نفير سورية

جريدة "نفير سورية" كانت من أشهر صحف الفكر السياسي العربي الحر، وهي جريدة صغيرة ذات صحفتين نشرها المفهم بطرس البستاني سنة 1860 بعد الحرب الأهلية في بر الشام ونعني بها "نفير سورية". أصدرها في بيروت وأوقف نشرها بعد استتباب الأمن في البلاد، وخلود الناس الى السكينة. وقد اتىت انعكاسا لتفاعل الأفكار والآراء داخل أوساط حركة النهضة اللبنانية.

لم تكن جريدة بكل معنى الحدثة، بل تعبير عن رسائل وطنية مكتوبة بلغة مفهومة وأسلوب واضح، موجهة الى المواطنين تتضمن نصائح مفيدة لشد عرى الألفة والمودة بين الناس. وحسب فيليب الطرزي فقد ظهر في هذه النشرة ثلاثة عشر عددا موسومة بالنفير الأول والنفير الثاني وحتى الأخير، بدلا من العدد الأول والثاني .. الخ. بنيما جزم بطرس أبومانع بصدور احدى عشر نشرة من نفير سورية الممتدة بين أيلول (سبتمبر) 1860 ونيسان (أبريل) 1861.

وانطلاقا من الروح الاستنفارية لهذه الوطنيات، نفترض حتى روح الاعتدال والمحافظة السائدة في "حديقة الأخبار"، وهي التي دفعت المفهم بطرس البستاني لتقديم لون حديث من النادىوة التعبوية الى الرأس العام العربي. طبعا في حدود الامكانات المسموح بها ودون الخروج عن اطار أفكار النزعة العثمانية ، فالدعوة الجديدة الى "الوطنية السورية" أو"الأمة السورية" التي تجلت قبل جميع شئ في تسمية النشرة "نفير سورية" أي صفارة الانذار الداعية لايقاظ سكان هذه البلاد من غفوتهم وترجيح العقل لتخطي الفتنة الطائفية الدامية التي هزت أركان الشرق، فكانت المحطة الطائفية الكبرى في تاريخ سورية الحديث. ففي مطلع وطنيته الرابعة المنشورة بتاريخ 25 تشرين الأول (أكتوبر) 1860 عبر البستاني عن خلاصة عقيدته القومية بقوله: "فسورية المشهورة ببر الشام وعربستان هي وطننا .. وسكان سورية على اختلاف مذاهبهم وهيئاتهم وأجناسهم وتشعباتهم، هم أبناء وطننا".

وقد شدد رواد النهضة في بيروت على روح الوطنية السورية في "حديقة الأخبار" ثم واصولوا هذا المنهاج بعد احتجاب نفير سورية على صفحات مجلة "مجموعة العلوم" (صدرت في 15/1/1868 بعناية الجمعية الفهمية السورية). وبكلام آخر، ان تعبير "بلادنا" أو"هذه البلاد" استخدم للدلالة على مفهوم سورية الوطن الأكثر جمالا والأوفر خصبا ليكون بديلا عن مفهوم الوطن العثماني والذي نتج عنه تعبير "شعبنا" أوالشعب السوري أوأبناء الوطن السوري. غير حتى النفير بشرت بوطنية من نوعية جديدة تماما غنية المضمون، تمثلت في الدعوة الصريحة لحب الوطن، وفي الرسالة السامية التي ناشدت أبناء الوطن بالتحمل عن قضايا الانتماء الديني الممضىي، واظهار التسامح والألفة والمحبة بعضهم ازاء بعض. وتوجعت نفير سورية في بكر نشراتها الى أبناء الطوائف الذين لوحوا بسيوفهم فعكروا صفاء الألفة واضاعوا حق الجوار، فنطقب: "ألا تأكلون كلكم نفس الأكل،يا ترى؟ ألا تشربون كلكم نفس الماء،يا ترى؟ ألا تتنفسون كلكم نفس الهواء،يا ترى؟ ألا تتحدثون كلكم لغة واحدة،يا ترى؟ فأفهموا اذن حتى الأرض التي تقلكم هي نفس الأرض، وأن مصالحكم ومنافعكم واحدة وعاداتكم وتنطقيدكم واحدة أيضا".

وليس من قبيل المصادفة حتى البستاني استشهد بحوادث بدت حيادية لا يجمعها أي رابط بالواقع السوري أوالعثماني، كالنضال المسلح الذي خاض غماره البطل القومي الايطالي گاريبالدي ضد الفاتيكان من أجل توحيد بلاده ، فكان التضامن والتكافل للسير بخطى موحدة وثابتة نحورقي البلاد وسعادة العباد. فقد خط البستاني الوله بحب الوطن حرفيا: "وتخلف السوريين ناجم من طبيعة الحال عن غياب الألفة والمحبة وعن استسلامهم واذعانهم لجبروت التعصب الديني – الممضىي الأعمى". وبعد ان يكرر البستاني القول المنسوب الى الرسول العربي "حب الوطن من الايمان" يندد قائلا: "من يستبدل حب الوطن بحب الطائفة ليس سوريا وطنيا، بل هوعدوالوطن".

وينبغي التأكيد ايضا حتى المفهم بطرس البستاني كان في خواطره حول اللغة العربية على صفحات "نفير سورية" أكثر تقدمية مما كان عليه في "حديقة الأخبار" من الممكن لأنه كان الربان الذي تسلم دفة القيادة هنا. فهواذ يعارض ويساجل جميع من يعتقد بقصور اللغة العربية عن التعبير عن مصطلحات المدنية الحديثة، يتهمه صراحة وعلنا بجهله لكنوز اللغة العربية، مؤكدا حتى تمدين العرب بواسطة اللغة العربية أهون وأنفعك بكثير من استخدام اللغات الأجنبية وسيلة للتقدم والرقي. واختتم البستاني كلامه قائلا: "يجب ألا نجعل من سورية برج بابل يبلبل الألسنة كما هي برج الأديان والمذاهب".

ومن المزايا الهامة التي اخصت بها "نفير سورية" أنها لم تقتصر على الدعوة الى العدالة والمساواة، بل وطرحت بجرأة مسألة فصل الدين عن الدولة، ودعت الى ضرورة وضع حاجز بين السلطة الروحية والسلطة المدنية الفهمانية.