المشاهد الوطنية Episodios Nacionales هي مجموعة من ست وأربعين رواية خطها بنيتوپيرس گالدوس بين 1872 و1912. وهي مقسمة إلى خمس سلاسل وتتناول التاريخ الاسباني من تقريباً 1805 وحتى 1880. وهي تصوير خيالي يضيف شخصيات اخترعها المؤلف إلى الأحداث التاريخية.

لوكنا نعهد عن الآداب الإسبانية كما تجلت خلال القرون الأخيرة من عمر هذا البلد، اي القرون التالية على خروج المسلمين منه، ما نعهده، عادة، عن الآداب الفرنسية أوالأنگلو/ساكسونية، لكان في وسعنا حتى ندرك حتى «دون كيخوته» لثربانتس، ليست العمل الروائي الكبير الوحيد المكتوب في اللغةالإسبانية، وان الابداع في اسبانيا لم يتوقف مع زوال الاندلس واستشراء محاكم التفتيش. بل انه وخلال القرون الثلاثة المنصرمة ازدهر ازدهاراً استثنائياً متواكباً مع ازدهار الرسم والعمارة وضروب الابداع الاسبانية الأخرى قبل حتى يشق طريقه مستطرداً في بلدان أمريكا اللاتينية الناطقة بالاسبانية. ولوتحرى المرء منجزات الفنون الاسبانية خلال الحقبة التي نشير إليها، لأخذه العجب ازاءها، كماً ونوعاً.

غير ان المهم هنا، هوحتى هذا الابداع الاسباني لم يتمكن من حتى يشق لنفسه دروب العالمية، من ناحية، بسبب سيطرة آداب اللغات الطاغية، ومن ناحية ثانية بسبب ابتعاد اللغة الاسبانية نفسها عن التداول العالمي. ثم، في القرن العشرين، حين تعولمت ثقافات العالم، كان فرانكومن السيطرة على اسبانيا الى درجة ان القمع طاول جميع شيء، وجعل كبار المبدعين الاسبان، وخصوصاً في فنون غير لغوية، ينفون أنفسهم الى خارج وطنهم لكي يبدعوا، فكانت النتيجة ان حسب كبارهم (من پيكاسوالى بونويل، ومن خوان ميروالى تابييس) على البلدان التي استضافتهم، وربما على فنونها أيضاً. ولكن منذ زوال فرانكو، ووصول العولمة مرحلتها العليا، ثم انتشار آداب أمريكا الجنوبية، استعاد الأدب الإسباني رونقه وحضوره وبدأ ينتشر على نطاق لا بأس به.

أعمال كثيرة وأسماء عدة أفادت من هذا الانتشار. ومن بين هذه الأعمال والأسماء، ذلك العمل الكبير الذي خطه، خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بنيتوبيريس گالدوس بعنوان «الحلقات الوطنية الثلاث والأربعون». وهذا الاسم قد يظهر غريباً للوهلة الأولى، لكنه يصف حقاً هذا العمل، إذ ان گالدوس، وفي ثلاثة وأربعين نصاً، أوحلقة، خط تاريخ وطنه اسبانيا كله خلال القرن التاسع عشر، في شكل يمزج بين الرواية والتاريخ. أوبالأحرى أتى تاريخاً يصفه راوٍ وشخصيات بعضها حقيقي وبعضها مختلق. ذلك حتى گالدوس خلال فترة متوسطة من حياته، وهي فترة راح يهتم فيها بالسياسة أكثر وأكثر بعدما كان اهتمامه فنياً وأدبياً، شغف بالتاريخ لمجرد أنه رأى حتى التاريخ وأحداثه، إذا فهمت في شكل جيد، يمكنها حتى تفسر الأحداث الراهنة وتوضحها.

ومن هنا راح يخط ذلك التاريخ الوطني تباعاً، وفي شكل يذكّر الى حد كبير بما عمله جرجي زيدان لاحقاً حين خط التاريخ الإسلامي وتاريخ منطقة الشرق الأوسط كلها، في روايات تنظر الى الأحداث الكبرى والفاعلة من وجهة نظر شخصيات تعيش تلك الأحداث، ما يجعل المزج بين التاريخ العام والتاريخ الخاص، أسلوباً طاغياً.

وللتمثيل على هذا العمل الكبير الذي خطه گالدوس، ومن المؤسف انه لم يعهد كثيرا خارج نطاق متحدثي اللغة الإسبانية وبعض الترجمات النادرة، نتوقف هنا عند الحلقة الأولى، وهي تحمل عنوان «ترافلگر» (أوالطرف الأغر، كما يحلوللبعض ترجمة الاسم الى العربية). ومن خلال هذا العنوان نفهم ان هذا الكتاب الأول يتحدث عن معركة ترافلگار التي سقطت عام 1805، وخلالها هزم الأسطول الانگليزي «الأماردا الإسپانية التي كانت تعهد بأنها اسطول كبير وقوي لا يقهر. الذي وقع خلال تلك المعركة الفاصلة في التاريخ الأوروبي هوحتى الآرمادا هزمت. ولسوف يرى الاسبان ان هزيمة اسطولهم هذا لم تكن بسبب ضعفه أوعدم شجاعة البحارة والمقاتلين الذين كانوا يتولون شأنه، بل بسبب سوء القيادة وربما لشيء من الخيانة أيضاً. ومن هنا ظل الإسبان لفترة طويلة جدا من الزمن - وبعضهم حتى الآن - يعتبرون هزيمة الآرمادا جزءاً من التاريخ البطولي للشعب والأمة الاسبانيين.

لكن گالدوس لم يروما وقع في شكله التاريخي الرسمي، بل آثر ان يروويه بشكل مختلف كلياً، بشكل قد لا نكون بعيدين عن الصواب إذا نحن وصفناه بالشكل الإنساني. فگالدوس، إذ سمع بنفسه حكاية هزيمة الآرمادا من بحار عجوز صار صديقا له ذات يوم، وروى له أنه هوكان بحاراً على متن إحدى سفن الآرمادا في شبابه المبكر، ثم راح يزوده تفاصيل التفاصيل، قدم - أي گالدوس - عمله على شكل حكاية خاصة/ عامة يرويها ذلك البحار ويدعى گابريال. ومنذ بداية الرواية يقدم لنا گالدوس، گابريال بصفته فتى يتيما ربّي في الشوارع، والتقطه ذات يوم ضابط بحرية عجوز مولع بالمعارك الحربية البحرية، ويحلوله حتى يتحدث طوال الوقت عن الفوزات الكثيرة التي اعتادت السفن الإسبانية تحقيقها ضد السفن الانگليزية. وذات يوم إذ عهد ذلك الضابط حتى في الأفق معركة بحرية كبيرة تخوضها «الآرمادا» الإسبانية ضد الانكليز، تمكن على رغم انه متقاعد، من الوصول الى متن أكبر واحدة بين سفن الأسطول مصطحباً معه گابريال الفتى. وفي البداية تكون الحمى الوطنية مستشرية، ثم حين تبدأ الحرب ومعها مشاهد القتل والدمار تتالى، يكتشف غابريال أهوال الحرب وضراوة القتل والحرق والنهب والتدمير، تماماً على الشكل الذي رسم فيه غويا جميع ذلك. وإذ يروي گالدوس هذا كله على لسان گابريال، يخبر قراءه كم ان هذا الأخير منذ ذلك الوقت المبكر، راحت تتجاذبه النزعات الإنسانية، حيث نراه يتحدث، على رغم وصفه قساوة القتال، عن «ضرورة حتى يحترم الجندي الجندي العدوفي جميع لحظة من اللحظات»، بل لا يفوت گابريال حتى يخبر گالدوس بأنه، في عز احتدام القتال ووسط مشاهد الخراب والبطولات، لم يتمكن من حتى يمنع نفسه من تمني قيام اخاء دائم بين الشعوب مهما كانت الاختلافات والخلافات التي تفرق بينها.

ومن الواضح هنا حتى گالدوس، يستخدم شخصية گابريال، (اضافة الى الكثير من الشخصيات الأخرى التي يروح واصفاً لنا تصرفاتها، ومن بينها قائد السفينة العجوز وزوجته، والضابط المتقاعد)، يستخدم جميع هذه الشخصيات متوغلاً في سلوكها صعوداً وهبوطاً، معطياً إياها طابعها الإنساني العميق، محاولاً في هذا حتى يضعنا على تماس مباشر مع تصوّره الأثير للشخصية الإسبانية: الشخصية التي تتجاور لديها الوطنية مع نزعة مثالية عميقة، ونزعة انسانية أعمق، تتجاوز الفوارق العرقية والأممية وفوارق الجنس والأجيال. والحال ان هذا ما يضفي على العمل سمته الرئيسة ويجعله جزءاً من التراث الانساني. وهذا الأمر لا يقتصر على هذه الحلقة الأولى من السلسلة، بل يهيمن على الحلقات الأخرى كافة، وهي من بعد «ترافلگر» تعالج نقاطاً انعطافية متتالية من تاريخ إسبانيا خلال القرن قبل الماضي، وعلى الشاكلة نفسها أيضاً. بل ان شخصية گابريال تعود في حلقات متتالية، إذ يصبح جنديا، ثم رب أسرة الى آخر ما هنالك. والحال ان هذه المجموعة من ابلروايات التي يمكن وصفها بالمتصلة/المنفصلة تتضافر فيما بينها لتقديم صورة ليس فقط عما كانت عليه الأوضاع السياسية والتاريخية في اسبانيا عشية وصول الفاشيين الى السلطة بقيادة فرانكو، بل كذلك صورة للكيفية التي كان عليها الفكر الإسباني قبل ان تغرقه تلك الفاشية في اتون التعصب والتطرف والإنقسام الداخلي تحت الذريعة الأبدية التي لا تتوقف الأنظمة الديكتاتورية عن استخدامها فزاعة لقهر الشعوب وتدجينها: المؤامرة الخارجية!

المؤلف

بنيتوپيريس گالدوس، الذي ولد عام 1843، ليرحل عام 1920، بدأ حياته ناقداً وصحافياً، قبل حتى ينتقل الى كتابة هذا النوع من الروايات التي راجت شعبياً، إذ وجدت قراءها بسرعة. ومن بين أولى رواياته «نبع المضى» و«دونيا پرفكتا». ثم سلسلة «الحلقات الوطنية» التي شرع في كتابتها بعد حتى صار شبه ناطق رسمي باسم الحركة الليبرالية الدستورية في عهد ألفونس الثاني عشر. وهوخلال تلك الفترة صار عضوا في مجلس النواب (الكورتيس) في پورتوريكو. غير انه في رواياته الأخيرة غلبت عليه النزعة الصوفية فاستبدت به.

المصادر