تفكيكية

عودة للموسوعة

تفكيكية

التفكيكية (deconstruction) إحدى مدارس الفلسفة والنقد الأدبي التي تنحوإلى القول باستحالة الوصول إلى فهم متكامل أوعلى الأقل متماسك للنص أيا كان, فعملية القراءة والتفسير هي عملية اصطناعية محضة يقوم بها القاريء الذي يقوم بالتفسير. بالتالي يستحيل وجود نص رسالة واحدة متماسكة ومتجانسة.

مفهوم التفكيكية

تدل حدثة التفكيكية معجمياً على الهدم والتقويض والتخريب والتفكيك والتشريح. وقد استعيرت الحدثة من حقل استخدامها الأصلي (العمارة) إلى ميدان الفكر، لتصبح مصطلحاً يشير على وضع غالبية التنطقيد الميتافيزيقية والفلسفية الغربية موضع التساؤل والنقد الجذري. وكان أول من استخدمه بهذه الدلالة الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا Jacques Derrida في أواخر الستينات من القرن العشرين، بهدف تفكيك بنية الخطاب discours، مهما كان نوعه وجنسه، وتفحّص ما تخفيه تلك البنية structure من شبكة دلالية مما أدى إلى ثورة على الوصفية (البنيوية) structuralisme، وإلى تطورٍ نحو«ما بعد البنيوية» poststructuralisme، ولاسيما في حقل النقد الأدبي، عندما تبنّت هذا المصطلح مجموعة من النقاد في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في جامعة ييل Yale، مثل بول دي مان Paul de Man وهارولد بلوم Harold Bloom وجفري هارتْمَن Geoffrey Hartman وهيليس. ج. ميلَّر Hillis.J.Miller في دراساتهم المتعددة في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين. إلا حتى استخدام النقد الأدبي لمصطلح التفكيكية قد أدى إلى انزياح طفيف في دلالته، إذ صار يشير منذ أواخر السبعينات إلى مدرسة أكاديمية في النقد الأدبي تستوحي منهج ديريدا. ومع اتساع استخدام المصطلح ازدادت دلالته غموضاً، وغالباً ما رافقت دلالَته ظلالٌ سلبية، جعلت منه مرادفاً لمصطلح العدمية nihilisme، أولتلاعبٍ متكلّف بمعاني الألفاظ.

إلا حتى مصطلح التفكيكية، كما يتجلى في نصوص ديريدا ودي مان، يشير إلى العمليات التي تؤدي إلى زعزعة أنظمة العلامات اللغوية أوالتي تسائل بالتحديد المعاني التي تنتجها هذه الأنظمة. وهذه العمليات تكون بالضرورة متناقضة ومرتبطة بالحدس ومعقدة. لذلك ليس ثمة ما يدهش في ارتباط مصطلح التفكيكية بمصطلح «سوء الفهم»، ولاسيما وأن فكرة «الفهم» ككل قد تعرضت إلى هزة جذرية في منهج ديريدا؛ فهماً بأن هذا المنهج لا يتضمن أبداً ما يوحي حتى اللغة أصبحت «بلا معنى»، أوبأن القراءة التفكيكية يمكن حتى تستغني عن إجراءات التحليل العقلاني، بل إذا نصوص ديريدا تستخدم العقل كي تُحكم حدوده، بغرض إضاءة الخلل في التنطقيد الميتافيزيقية الغربية. ولتحقيق أهدافها في تحليل النصوص استندت التفكيكية على مجموعة من المقولات أبرزها:

1ـ الاختلاف différence، الذي يعد أحد المرتكزات الأساسية للمنهجية التفكيكية. إذا تقصي دلالاته اللغوية وجذورها في عدد من المفردات يكشف عن جزء من عدم استقرار التفكيكية على ما يقيني، ودعوتها إلى الدخول في شباك الاحتمالات المتزايدة. وقد عرض دي سوسور في مطلع العشرينات من القرن العشرين، وكذلك أدت دراسات ديريدا، حتى العلامة اللغوية لا تمتلك هوية إيجابية مستقلة. فالعلامات لا تؤدي وظيفتها إلا في حدود قابليتها للتكرار في سياقات مختلفة، مع غياب المتحدث، أياً كان. وعلى إصرار الفلسفة الغربية على الإعلاء من شأن الكتابة على الكلام منذ حتى وضع أفلاطون حواريته «فايدروس» Faidros في خمسينات القرن الخامس قبل الميلاد، تمكن ديريدا في دراساته من إثبات مغالطة «مركزية الحدثة» logocentrisime الميتافيزيقية. إذ نطق بأن الكلام ممكن بذاته، ولكن فقط بسبب الصفات نفسها التي أسبغتها التنطقيد الغربية على الكتابة، أي: الغياب، الاختلاف، الثانوية. وبذلك يمكن الحديث عن «كتابة عامة» تصير شرطاً لإمكانية وجود جميع من الكتابة والكلام في أشكالهما الحتمية. وبناء عليهقد يكون «عكس مواقع ثنائية متعارضة وتبديلها» (مثل: كلام/ كتابة) أحد تعريفات التفكيكية، كونها استراتيجية تفكير، وضعت في سلم أهدافها تقويض الثنائيات التي أسستها التنطقيد الغربية، مثل: الروح/ الجسد، الشكل/ المعنى، الاستعاري/ الواقعي، المتعالي/ التجريبي، الخير/ الشر. لكن التفكيكية لا تقوم فقط على قلب مواقع ثنائية متعارضة، والمطالبة مثلاً بأن الكتابة «أفضل» من الكلام؛ بل هي تطالب بإعادة تعريف واستخدام طرفي الثنائية المنعكسين، بحيث يصبحان منكشفين، كنتاج للعبةٍ من الاختلافات لا يمكن إتقانها.

2ـ مركزية الحدثة أوالتمركز حول العقل. إذ يرى ديريدا حتى التنطقيد الغربية دفعت العقل إلى قابلة اهتمامها، وأعطته سلطة أولى في تحديد المعاني، وأن أكثر السبل تأثيراً، التي نهض عليها التمركز حول العقل، هي الاهتمام بـ «الكلام» على حساب «الكتابة»، أي «التمركز حول الصوت»، وكذلك تصنيف اللغات تصنيفاً تراتبياً ينعقد فيه الامتياز للغات التي تقترب كتابتها من الشكل المنطوق أوالشفوي للحدثة. إنها مركزية لوغوسية ـ صواتية، تزدوج بتمركز عرقي أوغربي. أما الكتابة فتكشف عن التغريب في المعنى ذاته، إذ إذا نقش المعنى بوساطة العلامة يهبه استقلالاً وحرية عن المؤلف الأصلي، ويمنحه من ثم مزيداً من إمكانات التفسير، وهذا بالضبط هوما يعنيه «الاختلاف». إذا هذا التغريب أوالإبعاد في المعنى يتوضح بصورة جلية عندما تستمر العلامات المكتوبة بتوليد بعدها الدلالي بغياب المؤلف، حتى بعد موته. ويتوصل دريدا من ثم إلى مقولات الحضور غير المتناهي للزمن الذي يتجسد في الكلام، بوصفه إطاراً للحضور والهوية والوحدة والبداهة، على حساب الكتابة بوصفها إطاراً للغياب والاختلاف والتعدد والتباين. لكن التفكيكية لا تهدف إلى حل إشكال «الكلام/ الكتابة»، بل تطالب بضرورة قلب التمركز حول العقل في الفلسفة، مما يجعلها خطابات تنضح بالدلالات والتجدد، دون التعثر ببؤر التمركز التي تفرض سطوتها وفق المنظور التقليدي.

3. فهم الكتابة (الغراماتولوجية) grammatologie من حدثة gramma اليونانية التي تعني المكتوب أوالمنقوش أوالمسجل، هودراسة العلامات المكتوبة، ويؤسس ديريدا في «فهم الكتابة» (1967) لبرنامج تحديث الفكر، وذلك بقلب الهرمية التقليدية أوأفضلية الكلام على الكتابة، لينظم العلاقة بين طرفي الثنائية. وإذا كان روسوRousseau يرى حتى الكتابة تابعة للكلام ومكمّلة له، فإن ديريدا عدها موازية له، ومن مسببات تمسكه بالكتابة هوأنه لا وجود لمجتمع من دون كتابة، أوعلامات، أوتوثيق؛ ويكفي للاقتناع بأهمية الكتابة، تصورُ حتى مجتمعاً من دونها سيبقى أسير الأساطير والطوباويات.

وبناء على الممارسات النقدية التفكيكية للثنائيات المتعارضة وغيرها من التراكيب البلاغية التي تأقلمت في سياقات جديدة، أثَّرت التفكيكية في عدد من حقول الفهم، لاسيما العلوم الإنسانية، بل حتى في فروع متباينة كالأنثروبولوجية واللاهوت والقانون والتحليل النفسي، كما قامت بدور حيوي في تطوير أشكال من النقد، ابتغت حتى تنموبعيداً عن عكسٍ ساذحٍ للمواقع في التراتبية الأيديولوجية. ونتيجة لاهتمام التفكيكية بكون أنظمة المفهومات متقلقلة غير راسخة، استطاع بعض النقاد في فروع فهمية متباينة، حتى يكتشفوا صلات مدهشة فيما بينها، فتحت أمامهم احتمالات تأويلات جديدة بعد حتى قادت التنطقيد الغربية إلى نتائج غاية في الأهمية والخطورة، لا على مستوى الفكر المجرد فحسب، بل على المستوى الحضاري والسياسي والاقتصادي والعرقي، بتعزيزها الفردية بدل التعددية، والوحدة بدل الاختلاف، والروح بدل المادة، والأبدية بدل الزمن، والمباشرة بدل التأجيل، والأهم هوتكريس الكلام بدل الكتابة.

  1. ^ ميسون علي. "التفكيكية". الموسوعة العربية.
تاريخ النشر: 2020-06-04 11:07:00
التصنيفات: مدارس فلسفية, نقد أدبي, ما بعد الحداثة

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

تحذيرات من عاصفة قوية وشيكة تجتاح إسطنبول

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-05 00:16:50
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 97%

الجيش الأميركي يسقط المنطاد الصيني فوق المحيط الأطلسي

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-05 00:16:39
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 87%

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض "طائرة صغيرة" في أجواء غزة

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-05 00:16:40
مستوى الصحة: 81% الأهمية: 95%

مونديال الأندية.. الأهلي المصري يسجل رقما قياسيا جديدا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-05 00:17:02
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 89%

"ديلي ميل": غيتس يصف طموح ماسك بالسفر إلى المريخ بأنه "هدر للمال"

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-05 00:16:47
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 93%

نتنياهو: إسرائيل تبحث إمداد أوكرانيا بالسلاح

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-05 00:16:48
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 92%

كندا ترسل أول دبابة "ليوبارد 2" إلى قوات كييف

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-05 00:16:51
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 97%

آلاف الإسرائيليين يحتجون على مشاريع حكومة نتانياهو

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-05 00:16:43
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 89%

تحميل تطبيق المنصة العربية