الملك الكامل الشهيد ناصر الدين محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي بن السلطان الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب (ت. 658 هـ/1260م)، تملك ميافارقين وغيرها بعد أبيه سنة خمس وأربعين وستمائة، وكان شابا، عاقلا، شجاعا، مهيبا، محسنا إلى رعيته، مجاهدا، غازيا، دينا، تقيا، حميد الطريقة.

موقفه مع التتار

تملك الكامل ميافارقين وغيرها بعد أبيه سنة 645 هـ وكان محبوبا من رعيته عادل السيرة فيهم، وقد استتب له الأمر فيها وما جاورها إلى حين ظهور التتار فكان أول من صمد أمامهم، وأعرب الجهاد، رغم تخاذل من حوله، وبعثهم الهدايا والأموال طلبا لرضاء هولاكووتأمينا لمناصبهم ومراكزهم، ولم يكن يغفل أهمية الصلح، خصوصا في لقاءة عدولا قبل له به، فراسل التتار في أول الأمر ودارهم، إلا أنه استوعب أنهم لمقد يكونوا يبحثون عن صلح وسلام، إنما يطلبون منه الاستسلام التام، والخنوع لهم لقاء حتى يظل في منصبه، فرفض في إباء وشجاعة وصمد صمودا أسطوريا، ملأ هولاكوعليه غضبا وغيظا وحقدا.

نطق أبوالفتح موسى بن محمد اليونيني :

ومما يجدر ذكر حتى الكامل كانت له فهم بالتتر، تفوق غيره، وذلك لأن والده رحمه الله كان قد تصدى لهم من قبل، وهزمهم.

"وكان أول من احتك عسكرياً - بشكل عملي - مع التَّتار من بني أيوب هوشهاب الدين غازي [والد الكامل محمد بن غازي] فبعد هزيمة التتار لجلال الدين منكبرتي عام 628هـ/1231م هاجمت فرقة منهم مَيَّافارقين، فتصَّدى لهم شهاب الدين "وكسرهم وغنم أسلحتهم، ويبدوأنه كان أكثر بني أيوب فهم بالتتار وبتقدير قوَّتهم الحقيقية، فمع تغلُّبه على فرقة منهم إلا أنّه طلب من السُّلطان الكامل الدعم، لأن التَّتار أصبحوا على حدوده، وربمَّا كان شهاب الدَّين موقناً بأن موجة من الصراع الدامي لا يُمكن لأحد حتى يتنبَّأ بنتائجها ستضرب المنطقة، فطلب من الكامل - أيضاً - الإذن لنقل حريمه إلى مصر، واتى جواب الكامل، جواب من لازال يعيش فترة قبلة التَّتَّار، فقد ردَّ عليه : إذا أُخِذت مَيَّا فارقين أخذَتِ مصر، وكيف يليق ببني أيوب حتى يفسحوا لك بذلك وراءهم خمسون ألف فارس"

الحرب وإعلان الجهاد

"لما وصلت الأنباء إلى الملك الكامل محمد بسقوط بغداد أعد العدة للجهاد، ولما بلغ الأمر إلى هولاكوأراد حتى يفت في عزم الملك الكامل فأوفد إليه رسولاً يوحي إليه بالاستسلام كغيره من الأمراء الأيوبيين، وكان الرسول نصرانيًّا عربيًّا اسمه "قسيس يعقوبي"، وذلك لأمرين حتى يستطيع التفاهم مع الملك الكامل بلغته، والأمر الثاني لتوصيل رسالة غير مباشرة إلى الكامل بأن النصارى مع هولاكو، فسقط الكامل بين أرمينيا النصرانية المتحالفة مع التتار من الشرق، والكرج النصرانية في الشمال الشرقي، ومن الجنوب الشرقي التتار، ومن الغرب إمارات السلاجقة العميلة للتتار، ومن الجنوب الغربي إمارة حلب العميلة للتتار.

غير حتى جميع هذا لم يفت في عزم الملك الكامل، وحتى يعلن الحرب على التتار ولا يعطي فرصة لنفسه أولمن معه بالتخاذل، فقد أقدم على اغتال الرسول، معلنًا بذلك الحرب على التتار"

الملحمة التاريخية

سبق ذكر حتى الكامل فطن لمقصد التتار، وأنهم يريدون استسلاما لا سلما ،فقد وفد إليهم من قبل ،وأكدت سقطة بغداد أنهم لا أمان لهم ولا سلام ، فرفض العرض وقتل الرسول ، وتجهز للحرب والنزال ، فأوفد إليه هولاكوابنه أشموط ورغم قلة العدد وجبن المجاورين له وتخاذلهم عن نصرته ، فقد صمد وقاتل وثبت قريبا من السنتين يقاتلهم واشهجر معه جميع أهل البلد في جهاد عظيم حتى قاتلت معه النساء إلى حتى فنوا جميعا رحم الله أولئك الأبطال ولم يبق منهم بعد الألوف الا قريبا من السبعين أوالتسعين إنسانا ، وقد هابهم التتر حتى أنهم لم يجسروا على دخول المدينة حتى بعد سقوطها.

نطق المضىي :"حدثني الشيخ محمود بن عبد الكريم الفارقي نطق:

ثم نطق: وكان الكامل شديد البأس، قوي النفس، لم ينقهر للتتار بحيث إنهم أخذوا أولاده من حصنهم، وأتوه بهم إلى تحت سور ميافارقين، وحدثوه حتى يسلم البلد بالامان فنطق: ما لكم عندي إلا السيف. قلت: طيف برأسه بدمشق بالطبول، وعلق على باب الفراديس، فلما انقلعوا، واتى المظفر دفن الرأس"

" وفي تاريخ بيبرس: ثم سار هلاون-هولاكو- عن بغداد بعد انقضاء الشتاء إلى الشام، وجرد جيشاً إلى ميافارقين صحبة صرطق نوين وقطغان نوين، وكان بها الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادى، فحاصروها ونصبوا عليها المنجنيقات من جميع ناحيةٍ، فقاتلت أهلها وامتنعوا عن تسليمها، وصبروا أنفسهم على الحصار الشديد والجوع المبيد، حتى أكلوا الميتات والدواب والسنانير والكلاب، وطال عليهم الأمد، وقلت منهم القوة والجلد، فاستولى التتار على المدينة وفتحوها، وكانت مدة مقامهم على حصارها سنتين، فقتلوا وسبوا من أهلها خلقا كثيراً، وفنى الجُند من كثرة القتال، واشتداد النزال وأُسِرَ من بقى منهم، وأخذ صاحبها ناصر الدين الملك الكامل وتسعة نفر من مماليكه وأحضروا بين يدي هلاون، فقتلوا إلا مملوكاً واحداً اسمه قرا سنقر، أبقاه هلاون، وذلك أنه سألهم عن وظائفهم، فذكر له ذلك المملوك أنه كان أمير شكار للسلطان، فاستبقاه وسلم إليه شيئاً من الطيور الجوارح وحظِى عنده، واتفق حضوره إلى الديار المصرية في الأيام الظاهرية، فأعطاه السلطان إقطاعاً، وجعله مقدم في الحلقة."

"سير هولاكوأشموط لمحاصرة الملك الكامل فحصره حصراً شديداً وبقي الملك الكامل مجاهداً للتتر صابراً لقتالهم حتى فني أكثر أهل ميافارقين وعمهم الموت قتلاً وفناء لكثرة الغلاء وعدم الأقوات وبقي محصوراً دون سنتين فعند ذلك ضعفت القوى عن محاربة العدوفاستولوا على ميافارقين واستشهد الملك الكامل قدس الله روحه وحمل رأسه على رمح وطيف به في البلاد فوصلوا به إلى حلب ثم إلى حماة وحمص وبعلبك وشاهدته وهويطاف به بمدينة بعلبك ثم وصلوا به إلى دمشق يوم الاثنين سابع وعشرين جمادى الأولى وطافوا به بالمغاني والطبول ثم علق الرأس بسور باب الفراديس فلم يزل معلقاً في شبكة إلى حتى عادت دمشق إلى المسلمين فدفن بمشهد الرأس داخل باب الفراديس"

ترحم الفهماء والمؤرخون وثناؤهم عليه

يقول المضىي في: "كان شابًّا، عاقلاً، شجاعًا، مهيبًا، محسنًا إلى رعيته، مجاهدًا، غازيًا، دينًا، تقيًّا، حميد الطريقة"

وفي شذرات المضى"وفيها الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي بن العادل صاحب ميافارقين ملك سنة خمس وأربعين وستمائة وكان عالما فاضلا شجاعا عادلا محسنا إلى الرعية ذا عبادة وورع ولم يكن في بيته من يضاهيه حاصرته التتار عشرين شهرا حتى فنى أهل البلد بالوباء والقحط ثم دخلوا وأسروه فضرب هلاكوعنقه بعد أخذ حلب وطيف برأسه ثم علق على باب الفراديس ثم دفنه المسلمون بمسجد الرأس داخل الباب"

ونطق الصفدي : "كان ملكًا جليلاً دينًا خيرًا، عالمًا مهيبًا شجاعًا محسنًا إلى الرعية، كثير التعبد والخشوع، لم يكن في بيته من يضاهيه".

"ومات الملك الكامل محمد بن المظفر غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي صاحب ميافارقين، وكان عالماً عادلاً محسناً، قتله التتار وحملوا رأسه إلى دمشق"

"والملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن العادل صاحب ميافارقين ملك سنة خمس وأربعين وكان عالمًا فاضلًا شجاعًا عادلًا محسنًا إلى الرعية ذا عبادة وورع ولم يكن في بيته من يضاهيه حاصرته التتار عشرين شهرًا حتى فني أهل البلد بالوباء والقحط ثم دخلوا وأسروه فضرب هولاووعنقه بعد أخذ حلب وطيف برأسه ثم علق على باب الفراديس ثم دفنه المسلمون بمسجد الرأس داخل الباب"

"كان ملكاً جليلاً ديناً خيراً عادلاً عالماً محسناً إلى رعيته وسائر من في خدمته كثير التعبد والخشوع لم يكن في البيت الأيوبي من يضاهيه في ديانته وحسن طريقته ورضي عنه وكان التتار قد استولوا على جميع بلاده ومعاقله ومعظم أولاده وحرمه وأهله وهومحصور بميافارقين ثم ختم له بالشهادة على هذا الوجه الجميل بعد حتى أفنى في مدة الحصار من التتار ما لا يحصى كثرة "

رثائه ..

وقد أثار هذا الصمود العظيم والشجاعة الهائلة من الكامل وأهل بلدته قرائح الشعراء فكان ممن رثاهم منهم الشيخ شهاب الدين ابن أبي شامة فنطق فيه ..

ابن غازي غـزا وجاهـد قومًا *** أثخنوا في العراق والمشرقيـن
طاهرا عاليا ومـات شهيـدًا *** بعد صبــرٍ عليهم عاميـن
لم يشنه حتى طيف بالرأس منـه *** فلـه أسـوة برأس الحسيـن
وافق السبط في الشهادة والحمـ *** ـل لقد حـاز أجره مرتين
ثم واروا في مشهـد الرأس ذاك *** الرأس فاستعجبوا من الحالين
وارتجوا أنه يجيء لدى البعـث *** رفيـق الحسين في الجنتين

استشهاده

" وأتوا به هولاكوبالرها فإذا هويشرب الخمر، فناول الكامل كأسا فأبى، ونطق: هذا حرام، فنطق لامرأته: ناوليه أنت، فناولته فأبي، وشتم وبصق - فيما قيل - في وجه هولاكو. وكان الكامل ممن سار قبل ذلك ورأى القان الكبير، وفي اصطلاحهم من رأى وجه القان لا يقتل، فلما قابل هولاكوبهذا استشاط غضبا وقتله "

"وفي هذه الأثناء وقع حادث أليم ومفجع، إذ سقطت مدينة ميافارقين تحت أقدام التتار بعد الحصار البشع الذي استمر عاماً ونصف عام ثمانية عشر شهراً متصلة من النضال والكفاح والجهاد.. وذلك دون حتى تتحرك نخوة قلب أمير من الأمراء أوملك من الملوك ثمانية عشر شهراً والناصر والأشرف والمغيث وغيرهم من الأسماء الضخمة يراقبون الموقف ولا يتحركون!

سقطت مدينة ميافارقين الباسلة، واستبيحت حرماتها تماماً.. فقد جعلها أشموط بن هولاكوعبرة لكل بلد يقاوم في هذه المنطقة.. فقتل السفاح جميع سكانها، وحرَّق ديارها، ودمرها تدميراً.. ولكنه احتفظ بالأمير الكامل محمد الأيوبي -- حياً ليزيد من عذابه، ومضى به إلى أبيه هولاكووهوفي حصار مدينة حلب.. استجمع هولاكوجميع شره في الانتقام من الأمير البطل الكامل محمد الأيوبي --، فأمسك به وقيده، ثم أخذ يبتر أطرافه وهوحي، بل إنه أجبره حتى يأكل من لحمه!!.. وظل به على هذا التعذيب البشع إلى حتى أذن الله عز وجل للروح المجاهدة حتى تصعد إلى بارئها.

(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران: (169- 171)

وعن أنس بن مالك نطق: نطق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يموت له عند الله خير يسره حتى يرجع إلى الدنيا ـ وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد، لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسرّه حتى يرجع إلى الدنيا، فيقتل مرة أخرى"

وقد يقول قائل: لقد اغتال الكامل محمد الذي قاوم، كما اغتال الخليفة المستعصم بالله الذي سلم ولم يقاوم!.. ولكن أقول لكم يا إخواني: شتان! شتان بين من توفي رافعاً رأسه، ومن يموت ذليلاً منكسراً مطأطئ الرأس.. شتان بين من توفي وهوممسك بسيفه، ومن توفي وهورافع يده بالتسليم.. شتان بين من توفي بسهم في صدره وهومقبل، ومن توفي بسهم في ظهره وهومدبر.."

مراجع متفرقة

• الأعلام:6/324
• البداية والنهاية، لابن كثير، دار إحياء التراث العربي ط1 1408 13/249
• تاريخ ابن خلدون 5/365
• تاريخ أبي الفداء 3/31
• ذيل الروضتين:205
• ذيل مرآة الزمان أبوالفتح موسى بن محمد اليونيني ص136،185
• سير أعلام النبلاء، للمضىي، مؤسسة الرسالة،22/13
• شذرات المضى: 5/295،
• المختصر في أخبار البشر 1/451

الهامش