الفن الرومانسكي

عودة للموسوعة

الفن الرومانسكي

نحت غائر من أبرشية Maria Laach

فن العمارة الرومانسكي Romanesque art الاتجاه المعماري الذي كان سائدًا في أوروبا من القرن التاسع وحتى القرن الثاني عشر الميلاديين. وقد تطوَّر إلى عدد من الأنماط الإقليمية مثل الأكيتاني، والبريتاني، والبرغندي، وإيل دوفرانس، والنورمندي والبروفانسي. وكانت المباني الرومانسكية كثيراً ما تنعزل عن المدن القليلة المتطورة في تلك الفترة. وكانت تصميماتها المصمتة استجابة لمتطلبات الأمن والدفاع التي كانت تحتاجها هذه المواقع.

يمين"ورقة مورگان"، مفصولة من الكتاب المقدس من ونشستر of 1160-75. مشاهد من حياة داود.
Master of Pedret, العذراء والطفل في جلال وإعجاب المجوس، apse جصية، اسبانيا، ح. 1100، الآن الصوامع The Cloisters.

وكان الأسلوب الرومانسكي أكثر تطورًا بشكل خاص في مباني الكنائس والأديرة. وكانت الكنيسة الرومانسكية النموذجية تصَمَّم بشكل الصليب اللاتيني، وهوصليب ذوذراع رأسي وعارضة أفقية، وكان صحن الكنيسة ـ وهومكان التجمع الرئيسي ـ يتكون من أقبية من الحجارة مبنية على هيئة قوس. ويحيط بصحن الكنيسة أروقةٌ جانبية. وكانت الأقواس الدائرية تُبْنَى في فتحات الحوائط وبين الأعمدة. وتُزيَّن الفتحات والأعمدة بنقوش، ونحوت تصور شخصيات ومشاهد من الإنجيل. وكانت الحوائط تُزيَّن برسوم جدارية تصوِّر أيضا موضوعات دينية.

وبحلول منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، كان الأسلوب الرومانسكي قد تطور إلى الفن القوطي. ومن الأسباب الرئيسية لذلك قلة الاحتياج إلى المباني الدفاعية، إلى جانب الرغبة في الكنائس البسيطة والأكثر ارتفاعًا.

خلفية: يقظة حاسة الجمال

ترى لأي سبب بلغت أوربا الغربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر درجة عليا في الفنون تضارع ما بلغته أثينة في عصر بركليز وروما في عهد أغسطس! الحّق حتى لهذه النهضة الفنية أسباباً كثيرة. لقد صدت أوربا غارات أهل الشمال وغارات العرب، ولقد بعثت الحروب الصليبية في نفوس أهلها نشاطاً مبنادىً قوياً، واتىت إلى أوربا بألف فكرة وفن من الشرق البيزنطي الإسلامي. ونشأت من إعادة فتح البحر المتوسط وفتح المحيط الأطلنطي لتجارة الأمم المسيحية، ومن الأمن والتنظيم اللذين استمتعت بهما التجارة المنقولة في أنهار فرنسا وألمانيا،والبحار الشمالية، واتساع نطاق الصناعة والشئون المالية، نقول نشأت من هذا كله ثروة لم تعهدها أوربا منذ أيام قسطنطين، وقامت فيها طبقات جديدة في مقدور جميع منها حتى تساعد الفن بالمال، ومدن غنية ذات حكم ذاتي تعمل جميع منها جاهدة لكي تشيد كنيسة كبرى أجمل من آخر كنيسة فيها. وكانت خزائن رؤساء الأديرة، والأساقفة، والبابوات تفيض بالمال الذي يأتيها من العشور وعطايا التجار، وهبات النبلاء والملوك. وكانت حركة تحطيم الصور قد قضى عليها، ولم يعد الفن يوسم كما كان يوسم من قبل بأنه عودة إلى عبادة الأصنام، ووجدت في الكنيسة، التي كانت من قبل تخشاه، وسيلة نافعة تغرس بها عقائدها ومثلها في نفوس غير الجهلاء، وتبت فيها ذلك الورع الذي جعلها تحمل الأبراج إلى السماء كأنها أدعية وأوراد صاعدة إلى الله. يضاف إلى هذا حتى دين مريم الجديد، المنبعث من قلوب الناس من تلقاء نفسه، قد افرغ ما ينطوي عليه من حب وثقة في معابد فخمة يستطيع آلاف من أبنائها حتى يجتمعوا فيها دفعة واحدة يقدمون لها فروض الولاء ويطلبون إليها العون. لقد اجتمعت هذه المؤثرات وأخرى كثيرة لتغمر نصف قارة من الأرض بسيل جارف من الفن لم يسبق له مثيل.

وكانت الفنون قد بقيت في أماكن متفرقة لم تقض عليها أعمال البرابرة المخربة، ولم يمح معالمها ما طرأ على البلدان من ضعف وانحلال، فالمهارات القديمة التي أشتهر بها الأهل الإمبراطورية الشرقية لم تضع قط، وكانت بلاد الشرق اليونانية وإيطاليا البيزنطية هي البلاد التي دخلت منها كثرة الفنانين والموضوعات الفنية في حياة الغرب الذي بعث من جديد. ولقد أدخل شارلمان في خدمته فنانين يونان فروا من وجه محطمي الصور البيزنطيين، وهذا هوالذي جعل فن آخن يقرن الرقة والنزعة الصوفية البيزنطية بالصلابة والنزعة الدنيوية الألمانية. وبدا رهبان دير كلوني الفنانون في القرن العاشر عهداً جديداً في فن العمارة الغربية وزينتها، وكان أول ما عملوه حتى نقلوا النماذج البيزنطية. وكان مفهمومدرسة فن الأديرة التي أقامها مونته كاسينوMonte Cassino الرئيس دزدريوس Abbot Desederius، (1072) من اليوناس يسيرون على الأساليب البيزنطية، ولما أراد هونوريوس الثالث (1218) حتى يزين جدران سان بولوبالنقوش الجدارية بعث بطلب صناع نقوش الفسيفساء من البندقية، وكان الذين اتىوا متشبعين بالتنطقيد البيزنطية. وكان من المستطاع وجود جاليات من الفنانين البيزنطيين في كثير من المدن الغربية، وكان طرازهم في التصوير هوالذي شكل طراز دوتشيوDuccio وسمابيوCimabue وطراز جيتوGiotto نفسه في بداية عهده. واتىت الموضوعات البيزنطية أوالشرقية- كالنقوش المركبة من خوص النخل أوما يشبهه، وأوراق الأقتنا ، والحيوانات التي في داخل الرصائع - اتىت هذه الموضوعات إلى بلاد الغرب على المنسوجات، وعلى العاج، وعلى المخطوطات المزخرفة، وعاشت مئات السنين في طراز النقوش الروماني؛ وعادت أشكال العمارة السورية، والأناضولية، والفارسية- العقد، والقبة، والقابلة المحوطة بالأبراج ، والعمود المركب الجامع لعدة طرز مختلفة، والشبابيك المجتمعة مثنى أوثلاثاً تحت قوس يربطها- عادت هذه الأشكال إلى الظهور في عمارة الغرب. إلا حتى التاريخ لا يعهد الطفرات ولا شيء قط يضيع.

وكما حتى تطور الحياة يحتاج الاختلاف كما يحتاج الوراثة، وكما حتى نطور المجتمع يحتاج إلى التجديد التجريبي وإلى العادة التي تعمل على الاستقرار، كذلك لم يكن تطور الفن في أوربا الغربية يتضمن استمرار التنطقيد القديمة في المهارات والأشكال، والحافز الناشئ من المثل البيزنطية الإسلامية، بل كان يتضمن بالإضافة إلى هذا عودة الفنان المرة بعد المرة من المدرسة الفنية التي ينتمي إليها إلى الطبيعة، ومن الأفكار إلى الأمور، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن تقليد النماذج إلى التعبير عن الذات. لقد كان من خصائص الفن البيزنطي القتام المقبض الجمود والسكون، ومن خصائص النقش الغربي الرشاقة الهشة النسائية، وليس في مقدور هذه الصفات حتى تمثل ما في الغرب وقتئذ من رجولة حيوية، وما عاد إليه من نزعة همجية، ونشاط قوي. وكانت الأمم الخارجة من العصور المظلمة إلى ضياء القرن الثالث عشر تفضل رشاقة نساء جيتوالنبيلة عن صور ثيودور الجامدة المنقوشة في الفسيفساء البيزنطية، وتسخر من خوف الساميين من الصور والتماثيل، ولهذا غيرت الزخارف المحضة إلى صور الملاك الباسم التي تشاهد في كنيسة ريمس الكبرى، وإلى صورة العذراء المضىية في أمين Amiens، إلى غير ذلك غلبت بهجة الحياة خوف من الفن القوطي.

وكان الرهبان هم الذين حافظوا على الأساليب الفنية في الفن الروماني، واليوناني، والشرقي، ونشروها، كما حافظوعلى الآداب اليونانية والرومانية القديمة. ذلك حتى الأديرة لحرصها على حتى تستقل بذاتها دربت النازلين فيها على فنون الزخرفة كما دربتهم على الحرف العملية. فقد كانت كنيسة الدير تطلب مذبحاً، وأثاثاً للمحراب، وكأساً للقربان، وصندوقاً وعلباً لحفظ المخلفات، وأضرحة، وكتلاً للصلاة، وماثلات، وقد تتطلب نقوشاً من الفسيفساء، وصوراً على الجدران، وتماثيل وصوراً تبعث التقى في القلوب، وكان الرهبان يصنعون معظم هذا بايديهم، بل إنهم هم الذين يخططون الدير ويبنونه، كما عمل البندكتيون بدير مونتي كسينوالذي لا يزال قائماً إلى اليوم شاهداً على ما بذلوه في بنائه من جهود. وكانت في معظم الأديرة مصانع واسعة، مثال ذلك حتى برناردي تيرون Bernard de Tiron أنشأ بيتاً دينياً جمع فيه على ما يقولون " صناعاً في الخشب والحديد، ونحاتين، وصائغين، ونقاشين، وبنائين ... وغيرهم من العمال الحاذقين جميع الأعمال الدقيقة"(1). ولقد كانت المخطوطات المزخرفة التي خطت في العصور كلها تقريباً من عمل الرهبان، وكانت أرق المنسوجات من خلق أيدي الرهبان، والراهبات، وكان المهندسون المعماريون الذين شادوا الكنائس على الطراز الروماني في عهدها الأول رهباناً(2)، وأمد دير كلوني غرب أوربا في القرن الحادي عسر وبداية القرن الثاني عشر بالمهندسين المعماريين وبكثير من المصورين والمثالين(3)، وكان دير القديس دنيس في القرن الثالث عشر مركزاً جم النشاط لمختلف الفنون. بل إذا أديرة السترسيين نفسها، وهي التي أوصدت أبوابها دون أعمال الزخرفة في أيام برنار اليقظ، سرعان ما استسلمت لمغريات الأشكال وبهجة الألوان، وشرعت تبني أديرة لا تقل في زينتها عن دير كلوني أودير القديس دنيس. وإذا كانت الكنائس الإنجليزية الكبرى في العادة كنائس أديرة، فإن رجال الدين النظاميين أوالرهبان ظلوا إلى آخر القرن الثالث عشر أصحاب السيطرة على عمارة الكنائس في إنجلترا.

ولكن الدير مهما بلغ من صلاحيته لأنقد يكون مدرسة وملجأ للروح، مقضي عليه بسبب عزلته حتىقد يكون مستونادىً للتنطقيد لا مسرحاً للتجارب الحية، فهوأصلح للحفظ منه للابتكار، ولم تجد حياة العصور الوسطى التعبير الخصب الغزير في أشكال لم تمل التكرار، وصلت بالفن القوطي إلى درجة الكمال، لم تجد تلك الحياة هذا التعبير إلا بعد حتى أمدت المطالب الواسعة لذوي الثراء من غير رجال الدين الفنون الدنيوية بحاجتها من الغذاء. ثم تجمع الفهمانيون المتخصصون المحررون في إيطاليا أولاً، ثم تجمعت كثرتهم في فرنسا وقلتهم في إنجلترا، في نقابات الحرف، وانتزعوا الفنون من أيدي مفهمي الأديرة وصناعها، وشادوا الكنائس الكبرى.


السمات: زينة الحياة

ومع هذا فإن راهباً هوالذي أكمل وأوضح موجز في فنون العصور الوسطى وحرفها، ذلك هوثيوفليس Theophilus- حبيب الله - الراهب في دير هلمر زشوزن Helmershausen القريب من بادربورن Paderborn والذي خط حوالي عام 1190 موجزاً في مختلف الفنون يقول فيه: ثيوفلس، القس الوضيع... يوجه حدثاته إلى جميع من يرغب في حتى ينفض عنه جميع غبار الكسل وشرود الروح... بالعمل اليدوي النافع، وبالتفكير السار فيما هوجديد...(هنا يجد الناس) جميع ما عند بلاد اليونان من ألوان ومركبات مختلفة، وكل ما تعهده تسكانيا من فنون الميناء... وكل ما تستطيع بلاد العرب حتى تعرضه من الأعمال التي تتطلب الليونة، والصهر، والنقش، والحفر، وكل المزهريات الكثيرة الجواهرالمحفورة، والعاج الذي تزينه إيطاليا بالمضى، وكل ما تقومه إيطاليا من أنواع الشبابيك المتنوعة الغالية، وكل ما يثني عله الناس من أعمال المضى، أوالفضة، أوالنحاس أوالحديد، أوالعمل الدقيق في الخشب أوالحجر.

فها نحن أولاء هذه في الفقرة نشهد ناحية أخرى من نواحي عصر الإيمان، نشهد رجالاً ونساءً، ونشهد بنوع خاص رهباناً وراهبات، يعملون لإشباع الرغبة الغريزية في التعبير، ويجدون متعة في التناسب، والتناسق، والأشكال، ويحرصون على حتى يجعلوا النافع جميلا. ولقد كانت أبرز ما تحتويه المناظر التي صورت في العصور الوسطى صوراً للرجال والنساء وهم يعملون، وإن غلبت عليها النزعة الدينية، وكان الغرض الأول والأساسي الذي يهدف إليه فنهم هوتجميل أعمالهم، وأجسامهم، وبيوتهم. وكان آلاف من صناع الخشب يستخدمون السكين، والمثقب، والازميل المقعر، والمنحت، ومواد الصقل، لحفر النضد، والكراسي، والمقاعد، والصناديق، والعلب، والخزائن، وأعمدة الدرج، والوزرات، والأسّرة، والصونة، وخزانات الطعام والشراب، والصور والتماثيل المقدسة، وأجزاء المذابح الكنيسة، وأماكن المرنمين... وتزينها بما لا يحصى من أنواع الأشكال والموضوعات، بارزة وغير بارزة، وكثيراً ما كانوا يضفون الفكاهات الخبيثة التي لا تعهد الفوارق بين ما مقدس وما هودنس. وفي وسعنا حتى نجد على الخناجر أشكالاً للبخلاء، والنهمين، والثرثارين، والحيوانات والطيور الغريبة ذات الرؤوس الآدمية. وكان نحاتوالخشب من أهل البندقية يصنعون في بعض الأحيان براويز أجمل من الصور التي في داخلها وأعظم منها قيمة، وفي القرن الثاني عشر بدا الألمان في صناعة حفر الخشب العجيبة التي أضحت من الفنون الكبرى في القرن السادس عشر .

ولم يكن الذين يعملون في المعادن أقل شأناً من العاملين في الخشب. فقد كانوا يصنعون الحديد المشغول الرشيق للنوافذ، والأفنية، والأبواب الخارجية، والمفصلات قوية تمتد في عرض الأبواب الضخمة ذات أشكال نباتية متنوعة (كالتي نشاهدها في كنيسة نتردام NotreDame في باريس)، وكان ما يصنع منه لمقاعد المرنمين في الكنائس الكبرى "صلباً الحديد" ورقيقاً، كالمخرمات. وكان الحديد،أوالبرونز، أوالنحاس يصهر أويطرق لتصنع منه أجمل المزهريات والقدور، والأباريق، والماثلات، والمباخر، والعلب، والمصابيح، وكانت صفائح البرنز تغطي كثيراً من أبواب الكنائس. وكان صناع الأسلحة يحبون حتى يضعوا شيئاً من الزينة على السيوف وأغمادها، والخوذ، والتروس والدروع، وحسبنا شاهدأً على مقدرة صناع المعادن الألمان الثريا البرنزية الضخمة التي أهداها فردريك الثاني لكنيسة آخن الكبرى، وعلى مقدرة أمثالهم الإنجليز المائلة البرنزية الضخمة (المصنوعة حوالي 1100) المنقولة من جلوستر Gloucester والمحفوظة في متحف فكتوريا وألبرت Victoria and Albert Museum، وإن ولع صناع العصور الوسطى بأن يجعلوا من أبسط الأدوات تحفاً فنية ليتجلى في مزاليج الأبواب، وأقفالها ومفاتيحها، وحتى دوارات الهواء نفسها قد عنوا بزخرفتها بالنقوش الجميلة التي لا تستطيع رؤيتها إلا بالمرقب.

وازدهرت فنون المعادن النفيسة والأحجار الكريمة وسط مظاهر الفاقة العامة، فقد كان للملوك المروفنجيين صحاف من المضى، وقد جمع شارلمان في آخن كنزاً من المصنوعات المضىية. وكانت الكنيسة تحس، ومن حقها حتى نغفر لها هذا الإحساس، أنه إذا كان المضى والفضة يزينان وائد الأشراف وأصحاب المصارف، فإن من الواجب حتى يسخرا أيضاً لخدمة ملك الملوك. ولهذا صنعت بعض المذابح من الفضة المنقوشة، وبعضها من المضى المنقوش، كما نشاهد في كنيسة القديس أمبروز St. Anbrose بميلان وفي كنيستي بستونا Pistoia وبازل. وكان المضى هوالمعدن الذي تصنع منه عادة الحقة التي يوضع فيها الخبز المقدس، ويصنع منه الوعاء الذي يعرض فيه على المؤمنين ليعظموه، والكأس التي تحتوي النبيذ المقدس، والعلب التي تحفظ فيها المخلفات المقدسة ولقد كانت هذه الآنية في كثير من الأحيان أجمل صنعاً من أغلى الكؤوس التي تهدى للفائزين في المباريات في هذه الأيام. وكان الصياغ في إسبانيا يصنعون الخيام البديعة التي يحمل فيها الخبز المقدس أثناء سير موكبه في الشوارع. وفي باريس استخدم الصائغ بنار Bonnard، (1212) 1544 أوقية من الفضة وستين أوقية من المضى ليصنع منها ضريحاً لعظام القديس جنيفييف Genevieve . وحسبنا دليلاً على اتساع مجال فنون الصياغة الفصول التسعة والسبعون التي خص بها ثيوفيلس هذا الفن في كتابه. فيها نجد حتى جميع صائغ في العصور الوسطى كان ينتظر حتىقد يكون هووچليني Celiini سواء -يصهر، وينحت، ويطلى بالميناء، ويركب بالجواهر، ويطعم. وكن في باريس في القرن الثالث عشر نقابة قوية للصياغ وتجار الجواهر، وذاعت منذ ذلك الحين شهرة قاطعي الجواهر الباريسيين في عمل الجواهر الصناعية(5).وكانت الأختام التي يبصم بها الأغنياء الشمع الموضوع على رسائلهم أومظاريفها تصمم وتحفر بعناية فائقة، وكان لكل رئيس ديني خاتم رسمي، وكان جميع رجل ظريف أومتظرف يتباهى بخاتم، إذا لم يتباهى بأكثر من خاتم، في يده. ألا إذا الذين يقدمون لبني الإنسان مسببات غرورهم قلما يعدمون قوتهم.

وكانت النقوش البارزة الصغيرة على المواد الثمينة شائعة بين الأغنياء. وكان لهنري الثالث ملك إنجلترا نقش من هذا النوع قدرت قيمته بمائتي جنيه (000و40 ريال أمريكي)، واتى بولدين الثاني بنقش أعظم من هذا قيمه من القسطنطينية ليضعه في سانت شابل Sainte Chapelle بباريس. وكان العاج يحفر بأعظم عناية ويبذل في حفرة جهد كبير طوال العصور الوسطى، وتصنع من أمشاط، وعلب، ومقابض، وقرون للشرب، وتماثيل مقدسة، وجلود للخط، ومحافظ لأوراق الكتابة مزدوجة الثنايا أومثلثتها، وعصى، وصوالج الأساقفة، وعلب وأضرحة.. وفي متحف اللوفر مجموعة من الأدوات العاجية من مخلفات القرن الثالث عشر تقترب من الكمال قرباً يثير الدهشة وتمثل النزول عن الصليب.وقد غلب الخيال وغلبت الفكاهة على التقى في أواخر هذا القرن فظهرت في بعض الأحيان نقوش دقيقة لمناظر غاية في الدقة في بعض الأحيان على علب المرايا وصناديق الزينة المعدة للنساء اللاتي لا يستطعن حتى يعكفن على التقى في جميع الأوقات.

وكان العاج إحدى المواد التي استخدمت للتطعيم، وهوالذي يسميه الإيطاليون Intarsia (وهي حدثة مشتقة من اللفظ اللاتيني Intersere ومعناه يدخل أويحشر) ويسميه الفرنسيون تلبيساً Marquetry (من Marquer أي يفهم). وكان الخشب نفسه يطعم به غيره من أنواع الخشب. كأن يحفر رسم في بترة من الخشب ثم تدخل فيه بتر من خشب آخر وتضغط وتغرى في مواضع الحفر. وكان من أدق الفنون في العصور الوسطى عمل الميناء السوداء(النيلوNiello من اللفظ اللاتيني Nigellus أي أسود)- فكان السطح المعدني يحفر ويطعم بعجينة سوداء مكونة من مسحوق الفضة، والنحاس والكبريت، والرصاص، فإذا اصطنع فنجويرا Finiguerra من هذا الفن في القرن الخامس عشر صناعة النقش على ألواح النحاس.

وقامت صناعة الخزف مرة أخرى من صناعة الفخار حينما أيقظ الصليبيون العائدون من شرق أوربا من العصور المظلمة. واتىت صناعة الميناء ذات الحزوز إلى بلاد الغرب من بيزنطة في القرن الثامن. ولدينا من القرن الثاني عشر لوحة مصورة تمثل يوم الحساب ، وحفرت فيها أرضية من النحاس ثم مليء الفراغ بعجينة الميناء. وكانت مدينة ليموج Limoge الفرنسية تصنع الآنية المطعمة بالميناء منذ القرن الثالث، فلما كان القرن الثاني عشر أضحت هي المركز الرئيسي في غربي أوربا لصناعة الميناء ذات الحزوز والميناء المصبوبة فوق النحاس. وكان الفخرانيون المسلمون في أسبانيا المسيحية في القرن الثالث عشر يغطون الآنية بطبقة لامعة من القصدير لا ينفذ فيها الضوء، أومن الميناء، ويتخذونها قاعدة للزخارف المصورة، وفي القرن الخامس عشر استورد التجار الإيطاليون هذه الآنية من أسبانيا في سفن مملوكة لأهل جزيرة ميورقة وسموا هذه الآنية ميولقة، فاستبدلوا بحرف r حرف I على طريقتهم في الترخيم.

وعاد فن الزجاج الذي كاد حتى يبلغ حد الكمال في روما القديمة، إلى مدينة البندقية من مصر وبيزنطة، فنحن نسمع منذ عام 1024 عن اثني عشر مصنعاً في تلك المدينة، بلغ من تنوع منتجاتها حتى بسطت الحكومة حمايتها على هذه الصناعة. واقترحت حتى يطلق على صانعي الزجاج اسم "السادة". وفي عام 1278 نقل صناع الزجاج إلى حي خاص في جزيرة مورانوMurano ليكونوا هناك آمنين من جهة، وللاحتفاظ بسرية الصناعة من جهة أخرى. وسنت قوانين صارمة تحرم على صناعة الزجاج الانتنطق إلى خارج الجزيرة أوالكشف عما في هذه الصناعة من أسرار خفية. وظل البنادقة أربعة قرون يسيطرون من هذه البقعة الأرضية الضيقة على فن الزجاج وصناعته فبي العالم الغربي، وارتقى فنا طلاء الزجاج بالميناء وتذهيبه، وكانت أليفودي فينيزيا Olivo de Venezia تصنع منسوجات من الزجاج، كما كانت مورانوتخرج مقادير كبيرة من الفسيفساء والخرز، والقنينات، والأكواب، وأدوات المائدة، المصنوعة كلها من الزجاج، بل كانت تخرج مرايا زجاجية أخذت في القرن الثالث عشر تحل محل المرايا المصنوعة من الصلب المصقول. وكانت فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا تصنع هي الأخرى زجاجاً في هذه الفترة ذاتها، ولكنه كان يستخدم كله تقريباً في الأغراض الصناعية، ماعدا الزجاج الملون البراق الذي كان يستخدم في الكنائس الكبرى.

وكانت النساء على الدوام يغمط فضلهن في تاريخ الفن فلا ينلن ما هن خليقات به من التقدير. إذا الزينة الشخصية والمنزلية من العناصر الجليلة الشأن في فن الحياة، ولقد هيأت أعمال النساء في تصميم الأزياء، وزينتها الداخلية، وزخرفتها، ونسجها والتصوير عليها، هيأت أعمالهن في هذا أكثر مما هيأت معظم الفنون من مسببات المتعة غير المحسة التي نستمدها من وجود الأمور الجميلة الصامتة معنا أوبالقرب منا. وكان للمنسوجات الرقيقة المغزولة بحذق وعناية ذات المنظر الجميل والملمس اللطيف قيمة عالية في عصر الإيمان، فقد كانت تغطي مذابح الكنائس، ومخلفات الأولياء،والآنية المقدسة، ويرتديها القساوسة، أفراد الطبقة الراقية في المجتمع رجالاً كانوا أونساء، وكانت هذه المنسوجات نفسها تلف في ورق ناعم لطيف رقيق، اشتق اسمه من اسمها فسمي "ورق النسيج" واستطاعت فرنسا وإنجلترا في القرن الثالث عشر حتى تنزلا القسطنطينية عن عرشها بوصفها أكبر منتج للتطريز الفني، فنحن نسمع في عام 1258 عن نقابات المطرزين في باريس، ويحدثنا ماثيوباريس Matthew Paris تحت عنوان سنة 1246 حتى البابا إنوسنت الرابع ذهل حين رأى الأحبار الإنجليز الذين زاروا روما يرتدون ملابس مطرزة بالمضى وأمر حتى تصنع مثل هذه الزخارف الإنجليزية الفخمة لحرامله وحلله التي يلبسها في أوقات القداس. وكانت بعض ملابس رجال الدين مثقلة بالجواهر، وخيوط المضى، واللوحات المصورة المصنوعة من الميناء إلى حد يصعب عليهم معه المشي وهم يرتدونها(6)، ولقد اقتنى ثري أمريكي ثوباً كهنوتياً يعهد بإسم حبرية أسكولي Cope of Ascol بستين ألف دولار. وكان أشهر ثوب مطرز في العصور الوسطى هو"ثوب شارلمان الدلماشي: وكان الاعتقاد السائد أنه خلق في دلماشيا، ولكن يغلب على الظن أنه من خلق القسطنطينية في القرن الثاني عشر، وهوالآن من أثمن التحف في كنوز الفاتيكان.

وحلت السجف أوالأقمشة المطرزة التي تزين بها الجدران محل الصور الملونة في فرنسا وإنجلترا، وبخاصة في الأبنية العامة. وكان يحتفظ بعرضها كاملة لأيام الأعياد، فكانت في تلك الأيام تعلق تحت العقود بين أعمدة الكنائس، وفي الشوارع، وعلى القوارب في المواكب، وكانت تنسج عادة من الصوف أوالحرير بأيدي "المتُعباَت" أي الوصيفات اللاتي يخدمن قصور سادة الإقطاع تحت إشراف أمينة القصر. وكان عدد كبير منها تنسجه الراهبات، وبعضه ينسجه الرهبان. ولم تكن المنسوجات التي تزدان بها الجدران تطاول الصور الدقيقة الملونة في جمالها، وكان يقصد بها حتى ترى عن بعد، وكان يضحى فيها بدقة الخطوط في سبيل وضوح الصورة ولألاء اللون وثباته. وكان يقصد بها تخليد ذكرى حادثة تاريخية أوسيرة خيالية ذائعة الصيت، أوتفريج هم من في داخل البيوت بتمثيل المناظر الطبيعية، أوالأزهار، أوالبحر. وقد ورد ذكرها في فرنسا منذ القرن العاشر، ولكن أقدم نموذج لها باق إلى اليوم لا يكاد يرجع عهده إلى ما قبل القرن الرابع عشر. وكانت فلورنس في إيطاليا، وشنشيلا في أسبانيا وبواتييه، وأراس، وليل في فرنسا، تتزعم مدائن الغرب في فن أقمشة الجدران والطنافس. هذا وليست أقمشة بايوBayeux الذائعة الصيت في العالم كله من نوع هذه الأقمشة إذا أردنا الدقة في التعبير، لأن النقوش التي عليها مطرزة على سطحها وليست جزءاً من النسيج. وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى كنيسة بايوالتي ظلت تحتفظ بها زمناً طويلاً، وتعزوها الرواية المتواترة إلى ماتلدة زوجة وليم الفاتح وإلى السيدات اللاتي كن في بلاط الملك النورمان، ولكن الفهماء الذين لا يبالون بإغضاب كرائم العقائل يفضلون حتى يعزوها إلى صناع غير معلومين، وإلى عصر أحدث من عصر وليم(8). وهذه الزينات تنافس المؤرخين الإخباريين في كونها مصدراً من مصادر الفتح النورماندي. فقد نقش على بترة من نسيج التيل الأسمر، عرضها تسع عشر بوصة وطولها إحدى وسبعون ياردة، ستون منظراً تصور على التوالي الاستعداد إلى الغزو، وسفائن النورمان تشق الإنجليزية بجآجئها العالية المصورة، ومعركة هيستنج الوحشية، وهارولد Harod يتلقى الطعنة ويموت. وهزيمة الجنود الأنجليسكسون وتبدد ضمهم، وفوز القوة المباركة. وهذه الأغطية أمثلة من أعمال التطريز الناطقة بالصبر الطويل، ولكنها ليست من اجمل ما خلق من نوعها. وقد اتخذها نابليون في عام 1083 وسيلة يثير بها الفرنسيين إلى غزوإنجلترا(9) ولكنه نسي حتى يستعين على هذا الغزوببركة الآلهة.


الطراز الرومانسي القاري 1066-1200

لوأننا قلنا إذا هذا الوصف العام الذي وصفنا به الكثدرائية يصدق على جميع الكنائس في العالم المسيحي اللاتيني لأخطأنا خطأً كبيراً في شأن تنوع العمارة الغربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ذلك حتى تأثير الفن البيزنطي قد بقي قائماً في مدينة البندقية، وقد أضيفت إلى كنيسة القديس بطرس زخارف بعد زخارف، وأبراج بعد أبراج، وغنائم تلوغنائم، ولكنها كانت على الدوام على نمط مثيلاتها في القسطنطينية ممتزجة بأخرى من بغداد. وأكبر الظن حتى طراز القباب البيزنطي ذا المثلثات التي بين العقود القائمة فوق قاعدة يونانية على شكل الصليب، قد ولج فرنسا عن طرق جنوا أومرسيليا، وظهر في كنيستي سانت إتيان St. Etienne وسانت فرونت St. Front في پريگيه Periguex وفي كاتدرائيتي كاهور Cahors وأنجوليم Angouleme. ولما حتى اعتزمت البندقية بناء قصر الدوج وتوسيعه عمدت في عام 1172 إلى خليط من الطرز المعمارية - الرومانية، واللمباردية، والبيزنطية، والعربية- وجمعتها كلها في آية من آيات الفن وصفها ڤيل‌آردوان Geoffrey of Villehardouin في عام 1202 بأنها جد غنية وجميلة، ولا تزال حتى الآن أكبر مفاخر القناة الكبرى في تلك المدينة.

وليس ثمة تعريف لأي طراز معماري يسلم من الشواذ، ذلك بأن أعمال الإنسان، كأعمال الطبيعة نفسها، تأبى التعميم، وتلوح بفرديتها في وجه جميع قاعدة. فلنقل إذن إذا العقد المستدير، والجدران والنادىمات السميكة، والنوافذ الضيقة، ومساند الجدران المتصلة بعضها ببعض أوانعدام هذه المساند، والخطوط الأفقية في الغالب، لنقل إذا هذه الصفات هي التي يمتاز بها الطراز الرومنسي، ولنكن مستعدين مع هذا إلى قبول بعض الانحراف عن هذا الوصف في هذا الطراز.

وقد طلبت پيزا بعد ما يقرب من قرن من إقامة كنيستها إلى ديوتيسالڤي Diotisalvi حتى يبني مكاناً للتعميد في عرض مربع من مربعات الكثدرائية (1102). فصمم البناء على شكل دائرة وجعل ظاهر البناء من الرخام، وشوه بالبواكي الخالية من النقوش، وأحاطه بالعمد، وأقام فوقه قبة لولا أنه جعل أعلاها مخروطي الشكل لكانة كاملة. ثم أقام بونانوBonanno من بيزا ووليم من إنزبروك Innsbruck البرج المائل ليكون برجاً للأجراس (1174). وقد تكرر فيه طراز قابلة الكاتدرائية- فهوسلسلة من البواكي الرومنسية بعضها فوق بعض وفي طبقته الثامنة علقت الأجراس. وهبط البرج في ناحيته الجنوبية بعد حتى بنيت ثلاث طبقات فوق الأساس الذي لم يزد عمقه على عشر أقدام، وأراد المهندس حتى يعوض هذا الميل بأن أمال الطبقات الأخرى نحوالشمال. وينحرف البرج الآن عن الوضع العمودي ست عشرة قدماً ونصف قدم في ازدياد 179 قدماً- وقد زاد هذا الانحراف قدماً واحدة بين عامي 1828و1910.

واتىت الأنماط الرومنسية مع الرهبان الإيطاليين الذين هاجروا إلى فرنسا، وألمانيا، وإنجلترا، ولعل هؤلاء الرهبان هم الذين طبعوا معظم الأديرة الفرنسية بالطابع الرومنسي، ولهذا فقد أصبح طراز الأديرة إسماً ثانياً لهذا الطراز في فرنسا. وقد شاد رهبان كلوني البندكتيون فيها ديراً فخماً (1098-1131) ويحتوي على أربع طرقات جانبية وسبعة أبراج، ونحتوا طائفة كبيرة من تماثيل الحيوانات أثارت غضب القديس برنار وأنطقته بالقول:

ماذا تريدون حتى تعمل هذه الوحوش السخيفة المضحكة في أروقة الدير تحت سمع الرهبان وبصرهم،يا ترى؟ وما معنى وجود هذه القردة النجسة، وتلك التنينات، والقنطروسات، والنمورة، والآساد... وأولئك المقاتلين، ومناظر الصيد التي تغطي الجدران؟... وماذا تعمل تلك المخلوقات التي نصفها وحوش ونصفها أناسي؟... إنا لنرى هنا عدة أجسام تحت رأس واحد، وعدة رؤوس فوق جسم واحد، ونرى في مكان ما حيواناً من ذوات الأربع له رأس ثعبان، وفي مكان آخر سمكة لها رأس حيوان من ذوات الأربع، ونرى في مكان غيره جواداً من الأمام وماعزاً من الخلف.

وقد دمر دير كلوني في أثناء اضطرابات الثورة الفرنسية، ولكن أثره المعماري انتشر في الألفين من الأديرة المنتسبة إليه. ولا يزال جنوبي فرنسا غنياً بالكنائس الرومنسية، فقد كانت التنطقيد الرومانية فيها قوية في الفن كما كانت قوية في القوانين، وظلت زمناً طويلاً تقاوم الطراز "البربري" القوطي الذي أقبل عليها من الشمال. وإذ كان الرخام نادراً في فرنسا فقد عوضت نقص البريق الخارجي بكثرة الصور المنحوتة، وإن ما تمتاز به التماثيل من قوة التعبير لمما يثير الدهشة- ففيها يتبين الناظر العزم على نقل الإحساس بدل نقل المنظر، ولهذا فإن صورة القديس بطرس القائمة عند باب دير مواساك Moissac، (1150) بوجهها المعذب وساقيها العنكبوتيتين لم تكن تهدف بلا ريب إلى إبراز خطوط البناء بقدر ما كانت تهدف إلى التأثير في خيال الناظر إليها وبث الرعب في قلبه. وتدل صور النبات الدقيقة الواقعية في تيجان أعمدة مواساك على حتى المثالين قد عمدوا عن قصد إلى تشويها يرسمون من الصور. وخير ما يوجد من هذه القابلات الرومنسية في فرنسا هوالمدخل الغربي لكنيسة القديس تروفيم St. Trophime في آرك (1152)، المزدحمة بصور الحيوانات والأولياء الصالحين.

وشادت أسبانيا ضريحاً رومنسياً فخماً في كنيسة سانتياگودي كمبوستلا (1078-1211) الذي يحتوي "باب المجد" Portico de Glorira فيها أجمل نحت رومنسي في أوربا كلها. وشادت كوامبرا Coimbra، التي أضحت بعد زمن وجيز مدينة البرتغال الجامعية، كثدرائية رومنسية في القرن الثاني عشر، ولكن الطراز الرومانسي لم يبلغ ذروته إلا في البلاد الشمالية التي هاجر إليها. لقد نبذته إيل دي فرانس Ile de Francs ولكن نورمندية أحسنت استقباله، لأن قوتها الخشنة كانت توأم أحسن مواءمة شعباً كان من عهد قريب من بحارة لشمال المغيرين، ولم يزل حتى ذلك الوقت من القراصنة. ولهذا شاد رهبان جومييگ Jumieges البندكتيون وهي بلدة قريبة من رون- في عام 1048 ديراً اشتهر بأنه أكبر من أي دير سواه شيد في أوربا الغربية منذ أيام قسطنطين، ذلك بأن العصور الوسطى كانت تفخر أيضاً بضخامة مبانيها. وقد دمر هذا الدير نصف تدمير على أيدي المتعصبين من رجال الثورة، ولكن وجهته وأبراجه الباقية حتى الآن نحتفظ بتصميمه الجريء القوي. والحق حتى الفزع النورمندي من الطراز الرومنسي قد تكون في ذلك المكان. وكان يعتمد في تأثيره على الحجم وشكل البناء أكثر مما يعتمد على الزينة.

وأراد وليم الفاتح حتى يكفر عن ذنبه بزواج ماتلدة أميرة فلندرز فقدم عام 1066 المال اللازم لبناء كنيسة سانت إتين في كاين Caen وهي المعروفة بدير الرجال Abbayas aux Homme، وقدمت ماتلدة، لهذا الغرض عينة فيما نظن، ما يلزم من المال لبناء كنيسة الثالوث La Trinit المعروفة بدير النساء Abbys ayx Dames ولما أريد إعادة بناء دير الرجال في عام 1135 قسمت جميع فرجة بين العمد في صحن الكنيسة بعمود إضافي في جميع ناحية، وربط العمودان الجديدان بقوس مستعرضة، وبهذا أضحت القبة الرباعية قبة سداسية، وهوشكل انتشر في أوربا في القرن الثاني عشر.

وانتقل الطراز الرومنسي من فرنسا إلى فلاندرز، وأنشئت على هذا الطراز كتدرائية جميلة في تورناي (1066)؛ ومن فلاندرز، وفرنسا، وإيطاليا انتقل إلى ألمانيا. وكانت مدينة مينز قد بدأت كثدرائيتها في عام 1009، وتريير Triere في عام 1016 وسباير speyer في 1030، ثم أعيد بناء هذه الكنائس قبل عام 1300، واحتفظ فيها حين إعادتها بالطراز المستدير، وشادت كلوني في ذلك الوقت في كاپيتول Kapitol كنيسة القديسة ماريا التي اشتهرت بجمالها من الداخل وكنيسة القديسة ماريا الشهيرة بأبراجها. وقد دمرت الكنيستان في الحرب العالمية الثانية. ولا تزال كثدرائية ورمز التي افتتحت في عام 1171 وأعيد بناؤها في القرن التاسع عشر تشهد بعظمة فن نهر الراين الرومنسي. وكان لكل واحد من هذه الكنائس قباً في جميع طرف، وقلما كان يعنى فيها بالقابلات ذات التماثيل، المنحوتة، كانت تزدان من الخارج بالعمد وتدعم بأبراج أخرى صغيرة رفيعة ذات أشكال مختلفة. وإن الناقد غير الألماني ليمتدح هذه الأضرحة بالاعتدال المنبعث من نزعته الوطنية؛ ولكن الأماني يرى فيها جمالا فاتنا يوائم جميع المواءمة جمال بلاد الرين الجذاب.

النحت

Stavelot Triptych, Mosan، بلجيكا، ح. 1156–58. 48×66 سم بجناحين مفتوحين، مخطة مورگان، نيويورك

لقد دُمر الكثير من أعمال النحت لأن البرابرة نهبوه على أثر فوزهم في غزواتهم، ولأن المسيحية الناشئة حسبته من قبيل عبادة الأوثان الدنيئة. ولكن قليلاً منه نجا من هذا الدمار وبخاصة في فرنسا، فأثار خيال البربرية بعد حتى روضت، والثقافة المسيحية بعد حتى نضجت. واحتفظت الدولة الرومانية الشرقية في هذا الفن، كما احتفظت في غيره من الفنون، بالنماذج والمهارات القديمة، وأضافت إليها أساليب العهد والتصوف الأسيوية، وعادت فوزعت على الغرب البذور التي اتىت إليها قبل من روما وانتقل النحاتون اليونان إلى ألمانيا بعد حتى تزوجت ثيودورا من اوتوالثاني (972)، وانتقلوا كذلك إلى البندقية، وراڤنا، وروما، ونابلي، وصقلية، ولعلهم انتقلوا أيضاً إلى برشلونة ومرسيليا، وليس ببعيد حتىقد يكون المثالون الذين كانوا يعملون عند فردريك الثاني قد أخذوا فنهم. من هؤلاء الرجال وعن الفنانين المسلمين الخاضعين لسلطانه، ولما أثرت البربرية كان في وسعها حتى تجمع بين الهمجية والجمال، ولما أثرت المسيحية، سخرت النحت كما سخرت غيره من الفنون لخدمة عقائدها وشعائرها الدينية، وكانت هذه في آخر الأمر هي الكيفية التي نمت بها الفنون الكبرى في مصر وآسيا، وبلاد اليونان، وروما، ذلك بأن الفن العظيم وليد الإيمان المنتصر.

شمعة گلوستر، مطلع القرن 12.

ولم يكن النحت يفكر فيه على أنه فن مستقل بذاته، بل كان يعد فترة من فن شامل، ليس له اسم في لغة من اللغات -ذلك هوزخرفة العبادة، وشأنه في هذا شأن الصور الجدارية، والفسيفساء والزجاج الملون. فكانت مهمة المثال الأولى هي تجميل بيت الله بالتماثيل والنقوش البارزة، وكانت مهمته الثانية هي خلق الصور والتماثيل الدينية لبث روح التقي في البيت، فإذا بقي بعد ذلك وقت ومال كان في وسعه حتى ينحت تماثيل لأشخاص دنيويين، أويزين أشياء لا تمت بصلة إلى الدين. وكانت المادة المفضلة في النحت الخاص بالكنيسة هي التي تتسم بالبقاء كالحجر، والرخام، والمرمر، والبرنز، أما التماثيل فكانت الكنيسة تفضل حتى تصنعها من الخشب، ذلك بأن هذه التماثيل يستطيع حملها من غير مشقة المسيحيون السائرون في المواكب الدينية. وكانت التماثيل تلون كما كان يحدث في الفن الديني القديم، وكانت في أكثر الأحيان واقعية أكثر منها مثالية، تهدف إلى حتى يشعر العابد بالنظر إلى صورة القديس أنه بين يديه، وقد بلغ من نجاح المثالين في بلوغ هذه الغاية حتى كان المسيحي، كما كان العابد في الأديان القديمة، ينتظر حتى يصنع التمثال نفسه المعجزات، وقلما كان يخامره الشك إذا سمع حتى ذراع المسيح المصنوعة من المرمر قد تحركت لتبارك إنساناً، أوحتى ثدي عذراء من الخشب قد در اللبن.

وخليق بكل من يفهم فن النحت في العصور الوسطى حتى يستشعر الندم حين يبدأ هذه الدراسة. ذلك حتى قسماً كبيراً من آثاره دمرها المتطهرون المتعصبون في إنجلترا، وكان البرلمان في بعض الأحيان هوالآمر بهذا التدمير، كما دمر الكثير من هذه الآثار في فرنسا أثناء الإرهاب الذي تعرض له الفن أيام الثورة. وكان ذلك العمل الرجعي في إنجلترا موجهاً إلى ما بدا لمحطمي الصور الجدد أنه زخرفة وثنية للأضرحة المسيحية، أما في فرنسا فكان يهدف إلى مهاجمة قبور الأسراف المكروهين وما لديهم من مجموعات فنية ودمى. ولهذا نجد في جميع أنحاء البلدين تماثيل بلا رؤوس، وأنوفاً مكسورة، وتوابيت مهشمة، ونقوشاً بارزة، وطنفاً، وتيجان عمد محطمة. ذلك حتى ثورة جامحة من الحقد الدفين الذي ظل يغلي زمناً طويلاً في الصدور على الاستبداد الكنسي والإقطاعي قد انفجر مرجلها آخر الأمر في صورة تخريب شيطاني لهذه الآثار - وكأن الزمن وأتباعه من العناصر الجوية قد أجمعت أمرها في ثورة من التدمير، فاكتسحت ظاهر التماثيل، وأذابت الحجارة، ومحت النقوش، وشنت على أعمال الإنسان حرباً باردة صامتة، لم تتخللها قط هدنة، وشن الإنسان نفسه على هذه الآثار ألف حرب وسعى فيها إل النصر بالتنافس في التدمير، فكان من أثر ذلك أننا لا نعهد النحت في العصور الوسطى إلا من حطامه.

وإذا نظرنا إلى عناصره المتناثرة في المتاحف، أضفنا إلى الأذى سوء الفهم. ذلك حتى الفن الذي تمثله هذه العناصر لم يكن يقصد به حتى ينظر إليه متفرقاً على هذه الصورة، فقد كان في أصله جزءاً لا يتجزأ من موضوع ديني، وكان صرحاً معمارياً كاملاً، ولهذا فإن ما قد يظهر لنا فجاً قبيحاً وهوبمفرده، قد يحدث موائماً أحسن موائمة لما يحيط به من الحجارة. لقد كان التمثال القائم في الكنيسة الكبرى عنصراً في مجموعة، موضوعاً في المكان اللائق به، وكأنه يستطيل ليطاول علوالكنيسة الشامخ. فقد كانت الساقان متلاصقتين، والذراعان ملتصقتين بالجسم، وكان تمثال القديس في بعض الأحيان يدق ويمتد حتى يصل إلى أعلى قائمة كتف الباب. وكان المثال يهدف في أحيان قليلة إلى تقوية الأثر الأفقي لا الرأسي في نفس المشاهد، فكان يجعل التماثيل المقامة فوق الأبواب بدينة مفلطحة، كالتي نشاهدها فوق مدخل تشارتر، أوكان رجل أوحيوان يحشر في تاج عمود كما كان يحسر الإله اليوناني في قوصرة الباب أوالشباك، وبهذا انصهر فن النحت القوطي فأصبح جزاءً لا يتجزأ من فن العمارة الذي يزينه.


النحت المعماري

The tympanum of Vézelay Abbey، برگندي، فرنسا، ع1130، has much decorative spiral detail in the draperies.
تذهيب من مخطوط سيرة رينار Roman de Renart، من أواخر القرن 13.

وكان خضوع النحت للعمارة في طرازها وهدفها الذي يمتاز به فن القرن الثاني عشر بنوع خاص, ثم شهد القرن الثالث عشر ثورة جامحة من جانب المثال فخرج وقتئذ من النزعة التشكيلية إلى الواقعية، ومن الصلاح إلى الفكاهة والهاتى وتذوق الحياة الأرضية. فبينا نرى تماثيل القرن الثاني عشر الموجود في تشارتر مكتئبة جامدة، إذ نرى تماثيل القرن الثالث عشر في ريمس وقد فاجأها المثال أثناء حديثها الطبيعي أوعملها التلقائي. فمعارفها فردية وفي وضعها رشاقة إشارة، وإن كثيراً من هذه التماثيل القائمة في كنائس تشارتر وران لتشبه الفلاحين الملتحين الذين لا نزال نلتقي بهم في القرى الفرنسية، وتمثال الراعي الذي يدفئ نفسه بالنار والقائم فوق باب أميان Amiens الغربي قد يحدث له نظير في حقل بنومندية أوجسبية Gaspe في هذه الأيام. وليس في التاريخ كله نحت يضارع النقوش القوطية الكنسية في واقعيتها الغريبة. ففي رون نجد تمثال فيلسوف مفكر له رأس خنزير محشوراً في أزهار من ذوات الورقات الأربع، وطبيباً نصفه آدمي والنصف الآخر إوزة، يفهم أنبوبة مليئة بالبول، ومفهم موسيقى نصفه آدمي ونصفه ديك يلقي درساً عل عضوغنطروس، ورجلاً أحاله ساحر كلباً، وظلت قدماه تلبسان حذائيه.(21) وهناك صورة صغيرة مضحكة جاثمة تحت التماثيل في تشارتر، وأمين، وريمس. وفي كنيسة استرسبرج تاج عمود أعيد إلى وضعه الأول منذ قليل يمثل دفن رينارد الثعلب، Reynard the Fox يحمل نعشه خنزير وجدي، ويحمل الصليب ذئب، وينير الطريق أرنب بشمعة، ويرش دب الماء المقدس، وينشد القداس وعلٌ، ويتلوحمار صلاة الجنازة من كتاب مستند إلى رأس قطة(22). وفي كنيسة بفرلي Beverley ثعلب على رأسه قلنسوة راهب يرتقي منبراً ويعظ طائفة من الإوز التقية المتدينة(23).

وتمثل الكنائس فيما تمثله حدائق حيوانات من الحجارة، تكاد تجمع جميع ما عهده الإنسان من الحيوان، وإن كثيراً من الحيوانات التي لم تمر إلا بمخيلة رجال العصور الوسطى لتجد لها مكاناً في هذه المجموعات الضخمة التي لا تحصى عديدها. ففي ليون Leon ستة عشر ثوراً تخور فوق أبراج الكنيسة الكبرى، ويقولون لنا إنها تمثل الوحوش القوية التي ظلت السنين الطوال تنقل جلاميد الحجارة من المحاجر إلى الكنيسة القائمة على رأس التل. وتقول إحدى القصص الظريفة: إذا ثوراً كان في يوم من الأيام يصعد بمشقة فوق التل فسقط على الأرض من فرط الإعياء، وظل الحمل متزناً مزعزعاً على منحدر التل حتى ظهر ثور بمعجزة من المعجزات، وانزلق تحت عدة الثور الملقى على الأرض، وجر العربة إلى قمة التل، ثم اختفى في الهواء السماوي الإعجازي(24). وإنا لنبتسم ساخرين من هذه القصص الخيالية، ونعود إلى قراءة قصصنا التي تحدثنا عن الجرائم وعن العلاقات الجنسية.

أسلوب

Man and confronted animals, كاتدرائية كاهور
This capital of Christ washing the feet of his Apostles has strong narrative qualities in the interaction of the figures.

واتسعت الكنائس أيضاً لحدائق النبات، وهل ثمة بعد العذراء والملائكة، والقديسين، زينة لبيت اللله أحسن من النباتات، والفاكهة، وأزهار الريف الفرنسي، أوالإنجليزي، أوالألماني،يا ترى؟ ولقد بقيت الزخارف النباتية القديمة- التي تمثل أوراق الكنكر والكرم- في فن العمارة الرومنسية (800-1200)، ثم حلت محل هذه الزخارف الشكلية العهدية في الفن القوطي طائفة تدهش الإنسان لكثرتها من النباتات المحلية، منقوشة على قواعد الأعمدة وتيجانها، والأجزاء الشبه مثلثة التي بين العقود، والعقود نفسها، وفي الطنف، والعمد نفسها، والمنابر، ومقاعد المرنمين، وقوائم الأبواب ، والمصاطب .. وليست هذه الأشكال مما حدده العهد، بل هي في كثير من الأحيان أنواع فردية، محبوبة في البيئة التي صورتها، وبعث فيها المؤلف الحياة. وتراها في بعض الأحيان زينات مركبة من نباتات مختلفة جمعت بعضها إلى بعض، وذلك أيضاً مما ابتدعه الخيال القوطي، ولكنها مع ذلك ظلت تشعر الناظر إليها بأنها من خلق الطبيعة. وترى الأشجار، والغصون، والعساليج، والأوراق، والبراعم، والأزهار، والفاكهة، والسرخس، والشقيق الأصفر، والطلح، والكرسون المائي، وعود الريح، وأشجار الورد، والشليك، والحسك، والقصعين، والبقدونس، والريس، والكرنب، والكرفس، تساقط من مستودع الكنيسة الذي لا ينضب معينه، لقد كان المثال ثملا ببهجة الربيع، فهدت يده الإزميل في الحجر. وليس الربيع وحده هوالذي تمثله هذه النباتات والأزهار المنحوتة، بل إذا جميع فصول السنة ممثلة فيها، وهي فوق هذا تطالعك بكل ما في أعمال البذر، والحصاد، وعصر الخمر، من كدح ومتعة، وليس في تاريخ النحت كله ما جمل في نوعه من "تاج عصر العنب" كنيسة ريمس الكبرى(25).

حول السور الأعلى لمذبح الهيكل في أبرشية أرتوArthous، لانديه، فرنسا، توجد تماثيل صغيرة تصور الشبق والإسراف وقرد بربري، رمزاً للفسق.
Ouroboros, single and in pairs at Kilpeck, England

ولكن هذا العالم كله- عالم النبات والزهر، والحيوان والطير- كان في المرتبة الثانية إذا قيس إلى الموضوع الرئيسي في فن النحت أثناء العصور الوسطى- وهوحياة الإنسان وموته. ففي تشارتر ولاءون، وليون Lyons، وأكسير، وبورج نقوش أولية تروي سيرة الخلق. وفي لاءون يعد الخالق عل أصابعه ما بقي له من الأيام حتى يتم عمله، وتراه في مناظر متأخرة عن هذا المنظر، وقد أجهده كدحه في خلق المون، متكئاً على عصاه، وجالساً ليستريح، ونائماً ذلك إله يسع جميع فلاح ساذج حتى يفهمه. وثمة نقوش بارزة في كنائس أخرى تصور أشهر العام وما اختص به جميع شهر منها ون عمل وبهجة، وتبين نقوش غير هذه وتلك مختلف أعمال الإنسان فتصور الفلاحين في الحقل أوعند معصرة الخمر، وترى بعضهم يقودون الخيل أوالثيران وهي تشق الأرض أوتجر العربات، ومنهم من يجر الضأن، أويحلب البقر. وهناك طحانون، ونجارون، وحمالون، وتجار، وفنانون وطلاب فهم، بل إذا هناك أيضاً فيلسوفاً أوفيلسوفين، ويصور المثال المعنويات المجردة عن طريق الأمثلة: فدونارتس Donartus يمثل النحو، وشيشرون الخطابة، وأرسطوالجدل، وبطليموس الفلك. وتجلس الفلسفة ورأسها في السحب، وفي يمناها كتاب، وفي يسراها صولجان، فهي ملكة العلوم. وثمة نقوش ترمز إلى الإيمان وعبادة الأوثان، والأمل واليأس، والصدقات والبخل، والعفو، والنادىرة، والسلام، والشقاق، وفي لاءون نقش على باب عال يصور معركة بين الفضائل والرذائل، وعلى القابلة الغربية من كنيسة نوتردام في باريس صورة امرأة رشيقة معصوبة العينين تمثل المعبد، وأمامها امرأة أجمل منها في ثياب ملكية وعليها سيماء من اعتادت الأمر والنهي وتمثل الكنيسة بوصفها عروس المسيح. أما المسيح نفسه فيبدوتارة رحيماً وتارة أخرى رهيباً، وتمثله في بعض الصور وأمه تنزله من الصليب، أويقوم من القبر وبالقرب منه رسم رمزي يمثل أسداً يعيد الحياة بأنفاسه إلى أشباله، جميع مكان منحوتة أومرسومة ملونة في الكنائس، ذلك أنه لم يكن يسمح للإنسان حتى ينساها، وهنا أيضاً لم يكن يستطاع الاعتماد إلا على شفيع واحد لغفران الذنوب، ذلك هومريم العذراء التي تبدولهذا السبب في الصور المنحوتة، كما تبدوفي الأوراد، صاحبة المكان الأول، ومنبع الرحمة اللانهائية، التي لا تسمح لابنها حتى يفسر تفسيراً حرفياً تلك الحدثات القائلة إذا الكثيرين يُدعَون والقليلين يختارون.

الرسم

The Three Magi from the St. Albans Psalter, English, 12th century.

تذهيب المخطوطات

ظل تزيين المخطوطات بالرسوم والنقوش الصغيرة بالفضة المذابة والمضى المذاب، وبالمداد الملون، فناً محبوباً يوائم تقوى الأديرة وجوها الهادئ. وقد بلغ هذا الفن ذروته في بلاد الغرب في خلال القرن الثالث عشر، شأنه في هذا شأن كثير من أوجه النشاط في العصور الوسطى، ولم يبلغ بعدئذ في وقت من الأوقات ما بلغه في خلال القرن من دقة وابتكار وكثرة، فقد حلت في ذلك العهد محل الصور والكسى الجامدة، والألوان الخضراء والحمراء القاسية التي كانت سائدة في القرن الحادي عشر، حلت محلها بالتدريج أشكال رشيقة رقيقة في ألوان جمة العدد، على أرضية زرقاء أومضىية، وغلبت صور العذراء على هذه النقوش، كما أخذت من ذلك الوقت تكثر في الكنائس الكبرى. ولقد أتلفت خط كثيرة في العصور المظلمة، وتضاعف قيمة ما بقي منها لأنها كانت في نصها وفنها خيطاً رفيعاً من خيوط الحضارة إذا صح هذا التعبير(11). وكان الناس في تلك الأيام يعتزون بخط الترانيم، وبالأناجيل، والتراتيل، وكتل القداس، وخط الصلوات، وأدعية الساعات، ويحسبونها الأدوات الحية التي تنقل إليهم الوي الإلهي، ولمقد يكونوا يرون حتى أي مجهود يبذل في تزينها الزينة اللائقة بها أكثر مما تستحق. فكان الواحد منهم يبذل يوماً كاملاً في كتابة الحرف الأول من حدثة، وأسبوعاً كاملا في كتابة عنوان صفحة ، ولا يرى في هذا خروجاً على المعقول، وقد وقع في عام 986 حتى أقسم هارتكر Hartker أحد رهبان القديس Gall حتى يظل ما بقي من حياته الدنيوية داخل جدران أربعة، ولعله كان يتسقط انتهاء العالم ذلك القرن. وظل في صومعته الصغيرة حتى توفي بعد خمسة عشر عاماً من دخولها، وفيها زين بالصور والنقوش تراتيل القديس جول(12).

وكان فن المنظور وعمل القوالب وقتئذ أقل شأناً مما كانا عليه أيام ازدهارهما في عصر الكارولنجيين، فقد كان أصحاب النقوش الصغيرة يعنون بعمق اللون وبهائه، وازدحام الصور وحيويتها أكثر من عنايتهم بأن يخدعوا الناظر حتى يظن حتى ما أمامه فضاء ذوثلاثة أبعاد. وكانت أكثر موضوعاته تؤخذ من الكتاب المقدس، أومن الأناجيل غير القانونية، أومن أقاصيص القديسين، ولكن صوراً للنبات والحيوان كانت تستخدم أحياناً في تلك الزينة، وكان يسر صاحبها حتى يصور نباتات وحيوانات خيالية كما يصور نباتات وحيوانات حقيقية. وكانت القواعد الكنسية المفروضة على الموضوعات وطريقة معالجتها في الخط المقدسة نفسها أقل دقة وتحديداً في الغرب منها في الشرق، وكان يسمح للمصور حتى ينتقل ويلهوا حراً في مجاله الضيق. وكانت رؤوس بشرية مركبة على أجسام حيوانات، ورؤوس حيوانات على أجسام بشرية، وكان قرد في زي راهب، وقرد يختبر في وقار كوقار الطبيب قنينة ملآى بالبول، وموسيقى يطرب سامعيه يحك فكي حمار - كانت هذه هي الموضوعات التي ازدان بها كتاب صلوات ساعات العذراء(13). ونشأت نصوص غير هذه مقدسة ودنسة، واتخذت لها مكاناً في مناظر الصيد، أوالبرجاس، أوالحرب، وكان من الصور التي اشتمل عليها كتاب ترانيم في القرن الثالث عشر صورة تمثل داخل مصرف إيطالي، ذلك حتى العالم الدنيوي، وقد استفاق من رهبة الأبدية، أخذ يغزوأرباض الحياة الدينية.

وكانت الأديرة الإنجليزية موفورة الإنتاج في هذا الفن السلمي، فقد أخرجت مدرسة أنجيليا الشرقية خط مزامير واسعة الشهرة: منها كتاب محفوظ في مخطة بروكسل، وآخر (الأورمبزي Ormbsy ) في أكسفورد، وثالث (القديس أومر Omer) في المتحف البريطاني، ولكن خير ما أنتجه هذا الفن كان في فرنسا، فقد بدأت خط التراتيل التي زينت للويس التاسع طرازاً من النقوش الجامعة المركزة، وتقسما إلى مدليات داخل إطارات، نقلت بلا ريب عن زجاج الكنائس الملون. واشهجرت الأراضي الوطيئة في هذه الحركة، فبلغ رهبان ليبج وغنت في فن تزيين الخط بعض ما بلغه فن النحت في أمين Amiens وريمس Reime من الشعور الحماسي والرشاقة الفياضة، وأخرجت أسبانيا أعظم آية مفردة من آيات هذا الفن في القرن الثالث عشر في كتاب ترانيم للعذراء هوتسابيح (ألفونسوالعاشر) الملك الحكيم (حوالي عام 1280). وإن نقوشه الصغيرة البالغ عددها 1226 نقشاً لتشهد بما كان يبذل في خط العصور الوسطى من كد وإخلاص. ولا حاجة إلى القول بأن هذه الخط كانت خط خط كما كانت خط تصوير، وكان الفنان الواحد في بعض الأحيان ينسخ ويؤلف النصوص ويخطها ثم يرسم النقوش بيده. وإن الإنسان ليتردد، إذا أراد حتى يحكم على الكثير من الخط، أيهما أجمل زينتها أونصها. إلا إننا قد خسرنا بالطباعة الشيء الكثير.


الجداريات

جصية قطلانية، الآن في Museu Nacional d'Art de Catalunya.
سرداب ملون في سان إيزيدوروفي ليون، إسپانيا.

من العسير علينا حتى نقول إلى أي حد أثرت زخارف الخط من حيث موضوعها وأشكالها في نقوش الجدران واللوحات المصورة، والصور المقدسة، ونقوش الخزف، والنحت البارز، والزجاج الملون، وإلى أي حد أثرت هذه في زخارف الخط. لقد كان بين هذه الفنون تبادل كثير في موضوعاتها وأنماطها، وتفاعل مستمر. وكان الفنان الواحد في بعض الأحيان يمارسها جميعاً، وإنا لنظلم الفن والفنان معاً إذا ما فصلنا أحد هذه الفنون عن بقيتها فصلاً تاماً، اوفصلنا الفنون عن الحياة القائمة في أيامها، ذلك حتى الحقيقة أكثر ارتباطاً أجزائها من تواريخها، وإذا ما جزأ المؤرخ عناصر الحضارة التي يجري تيارها مجتمعاً في مجرى واحد، فإنما يعمل ذلك لسهولة البحث والإيضاح لا غير. وليس من حقنا حتى نفصل الفنان عن الثقافة المعقدة التي ربته وفهمته، وأمدته بالتنطقيد والموضوعات - وأثنت عليه أوعذبته، واستخدمته، ودفنته، ونسيت اسمه أكثر مما ذكرته.

وكانت العصور الوسطى تقاوم الفردية، وتعدها من العقوق المفلس، وتأمر العبقري حتى يغمر نفسه في أعمال زمانه ومجرى حوادثه. وكانت الكنيسة، الدولة، والمدينة المستقلة، ونقابة الحرف في عهد ذلك الوقت هي الحقائق الخالدة، وكانت هي الفنانين أنفسهم، ولم يكن الأفراد إلا أيدي الجماعة، وإذا ما قامت الكنيسة الكبرى على قواعدها كان جسمها وروحها يمثلان جميع ما قدسه واستنفده تصميمها، وبناؤها، وتزيينها من أجسام وأرواح. ومن اجل هذا ابتلع التاريخ جميع أسماء الرجال الذين نقشوا جدران عمائر العصور الوسطى قبل الثالث عشر، ولم يبق من هذه الأسماء إلا القليل، وكادت الحروب، والثورات، والرطوبة التي توالت مدى الدهور تبتلع أعمالهم. ترى هل كان في أساليب ناقشي الجدران عيوب. لقد كانوا يستخدمون أساليب المظلمات وأدهنة الجدران القديمة، فيضعون الألوان على الجدران قبل حتى يجف بياضها، أويرسمون على الجدران الجافة بألوان يجعلونها لزجة بما يدخلونه فيها من المواد الغروية. وكانوا يقصدون بكلتا الوسيلتين حتى يخلدوا ما يرسمون، أما بنفاذ الألوان في الجدران أوبتماسكها، ومع هذا كله كانت الألوان تتطاير على مر السنين، ولذلك لم يبق من الرسوم الجدارية التي عملت في القرن الرابع عشر ويصف ثيوفليس (1190) كيفية تحضير الألوان الزيتية، ولكن هذه الصناعة لم تبلغ كثيراً من الرقى قبل عهد النهضة.

ويلوح حتى تنطقيد النقش الروماني القديم على الجدران قد قضت عليه غارات القبائل المتبربرة وما أعقبها من فقر دائم عدة قرون. ولما حتى بعث فن النقش الجداري الإيطالي، لم يسترشد باعثوه بالتنطقيد القديمة، بل استرشدوا بأساليب بيزنطية النصف يونانية والنصف شرقية، وإنا لنجد في أوائل القرن الثالث عشر مصورين يونان يعملون في إيطاليا - ثيوفانيس في البندقية، أبونيوس في فلورنس وملورمس Melormus في سيينا... وتحمل أقدم لوحات الفن الإيطالي المسقط عليها من راسميها في ذلك العهد أسماء يونانية، وقد اتى هؤلاء الرجال معهم بموضوعات وأنماط بيزنطية - بصور رمزية، دينية - صوفية، وهم لا يدعون قط أنهم يمثلون مواقف أومناظر طبيعية. ولما زاد الثراء وارتقى الذوق تدريجياً في إيطاليا خلال القرن الثالث عشر، واجتذبت الهبات العالية التي كان يعطاها الفنانون رجالاً من ذوي المواهب العالية، شرع المصورون الإيطاليون -جيونتا بيزانوGiunta Pisano في بيزا، ولابوLapo في بستويا، وجيدوGuido في سينا، وبيتروكفليني Pietro Kavallini في أسيسي وروما، شرع هؤلاء المصورين يهجرون الطريقة البيزنطية الخيالية الحالمة، وينفثون في رسومهم اللون الإيطالي والعاطفة الإيطالية. ولهذا نقش جيدو(1271) في كنيسة سان دمنيكوفي سينا صورة للعذراء بزت بصورة "وجهها الصافي الحلو"(14) أشكال الرسوم البيزنطية الضعيفة التي لا حياة فيها، والتي كانت سائدة في ذلك العصر وتكاد هذه الصورة تكون بداية عصر النهضة الإيطالية.

وبعد جيل من ذلك الوقت دفع دتشيوبيوننسنيا Duccio di Bouninsegna (1273 -1319) مدينة سيينا في صورة جمالية مزينة بصورة "الجلالة" Maesta التي تمثل العذراء فوق عرشها. وتفصيل ذلك حتى المواطنين ذوي الثراء قرروا حتى الأم المقدسة، ملكتهم الإقطاعية، يجب حتى ترسم صورتها في حجم رائع بيد أعظم فنان يعثرون عليه في أي مكان، وسرهم حتى يختاروا لهذا دتشيوابن بلدتهم، ووعدوه بأن يقدموا له المضى، ووفروا له الطعام والوقت، راقبوا جميع خطوة يخطوها في عمله. ولما أتم بعد ثلاث سنين (1311) وأضاف إليها ذلك التوقيع المؤثر :-" أي أم الإله المقدسة، هي سينا السلام ودتشيوالحياة لأنه صورك في هذه الصورة"- حملت الصورة (وكان طولها أربع عشرة قدماً وعرضها سبعة أقدام) إلى الكنيسة يحف بها موكب من الأساقفة، والقساوسة، والرهبان، والموظفين، ونصف سكان المدينة، وسط دوي الأبواق ودق النواقيس، وكانت الصورة التي لا تزال تصف بيزنطة في طرازها، تهدف إلى التعبير الديني لا التصوير الواقعي فقد كان أنف العذراء أطول وأكثر اعتدالاً مما يجب حتىقد يكون، وكانت عيناها اكثر قتاماً، ولكن الصور المحيطة بها كانت ذات رشاقة وصفات أخلاقية واضحة، وكانت المناظر المأخوذة من حياة مريم والمسيح، والمرسومة على منصات المذابح والأبراج ذات فتنة جديدة وجلية. وجملة القول حتى هذه الصورة كانت أعظم ما صور قبل جيتوGioffo .

كان جيوفتي سمابوGiovanui Cimabue (1240-1302) قد بدا وقتئذ في فلورنس أسرة من المصورين قدر لها حتى تسيطر على الفن الإيطالي ملا يكاد يقل عن ثلاثة قرون. وقد ولد جيوفني لأسرة شريفة، وما من شك أنه قد أحزنها حين هجر القانون إلى الفن، وكان ذا روح عالية متكبرة، لا يتردد في حتى يطرح وراء ظهره أية صورة يجد فيها هوأوغيره من الناس عيباً ما. ومع حتى مدرسته الفنية، كمدرسة دتشيو، فرع من المدرسة الإيطالية - البيزنطية، فإنه قد أفرغ جميع كبريائه وكل نشاطه، في فنه، وأثمرت جهوده هذه ثمرة أوفت على الثورة، وقد عمل هو، أكثر مما عمل دتشيوالذي يعلوعليه في مكانته الفنية، على إبطال الطراز البيزنطي وشق طريقاً للرقي جديداً. فثنى ورق الخطوط الجامدة التي كان يرسمها أسلافه، وكسا الروح لحماً، ووهب اللحم دماً ودفئاً، والآلهة والقديسين حناناً آدمياً، وأستخدم في تصويره الألوان الزاهية الحمراء، والقرنفلية، والزرقاء، فنفث في صورة حياة ولألاء لم تعهدهما إيطاليا العصور الوسطى قبل أيامه، على أننا مضطرون إلى قبول جميع ما ذكرناه عنه مستندين إلى سهادة معاصريه، لأن الصور التي تعزى له ليس فيها صورة واحدة موثوق بأنها من خلق يده، وأكبر الظن حتى صورة العذراء والطفل والملائكة المرسومة بالطلاء المائي لمصلى روشلاي Rucellai في كنيسة سانتا ماريا نوفلا Santa Maria Novella بمدينة فلورنس، أكبر الظن حتى هذه الصورة من خلق دتشيو(15) وتعزورواية يشك فيها بعضهم، ولكنها في أغلب الظن صادقة، إلى سمابيوصورة "العذراء والطفل بين أربعة ملائكة" الموجودة في كنيسة سان فرانسيسكوالسفلى في أسيسي. وهذا المظلم الضخم الذي يرجع المؤرخون تاريخه عادة إلى عام 1256 والذي أعيد في القرن التاسع عشر، هوأولى الآيات الفنية الباقية حتى الآن من روائع فن التصوير الإيطالي. وصورة القديس فرانسس التي فيها واقعية إلى حد يشهد بجرأة رسمها - فهي تمثل رجلاً روعته رؤية المسيح إلى حد هزل معه جسمه، وصورة الملائكة الأربعة هي بداية التآلف بين الموضوعات الدينية والجمال النسوي.

وعين سيمابيوفي آخر سني حياته كبير أساتذة الفسيفساء في كنيسة بيزا، وفيها كما يقولون، وضع لقباً للكنيسة تصميم فسيفساء "المسيح في المجد بين العذراء والقديس يوحنا". ويروي فساري Vassari سيرة لطيفة يقول فيها إذا سمابيوعثر في يوم من الأيام غلاماً من الرعاة في العاشرة من عمره يسمى جيتودي بندوني Giotto di Bondone، يرسم ببترة من الفحم حمل على أردواز، فأخذه إلى فلورنس وجعله تلميذاً له (16). وليس ثمة شك في حتى جيتوعمل في مرسم سيمابيو، وأنه شغل منزل أساتذه بعد موته. إلى غير ذلك بدأت أعظم أسرة من المصورين في تاريخ الفن.

الفنون البصرية الأخرى

التطريز

الفسيفساء

اتخذ فن التصوير في عصر الإيمان ثلاثة أشكال رئيسية: الفسيفساء، والتحلية الصغيرة للخط، والصور الجدارية، والزجاج الملون. فأما فن الفسيفساء فكان وقتئذ في عهد الشيخوخة، ولكنه كان في خلال الألفي عام التي مرت عليه قد أثمر كثيراً من الدقة، فقد كان صانعوه، إذا أرادوا عمل الأرضية المضىية التي يحبونها حباً جماً، يلقون ورقة رقيقة من المضى حول مكعبات من الفضة، ويغطون هذه الورقة بغشاء رقيق من الزجاج ليمنعوا تلوث المضى وقتامه، ثم يضعون المكعبات الممضىة في سطوح غير مستوية بعض الشيء ليمنعوا بذلك بريق السطوح. وكان الضوء ينعكس من هذه المكعبات في زوايا مختلفة وبذلك يكسب البترة كلها نسيجاً حياً.

وأكبر الظن حتى فنانين بيزنطيين هم الذين غطوا القباء الشرقي في إحدى الكنائس القديمة في ترشلوTorcello - وهي جزيرة صغيرة قريبة من البندقية - وجدارها الشرقي بنقوش من الفسيفساء تعد اروع ما خلقته العصور الوسطى(10). وتمتد أعمال الفسيفساء في كنيسة القديس مرقص على مدى سبعة قرون، وتمثل أنماطها تلك القرون السبعة، فقد أمر الدوج دمنيكوسلفوDomenico Selvo بعمل أولى نقوش الفسيفساء الداخلية في عام 1071، ويظن أنه استخدم في هذا العمل فنانين بيزنطيين، كذلك تمت فسيفساء عام 1153 تحت إشراف فنانين بيزنطيين، ولم يكن للفنانين الإيطاليين الشان الأكبر في تزيين كنيسة القديس مرقس بالفسيفساء قبل عام 1450، وإن الرسم الفسيفسائي المنقوش في القبة الوسطى في القرن الثاني عشر، والذي تمثل صعود المسيح لهوأسمى ما بلغه هذا الفن، ويقرب منه في روعته النقش الفسيفسائي الذي يمثل يوسف والموجود في قبة البهو. ولقد ظل النقش الفسيفسائي الرخامي الموجود في طوار الكنيسة مدى سبعمائة عام يقاوم خطى بني الإنسان. وفي الطرف الآخر من إيطاليا اتحد الفنانون اليونان والمسلمون خلق آيات النقش الفسيفسائي في صقلية النورمانية - في الكابلا بلتينا Capella Palatina وفي كنيسة مرترانا Martorana بمدينة بالرم Palermo وفي دير منريال Monreale وكنيسة شفالوCefalu (1148). وربما كانت الحروب البابوية التي شبت نارها في القرن الثالث عشر قد عاقت تقدم الفن في روما، ولكن نقوشاً فسيفسائية متألقة صنعت في ذلك القرن لتزدان بها كنائس سانتا ماريا ماجوري Santa Maria Maggiore وسانتا ماريا تراستفيري Trastevere والقديس يوحنا في لاتران "والقديس بولس خارج الجدران". وكان فنان إيطالي هوالذي وضع تصميم النقش الفسيفسائي لكنيسة التعميد في فلورنس، ولكن هذا النقش لا يبلغ من الروعة ما بلغته أعمال الفنانين اليونان في البندقية أوصقلية. وكان لدير سوجر في سانت دنيس (1150) أرضية فسيفسائية فخمة احتفظ ببعض أجزائها في متحف كلوني، وإن طوار دير وستمنستر (حوالي عام 1288) لمزيج من الظلال الفسيفسائية يثير الدهشة والإعجاب غير حتى فن الفسيفساء لم يزدهر قط في شمال جبال الألب ، فلقد طغى عليه في تلك البلاد الزجاج الملون كما طغت عليه في إيطاليا نفسها حتى كادت تخرجه منها الصور الجدارية حين أقبل على هذا الفن دتشيوDuccio وسيمابيوCimabue، وجيتو.

الزجاج المعشق

سبقت إيطاليا شمالي أوربا بمائة عام كاملة في النقوش الجدارية والفسيفساء، وتأخرت عن تلك البلاد مائة عام في العمارة والزجاج الملون. وكان فن تلوين الزجاج معروفاً عند الأقدمين، ولكن أكثر ما عهد منه كان في صورة الفسيفساء الزجاجية، فقد ملأ جريجوري التوري Gregory of Tours (538-593) نوافذ كنيسة القديس مارتن بزجاج "مختلف الألوان" وتحدث بولس المنظم Paul the Silentiary عن جمال ضوء الشمس حين يمر خلال الشبابيك المتنوعة الألوان في كنيسة أيا صوفيا بالقسطنطينية. ومبلغ فهمنا أنه لم تبذل في هذه الحالات أية محاولة لرسم صورة بالزجاج الملون، لكن ادلبيروAdalbero أسقف مدينة ريمس زين كنيسته حوالي عام 980 بشبابيك "تحتوي تواريخ"(17)، وتحتوي أخبار القديس بنينيس St. Benignus على وصف ل "شباك مصور قديم جداً" يمثل القديس باسكاسيوس St. Paschasius، في كنيسة بدبحون(18). لقد كان هذا زجاجاً مؤرخاً، ولكن يظهر حتى اللون هنا قد وضع على الزجاج ولم يصهر فيه. ولما حتى قلل فن العمارة القوطية من الثقل الذي تتحمله الجدران وهيأ بذلك مكاناً للنوافذ الواسعة، جاز الضوء الكثير الذي يدخل الكنيسة بهذه الوسيلة- أوبالأحرى تطلب هذا الضوء - تلوين ألواح الزجاج، وبهذا وجدت الحوافز القوية الكثيرة عن وسيلة لتلوين الزجاج تلويناً أبقى على الزمن من الوسيلة القديمة.

والراجح حتى الزجاج ذا الألوان المصهورة قد تفرع من الزجاج المطلي بالميناء. ويصف ثيوفيلس في عام 1190 هذه الصباغة الفنية الجديدة فيقول إذا "رسماً" أوتصميماً يوضع على منضدة ويقسم أقساماً صغيرة، ويميز جميع منها برمز للون المرغوب فيه. ثم تبتر بتر من الزجاج قلما يزيد طولها أوعرضها على بوصة واحدة بقدر مساحة الرسم. وتلون جميع بترة من الزجاج باللون المطلوب وذلك بصبغة مكونة من مسحوق الزجاج المخلوط بأكاسيد معدنية مختلفة - الكوبلت للون الأزرق، والنحاس الأحمر أوالأخضر، والمنجنيز للأرجواني... ثم يحرق الزجاج المطلي بعدئذ لتنصهر الأكاسيد والطلاء في الزجاج، وتوضع الأجزاء بعد تبريدها على التصميم، وتلحم بعضها ببعض ببتر رفيعة من الرصاص. وإذا نظر الإنسان لشباك مصنوع من هذا الزجاج الفسيفسائي فإن العين لا تكاد تلاحظ بتر الرصاص، بل تحسب أجزاؤه سطحاً ملوناً متصلاً. وكان ما يتهم به الفنان في هذه الحال هواللون، وكان هدفه هومزج الالوان، ولم يبحث في عمله عن الواقع، ولم يعن بالمنظور، وكان يظهر الأمور المرسومة صورته بأغرب الألوان - ففيها جمالة خضر، وآساد قرنفلية، وفرسان زرق الوجوه(19). ولكنه حصل على النتيجة التي يبتغيها: حصل على صورة متلألئة مخلدة اللون، وعلى تخفيف الضوء الداخل في الكنيسة وتلوينه، وعلى تعليم العابدين والسموبنفوسهم.

وكانت الشبابيك - حتى "الورود" العظيمة منها - تقسم في معظم الأحوال إلى لوحات مصورة، ورصائع، ودوائر، ومعينات، ومربعات، وذلك لكي يمثل الشباك الواحد عدة مناظر في سيرة أوموضوع ما. فكان أنبياء العهد القديم يصورون أمام نظائرهم في العهد الجديد أوأمام نبوءاتهم التي تحققت فيه. وكان العهد الجديد تضاف إليه أجزاء من الأناجيل غير القانونية، وقد كان ما تحتويه هذه الأناجيل الأخيرة من الأقاصيص ذات الخيال الجميل عزيزاً على عقل العصور الوسطى محبباً له. وكانت القصص المأخوذة من حياة القديسين أكثر في النوافذ من الحوادث المستقاة من الكتاب المقدس، مثال ذلك حتى مغامرات القديس يوستاس St. Eustace كانت تروى على شبابيك تشارتر، وعلى شبابيك سان Sens، وأوكسير Auxerre، ولمان Le Mans، وتور. وقلما كانت حوادث التاريخ غير الديني تظهر على الزجاج الملون.

ولم يمض نصف قرن على ظهور أول مثل للزجاج الملون في فرنسا حتى وصل درجة الكمال في تشارتر، كانت شبابيك الكنيسة الكبرى نماذج ينسج على منوالها أوأهدافاً يسعى لبلوغها في Sens، وليون Leon، وبورج Bourge، ورون. ومن هنا انتقل الفن إلى إنجلترا، وأوحى إلى صناع زجاج كنتربي ولنكلن، وقد نصت معاهدة عقدت بين فرنسا وإنجلترا على حتى يسمح لأحد المصورين على الزجاج عند لويس السابع (1137-1180) بأن يأتي إلى إنجلترا(20). وفي القرن الثالث عشر كبر الأجزاء التي يتكون منها لوح الزجاج وفقد اللون بعض ما كان في الأعمال الأولى من دقة واهتزاز، وحلت في أواخر ذلك القرن الزخارف المكونة من خطوط خارجية رفيعة حمراء أوزرقاء اللون على قاعدة من لون واحد رمادي محل الألوان المتناسقة في الكنائس العظمى - وكان لفواصل الشبابيك نفسها وقد أخذت أشكالها تزداد تعقيداً على مر الأيام، شأن أكبر في الصورة، ومع حتى الزخارف السالفة الذكر أضحت على مر الزمان فناً جميلاً، فإن مهارة المصور على الزجاج أخذت تضعف تدريجياً. ذلك حتى روعة الزجاج الملون اتىت مع الكنائس القوطية الكبرى، فلما زال مجد القوط، زالت معه نشوة الألوان.

انظر أيضا

  • عمارة رومانسكية
    • الخصائص الاقليمية للعمارة الرومانسكية

المصادر

  • الموسوعة المعهدية الكاملة
  • Legner, Anton (ed). Ornamenta Ecclesiae, Kunst und Künstler der Romanik. Catalogue of an exhibition in the Schnütgen Museum, Köln, 1985. ثلاثة vols.

وصلات خارجية

  • Metropolitan Museum Timeline Essay
  • crsbi.ac.uk (Electronic archive of medieval British and Irish Romanesque stone sculpture.)
  • Corpus of Romanesque Sculpture in Britain and Ireland
  • Romanes.com Romanesque Art in France
  • El Portal del Arte Románico; Visigothic, Mozarab and Romanesque art in Spain(in Spanish)
  • Romanesque Sculpture group on Flickr

ملاحظات

تاريخ النشر: 2020-06-04 11:28:59
التصنيفات: فن رومانسكي

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

عسير تستحوذ على أكثر المواقع الزراعية المخصصة السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:25:32
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 63%

الأحوال المدنية تقدم خدماتها لزوار جناح الداخلية في "إكسبو الحج"

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:26:38
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 54%

تعاون ثلاثي بجامعة خالد السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:25:32
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 56%

اقتصادي / أوروبا تشهد تراجعاً في أسعار الغاز

المصدر: وكالة الأنباء السعودية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:28:38
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 62%

28 خدمة رقمية للقطاع البلدي بالأحساء

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:26:53
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 61%

حركة تصحيحية داخل "البام" تطالب وهبي بالاستقالة وكشف مصدر ثروته

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:26:19
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 61%

حديث الماء

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:26:54
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 64%

فرنسا.. سجن تشكيل عصابي دولي لبيع لحوم الخيل الفاسدة

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:26:44
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 61%

سياسي / قطر تدين بشدة تفجيراً في كابُل

المصدر: وكالة الأنباء السعودية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:28:35
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 67%

حركة تصحيحية داخل "البام" تطالب وهبي بالاستقالة وكشف مصدر ثروته

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:26:14
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 52%

اقتصادي / الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع

المصدر: وكالة الأنباء السعودية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:28:34
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 52%

رياضي / ريال مدريد يتأهل لنهائي بطولة كأس السوبر الإسباني بعد تغلبه على فالنسيا

المصدر: وكالة الأنباء السعودية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:28:31
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 55%

بايدن: “لا نعرف” سبب العطل الذي أربك حركة الطيران

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 03:15:25
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 36%

الجنيه المصري يهبط مقابل الدولار إلى مستويات غير مسبوقة

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 03:15:24
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 43%

ملصقات دعائية تربك سكان 4 أحياء في المدينة السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:25:31
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 61%

ما سر الاضطرابات التي شهدتها الرحلات الجوية في الولايات المتحدة؟

المصدر: BBC News عربي - بريطانيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 03:16:39
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 87%

رياضي / الزمالك يتعادل سلبياً مع الاتحاد في منافسات الجولة الـ 13 بالدوري المصري

المصدر: وكالة الأنباء السعودية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:28:36
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 60%

الطاقة الذرية: صعوبة الاتفاق على منطقة آمنة لمحطة زابوريجيا

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:26:48
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 64%

صيانة 46 كم بطريق «الهفوف - خريص»

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 00:26:51
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 56%

الروبوتات تقتحم عالم المحاماة.. ورجل قانون يعلق

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-12 03:15:23
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 35%

تحميل تطبيق المنصة العربية