لأرى الى جانب ضعف الباب العالي وهزاله، جيشا عربيا قويا ممرنا على أحدث أساليب القتال، وأرى اسطولا قوية، وكلاهما يسهل مضاعفته". ويسطر القنصل البريطاني فيستة نوفمبر 1833 ليصف حالة البؤس التي عليها بغداد، مصرحا بأن "أنظار الشعب العربي متجهة في هذه المحنة نحوابراهيم" معنى هذا ان الرغبة في الدخول تحت الحكم المصري كان لها العامل المشجع لدى رؤية ابراهيم.

وفي خضم ذلك، نجحت فرنسا في الوسط بين باشا مصر والسلطان، وانتهى الأمر بعقد اتفاق كوتاهية (أبريل-مايو1833) وبموجبه تنازلت الدولة العثمانية عن الشام لمحمد علي، وثبتت ولايته على مصر وكريت، ومنحت ابراهيم مقاطعة أدنة، وجددت اسناد ولاية الحجاز لعهدته، لقاء الانسحاب من الأناضول مع دفع 32 ألف كيس – 16 مليون قرش – ووفقا لذلك أصدر السلطان فرمان الولاية.

ولم تكن النية خالصة، فعقدت الدولة العثمانية معاهدة "هنكار اسكله سي" مع روسيا فيثمانية يوليومن العام نفسه، وحشدت جيشها ، وتأهبت لاسترجاع الشام، ودست دسائسها ضد الحكم المصري، وعلى جانب آخر حصن ابراهيم حدود الدولة الجديدة استعدادا للقاء القادم.

وسعت الدول لتحجيم محمد علي، وتزعما بريطانيا الموقف، ومما أقلقها خشيتها من غزوابراهيم لبغداد، واتساع دائرة الدولة المصرية الفتية وفي ذلك ما يضر بمصالحها الامبريالية، وبذلت مجهوداتها لدى السلطان الذي أصدر فرمان ديسمبر 1835، بالغاء احتكار محمد علي للحرير في الشام، ثم عقدت معاهدة بلطة ليمان في أغسطس 1838 بين الطرفين التي ألغيت الاحتكار في جميع الولايات العثمانية.

وأثمر العمل المكثف ضد الحكم المصري في الشام الذي نتج عن تعاون عثماني بريطاني استغل اجراءات فرضها هذا الحكم على الأهالي عن قيام الثورات، مما عجل بتجدد القتال، فقد تحركت القوات العثمانية لاستراداد الشام، واتى اللقاء في 24 يونيو1839، بين الجيشين العثماني والمصي في نصيبين، وانتهى بفوز ساحق لابراهيم وانهيار تام للعدو، وعليه استطاع المحافظة على تلك الاراضي الشاسعة التي سيطر عليها، ولم يتوقف وتقدم فاستولى على بيره جك وعينتاب ومرعش وأورفا.

والواقع حتى تاريخ ابراهيم العسكري يشهد له بالتفوق، حيث انتهج الأساليب القتالية الحديثة دون التمسك حرفيا بما هومدون في خط الفنون الحربية، لكنه في الحين ذاته كان يأمر بترجمتها، كما أنه لم يتحمل عن حتى يقوم بالتدريبات كأحد الجنود، وكانت له استراتيجيته التي عدت آنئذ أبرز أدواته في الحصول على النصر، وخاصة أنه قضى الكثير من سنوات عمره على أرض المعركة، فأصبح صاحب الخبرة في شتى الميادين، حارب في البر والبحر، فخبر الصحراء والوديان والسهول والبقاه والمياه، والتزم بما خططه من مبادئ أهمها: المحافظة على الهدف، حشد وادخار القوى، خفة الحركة، المفاجأة والسرعة، حرب العصابات، تعاون الأسلحة، الوقاية، البساطة، اختيار القواعد، طريقة الهجوم، الضبط والربط، التدريب، المطاردة، الاعتماد على لليل، دراسة سيكولجية العدوونقاط ضعفه، سرعة التصرف والمبادأة، بعد النظر ، الهدوء ، الرقابة، تشجيع القوات.

وكان ابراهيم باشا في مقدمة جيشه، وقد مثل القدوة لجنوده المصريين الذين أحبوه لما يقدم عليه من مشاركة في الأعمال الشاقة، والنوم في العراء على الثلج – وتسبب له ذلك في الاصابة بسقم الروماتيزم والدرن – وكانت تثور ثائرته عندما تتأخر رواتبهم ، ويبعث لأبيه ليبين له مغبة ذلك، ويركز على ارتباط الجيش بمصر والمصريين، ويقارنهم بالجنود الأتراك الذين يتسلمون روابتهم بانتظام.

وأقدم ابراهيم على خطوة مهمة، اذ قرر ترقية جنوده – أي من تحت السلاح – الى رتبة يوزباشي (نقيب) بعد حتى أيقن ما يتمتعون به من صفات الشجاعة في الميدان، تلك التي لا تتوفر في الضباط الأتراك، ودخل في مساجلات مع أبيه لتبرير ما أقدم عليه، وكيف أنه خبر المصريين – أطلق عليهم العرب – ولم يكن يستطيع حينئذ حتى يخصل لهم على راتب أعلى لمعارضة باشا مصر صاحب الهوية العثمانية. وزاد الأمر بأن طلب استحداث أوسمة لبعضهم، ولكنه في الوقت ذاته لم يتهاون معهم، واستخدام سياسة الشدة، وكان قاسيا على المخالفين، وعقابه هوالردع في الحال.

أضحى لزاما على الدول الأوروبية حتى تتدخل بشكل حاسم، وكان السلطان عبد المجيد قد اعتلى عرش السلطنة في أول يوليو1839، ومما زاد الموقف تعقيدا استسلام السلطان العثماني لمحمد علي بالاسكندرية، وهذا الأمر قوى من مركزه، ومن ثم غدا جليا ان التوازن الدولي الذي حافظت عليه الدول والمرتبط بالمسألة الشرقية في سبيله للإنهيار، وبالتالي أصبح الهدف الرئيسي هوالمحافظة على الوضع الراهن، بمعنى الحرص على استمرار وجود الدولة العثمانية – الرجل المريض – كما هي، وضرب مشروع محمد علي ووأد طموحاته التي تتعارض مع المصلحة الامبريالية، وابعاد التدخل الروسي عن المنطقة، وضمان الأمن الأوروبي، أي حتى الأمر لم يكن مؤامرة بقدر ما خطة دولية مرسومة، ومن هذا المنطلق أبرت معاهدة لندن في 25 يوليو1840 التي سقطتها بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا وكريت لاستنابول، وأن يسمح له بولاية مصر وراثية، وولاية عكا مدى حياته، وحددت الفترة الزمنية للقبول بعشرة أيام بالنسبة لعكا ومثلها لمصر. وبلغت المعاهدة لمحمد علي في 17 أغسطس، وانتهت المهلة الأولى فسقطت عكا، في وقت حاصرت فيه بتر الاساطيل البريطانية والنمساوية والعثمانية السواحل الشامية، واستولت على أبرز مدنها.

ولم تجد الاستعدادات الحربية التي أقامها ابراهيم الذي عثر نفسه قد فرض عليه قبول الأمر الواقع، بعد التدخل الدولي والثورات والخيانات، وسرعان ما أمره محد علي بالانسحاب بعد حتى فقد الأمر في الاستمرار، وخاصة عندما تخلت فرنسا عنه. وتم تنظيم رحلة العودة الى مصر، وجسدت أشد أنواع المعاناة سواء ما اختص بالحالة المعنوية أوالحالة البيئية أوالحالة المعيشية، وتفرعت الرحلة الى ثلاثة فروع، وسلك جميع منها طريقا، وتولى ابراهيم احداها، وتم الانسحاب من غزة في 19 فبراير 1840 وشكل خسائر فادحة.


بعيدا عن المعارك الحربية

تمكن ابراهيم أثناء تقدمه على أرض الشام من دراسة المواقف تجاه أصحاب المناصب من أهل البلاد، ومن رأى فيه القوة والتعاون والترحيب، ثبته في وظيفته، ووضع له الشروط التي تنم عن رؤيته لنجاح الادارة، ون رأى فيه ما يخالف هذه الشروط عزله وحاكمه في الحال، وبذلك وضع القواعد في الاعتماد على الشوام لما لهم من دراية وخبرة بأحوال بلادهم، مما يخدم الحكم الجديد من ناحية، وحتى يغمرهم الاحساس بالمشاركة في الادارة وشئون الحكم من ناحية أخرى، وتتابعت بيانات ابراهيم باشا حدثا ولج مدينة ، مصرحا بأنه اتى لمصلحتها وراحتها، وراعى اختيار الأهالي سواء في تعيين المسئولين أوفي رغبتهم التخلص منهم عندما أساءوا استخدام سلطتهم.

وانكسر النفوذ الاقطاعي، وأصبحت هناك دولة مركزية، واختار ابراهيم حتى تكون دمشق عاصمة لها، ورأى حتىقد يكون هناك حاكم عام ليسهم في التخفيف من أعبائه، وتم تعيين شريف باشا كتخدا محمد علي وحاكم الصعيد في أواخر أكتوبر 1832، ونقل له ابراهيم الأسس التي انتهجا في الادارة لتكون هديا له، ولم يمنع ذلك ان استمر طوافه واشرافه على طول البلاد وعرضها، واتخذ أنطاجية مقرا له. هذا بالاضافة الى حتى شريف كان ينهي الأمور الى ابراهيم ، وهوبدوره لابد حتى يرجع لمحمد علي.

وشكلت مسألة معالجة امراض الادارة من رشوة واختلاس وابتزاز وخلافه الأهمية، واستخدم ابراهيم أشد أنواع القسوة والعقاب الصارم على من أصابتهم تلك الأمراض، وفي الحين نفسه فقد قرنت تصرفاته ببعض النواحي الانسانية. ومن أجل وجود مشارك في اتخاذ القرار، صدر أمر ابراهيم في يونيو1832 بانشاء مجلس شورى دمشق، وتبعته مجالس مماثلة في مدن أخرى، رغبة في احلال نظام جديد، واحتواء وامتصاص واستجلاب محبة واحترام وولاء كبار الشخصيات الذين يفترض أن يشكلون المجالس دون تمييز في العنصر اوالدين، ووكلت اليهم القضايا التي تسهم في تسيير الادارة والقضاء وفقا لما استحدث، وخضعت تلك المجالس لرقابة وتفتيش ابراهيم، وبالتالي ضبطت الأمور، حيث أدت المركزية دورها في هذا الشأن.

وخضع القضاة للسلطة الادارية، وأصبحوا مراقبين في أحكامهم، قلقين على مراكزهم، بعد حتى سلب منهم ما كانوا يتمتعون به من امتيازات، وفرضت عليهم الارشادات والتنبيهات، كي لا يحيدوا عن العدل والانصاف. حقيقة حتى ضغيان السلطة التطبيقية على السلطة القضائية ظاهرة غير صحية، ولكن بسبب سوء الظروف التي كان يعيشها المجتمع الشامي، كان سلوك هذا الطريق حتى تقصي الأيادي عن العبث بالعدالة.

وحرص ابراهيم على اللقاء بالقضاء، وحثهم على تطبيق الأحكام الشرعية، ولم يبخل عليهم، فكثرت انعاماتهلهم. وبجوار المحاكم الشرعية، وجدت سلطات قضائية أخرى لتساير متطلبات الاتجاه الجديد في التحديث، فأضحى لمجالس الشورى اختصاص قضائي، وتمتع الحاكم بسلطة قاضي الاحالة، وحد من قسوة العقوبات السائدة، واهتدى بالقانون الفرنسي، وكان لتمضية جميع من لبنان وأهل الذمة والأجانب الوضع الخاص.

وأمسك بزمان المالية حنا بحري الشامي المسيحي، وذلك لثقة الادارة المصرية فيه ولخبرته، وكان لابراهيم النشاط في العمل على اضافة الاموال والحرص على زيادتها، فهودائم التنقل والتفتيش على مصادر الايرادات، التي اعتمدت على الضرائب والرسوم الجمركية، وتعددت منافذ المصروفات وضمت الجزية وخراج السلطان، وتكاليف الجيش، وما يتعلق بالحرب والهدايا والثورات والتحديث. ومن ثم خرجت من مصر الامدادات المالية لسد العجز حتى لقد صرح محمد علي بأن امتلاكه للشام لم يفد خزانته.

وفي البداية أصدر ابراهيم مرسومه الى متسلمي الشام يشرح فيه النظام الضرائبي الجديد، مبينا أنه سيراعي مسببات راحة الأهالي، وألغى ضريبة الصليان – تعهد أيضا باسم الساليانية، وتفرض على المقاطعات لتغطية مرتب الوالي – ولكن الحاكة الى الاموال تطلبت التوسع في فرض الضرائب: الميري، والحرير، العشورية، الجزية على أهل الذمة، الفردة التي عدها المسلمون جزية، الاعانة، نقل الملكية، العوائد، الانتاج، الصابون، الملح، الطباق، الزيت، الحدائق، الأشجار، المنافع العامة، الحيوانات، الأسماك، الفاكهة، الطواحين، الأوقاف، الخمور ... الخ، وخضعت الضرائب لنظام الالتزام، ولم يكن ابراهيم سلبيا أمام ما كان يلقاه الشوام على أيدي الملتزمين فأخضعهم لمراقبته وتفتيشه. وأمام تفاقهم الامر التمس من محمد علي تخفيض الضرائب على المناطق الفقيرة، وتحقق له ما أراد، ولكنه استمر على غير رضاه في مسألة ثقل الضرائب.

أما عن الجمارك، فقد حددت الداخلية على رسوم التسريح على المحصولات والسلع ورسوم الداخلية على الحيوانات، ولكن خفض بعضها ورفض البعض الآخر نظرا للصعوبات التي قابلتها، وبالنسبة للرسوم الخارجية، فقط طبق عليها نظام الامتيازات الأجنبية، ومضىت اجراءات الحد منها سدى بعد فرمان 1835. وأدخلت الرسوم المتعلقة بالأهالي تحت نظام الالتزام، وكانت العملة قد تأثرت بالفوضى السابقة، مما أدى الى سعي ابراهيم لوضع الأسس لتوحيدها، لكنه عثر العقبات أمام التطبيق.

ومثلما وقع في مصر بشأن الغاء النظام الاقطاعي، اتخذت تلك المستوى في الشام ، اذ أعيد توزيع الأراضي، ولكن طبق نظام الالتزام، لما في ذلك من مصلحة الحكومة. وكان ابراهيم مولعا بالزراعة نظرا لخبرته في شئونها على أرض مصر، فشجعها وقابل العقبات التي تعتبريها، وركز على أدوات الانتاج، فقدم المساعدات للفلاحين، وأوجد ما يمكن حتى نطلق عليه "بنك التسليف الزراعي" وأقام الصيارفة في المدن لتقديم السلفيات والمنح لهم، كما حد من سطوة المرابين والتجار الأجانب عليهم، وصد عنهم هجمات البدو، وأقدم على عقاب الموظفين الذين أساءوا استخدام سلطتهم في الضغط عليهم، ووظف رؤوس الأموال في المشروعات الزراعية وباشرها بنفسه.

وتعددت لقاءات ابراهيم بالفلاحين، ولأجل استمرار دفع عملية الانتاج اعفاهم من الضرائب لفترة معينة. وتمثل عودة الفلاحين الذين هجروا قراهم فيما تجاوز نموذجا للنشاط الزراعي حين أعيد توطينهم، وأصدر ابراهيم أوامره بتعمير القرى التي خربها الأتراك، وبذلك عادت الحياة الى القرى المهجورة، والنتيجة تضاعف الانتاج الذي تعددت أنواعه: التوت، الزيتون، الكروم، القطن، الحبوب ، القنب، نباتات الصباغة، بالاضافة الى الاخشاب، كما أوفدت مصر البذور المتنوعة، واهتم ابراهيم بالحيوانات، وسعى الى تحسين السلالات وخاصة الغنم، وتصدى لأسراب الجراد، وأسهم في اجراءات الابادة، ونجح في انقاذ الزراعة من عدوها.

وتصدرت العقبات أمام ابراهيم، فالتجنيد الذي ألزم به محمد علي الفلاحين، لم يكن الابن يوافق عليه، وخط له يقترح تأجيله الى ما بعد مواسم الزراعة، ولكن يصله الرد الذي يتهمه بالاهمال. كذلك كانت هناك السخرة التي أخضع لها الفلاحون، وايضا حيواناتهم. كما عارض ابراهيم سياسة الاحتكار التي طبقها محمد علي في مصر وأراد فرضها على الشام، نظرا لنتائجها السلبية على المجتمع، وخاصة ان الشام له طبيعته المتنوعة عن مصر، وبين لأبيه ان هذا النظام يؤتي أكله سريعا، لكنه سرعان ما تجنى من ورائه الثمار المرة، وبذلك اختلف مع محمد علي، وأشاره له الى خطورة احتكار الحرير المنتج الرئيسي، مشروحا ان معيشة السكان قائمة عليه، وفسر له كيف من الممكن أن ان الاحتكار مع الضرائب يفترض أن يهوي بالبلاد. ومع هذا صمم الأب على موقفه، ولم يكتف بالحرير، وانما أدخل عليه القطن لفترة والصوف والقنب، وعارض الأجانب ذلك لما يصيبهم من ضرر، وتولت بريطانيا ضرب احتكار الحرير في فرمان 1835، وقضت على باقي الاحتكار في معاهدة 1838.

وعمل ابراهيم على تشجيع الصناعة، وخاصة اليدوية التي اشتهرت بها الشام مثل: الغزل والنسيج من حرير وأصواف، الزيوت، الصابون، الزجاج، سروج الخيل، السيوف، شمع العسل، النبيذ، الخشب وغيرها. وارتفعت أجور العمال، لكنهم في الحين ذاته فرضت عليهم السخرة في أعمال الحكومة، واهتم ابراهيم بالثروة المعدنية التي شكلت ثقلا في الميدان الصناعي، فاستقدم الأجانب للبحث والتنقيب عنها.

وقابلت ابراهيم الصعوبات في التجارة، ومعروف أهميتها بالنسبة للشام، واحتل الأجانب الذين تمتعوا بالامتيازات الأجنبية ومن أسبغوا عليهم حمايتهم ، المسقط المتميز فيها، وحاولت الادارة الجديدة ووضع المعايير لتسلطهم، وكثفت حجم التجارة الخارجية، وبينما سمحت للأجانب بامتداد نشاطهم للداخل بعد ان كان مقصورا على السواحل، فإنها وضعت القيود لحماية الانتاج المحلي. ولكن كما وقع في الاحتكار جرى على التجارة وفقا لفرمان 1835 بتخفيض الرسوم الجمركية على التجارة البريطانية، ثم طبق الأمر على باقي الأوروبيين، وحتى تلك الرسوم البسيطة تهربوا منها، مما أسفر عن خسارة وضحت في الميزانية العامة ، ومع هذا ازدادت الواردات نظرا لوجود قوات الجيش واحتياجات المجتمع المستحدثة كذلك ارتفع مؤشر التصدير. وأولى ابراهيم عنايته بالموانئ والشحن، وانعكس النشاط التجاري الخارجي على التجارة الداخلية، وانتعشت المدن، وأعدت الطرق النهرية.

ورغم الجهود التي بذلها ابراهيم في دفع عجلة الاقتصاد، فان العراقيل وقفت بالمرصاد، فبالاضافة للامتيازات الأجنبية وما صاحبها، كانت سياسات الاحتكار والتجنيد الجباري والسخرة، وما نتج عن ذلك من ثورات وارتفاع الأسعار واستغلال المستفيدين من ذلك. وأمام الأمر الأخير، حددت تعريفة الأسعار وأنشئت وظيفة المحتسب، وفرضت الرقابة الصارمة، واطلع ابراهيم على البيانات، وتابع بنفسه حركة الأسواق، وفرض العقوبات على المخالفين.

وأولى ابراهيم عنايته بالخدمات التي تدخل في دائرتها برامج التحديث، وبالنسبة للتعليم، فقد كان يتفق مع أبيه في حبه له، ويرى فيه نهضة الشعوب. وفي عام 1835 وضعت خطة لانشاء مدارس حكومية في المدن للاعداد العسكري للشباب وفقا لنظام مدارس الليسيه النابولينية، ولكن خوف الاهالي من التجنيد لم يساعد على نجاح هذا النوع من التعليم، وفضلت المدارس النظامية، فتأسست في دمشق وحلب، ووضعت الأسس لارسال البعثات الى القاهرة، وجلبت منها الخط.

وعن الصحة، فانها نالت اهتمام ابراهيم، فأنشئت المستشفيات نظرا لمتطلبات الجيش، فبالاضافة الى خدمة الأهالي، وبالذات مع انتشار الأوبئة مثل الكوليرا، والطاعون، وما تبع ذلك من حجر صحي، وقد طلب القائد احضار لائحته من الخارج ليستعين بنوعية العقوبات التي تفرضها على من لم يلتزم بالنصوص. وصدرت أوامره المتعلقة بالحرص على النظافة وتطهير المياه، كذلك باشر أمر تعبيد الطرق، وأصبحت مسألة تقدم وسائل النقل والمواصلات وخاصة البريد الحربي والآخر الحكومي أمرا واقعا.

وكان من مقدمات الاستقرار اخضاع البدوللسلطة المركزية، ولابراهيم موقفه منهم، وله التجارب السابقة معهم أثناء حرب شبه الجزيرة العربية، فخصص لهم قوات نظامية لصد غاراتهم، وكان يرد الأموال التي استولوا عليها من الأهالي ثم يتولى القصاص منهم، وحرم عليهم تحصيل الخوة – هي اتاوة فرضوها وألزموا بها العابرين – وكذلك عوائد الحج. وفي الوقت ذاته استخدم معهم سياسته الخاصة بالاستفادة منهم في فهم الطرق الوعرة ومنافذها، واستقطابهم ضد أعدائه، كما استغل التنافس بينهم، وألبس الخلع لشيوخهم، وعمل من أجل توطينهم سواء بانشاء قرى جديدة لهم أوعلى الحدود مما أعطاه مركزا استراتيجيا، وأسفر عن نوع من التغيير الاجتماعي، ومع هذا فلم يكن ابراهيم متلهفا على تجنيدهم – ما عدا القلة – لأنه على يقين من اتجاهاتهم، وبالتالي خشى انحرافاتهم.

وتوفر الأمن، وأجمع شهود العيان الشوام والأجانب على ذلك، وتوالت توصيات ابراهيم بوجوب المحافظة على راحة الأهالي وتأمينهم، وضع نظام للجوازات، وأحكمت الحراسة، وتعددت المخافر، وكثرت مراكز الشرطة، وشاركت قوات الجيش في متابعة الأمن، وطبقت مسألة التضمين في المسئولية. وفخص ابراهيم الشكاوى، ولم يهجر سيئة ترتكب دون القصاص من فاعلها، ونزل الى المواقع ليحقق ويدقق في حوادث الاجرام، هذا فضلا عن احكامه الرقابة على جنده، فانه يخرج ليلا متنكرا للوقوف بنفسه على حركاتهم وسكناتهم، كما أجبرهم على ايفاء ثمن ما يبتاعونه من الأهالي، فلم يجر أحد منهم على أعطى يده، ولولاقتطاف ثمرة مشمش من على شجرتها، واذا وقع استثناء، يردع صاحبه في الحال، حيث أصدر ابراهيم قانونا عسكريا تضمن العقوبات في هذا الشأن.

واشتهر ابراهيم بالعدل، فهويتفقد رعاياه ليقف على جميع صغيرة وكبيرة، ويخصص وقتا لاستقبال طالبي الحاجة، وعندما يحل بأية مدينة، يعلن عن ذلك ليبت في المظالم، وأصبح يضرب به المثل في عدله وانصافه، وقد صحبتهم الصرامة، فخشى الناس عقابه، وارتعد الموظفون منه، اذ تصدى للخارجين عن القانون. وحتى المشكلات المتعلقة بالأحوال الشخصية، تدخل للعمل على حلها، وكذاالخاصة بالملكية والمواريث، رغم حتى مكانها المحاكم، ولكن الكثير فضل حمل الأمر اليه لما وجدوه من استجابة. كذلك حرص على تطبيق العدالة بين العناصر والطوائف المتنوعة، أيضا فانه مثل النموذج الحي، حيث التزم بالبساطة في المظهر والمسكن والمعيشة والتحركات.

وكانت الشئون الدينية على أجندته، فاعتنى بأمور الحج، ووفر وسائل الأمن والاطمئنان والراحة للحجاج أثناء سفرهم للحجاز لأداء الشعائر المقدسة، ولبى متطلبات بيت المقدس، وعمل على تعمير بيوت الله، ومراقبة نظار الأوقاف. أما عن المسيحيين الذين تعددت طوائفهم، فقد أعرب عن برنامجه المتعلق بالمساواة بين الأجناس والديانات، ومنح الحرية الدينية الكاملة، بما خالف الأوضاع التي كانت سائدة من قبل، وألغى الأعباء المالية عن مرتادي القدس، وأعفى الكنائس من العوائد ، وأمن طريق القدس، وتدخل في حل المنازعات بين الطوائف الخاصة بكنيسة القيامة، وأصدر الأوامر بترميم الكنائس والأيرة. ولم يقتصر الأمر على القدس فحسب، وانما امتد عبر الشام، ونزل المفتشون من قبل ديوان ابراهيم لعمل التحقيقات السرية عن الأوضاع من أجل اقامة حياة هادئة بعيدة عن التعصب والاضطهاد ، وجرت معاقبة الذين أساءوا للمسيحيين.

وطبقت المساواة أمام القانون، وفتح باب الوظائف بمختلف أنواعها للمسيحيين، وأصبحوا أعضاء في مجالس الشورى، وصرح ابراهيم بفصل الدين عن السياسة، وكذلك الأمر بالنسبة لليهود – فيما عدا بعض الاستثناءات – فمنحهم التسهيلات، ولكن رفض طلبهم بشأن تبليط المكان الملاصق لحائط المسجد الأقصى وموضع البراق. وبذلك تمتع أهل الذمة بحريتهم، وخرجوا للحياة الاجتماعية دون محظورات كانت مفروضة عليهم فيما سبق. ومما يذكر في هذا الصدد حتى ذلك الأمور انعكس على المسلمين بالرفض، فهاجموا تصرفات ابراهيم وألقوا التهم عليهم، اذ ان اقامة دولة مدنية كان يتعارض مع ما ألفوا عليه من قبل، وقد عزف الباب العالي على هذه النغمة، مما شكل عاملا مهما في اذكاء روح الثورة ضد الحكم القائم.

أما عن الاجانب ، فوفقا للسياسة المرسومة، ومع سياسة الانفتاح تم الترحيب بهم، وفتحت لهم المدن الداخلية تجارا وسائحين، وتعاقبت أوامر ابراهيم بحسن معاملتهم، وتمتع قناصلهم ومن في حمايتهم بالمكانة، ولكنهم أساءوا استغلالها، فاضجر ابراهيم من تصرفاتهم، ووجد نفسه مكتوف الأيدي أمامهم، فحمل شكواه لمحمد علي، ولكن كان للأخير الاسلوب المهادن لعدم اثارة دولهم، واستمروا في نشاطاتهم المعادية، ومثلوا احدى أدوات الهزيمة.


اللقاءة

مما لا ريب فيه ان الالتزامات التي فرضت على الشوام، أسهمت في سقوط الدولة الجديدة، فرغم ما أغدق عليهم من امتيازات نقلتهم من أحوال كانوا يئنون تحتها الى أحوال أخرى صبت في صالحهم، فانهم ضاقوا بما أجبروا عليه من حيث تغطية احتياجات القوات العسكرية من مواد تموينية وماشية ونقلها، والمساهمة في الاعمال التي تطلبتها سياسة الادارة – أي الاشغال العامة – من بناء ثكنات وتقطيع أشجار ونقلها.

وأجمعت الآراء على ان التجنيد الاجباري كان أكبر العقبات، ولم يكن ابراهيم راضيا عن هذا الاسلوب، وبين لمحمد علي اختلاف الأوضاع بين مصر والشام، ولكن الأخير رأى حتى الأمر ضروري للحرب القائمة، ولكسر شوكة العصبيات، ولاستباب الأمن، ولاعادة تشكيل طبيعة الشوام باخضاعهم لنظام عسكري صارم. وفي البداية قابل ابراهيم الصعوبات، نظرا لهروب الاهالي الى الجبال، ومن ثم أمر باستخدام القوة، فأقدموا على ما تجاوز حتى قام به المصريون من احداث عاهات مستديمة بأجسامهم، ومع ذلك ألحقوا بفيالق المؤخرة.

وطبق نظام الكفالات على المجندين، وكذا نظام البدل في بعض الاحيان، ولم يكن ابراهيم مؤيدا لذلك، ولجأ قليلا الى اطلاق سراح البعض من الجند لظروفهم الاجتماعية القاسية. وعلى جانب آخر، وبناء على توجيهه أقدم البعض على الالتحاق بالجندية، ومن الملاحظ أنهم كانوا من أبناء الأعيان، ومنحوا الرتب العسكرية وفقا لمركزهم الاجتماعي، وذلك رغبة منه في احتواء تلك الطبقة.

وتوسعت جبهة الرفض من أمر نزع السلاح ، وقد تعود الشوام على اقتنائه نظرا للظروف الطبيعية والاجتماعية والنفسية التي يعيشون فيها، ورثى أنه طالما أسبغت الحكومة المركزية حمايتها على البلاد أصبح لا داعي لحمل السلاح، ومن ثم فرض ابراهيم اقصى العقوبات على المخالفين، وشدد على المسئولين، وتم جمع السلاح اذ قدرت الاعداد وفقا لدفاتر ضريبة الفردة، معنى ذلك حتى جميع فرد كان يمتلك سلاحا، وخضع الدروز والموارنة لهذا الاجراء بعد الغاء استثنائهم.

كان أمرا طبيعيا حتى تكون مثل تلك الالتزامات غير مقبولة لدى الكثير من الشوام، خاصة الذين تمتعوا بالسطوة والجاه والقوة والعصبية، وبالتالي فقد ساءهم الخضوع لتلك الاوامر التي عدوها لمصلحة غيرهم.

وبدأت ترجمة الرفض في الجنوب بقيام الثورة الفلسطينية، واتىت مبكرة، وذلك عندما ضربت مصالح البدوالذين تحكموا في المنطقة، وسرعان ما فرضت الجندية، فكان الرد هوالثورة التي قامت في مايو1834 برفض اطاعة الأوامر، وانتشرت سريعا، وامتدت أعمال التخريب، حتى لقد ادى الامر الى ان يدخل ابراهيم القدس ليقود المعركة ضد الثوار.

وحضر محمد علي في 29 يونيووالتقى مع ابنه في يافا، واتفقا على تحطيم قوة الثوار والقضاء عليهم، وفي الوقت نفسه تم اغراء بعض الشيوخ الثائرين، وتمكن ابراهيم من قهر الثوار في نابلس، كما أخمدت في باقي المدن الفلسطينية، وصدر الحكم على قادتها بالنفي.

وسرت الانتفاضات المضادة، وماجت مدن الشام بالاضطرابات في الفترة بين عامي 1834 و1836 في دمشق وطرابلس وعكار وصافيتا والحصن وحلب وأنطاجية وبعلبك وبيروت وصيدا وكرلس، كما ثار الأكراد. وبناء على طلب أبيه، سافر ابراهيم للقاهرة في أوائل عام 1835 للمشاورة في تحقيق الخطة المرسومة بالنسبة للبنانيين وعاد الى عكا للتطبيق.

ومثلت الثورة الدرزية (1837/1828) تحديا عنيفا لابراهيم، رغم حتى جبل لبنان قد قدم المساعدات للادارة المصرية، وأسهم في المعارك واخماد الثورات، وقام حاكمه الأمير بشير بدور متعاون، ولكن أعداءه من الاقطاعيين انضموا للقيادة العثمانية، فانتصر ابراهيم عليهم.

ومع سحب امتيازات الدروز الخاصة بعدم التجنيد وحمل السلاح وغير ذلك، قامت ثورة دروز حوران، وتحالفوا مع البدوالمعارضين، واثاروا باقي الدروز، فطلب ابراهيم الامدادات من مصر، وحضر الجنود الالبان من كريت، وشنت الحرب على الدروز في المناطق الجبلية ، حيث طور ابراهيم نظام وحدات جيشه، فأنشأ آلايات القناصة، وخاضر المعارك للاجهاز على الثورة التي اتسمت بالقوة، وانتهت بالحصول على النصر الذي كان غاليا، اذ فقد الكثير من الرجال والأموال.

ومما يذكر حتى الموارنة أسهموا في القضاء على الثورة، وذلك لعلاقة العداء التي تربطهم مع الدروز. ومنح ابراهيم الآخيرين العفووالأمان، واسترجع لهم الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها، وطلب من ابراهيم انزال العقوبة بهم، لكنه رفض امتناعهم عن تأدية الضرائب، وطلب من ابراهيم انزال العقوبة بهم، لكنه رفض ورأى اغماض العين لتهدئة الخواطر واتباع الحسنة، وبتر العشائر الطرق وهددوها وثارت قرى عنتاب وجبل الأكراد، لذا عثر ابراهيم أنهم لن ينقادوا الا بالقهر والتدمير.

واندلعت الثورة اللبنانية (مايو-أغسطس) – وهوالعام الذي نفذت فيه الدول الخطة المحكمة لوأد الدولة المصرية في الشام – عندما تقرر تحصيل الأموال ونزع السلاح ، وحينئذ هجر الدروز والموارنة العداء جانبا ليقفوا امام العدوالمشهجر (ابراهيم والأمير بشير) ورفضوا التطبيق، وأيدهم المسلمون، وعمت الثورة الجبل وامتدت الى بيروت، وحاول ابراهيم ان يحد من الموقف، فأكد لهم أنه لن يجد منهم أحدا، وتغاضى عن متطلبات السلطة، لكنه هدد الثوار الذين ازدادوا غضبا ووصلت التعليمات من محمد علي لابنه باستخدام كافة الامكانات للقضاء على الثورة، وعليه جمع السلاح، وقبض على زعماء الثورة ونفذت العقوبات الصارمة من سجن ونفي واعدام.

وثبت حتى الأيدي الخارجية قد أدت مهامها على احسن وجه في تلك الثورات وتمثلت في الدولة العثمانية التي اصبحت رهن اشارة الدول الاوروبية وخاصة بريطانيا، ولعب الجواسيس ادوارهم على ارض الشام، ونشط العملاء الذين أعربوا عن قرب الخلاص من النظام القائم، وانتشرت المنشورات التي تضمنت النادىية لعودة الحكم العثماني، كما كان لظهور السفن الاجنبية على السواحل الاثر، اذ نادى القائد البريطاني بالثورة معلنا بأن الدول اخذت على عاتقها مسئولية انهاء الحكم القائم والدفاع عن الشام، وسرعان ما أبلغ محمد علي بمعاهدة لندن 1849، واضطر مرغما اصدار أوامره بالانسحاب من الشام لتعودة مرة أخرى لما كانت عليه، ولتبدأ من حديث تدور في حياة تفيض بالتعصب والصراعات.

ما بعد العودة

من الطبيعي حتى الظروف التي مر بها ابراهيم ابان الفترة الاخيرة، قد هجرت الآثار السيئة على نفسيته، وهوالرجل الصلب الذي لم يكن من السهل ان يتقبل الهزيمة، وذلك بسبب يقينه من قدراته التي رأى أنها الرابحة في لقاءة التدخل الاوربي، ومن ثم اختلفت رؤيته عن أبيه الذي عرك فنون السياسة، كما تطرق الاختلاف في استخدام سياسة المال، فالاب يجيدها، والابن يعتمد على قوته. وعلى أيه حالة، فان تناقض الاتجاهين في احيان كثيرة لم يكن يسقط احترام ابراهيم لابيه وتطبيق قراراته، والواقع انه كان ذا صفات متميزة، فرغم صراحته وقسوته وحزمه، فانه طيب القلب، متسامح النفس، ضحوك الوجه، ودود، يشارك في الولائم والمجالس، ويسمع الموسيقى ويفتن بالطرب ويتذوق الشعر.

عقب عودة ابراهيم الى مصر، وجه عنايته الى زراعة جفالكه، واستخدم التقنيات الحديثة في فلاحتها، وكان يردد مقولة ابراهيم بك "اذا طلبت في مصر المضى، فانكش وجه أرضها". ولكن ما لبث ان ازداد عليه السقم، وبدأ رحلاته العلاجية بالخارج منذ عام 1845 التي عرج فيها على بريطانيا وفرنسا، واستقبل بالترحاب والتقدير في جميع منهما، فهوالحاكم المنتظر بعد محمد علي، وقد ذكر كرسي عرش مصر لم يفارق ذهن الاب ولم يغب عن عيون الابن، بمعنى ان الاول كان حريصا على التمسك به تماما آنئذ، ويخشى من سعي الابن له عن طريق التخلص منه، والآخر توجس خيفة من أبيه، ومضى في تحصين نفسه ودرئها عن الخطر، وذكر أيضا ان عباس كان يعمل وراء الكواليس لاشعال الموقف بين الطرفين لكراهيته لابراهيم.

ومع ام 1847، وباعتلال صحة محمد علي ، سعى ابراهيم للاحلال مكانه، وفيثمانية أبريل 1848 تشكل مجلس من الباشوات البارزين ومديري الدواوين، وتقرر تولى ابراهيم ادارة دفة الحكم باسم أبيه، وان يسقط بدلا منه على الاوراق الرسمية، وفي أول سبتمبر من العام نفسه، صدر فرمان احالة ولاية مصر وملحقاتها الى ابراهيم، وقد اجتهد اثناء فترة ولايته في العمل على اعادة ترتيب الاوراق الخاصة بنهضة مصر واستمر في الحكم حتىعشرة نوفمبر، اذ فاضت روحه الى بارئها بعد عمر بلغ التسعة والخمسين عاما، وذلك في حياة أبيه.

تلك كانت صورة موجزة لرحلة ابراهيم باشا عبر الحياة، وقد وضع الهجريز فيها على فترة وجوده في الشام التي لم تتعد حوالي العشر سنوات، لما يتفق ذلك مع الكتاب الذي تقرر اعادة نشره لما له من قيمة عظيمة.


المصادر

  1. ^ أبوعز الدين, سليمان (2009). ابراهيم باشا في سوريا. القاهرة، مصر: دار الشروق.

نطقب:عصر إبراهيم باشا

تاريخ النشر: 2020-06-04 10:18:20
التصنيفات: عصر إبراهيم باشا, عصر محمد علي

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

"خلافات قديمه " تفاصيل سقوط شاب قتل صديقه غدرا امام المارة بالشارع

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:22:00
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 65%

تطورات الحالة الصحية لـ الدكتور فتحي سرور

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:21:32
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 52%

ضمن «حياة كريمة».. إطلاق 3 قوافل طبية مجانية جديدة بالمناطق النائية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:21:41
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 60%

دعم الاستثمار وبرنامج الطروحات على طاولة اجتماع الحكومة الأسبوعى

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:21:31
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 69%

مدرس بـ«آداب الوادي الجديد» يفوز بجائزة «تراث الإمام الماتريدي»

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:21:56
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 53%

تقرير دولي: المتحف المصري الكبير أعجوبة معمارية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:22:23
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 55%

إنتر ينافس بورتو على بطاقة التأهل لربع نهائي دوري أبطال أوروبا

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:21:44
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 53%

أمطار رعدية.. تفاصيل حالة الطقس المتوقعة خلال الـ72 ساعة المقبلة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:22:05
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 51%

مشاجرات تنتهي بقتلى ومصابين.. والأسباب تافهة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:22:03
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 50%

176 سائحًا يصلون مطار سفنكس قادمين من إسبانيا| صور

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:21:28
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 70%

اتحاد الكرة يكلّف فيتوريا بمهمة اختيار مدرب منتخب الظل

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:21:45
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 53%

أسعار صرف الدولار فى البنوك اليوم

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:21:32
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 59%

الطاقة الذرية تتسلم شهادة الأيزو «2018: 21001» للاستخدامات السلمية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:21:38
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 52%

وثيقة ملكية الدولة.. ما هي وما أهدافها؟

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:22:08
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 59%

الإحصاء: 25.1% ارتفاعاً في قيمة الصادرات المصرية للدنمارك خلال 11 شهراً

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:21:27
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 52%

أكساد: برامج عربية للتخفيف من مخاطر المناخ

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:21:36
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 63%

حوار| السفيرة نائلة جبر: المرأة في عهد الرئيس السيسي تعيش أزهى عصورها

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:21:30
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 70%

مصرع شخص وإصابة آخر فى حريق داخل شقة سكنية بالقليوبية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:21:58
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 55%

سول: كوريا الشمالية تطلق صاروخين باليستيين قصيري المدى

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-14 09:22:22
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 69%

تحميل تطبيق المنصة العربية