إنسانية النهضة

عودة للموسوعة

إنسانية النهضة

جزء من سلسلة منطقات فلسفية عن


إنسان سعيد

والاتحاد الأخلاقي (IHEU)
اتحاد الإنسانيين الأمريكان
اتحاد الإنسانيين البريطانيين
الجمعية الفهمانية الوطنية

إنسانية فهمانية

مجلس الإنسانية الفهمانية
الإعلان الإنساني الفهماني
إعلان أمستردام

إنسانية دينية

إنسانية مسيحية
إنسانية يهودية
إنسانية بوذية

منطقات متعلقة

ثقافة أخلاقية
إنسانية ماركسية
Deistic humanism
إنسانية كونية
إنسانية وجودية
Integral humanism
Transhumanism
Personism
ما بعد الإنسانية
مناهضة الإنسانية
موضوعات عن الإنسانية
قائمة الإنسانيين

تاريخ الإنسانية

إنسانية النهضة
الإنسانية في ألمانيا
الإنسانية في فرنسا
Humanist Manifesto

بوابة فلسفة ·

إنسانية النهضة Renaissance humanism، كان نشاط اصلاح ثقافي وتعليمي انخرط فيه الدارسون والكتاب والزعماء المدنيين الذين يُعهدون اليوم كإنسانيي النهضة. وقد تطورت أثناء القرن 14 وأوائل القرن 15، وكان رداً على تحدي التعليم المدرسي القروسطي، الذي ركز على الدراسات العملية وقبل الاحترافية و- الفهمية. ركزت المدرسية على اعداد الرجال ليصبحوا أطباء ومحامين وفهماء لاهوت محترفين، وكان التدريس من من خط دراسية مصدق عليها في المنطق، الفلسفة الطبيعية، الطب، القانون، واللاهوت. المراكز الرئيسية للإنسانية كانت فلورنسا وناپولي.

النشأة

إيطاليا

لقد كان حكم آل مديتشي أوكان زمانهم هوالعهد الذي أستحوذ فيه الإنسانيون على عقل إيطاليا واستأثروا به، وحولوه من الدين إلى الفلسفة، ومن السماء إلى الأرض، وكشفوا فيه للجيل المندهش المنذهل عن ثراء الفكر الوثني والفن الوثني، ولقد أطلق على هؤلاء الناس الذين جنوا بالفهم جنوناً منذ أيام أريستوالبعيدة اسم الإنسانيين. لأنهم كانوا يسمون دراسة الثقافة القديمة الإنسانيات أوالآداب الأكثر إنسانية (لا الأكثر رحمة). وأضحت الدراسة السليمة الخليقة بالبشر في أيامهم هي الإنسان نفسه بكل ما يكمن في جسمه من قوة وجمال، وما في حواسه ومشاعره من بهجة وألم، وما في عقله من جلال واهن، دراسته من هذه النواحي كلها كما تظهر موفورة كاملة ابعد حد في آداب اليونان والرومان وفنونهم القديمة. وهذه هي الإنسانيات.

اليونان

لقد كانت الخط اللاتينية كلها تقريباً، وكثير من الخط اليونانية الموجودة عندنا في هذه الأيام، معروفة عند فهماء العصور الوسطى المنتشرين في بقاع مختلفة من أوربا، وكان أهل القرن الثالث عشر يعهدون أكابر الفلاسفة الوثنيين. ولكن ذلك القرن قد غفل أوكاد عن الشعر اليوناني، وكانت طائفة كبيرة من الخط القديمة القيمة التي نجلها الآن مهملة في مخطات الأديرة أوالكنائس الكبرى. وكانت هذه الأركان المنسية أكثر الأماكن التي عثر فيها بترارك ومن اتىوا بعده على الخط القديمة »المفقودة«، التي يسميها »السجينة الظريفة الأسيرة في أيدي السجانين »الهمج«. وارتاع بوكاتشيوحين زار مونتي كسينوووجد المخطوطات الثمينة تبلى في التراب، أوتبتر لتخط عليها المزامير أوتتخذ تمائم. ولما زار بجيودير القديس جول St. Gall في سويسرا عثر كتاب الأنظمة لكونتليان في جب قذر مظلم، وأحس وهويستنفذ هذا الملف كأن المفهم القديم يمد يديه متوسلا إليه حتى ينقذه من »البرابرة«، فقد كان هذا هوالاسم الذي يطلقه الإيطاليون المعتزون بثقافتهم على الفاتحين الغلاط المقيمين وراء جبال الألب، كما كان يطلقه عليهم اليونان والرومان من قبل. وكان بجيووحده هوالذي أخرج من هذه القبور نصوص لكريشيوس، وكولوملا، وفرنتينوس، وفتروفيوس، وفليريوس فلاكرس، وترتليان، وبلوتوس، وبترونيوس، وأميانس مرسلينس، وعدد غير قليل من خطب شيشرون الكبرى. واستخرج كولوتشيوسليوتاتي في فرتشيلي كثيراً من رسائل شيشرون إلى أسرته (1389). وعثر جرلدولندرياني على رسائل شيشرون في فهم البيان موضوعة في صندوق قديم في لدفي Lodfi (1422)، وأنقذ أمبروجيوترافرساري كرنليوس نيبوس من النسيان في بدوا (1343)، وكشفت خط تاستس Tacitus وهي Germania, Agricola، وDialogi (الزارع، والألمانية، والحوار) في ألمانيا (1455)، واستردت الخط الستة الأولى من حوليات تاستس ومخطوط تام من رسائل بلني الأصغر من ديركورفي Corvey،(1508) وأضحت من أكثر ممتلكات ليوالعاشر قيمة.

وكان أكثر من عشرة من الإنسانيين يدرسون أويطوفون ببلاد اليونان في نصف القرن السابق على فتح الأتراك للقسطنطينية، وأعاد واحد منهم هوجيوفني أورسبا Giovanni Aurlspa إلى إيطاليا 238 مخطوطا تضم فيما تضمه مسرحيات إيسكلس Aeschylus وسفكليز، واستنقذ رجل آخر يدعى فرانتشسكوفيليلفوFrancesco Filelfo من القسطنطينية (1427) نصوص هيرودت، وتوكيديدس، وبوليبيوس، ودمستين، وايسكنيس Aeschines، وأرسطو، وسبعا من مسرحيات يوربديز. ولما عاد هؤلاء الرواد وأمثالهم إلى إيطاليا بما كشفوه من الذخائر، كانوا يقابلون كما يقابل قواد الحرب المنتصرون، وكان الأمراء ورجال الدين يؤدون أغلى الأيمان لبعض هذا الفن. وأدى سقوط القسطنطينية إلى ضياع كثير من الخط القديمة التي أثبت الكتاب البيزنطيون وجودها في مخطات تلك المدينة، غير حتى آلافاً مؤلفة منها قد أنقذت، وجئ بمعظمها إلى إيطاليا، ولا تزال خير المخطوطات اليونانية القديمة موجودة فيها حتى الآن. وظل الناس ثلاثة قرون من أيام بترارك إلى تاسوTasso يجمعون المخطوطات بحماسة وحب كحب الآباء للأبناء، وقد اتفق نيقولودي نقولى أكثر من ثروته في هذا العمل، وكان أندريولودي أوكيس على استعداد لأن سيضحي ببيته، وزوجته، وحياته نفسها لكي يضيف شيئاً إلى مخطته، وكان بجيويألم أشد الألم حين يرى شيئاً من المال ينفق على غير الخط. وأعقبت ذلك ثورة في نشر الخط، فقد شرع الناس يدرسون هذه النصوص المكتشفة، ويفاضلون بها، ويصححونها، ويشرحونها، وقامت من أجل ذلك حملة امتدت من لورندسوفلا في نابلي إلى سيرتومس موره في لندن، وإذ كانت هذه الجهود تتطلب في كثير من الأحيان فهماً باللغة اليونانية، فقد أوفدت إيطاليا-ونهجت نهجاً فيما بعد فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا-تستدعي مدرسين للغة اليونانية، وتفهم أورسب، وفيليلفوتلك اللغة في بلاد اليونان نفسها، ولما اتى مانيول كريسلوراس إلى إيطاليا (1397) مبعوثاً إليها من بيزنطية، وأقنعته جامعة فلورنس بالانضمام إلى اساتذتها ليكون أستاذاً للغة اليونانية وآدابها، وكان من بين تلاميذه في هذه الجامعة بجيو، وبلا استروتسي، ومرسوبيني ومانتي. وبدأ ليوناردوبروني بدراسة القانون ولكنه هجره بتأثير كريسلوراس وشرع يفهم اللغة اليونانية، ويحدثنا هوعن ذلك فيقول : »والقيت بنفسي في تيار تدريسه بحماسة بلغ مناه حتى امتلأت احلامي بالليل بما كنت أتلقاه منه بالنهار«. ترى هل يتصور أحد في هذه الأيام حتى النحواليوناني كان في وقت ما يستحوذ على الألباب استحواذ قصص المغامرات والروايات الغرامية في هذه الأيام،يا ترى؟

مجلس فلورنسا

والتقى اليونان والإيطاليون عام 1439 في مجلس فلورنس، وكانت الدروس التي يبادلونها معاً في اللغة أبلغ أثراً في شئون الدين. وهناك ألقى جمستس بليثومحاضراته الذائعة الصيت التي كانت ختام سيادة أرسطوعلى الفلسفة الأوربية وجلوس أفلاطون على عرش هذه الفلسفة جلوس الآلهة. ولما انقض اجتماع المجلس بقى في إيطاليا يؤانس بساريون وكان قد اتى إليها بوصفه أسقف نيفية، وقضى جزءاً من وقته يفهم اللغة اليونانية. وامتدت حمى الدرس إلى غير فلورنس من المدن، فاتى بها بساريون إلى روما، وفهم ثيودورس جازا اللغة اليونانية في بروجيا (1450)، وبدوا، وفلورنس، وميلان (1492-1511 أونحوذلك الوقت)، ويؤانس أرجيروبولس في بدوا (1441) وفلورنس (1456-1471)، وروما (1471-1486)، وقد اتى هؤلاء كلهم إلى إيطاليا قبل سقوط القسطنطينية (1453)، ولهذا فإن هذه الحادثة لم يكن لها إلا شأن قليل في انتنطق اللغة اليونانية من بيزنطية إلى إيطاليا. غير حتى استيلاء الأتراك على الأراضي المحيطة بالقسطنطينية شيئاً فشيئاً بعد عام 1356 كان من العوامل التي حملت الفهماء اليونان على الانتنطق نحوالغرب. وكان من الذين فروا من العاصمة الشرقية عند سقوطها قسطنطين لسكارس، وقد اتى ليفهم اللغة اليونانية في ميلان (1460-1465)، ونابلي، ومسينا (1466-1501)، وكان كتابه في النحوأول كتاب يوناني طبع في إيطاليا في عهد النهضة.

ولم يمض إلا وقت قليل على وجود هؤلاء الفهماء جميعاً، وتلاميذهم، ونشاطهم الحماسي في إيطاليا، حتى ترجمت خط الأدب اليوناني والفلسفة اليونانية إلى اللغة اللاتينية ترجمة أكمل، وأدق، وأبلغ مما ترجم منها في القرنيين الثاني عشر والثالث عشر. وترجم جوارينوأجزاء من خط استرابون وأفلوطرخس، وترجم ترافرساري ديوجين ليرتيوس، وترجم فلا هيرودوت وتوكيديدس، والإلياذة، وترجم بيرتي بولبيوس، وترجم فيتشينوأفلاطون وأفلوطين، وكان أفلاطون بنوع خاص أعظم من أهش الإنسانيين وامتعهم. ذلك أنهم كانوا يبتهجون بجمال أسلوبه وسلاسته، ويجدون في المحاولات مسرحية أكثر وضوحاً وحيوية ومواءمة لروح العصر الذي يعيشون فيه مما يجدونه في جميع مسرحيات إيسكلس، أوسفكليز أويوربديز، وكانوا يحسدون اليونان في عصر سفكليز على ما كان لهم من حرية واسعة في مناقشة أبرز مشاكل الدين والسياسة وأكثرها دقة، ويدهشون من هذه الحرية، وكانوا يظنون أنهم واجدون في آراء أفلاطون-التي جعلها صاحبها معماة غامضة-فلسفة صوفية خفية تمكنهم من الاحتفاظ بمسيحية لم يعودوا يؤمنون بها، ولكنهم لم ينبتروا عن حبها. وتأثر كوزيموببلاغة جمستس بلثيووتحمس تلاميذه في فلورنس فأنشأ في المدينة مجمعاً فهمياً أفلاطونياً (1445) لدراسة أفلاطون، وأمد مرسيليوفيتشينوبالكثير من المال الذي أمكنه من حتى يخصص نصف حياته لترجمة مؤلفات أفلاطون وشرحها. ومن ذلك الحين فقدت الفلسفة المدرسية (الكلامية) سيطرتها في الغرب بعد حتى دامت لها هذه السيطرة أربعمائة عام، وحل الحوار والموضوعة محل الجدل المدرسي فأصبحا هما الصورة التي اتخذها العرض الفلسفي، ودخلت روح افلاطون المطربة المبهجة في جسم التفكير الأوربي الناشئ دخول الخميرة المنعشة في العجين.

لكن هذه الثورة قد اعقبتها شئ من رد العمل. ذلك أنه حدثا زاد ما كشفته إيطاليا من تراثها الأدبي القديم غلب على إعجاب الإنسانيين ببلاد اليونان فخرهم بأدب روما القديمة وفنها، ولهذا أحبوا اللغة اللاتينية واتخذوها أداة لأدب حي، فجعلوا أسماءهم لاتينية، وجعلوا مصطلحات عباداتهم وحياتهم المسيحيتين رومانية: فصار أسم الله يوبتر، وأسم العناية الإلهية فاتوم والقديسين ديفي، والراهبات والبابا بنتفكس مكسيموس (الحير الأعظم)، وصاغوا أسلوب نثرهم على غرار أسلوب نثرهم على غرار أسلوب شيشرون، وشعرهم على غرار شعر فرجيل وهوراس، وبلغ بعضهم مثل فيليفو، وبوليتيان بأسلوبهم درجة من الرشاقة تكاد تعادل رشاقة الأقدمين. إلى غير ذلك أخذت النهضة تعود ادراجها من اللغة اليونانية إلى اللغة اللاتينية، ومن أثينة إلى روما، وبدا كأن خمسة عشر قرناً من الزمان قد أخذت تطوى طيا، وكأن عصر شيشرون، وهوراس، وأوفد، وسنكا، قد ولد من جديد. وأصبح الأسلوب وقتئذ أعظم شأنا من المعنى، وغلبت الصورة على المادة، وترددت أصداء خطب العصر الماضي المجيد مرة أخرى في أبهاء الإيطالية بدل اللاتينية، ولكنهم كانوا يحتقرون لغة المسالي والمغاني ويرونها لاتينية فاسدة منحطة (وفي الحق أنها تكاد تكون كذلك)، ويأسفون لأن دانتي آثر اللغة الدارجة. وقد جوزي الإنسانيون على عملتهم هذه بأنهم فقدوا اتصالهم بمصادر الأدب الحية، وهجر الشعب مؤلفات الإنسانيين إلى الأشراف وآثر عليها القصص المرحة التي كان يخطها له ساكتي، وبنديلو، أوالروايات الغرامية التي تمزج الحرب بالحب والتي كانت تترجم أوتقتبس باللغة الإيطالية من الفرنسية. بيد حتى الافتتان العابر بلغة ميتة وأدب »خالد« قد أعان المؤلفين الإيطاليين على حتى يستردوا ما كان لهم من شغف بفنون العمارة، والنحت وموسيقى الأسلوب، وأن يضعوا قواعد الذوق والنطق التي حملت اللغة القومية إلى صورتها الأدبية، ووضعت للفن هدفا ومستوى. وإذا انتقلنا إلى مجال التاريخ وجدنا حتى الإنسانيين هم الذين أنهوا عهد الإخباريين المتعاقبين من كتاب العصور الوسطى، وهم الكتاب الخالية خطهم من النقد السليم والمليئة بالفوضى، وأحلوا محل طريقتهم تمحيص المصادر والتوفيق بينها، وعرض مادتها عرضا منتظما واضحا، وبعث الحيوية والإنسانية في الماضي بمزج السير بالتاريخ، والارتفاع بقصتهم إلى مستوى فلسفي بتمحيص علل الحوادث، وتياراتها، ونتائجها، ودراسة ما في دروس التاريخ من انتظام واتساق.


الوثنية والمسيحية في النهضة

وانتشرت الحركة الإنسانية في جميع أنحاء إيطاليا، ولكن زعماءها كلهم تقريباً من مواطني فلورنس أوخريجيها إلى حتى جلس رجل من آل ميديتشي على كرسي البابوية. وكان كولوتشيوسلوتاري الذي أصبح الأمين الإداري لمجلس الحكام في عام 1375 حلقة الاتصال بين بترارك وبوكاتشيومن جهة وكوزيمومن جهة أخرى، وكان يعهد ثلاثتهم ويحبهم جميعاً. وكانت الوثائق العامة التي خطها نماذج عالية من اللغة اللاتينية الفصحى، وكانت هي المثل الذي حاول الموظفون العموميون في البندقية، وميلان، ونابلي، ورومة حتى يحتذوه، ونطق جيانجليتسوأمير ميلان إذا سالوتاري قد أضر اسلوبه الممتاز أكثر مما يستطيع حتى يضره جيش من الجنود المرتزقين. وكان اشتهار نيقولودة نيقولي بأسلوبه اللاتيني يعادل اشتهاره بجمع المخطوطات، وكان بروني يسميه »رقيب اللسان اللاتيني«، وكان يعمل ما يعمله غيره من المؤلفين فيعرض ما يخطه على نقولي ليصححه قبل ان ينشره. وكان نقولي يملأ بيته القديم من خط الأدب، والتماثيل، والنقوش، والمزهريات، وبتر النقد، والجواهر، وقد امتنع عن الزواج خشية حتى يلهيه زقابل عن خطه، ولكنه عثر لديه متسعاً من الوقت يقضيه مع حظية سرقها من فراش أخيه. وقد فتح أبواب مخطته لكل من يعني بالدراسة فيها، وحث شبان فلورنس على حتى يهجروا ويستبدلوا به الأدب. وأبصر مرة شابا ثرياً يقضي يومه بلا عمل فسأله: »ما هي غايتك في الحياة؟« فأجابه في صراحة: »غايتي حتى استمتع بوقتي«، فسأله نيقولي مرة أخرى: »فإذا انقضى عهد شبابك فماذاقد يكون شأنك؟« وأدرك الشاب ما ينطوي عليه هذا القول من معنى، ووضع نفسه من ذلك الوقت تحت سلطان نيقولي وإرشاده.

وترجم ليوناردوبروني، الذي كان أميناً لأربعة بابوات ثم صار فيما بين عامي 1427 و1444 لمجلس السيادة في فلورنس، طائفة من محاورات أفلاطون إلى لغة لاتينية ممتازة كشفت لإيطاليا لأول مرة عن روعة أسلوب أفلاطون، وألف ليناردوباللغة اللاتينية تاريخاً لمدينة فلورنس كان سبباً في حتى أعفته الجمهورية هووأبناءه من الضرائب، وكانوا يوازنون بين خطبه وخطب بركليز. ولما توفى أقام له كبار المدينة جنازة عامة كما كان يقام للأقدمين، ودفن في كنيسة سانتا كرونتشي (الصليب المقدس Santa Croce) ووضعوا كتابه التاريخ فوق صدره، وخطط له برناردوروسلينوقبراً عظيماً فخما يستريح فيه.

وولد كارلومارسبيني في ارتسوكما ولد فيها بروني وخلفه في أمانة مجلس السيادة، وقد روع أهل زمانه بأن كان يحفظ نصف الآداب اليونانية والرومانية عن ظهر قلب. ولم يكن يهجر مؤلفاً قديماً لم يقتبس من أقواله في خطابه الأول حين عين أستاذاً للآداب في جامعة فلورنس. وقد بلغ من إعجابه بالوثنية القديمة حتى كان يشعر بأن من واجبه حتى ينبذ الدين المسيحي، ولكنه رغم هذا كان وقتاً ما أميناً رسولياً للكرسي البابوي في رومة، وقد دفن هوأيضاً في كنيسة سانتا كرتشي ورثاه جيانتسومانتي بمرثية رائعة، واختط له دزديريودا ستنيانو(1453) قبراً مزخرفاً، وإن قيل إنه توفي دون حتى يعنى بتلقي القربان المقدس(28). وكان مائتي الذي رثى هذا الملحد رجلاً لا تقل قواه عن فهمه، وقد ظل تسع سنين لا يكاد يغادر في أثنائها بيته وحديقته، منكباً على دراسة الآداب القديمة، وتفهم اللغة العبرية واللغتين اليونانية واللاتينية، ولما عين سفيراً لدى روما، ونابلي، والبندقية، وجنوي افتتن به جميع من رآه، وكسب في هذه المدن كلها صداقة أهلها لحكومته بفضل ثقافته، وسخائه، واستقامته.

وكان هؤلاء الرجال على بكرة أبيهم ما عدا سالوناري من أعضاء الندوة التي تجتمع في بيت كوزيموبالمدينة أوبيته الريفي، وكانوا يتزعمون الحركة الفهمية أثناء سلطانه. وكان لكوزيموبالمدينة أوفي بيته الريفي، وكانوا يتزعمون الحركة الفهمية أثناء سلطانه. وكان لكوزيموصديق آخر لا يكاد يقل عنه سخاء على الفهم والفهماء، ذلك هوأمبروجيوترافرساري القائد في طائفة الرهبان الكملدولية Camaldulite، والذي كان يعيش في صومعة في دير سانتا ماريا دجلي أنجيلي القريب من فلورنس. وكان يتقن اللغة اليونانية، وتنتابه نوبات من وخز الضمير لحبه الآداب القديمة، وكان يأبى حتى يقتبس شيئاً منها في كتاباته، ولكنه كشف عن أثرها فيه بأسلوبه اللاتيني الذي كانت عباراته الإصلاحية التقية مما يرتاع له الجريجوريون المشهورون جميعاً لوأنهم اطلعوا عليها. وكان كوزيمو، الذي يعهد كيف من الممكن أن يوفق بين الآداب القديمة وأساليب المالية العليا من جهة والدين المسيحي من جهة أخرى، ويحب حتى يزور ترافرساري، كما كان نقولي، ومارسبيني، وبروني، وغيرهم يتخذون صومعته ندوة أدبية لهم.

وكان أعظم الكتاب الإنسانيين نشاطاً وأكثرهم سبباً للمتاعب هوبجيوبراتشيوليني Poggio Bracciolini. وقد ولد لأبوين فقيرين بالقرب من أرتسو(1380)، وتلقى تعليمه في فلورنس، ودرس اللغة اليونانية على ما نيول كريسلوراس Manuel Chrysoloras، وكان يكسب عيشه بنسخ المخطوطات، وصادقه سالوتاري وعطف عليه، وعين في الرابعة والعشرين من عمره محرراً في المحكمة البابوية في رومة، وقضى السنين الخمسين التالية يعمل في البلاط البابوي، ولم ينل في خلال هذه المدة كلها شيئاً من الرتب الدينية حتى أصغرها، ولكنه كان يرتدي الثياب الكهنوتية. وقدر له القائمون على البلاط نشاطه فأوفدوه في أكثر من عشر بعثات، وكثيراً ما كان يحيد من عمله فيها ليبحث عن المخطوطات القديمة، وقد يسر له منصبه في الأمانة البابوية الوصول إلى الكنوز المخبوءة في المخطات التي كان يحرص عليها أشد الحرص أوكانت تهمل أشد الإهمال في أديرة القديس جول St. Gall ولانجر Langers، وفينجارتن Weingarten وريتشنوRsichenau وقد بلغت غنائمه من هذه المخطة حداً من الثراء جعل بروني وغيره من الكتاب الإنسانيين يحبونه أعظم تحية ويرون حتى أعماله كانت من المعالم البارزة في تاريخ ذلك العصر. ولما عاد بجيوإلى روما خط لمارتن الخامس Martin V دفاعاً مجيداً عن عقائد الكنيسة، ومع أنه كان في المجتمعات الخاصة يسخر مع غيره من موظفي البلاط البابوي من العقائد المسيحية(29). وقد خط عدة محاورات ورسائل بلغة لاتينية غير مصقولة ولكنها منعشة مطربة، يندد فيها برذائل رجال الدين، بينما كان هويرتكب تلك الرذائل إلى أقصى حد تمكنه منه موارده. ولما حتى غاب عليه الكردنال سانتا أنجيلووجوده أبناء له، وهوما لا يليق برجل يرتدي الثياب الكهنوتية، وأن له عشيقة، وهوأمر لا يليق حتى برجل من غير رجال الدين، رد بجيوعلى ذلك بقحته المعهودة: »إن لي ابناء وذلك أمر يليق بغير رجال الدين، وإن لي عشيقة وتلك إحدى عادات رجال الدين القديمة(30). ولما بلغ الخامسة والخمسين من عمره هجر عشيقته التي ولدت له أربعة عشر طفلاً، وتزوج بفتاة في سن الرابعة عشرة. وكاد في هذه الأثناء حتىقد يكون هومؤسس فهم الآثار الحديث، لأنه جد في جمع القديم من النقود، والنقوش، والتماثيل، وعنى بوصف ما كان باقياً من الآثار الرومانية القديمة بدقة الفهماء المبرزين. وقد صحب البابا أوجنيوس الرابع Eugenius V إلى مجلس فلورنس وتنازع مع فرانتشسكوفيللفو، وتبادل مع السباب بأقبح الألفاظ، ولم يتورع عن حتى يتهمه بالسرقة، والكفر بالله، واللواط. ولقد اسره جميع السرور وهوفي روما حتى يعمل لنقولا الخامس البابا الإنساني، وخط وهوفي سن السبعين كتاب الفكاهات الذائع الصيت، وهومجموعة من القصص، والهاتى، والبذاءات. ولما انضم لورندسوفلا إلى هيئة الأمناء البابوية هاجمه بجيوبسلسلة جديدة من المطاعن اتهمه فيها باللصوصية والتزوير، والخيانة، والإلحاد، والسكر، وفساد الأخلاق. ورد فلا على هذا بأن سخر من لغة بجيواللاتينية، وذكر أخطاءه في النحووالتراكيب، ونطق إنه لا يعني به لأنه ابله يهذي مضىت سنه بعقله(31). ولم يعبأ أحد بهذا الاتهام الأدبي غير الضحية التي وجه إليها، ذلك حتى هذه المطاعن كانت مباريات في الكتابة اللاتينية، ولقد أعرب بجيوعملا في إحدى هذه الموضوعات أنه يفترض أن يثبت حتى في مقدور اللغة اللاتينية الفصحى حتى تعبر عن أحدث الآراء وأخص الشئون، وقد برع في فن اختيار الألفاظ البذيئة براعة جعلت »العالم كله يخشاه« من بعده، أداة لابتزاز أموال الناس. من ذلك أنه لما توفي ألفنسوملك نابلي عن الكتابة إلى بجيومعترفاً بوصول الترجمة اللاتينية لكتاب فيروبيديا تأليف أكسانوفون Xanophon خط الإنسان الحانق يقول: إذا في مقدور القلم الطيب حتى يطعن أي ملك من الملوك، فما كان من الفنسوإلا حتى بادر بإرسال 500 دوقة ليبتر بها لسانه. وألف بجيوبعد حتى أستمتع بكل شهوة وغريزة رسالة في شقاء أحوال البشر نطق فيها إذا شرور الحياة ترجح مباهجها، واختتمها بقول صولون Solon إذا اسعد الناس حظاً من لا يولدون(23). وعاد إلى فلورنس حين بلغ الثانية والسبعين من عمره وعين أميناً للحاكم العام، ثم اختير في آخر الأمر حاكماً للمدينة. وقد عبر عن تقديره لهذا الاختيار بكتابة تاريخ لفلورنس على طريقة الأقدمين-جمع فيه بين أخبار السياسة والحرب والخطب الخيالية، ولما حتى وافته المنية أخيراً وهوفي سن التاسعة والسبعين تنفس غيره من الإنسانيين الصعداء (1459). ودفن هوأيضاً في كنيسة الصليب المقدس Santa Croce وأقيم له تمثال من خلق دوناتلوعند قابلة الكنيسة ، وحدث في أثناء الارتباك الناشئ من بعض التغييرات حتى وضع ذلك التمثال في داخل الكنيسة نفسها بوصفه تمثالً لأحد الرسل الأثني عشر.

ولا جدال في حتى المسيحية قد فقدت قبل ذلك الوقت من الناحيتين الفقهية والأخلاقية سلطانها على طائفة كبيرة من الإنسانيين الإيطاليين من الممكن كانت هي الكثرة الغالبة منهم. نعم إذا طائفة منهم أمثال ترافرساري، وبروني، ومانتي في فلورنس، وفتورينودا فلتري Vittorino da Felter في مانتو، وجوارينودا فرونا Guarino da Verona في فرارا، وفلافيوبيوندوFlavio Biondo في روما قد بقوا أوفياء مخلصين لدينهم، إلا حتى الثقافة اليونانية التي تكشف للكثيرين غيرهم والتي دامت ألف عام كاملة، وبلغت الذروة العليا في الأدب، والفلسفة، والفن مستقلة تمام الاستقلال عن اليهودية والمسيحية، نقول إلا حتى هذه الثقافة كانت ضربة قاضية على إيمانهم بالعقيدة الدينية التي فهمها القديس بولس، بالعقيدة القائلة حتى »لا نجاة خارج الكنيسة«. واصبح سقراط وأفلاطون في نظر هؤلاء قديسين من غير رجال الدين، وبدت لهم أسرة الفلاسفة اليونان أعلى درجة من آباء الكنيسة اليونان واللاتين، كما حتى نثر سقراط وشيشرون كان يبعث الخجل في نفس الكرادلة أنفسهم من اللغة اليونانية التي خط بها العهد الجديد ومن اللغة اللاتينية التي ترجمه بها جيرو. كذلك خيل إلى هؤلاء حتى روما الإمبراطورية أعظم نبلاً وكرامة من انزواء المسيحيين المؤمنين في صوامع الأديرة، كما حتى الحرية التي اتسم بها تفكير اليونان في أيام بركليز والرومان في عهد أغسطس قد أفعمت عقول كثيرين من اٌلإنسانيين بالحسد الذي حطم في قلوبهم العقائد المسيحية التي تحث على التذلل، والإيمان بالدار الآخرة، والعفة، وأخذوا يتساءلون عما يدعوهم إلى إخضاع أجسامهم، وعقولهم، وأرواحهم إلى قواعد رجال الكنيسة الذين انقلبوا وقتئذ رجالا دنيويين، وأخذوا هم أنفسهم يمرحون ويطربون. وكانت العشرة القرون التي انقضت بين قسطنطين ودانتي في نظر هؤلاء الإنسانيين، غلطة يؤسف لها أشد الأسف، وخروجا، كالخروج الذي يصفه دانتي على نفسه، عن الصراط المستقيم. ولقد عفت من ذاكرة هؤلاء الكتاب ما كان في عقول من قبلهم من الأقاصيص المحببة عن العذراء والقديسين، لتفسح مكانها إلى تحولات أوفد Ovid's Metamorphoses وأغاني هوراس الفاسقة الفاجرة. وبدت الكنائس الكبرى وقتئذ دليلا على الهمجية، وفقدت تماثيلها الهزيلة روعتها في الأعين التي رأت تمثال أبلوبلفدير Apollo Belvedere والأصابع التي لمسته.

إلى غير ذلك كان مسلك الكثرة الغالبة من الإنسانيين مسلك من يرون حتى المسيحية أسطورة تفي بحاجات خيال العامة وأخلاقهم ولكنها يجب ألا تأخذها العقول المتحررة مأخذ الجد، ولهذا كانوا يؤيدونها فيما ينطقون به أمام الجماهير، ويقولون إنهم يستمسكون بأصول الدين التي تنجيهم من العذاب، ويبذلون غاية جهدهم للتوفيق بين العقائد المسيحية والفلسفة اليونانية. لكن هذه الجهود نفسها قد كشفت عما يضمرون، فقد كانوا يعترفون اعترافاً ضمنيا بأن العقل هوالحكم الأعلى في جميع شئ. وكانوا يعظمون محاورات أفلاطون بالقدر الذي يعظمون به العهد الجديد، وبهذا عملوا ما عمله السوفسطائيون السابقون على عهد سقراط في بلاد اليونان فحطموا بطريقة مباشرة أوغير مباشرة العقائد الدينية عند من كانوا يستمعون لهم، سواء كان ذلك عن قصد أوغير قصد. وكانت حياتهم تنم عن عقيدتهم الحقيقية. فقد كان الكثيرون يتخلقون بالأخلاق الوثنية في ناحيتها الشهوانية لا في ناحيتها الرواقية، ولمقد يكونوا يؤمنون بالخلود إلا إذا كان هوالخلود الناشئ عن تسجيل الأعمال العظيمة، وهوالخلود الذي لا يهبه الله بل تهبه أقلامهم، والذي يؤدي بالناس إما إلى المجد السرمدي أوالعار الأبدي. وقد ارتضوا بعد جيل من أيام كوزيموحتى يقتسموا هذه القوة السحرية مع الفنانين الذين نحتوا أورسموا صور أنصار الفن والأدب، أوشادوا الصروح الفخمة التي تخلد أسماء الأسخياء الواهبين. وكانت رغبة هؤلاء الأنصار في حتى ينالوا هذا الخلود الدنيوي إحدى القوى الخلاقة فن النهضة وأدبها.

وظل تأثير الكتاب الإنسانيين القوة المسيطرة على الحياة العقلية في أوربا الغربية نحومائة عام. فقد كانوا هم الذين قووا إدراك الكتاب لجمال الشكل والهجريب، وفهموهم أساليب البلاغة، وزخرف القول، وما للأساطير القديمة من سحر وفتنة، وما للاقتباس من الكتاب الأقدمين من قوة، وفهموهم التضحية بالمعنى في سبيل سلامة العبارة وجمال الأسلوب. وكان افتتانهم باللغة اللاتينية هوالذي عاق تطور الشعر والنثر الإيطاليين مدى قرن تام (1400-1500)، وهم الذين حرروا الفهم من سلطان الدين، ولكنهم أخروا تقدمه بعبادتهم الماضي، وباهتمامهم الشديد بالكم في الفهم بدل الملاحظة الموضوعية والتفكير الإبتكاري. ومن أغرب الأمور حتى أقل ما لهؤلاء الكتاب من نفوذ هوالذي كان في الجامعات، وسبب ذلك حتى هذه الجامعات كانت في أيامهم قد تقادم عهدها في إيطاليا، وأن كليات الحقوق، والطب، والدين، »والفنون«-أي اللغة، والأدب، والبيان، والفلسفة-القائمة في بولونيا، وبدوا وبيزا، وبياتشندسا، وبافيا، ونابلي، وسينا، وأرتسو، ولوكا، نقول كانت الكليات القائمة في هذه المدن قد استحوذت عليها عادات العصور الوسطى استحواذا يرد عنها جميع توكيد حديث للثقافات القديمة. وكان أكثر ما عملته أنها أنشأت في أماكن متفرقة كرسيان للبيان عينت فيه أحد هؤلاء الإنسانيين.أما ما كان لإحياء »الآداب« من أثر فقد اتى أكثره عن طريق المجامع الفهمية التي أنشأها أنصار الأدب من الأمراء في فلورنس، ونابلي، والبندقية، وفرارا، ومانتوا، وميلان وروما. فقد كان الإنسانيون في تلك المدن يملون ما يريدون مناقشته من النصوص القديمة باللغة اليونانية أواللاتينية، وكانوا في خلال هذا النقاش يعلقون باللغة اللاتينية على ما يتصل بهذه النصوص من مظاهر النحو، والصرف، والبيان، والسير، والجغرافية، والأدب،. وكان طلابهم يدونون ما يملونه عليهم من النصوص ويثبتون في هوامش الصفحات كثيراً من الحواشي والتعليقات، وبهذه الكيفية تضاعفت تسخ الآداب القديمة كما تضاعف شروحها وانتشرت في أنحاء العالم. ومن أجل ذلك كان عهد كوزيموعهد الانهماك في التعليم لا الانهماك في الأدب المبتكر الخلاق، فانحصرت أمجاد ذلك العصر الأدبية في النحو، والمعاجم اللغوية، وفهم الآثار القديمة، والبيان، والمراجعة الانتقادية للنصوص القديمة. إلى غير ذلك استقرت كيفية التبحر الحديث في الفهم، وأداته، ومادته، ومهد الطريق الذي سار فيه تراث اليونان وروما حتى وصل إلى عقول المحدثين.

ولم يبلغ الفهماء منذ عهد السوفسطائيين مثل ما بلغوه وقتئذ من المنزلة العالية في المجتمع وفي الشئون السياسية، ذلك حتى الكتاب الإنسانيين صاروا أمناء ومستشارين لمجالس الشيوخ، والأمراء، وألأدواق، والبابوات، وكانوا يردون هذا العطف بالمديح المصوغ باللغة اللاتينية الفصيحة، كما يردون على الصد عنهم والاستهزاء بهم بالهاتى اللاذع القاتل، وقد بدلوا المثل الأعلى القديم للرجل الكامل المهذب من رجل شاكي السلاح لابس الزرد إلى إنسان تام النماء بلغ أعلى درجات الحكمة والمنزلة الأدبية باستيعاب التراث الثقافي للجنس البشري. وقد غوت شهرتهم الفهمية وبلاغتهم الساحرة ما وراء جبال الألب من أوربا حين كانت جيوش فرنسا، وألمانيا، وأسبانيا، تحتشد للاستيلاء على إيطاليا، فأخذت هذه الثقافة تتسرب إليها قطرا بعد قطر، وتنتقل بها من صبغة العصور الوسطى إلى الصبغة الحديثة، فكان القرن الذي شهد كشف أمريكا هوبعينه الذي شهد إعادة كشف بلاد اليونان وروما، وكان التحول الأدبي والفلسفي الذي تم في ذلك الوقت أبلغ أثراً في الروح البشرية من الطواف حول الكرة الأرضية وارتياد مجاهلها. ذلك حتى الإنسانيين لا الملاحين هم الذين حرروا عقول البشر من العقائد التعسفية، وفهموهم حتى يحبوا الحياة بدلا من التفكير النكد في الموت، وأطلقوا العقل الأوربي من عنطقه. وكان الفن آخر ما تأثر بالنزعة الإنسانية، لأن هذه النزعة كانت أكثر تجاوباً مع العقل منها إلى الحواس. ولذلك ظلت الكنيسة حتى ذلك الوقت أكبر نصير للفنون، كما كان أبرز أغراض الفن هونقل سيرة المسيحية إلى غير المتفهمين وتجميل بيوت الله، ولهذا بقيت العذراء والطفل، وآلام المسيح وصلبه، وبقى الرسل، وآباء الكنيسة، والقديسون، الموضوعات التي لا غنى عنها لفني النحت والتصوير، بل والفنون الصغرى كذلك. بيد حتى الإنسانيين أخذوا يفهمون الإيطاليين شيئاً فشيئاً معنى للجمال أكبر شهوانية من قبل، فهموهم الإعجاب الصريح بجمال الجسم الآدمي-ذكرا كان أوأنثى وخاصة إذا كان عاريا-وتغلغل هذا الإعجاب في نفوس الطبقات المتفهمة، وكان اهتمام أدب النهضة بالحياة وتوكيدها، بدل التفكير ي الدار الآخرة مما أكسب الفن نزعة دنيوية خفية، وأدخل مصوروعصر لورندسووما تلاه من العصور عناصر وثنية في الفن المسيحي، وذلك خين اتىوا بالحسان الإيطاليات يتخذونهن نماذج لتصوير العذراء، وبالشبان الوسيمين الأقوياء ليكونوا نماذج للقديسين. ولما أخذ الأمراء الزمنيون ينافسون رجال الكنيسة في السخاء على الفنيين وإمدادهم بالمال أثناء القرن السادس عشر تحدت فينوس (الزهرة) وأدرياني، ودافني، وديانا، وربات الشعر والأقذار، تحدث هذه سلطان العذراء، لكن مريم الأم ظلت محتفظة بسيطرتها الطيبة الصالحة إلى آخر أيام فن النهضة.


فهماء الإنسانيات الألمان

كانت ألمانيا بلداً فتياً في الآداب مثلما كانت في الحياة والفن... وانتشر تفهم القراءة والكتابة، وصدرت الخط متدفقة من ستة عشر ناشرا في بازل، وعشرين في أوجسبورج، وواحد وعشرين في كولونيا، وأربعة وعشرين في نورمبرج. ولقد كان هناك أنطون موبرجر الذي استخدم وحده أربعا وعشرين مطبعة ومائة رجل، وكان الاتجار في الخط يحتل جانبا كبيرا من التجارة الرائجة بالأسواق في فرانكفورت وسالزبورج ونوردلينجن وأولم، حتى نطق أحد المعاصرين الألمان "إن جميع إنسان اليوم يريد حتى يقرأ ويخط". وخط آخر يقول: "لا نهاية للخط الجديدة التي تؤلف". وتضاعف عدد المدارس في المدن، وكانت جميع مدينة تقدم مكافآت أومنحا دراسية للطلبة الفقراء من الممتازين، وأنشئت تسع جامعات جديدة في هذه السنوات للتعليم الجديد. ونهضت أكاديميات أدبية في ستراسبورگ وأوجسبورج وبازيل وفيينا ونورمبرج وماينز، وفتح أبناء الطبقة الوسطى الأغنياء أمثال بويتنجر وبيركهايمربل والإمبراطور ماكسمليان نفسه مخطاتهم وعرضوا مجموعاتهم الفنية للناس، وتبرعوا بأموالهم للدارسين المتلهفين للدرس، وكان كبار رجال الدين أمثال يوهان فون دالبرگ أسقف ورمس وألبرخت من براندنبورگ، كبير أساقفة ماينز، أنصاراً مستنيرين للدراسة والشعر والفن، ورحبت الكنيسة في ألمانيا بعصر النهضة، وهي في هذا كانت تحذوحذوالبابوات، ولكنها تشددت في الدراسات اللغوية لنصوص الكتاب المقدس وآباء الكنيسة. وطبعت النسخة اللاتينية من الكتاب المقدس ستا وعشرين طبعة في ألمانيا بين عامي 1453 و1500 ، وكانت هناك عشرون ترجمة للكتاب المقدس قبل ترجمة لوثر. وليس من شك في حتى انتشار العهد الجديد بين الناس قد أعدهم لتقبل ما أعربه لوثر متحديا لتناقض الأناجيل مع الكنيسة، وأن قراءة العهد القديم أسهمت في تهويد البروتستانت للمسيحية من جديد.

وكانت الحركة الإنسانية في ألمانيا بادئ الأمر-وبعد شغفها بلوثر- أكثر مطابقة للعقيدة كما فهم اللاهوت منها في إيطاليا، ولم يكن لألمانيا ماض قديم مثل إيطاليا ولم يتح لها حتى أفادت من غزوروما الإمبراطورية لها وتعليمها، ولم يكن هناك رباط مباشر بينها وبين العهد القديم غير المسيحي وكانت ذاكرتها لا تكاد تتجاوز القرون التي دانت فيها المسيحية، وكان تضلعها في الفهم لا يكاد يقتحم ما قبل عهد آبائها المسيحيين، وكانت نهضتها إحياء للمسيحية الأولى أكثر منها إحياء للآداب والفلسفة الكلاسية. وطوى الإصلاح الديني النهضة في ألمانيا.

ومع ذلك فإن ممضى الإيمان بالإنسان في ألمانيا اقتدى بزعامة إيطاليا، إذ حتى بوجيوباتشيوليني وإنياس سيلفيوس وآخرين من فهماء الإنسانيات اتىوا معهم بالبذرة عند زيارتهم لألمانيا، كما حتى الألمان من الطلبة والحجاج ورجال الدين والتجارة والدبلوماسيين الذين زاروا إيطاليا عادوا وهم يحملون معهم - ولوعن غير قصد-لقاح عصر النهضة. ولقد تلقى رودولفوس أجريكولا، وهوابن قسيس هولندي يرعى أبرشية، الكثير من التعليم في ارفورت وكولونيا ولوفان، ووقف سبع سنوات من عمره على التعليق في دراسات اللاتينية واليونانية في إيطاليا، ثم عاد ليدرس في جروننجن وهيدلبرج وورمس. وتعجب أهل العصر من فضائله غير المألوفة من الجماهير. التواضع والبساطة والأمانة والورع والعفة. وخط باللغة اللاتينية ما يكادقد يكون جديراً بشيشرون، وتنبأ بأن ألمانيا يفترض أن "تبدويوما وهي لا تقل لاتينية عن اللاتيوم". والحق حتى هولندة أجريكولا قد أنجبت في الجيل التالي إرازموس وهوعالم باللغة اللاتينية إلى حد يتيح له حتى يحس بأنه في وطنه لوقدر له حتى يعيش في روما تاكيتوس وكوينتيليان. وأصيب أجريكولا في رحلة قام بها إلى روما بالحمى التي قضت عليه في هيدلبرج وهوفي الثانية والأربعين من عمره (1485).

وكان يضارعه في النفوذ -لا في دماثة الطبع- جاكوب ويمفيلنج، وكان مزاجه حاداً بقدر ما كانت لاتينية رقيقة. وقرر ناظر المدرسة الألماني هذا حتى يحمل ألمانيا إلى مستوى إيطاليا في التعليم والآداب، فوضع خططا لإنشاء نظام المدارس العامة، وأسس جمعيات من المتفهمين، وأدرك مع ذلك مدى الخطورة إذا تحقق التقدم الفكري دون حتى يصحبه تطور أخلاقي. وتساءل قائلا: "ما فائدة تعليمنا إذا كانت أخلاقنا غير شريفة بعمل التناظر أوصناعتنا كلها لا تقترن بالورع، أومعركتنا كلها لا تحث على حب جارنا، أوكانت جميع حكمتنا تفتقر إلى التواضع؟.

ويعد يوهانس تريثميوس راهب سبونهايم آخر فهماء الإنسانيات المحافظين وهوالذي خط عام 1496: "لقد ولت إلى غير عودة أيام تشييد الأديرة، أما أيام هدمها فآتية لا ريب فيها". ووصف سلتس، وهوعالم إنسانيات أقل إخلاصاً زميله تريثميوس بأنه "زاهد في الشراب، يزدري لحم الحيوان ويعيش على الخضر والبيض واللبن، كما كان يعمل أسلافنا في الوقت الذي... لم يكن هناك أطباء يشرعون في هجريب أدوية لداء النقرس والحمى". وأصبح في خلال حياته القصيرة متفننا في علوم جمة، بارعا في اللغات اللاتينية واليونانية والعبرية وآدابها، وقد قام بمراسلة أرازموس وماكسمليان والأمراء الإمبراطوريين المختارين، وشخصيات مشهورة أخرى وفسر عامة الناس في هذا العهد معارفه المكتسبة على أساس نظرية تمضى إلى أنه كان يملك قوى خفية خارقة. ومهما يكن من أمر فإنه توفي وهوفي الرابعة والخمسين من عمره(1516).

وكان كونرادوس سيلتس أقوى فهماء الإنسانيات الألمان غيرة وأعظمهم أثراً، ولقد كان من مدينة وكأنه أديب جوال عجول يفهم في إيطاليا وبولندة والمجر، ويفهم في كولونيا وهايدلبرج وكراكاووبراگ وماينز وفيينا وإنجولستادت وبادوا ونورمبرج، وكشف عن مخطوطات ثمينة كانت مهملة مثل مسرحيات هورتسويذا، وخرائط قديمة مثل تلك الخريطة التي أعطاها لبويتنجر وحملت اسمه. وكان يجمع حوله الدارسين أينما مضى ويبث فيهم شغفه بالشعر والأدب الكلاسي والآثار الألمانية القديمة. وفي عام 1447 توَّجه الإمبراطور فردريك الثالث في نورمبرج أميراً للشعراء في ألمانيا. وأسس سيلتس في ماينز (1941) جمعية الراين الأدبية الواسعة النفوذ وكانت تضم فهماء وفقهاء في الدين وفلاسفة وأطباء ومؤرخين وشعراء ومحامين، أمثال اولريخ تسازيوس الفقيه القانوني الضليع وفهماء أمثال بيركهايمر وتريثموس ورويخلين وويمفيلنج. وأنشأ في فيينا، بأموال زوده بها ماكسمليان، أكاديمية للشعر أصبحت فيما بعد قسماً محترماً من الجامعة يعيش فيه الأساتذة والطلبة معاً في البيت نفسه وينهضان بالعمل ذاته. ويبدوحتى سيلتس خسر عقيدته الدينية في خلال دراساته، فقد أثار مثل هذه الأسئلة: "هل تحيا الروح بعد الموت؟" و"هل هناك إله حقاً؟" وفي أسفاره اصطحب نماذج كثيرة من الجنس اللطيف ولكنه لم يصحب واحدة منهن إلى المذبح، وانتهى أمره إلى حتى يقول في غبطة: "ليس هناك تحت الشمس أحلى من عذراء جميلة بين ذراعي رجل تبدد همومه".

ولقد انتشر هذا الانحلال المريب وأصبح بدعة بين فهماء الإنسانيات الألمان في العقود الأخيرة قبل لوثر. وخط أيوبان هيسي Heroides Christiane "الاستشهاد المسيحي" (1514) بلغة لاتينية سليمة، وقلد فيه اوڤيد في المجون أكثر مما قلده في الشكل، وتضمن خطابات حب من المجدلية إلى عيسى، ومن مريم العذراء إلى الأب المقدس، ولكي يقرن العمل بالقول عاش في انحلال مثل تشليني وفاق في الشراب جميع من نافسوه ولم ير بأساً في حتى يفرغ في بطنه دلوا من الجعة في جرعة واحدة.

ومهما يكن من أمر فإن كوثرادوس موتيانوس روفوس استطاع حتى يوفق في رفق بين ممضى الشك والدين، ولقد اكتفى بعد حتى فرغ من الدراسة في ديفنتر وارفورت وفي إيطاليا، بمنصب ديني متواضع في جوتا ووضع على بابه هذا الشعار، "أيها السكون المقدس السعيد" Beata tranquilte، وجمع حوله الطلبة المعجبين وفهمهم "أن يقدروا أحكام الفلاسفة وأن يضعونها فوق أحكام القساوسة" ولكنه حذرهم حذرهم، بأنهم يجب حتى يخفوا شكوكهم في العقيدة المسيحية عن الجمهور بالإقبال بأسلوب مهذب على إقامة الشعائر والمراسيم الدينية ونطق: " إننا لا نقصد بالإيمان مطابقة ما نقول للواقع بل نعني رأياً بأن الأمور المقدسة تقوم على الفطرة والإقناع الذي ينشد المنفعة". واعترض على إقامة القداس للموتى باعتباره أمراً لا فائدة منه وعلى الصيام باعتباره شيئاً غير مرغوب فيه وعلى الاعتراف السري باعتباره عملاً يثير الارتباك. ورأى حتى الكتاب المقدس يحتوي على حكايات خرافية كثيرة مثل حكاية يونس وأيوب، ومن يدري،يا ترى؟ لعل المسيح لم يمت حقاً على الصليب! فقد كان اليونان والرومان مسيحيين دون حتى يحسوا ما داموا قد عاشوا في استقامة، وليس من شك في أنهم مضىوا إلى الجنة. ويجب حتىقد يكون الحكم على العقائد والشعائر مبنياً لا على أساس نادىواها الحرفية ولكن على أساس آثارها الأخلاقية. فإذا كانت ترقى بالنظام الاجتماعي والفضيلة عند الفرد فيجب حتى يتقبلها الجمهور دون مناقشة، وطلب موتيانوس من مريديه حتى يعيشوا حياة طاهرة، وأقسم في سنواته الأخيرة قائلا: لسوف أحول دراساتي إلى ورع ولن أتفهم من الشعراء أوالفلاسفة أوالمؤرخين إلا ما يرقى بالحياة المسيحية. وبعد حتى عاش بكل ما تقدمه الفلسفة من عزاء توفي تحفه بركات الكنيسة (1526).

وليس من شك في حتى استياء المحافظين من ممضى الشك الذي شاع بين فهماء الإنسانيات المتأخرين قد بلغ عنفوانه عند أرق فهماء هذا العصر وأرحبهم صدراً فقد لاحظ يوهانس رويخلين التقليد الذي درج عليه الناس في العصور الوسطى من جمع المعارف من أثني عشر مركزاً بفضل انتشار اللغة اللاتينية باعتبارها لغة التعليم في أوربا الغربية. وفي مدرسة النحوتمبلدته فورتسهايم وفي جامعات فرايبورج وباريس وبازل وأورليانز وبواتييه، وفي لينز وميلان وفلورنسا وروما تابع دراسة اللاتينية واليونانية والعبرية والقانون بحماسة تصل تقريباً إلى حد التعصب، ولقد غير اسمه على عادة فهماء الإنسانيات الألمان- وهومشتق من حدثة rauchen الألمانية بمعنى يدخن- إلى كابينوالمأخوذة من حدثة kapnos اليونانية بمعنى التدخين. وألف وهوفي العشين من عمره معجماً للغة اللاتينية طبع مرات. وفي روما أعطاه جوهانس أرجيروبولس بترة صعبة من كتاب المؤرخ ثوسيديدس ليترجمها، فما كان من رويخلين إلا حتى استجاب فوراً حتى صاح اليوناني العجوز: "الآن يفر اليونان وراء الألب". ولم يكن الطالب الشهم يهجر حاخاما يمر دون حتى يتفهم منه شيئاً من العبرية، ويزعم موتيانوس أنه سمع حتى رويخلين منح دارساً يهودياً عشر بتر مضىية ليشرح له معنى تعبير عبرية، وربما كان هذا حلم عالم بالإنسانيات.

وأقنع بيكوديلا ميراندولا، رويخلين حتى ينشد الحكمة في كابالا. وبمقارنة ترجمة جيروم للعهد القديم بالنص العبري الأصلي أشار "كابنيو" إلى كثير من الأخطاء فيما اعتاد فهماء اللاهوت الاستشهاد به كنص لا يرقى الشك إليه. وعندما بلغ الثانية والثلاثي من عمره عين أستاذاً للعبرية في جامعة هايدلبرج. وليس من شك في حتى معجم اللغة العبرية وكتاب قواعد هذه اللغة اللذين ألفهما قد أتاحا دراسة اللغة العبرية والعهد القديم على أساس فهمي وأسهما في حتىقد يكون للخط المقدسة المدونة بالعبرية تأثير قوى على الفكر البروتستانتى.

وحجب إعجابه بالعبرية شيئاً فشيئاً شغفه بالكلاسيات، فقد خط يقول "إن اللغة العبرية لم يمسها الزيف وهي جامعة تؤثر الإيجار إنها اللغة التي تحدث بها الله للإنسان وهي التي تحدث بها الإنسان للملائكة وجهاً لوجه" واحتفظ بعقيدته السلفية أثناء دراساته جميعاً وإذا كان قد شابها قليل من التصوف فإنه قدم جميع كتاباته وتعاليمه بإخلاص إلى سلطات الكنيسة.

وتحالفت طائفة من الظروف الغربية فجعلت منه بطلا لعصر النهضة الألمانية، إذ وقع في عام 1508 حتى أصدر يوهانس بفيفر كورن، وهوحاخام تحول إلى قسيس، كتاب "مرآة اليهود" أدان فيه اضطهادهم وبرأهم من الجرائم الأسطورية التي شاع اتهامهم بها ولكنه حثهم في الوقت نفسه على حتى يتخلوا عن إقراض النقود وعن التلمود وأن يدخلوا في المسيحية وقدم إلى الإمبراطور - وكان يؤازره في ذلك رهبان الدومينيكان في كولونيا - توصية بمصادرة جميع الخط العبرية ما عدا العهد القديم، فأمر ماكسمليان بتسليم جميع خط الأدب اليهودي، التي تنتقد المسيحية إلى بفيفر كورن لكي تفحصها جامعات كولونيا وإرفورت وماينز وهايدلبرج وجاكوب فان هوجسترايتن رئيس محكمة التفتيش في كولونيا ورويخلين بفضل تضلعه في اللغة العبرية، وأشار الجميع ما عدا رويخلين بمصادرة الخط وإحراقها، إلى غير ذلك أثبت رأى الإقليمية الذي يمثله رويخلين أنه مفهم من معالم تاريخ التسامح الديني، فقد قسم الخط اليهودية إلى سبع طوائف، إحداها يتكون من أعمال تسخر صراحة من المسيحية وهذه يجب حتى تحرق أما الباقي وتضم التلمود فيجب الحفاظ عليها حتى ولوكان هذا لمجرد حتى لها قيمة كبيرة بالنسبة للفهم المسيحية، ونطق بفيفر كورن إذا لليهود حقا في حتى تكون لهم الحرية في الرأي كمواطنين بالإمبراطورية ولأنهم لم يرتبطوا بأي التزام نحوالمسيحية.

وتحدث رويخلين في رسائله الخاص عن بفيفر كورن فنطق إنه "حمار" لم يتيسر له حتى يحسن فهم الخط التي اقترح إتلافها. وكان رد بفيفر كورن على هذه المجاملات حتى أصدر كتاب "مرآة اليد". وقد هاجم فيه رويخلين وعدة أداة رشاها اليهود. فرد عليه رويخلين طعنة بطعنة وأصدر كتاب "مرآة العين" الذي أثار عاصفة بين المحافظين. وشكت كلية اللاهوت في كولونيا إلى رويخلين حتى كتابه قد أسعد اليهود كثيراً وطالبوه حتى يسحبه من التداول. وحرم ماكسمليان بيعه فاستغاث رويخلين بالبابا ليوالعاشر فأحال الأمر إلى مستشارين مختلفين فقرروا حتى الكتاب لا ضرر منه، فما كان من ليوإلا حتى يوقف الدعوى وأكد لفهماء الإنسانيات حوله أنه لن يلحق رويخلين أي أذى.

وفي غضون ذلك اتهم بفيفر كورن وأنصاره من رهبان الدومينيكان رويخلين أمام محكمة التفتيش في كولونيا بأنه كافر بالمسيحية وخائن لعهدها، فتدخل كبير الأساقفة وأمر بإحالة القضية إلى روما التي أحالتها بدورها إلى محكمة شبير الأسقفية فبرأت رويخلين، ولجأ الدوينيكان بدورهم إلى روما وأمرت الكليات الجامعية في كولونيا وارفورت وماينز ولوڤان وباريس بإحراق خط رويخلين.

وأنه لأمر عجيب - ودليل مبين على الحيوية الثقافية في ألمانيا في هذا العصر حتى يتصدى للدفاع عن رويخلين عدد كبير من المشهورين وقتذاك: إرازموس وبيركهاميمر وبويتنجر وأويكولا مبادوس البازيلي وفيشر أسقف روشستر وأولريخ فون هوتن وموتيانوس وايوبان هس ولوثر وميلانكستون، بل ودافع عنه بعض كبار رجال الدين من أنصار فهماء الإنسانيات كما كان الحال في إيطاليا. وأعرب الأمراء الإمبراطوريون المختارون والأمراء وثلاثة وخمسون مدينة تأييدهم لرويخلين. وجمعت رسائل من المدافعين عنه ونشرت، وذلك مثل "رسائل من رجال مشهورين إلى يوحنا رويخلين" Clarorum viorum pistolae ad johanem Reuchlin. وفي عام 1515 أصدر فهماء الإنسانيان كتابا أشد خطراً هوصفحة 324 (آخر الصفحة) أي رسائل من رجال مغمورين إلى الأستاذ المبجل أورتونيوس جراتيوس أستاذ الأدب في كولونيا. وتعد هذه الرسائل في تاريخ الأدب. وأحرزت نجاحا كبيراً إلى حد حتى طبعة موسعة صدرت منها عام 1516 ثم نشر ملحق لها بعد عام. وادعى المؤلفون أنهم رهبان أتقياء معجبون بجراتيوس وأعداء لرويخلين، وأخفوا شخصياتهم تحت أسماء مستعارة عجيبة - نيكولاوس كابريمولجيوس (حالب لبن الماعز) ويوهانس بيليفكس (صانع الجلد) وسمون فورست (السجق) وكونرادوس أونكبيونك. واشتكى الكتاب من السخرية التي وجهها إليهم الشعراء (كما كان يطلق على فهماء الإنسانيات الألمان) وذلك بلغة لاتينية أسيئت صياغتها عمداً، قلدوا فيها أسلوب رجال الأديرة، وطالبوا في إلحاح بمقاضاة رويخلين: وفي الوقت نفسه فضحوا جهلهم المطلق وفظاظة أخلاقهم وغلظة عقولهم، وناقشوا نسائل تدعوللسخرية في رصانة على نحوما يعمل أنصار فلسفة الكلام واستشهدوا بآيات من الكتاب المقدس لتخفيف العبارات البذيئة - وسخروا بلا تيقظ من الاعتراف السمعي وبيع صكوك الغفران وتبجيل مخلفات القديسين ومن سلطة البابا، وهي الموضوعات نفسها التي تناولها الإصلاح الديني. وحارت جميع الأوساط الأدبية في ألمانيا في التعهد على شخصيات مؤلفي هذه المجلدات: ولم يسلم الناس إلا فيما بعد بأن كروتوس روبيانوس الارفورتي وهوأحد مريدي موتيانوس، قد خط معظم ما ورد بالطبعة الأولى وأن هوتن خط معظم ما ورد بالملحق. وتميز ليوالعاشر غضبا فحرم قراءة أوحيازة الكتاب وأدان رويخلين ولكنه أحل له نفقات محاكمة سبيير (1520)، وانسحب رويخلين وهوشيخ منهوك القوى في الخامسة والستين ليعيش في الغمرات ونسبه الناس بغير صخب في غمار تألق الإصلاح الديني.

واختفت حركة فهماء الإنسانيات الألمانية بدورها في وهج هذه النار التي أضرمت جميع شيء وتعرضت لحرب شعواء من معظم الجامعات من ناحية ومن رجال الإصلاح الديني الذين دخلوا معها في صراع من أجل الحياة من ناحية أخرى، فدعموا قضيتهم بعقيدة دينية ركزت على خلاص الروح في العالم الآخر. ولم تهجر الناس إلا فسحة ضئيلة من الوقت يتدارسون فيها الحضارة الكلاسية أويصلحون من أحوالهم في هذه الحياة الدنيا، وحكم فهماء الإنسانيات الألمان على أنفسهم بالهزيمة عندما فشلوا في الارتقاء بالأدب اليوناني إلى مستوى الفلسفة اليونانية.

وبالدخول في جدل عقيم أوالإغراق في صوفية أقل نضجا من صوفية اكهارت، لم يهجروا أعمالا عظيمة إذ حتى خط قواعد اللغة والمعاجم التي كان رويخلين يؤمل حتى تكون "أثرا خالدا له يبقى أكثر من النحاس الأصفر" سرعان ما طويت في غياهب النسيان. ومع ذلك فمن يدري حتى لوثر كان يجرؤ على حتى يطلق قذائفه التي تشبه قذائف داود على تيتزل والبابوات إذا لم يكن عقل ألمانيا قد تحرر إلى حد ما من الرعب من أنصار الكنيسة الرومانية الكاثوليكية على يد فهماء الإنسانيات. لقد كان أتباع رويخلين وموتيانوس أقلية قوية في إرفورت حيث تفهم لوثر لمدة أربع سنوات وأصبح شاعر ألماني في هذا العهد وتغذى بلبان فهم الإنسانيات رسولاً متحمساً للإصلاح الديني.

الإنسانيون

انظر أيضاً

  • الفهماء اليونانيين في النهض
  • إنسانية لاتينية
  • إنسانيون قانونيون
  • التفهم الجديد

المصادر

  1. ^ Humanism is not the study of humans. "The term umanista was used, in fifteenth century Italian academic jargon to describe a teacher or student of classical literature and the arts associated with it, including that of rhetoric. The English equivalent 'humanist' makes its appearance in the late sixteenth century with a similar meaning. إلا أنه فقط في القرن 19، وربما لأول مرة في ألمانيا في 1809، نُقِلت الصفة إلى a substantive: humanism, standing for devotion to the literature of ancient Greece and Rome, and the humane values that may be derived from them" (Nicholas Mann "The Origins of Humanism", Cambridge Companion to Humanism, Jill Kraye, editor [Cambridge University Press, 1996], p. 1-2).
  2. ^ Craig W. Kallendorf, introduction to Humanist Educational Treatises, edited and translated by Craig W. Kallendorf (Cambridge, Massachusetts and London England: The I Tatti Renaissance Library, 2002) p. vii.
  3. ^ Franco Cardili (historical)
  4. ^ ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

قراءات إضافية

  • Bolgar, R. R. The Classical Heritage and Its Beneficiaries: from the Carolingian Age to the End of the Renaissance. Cambridge, 1954.
  • Cassirer, Ernst. Individual and Cosmos in Renaissance Philosophy. Harper and Row, 1963.
  • Cassirer, Ernst (Editor), Paul Oskar Kristeller (Editor), John Herman Randall (Editor). The Renaisssance Philosophy of Man. University of Chicago Press, 1969.
  • Cassirer, Ernst. Platonic Renaissance in England. Gordian, 1970.
  • Celenza, Christopher S. The Lost Italian Renaissance: Humanism, Historians, and Latin's Legacy. Baltimore: Johns Hopkins University Press. 2004 ISBN 978-0-8018-8384-2
  • Erasmus, Desiderius. "The Epicurean". In Colloquies.
  • Garin, Eugenio. Science and Civic Life in the Italian Renaissance. New York: Doubleday, 1969.
  • Garin, Eugenio. Italian Humanism: Philosophy and Civic Life in the Renaissance. Basil Blackwell, 1965.
  • Garin, Eugenio. History of Italian Philosophy. (2 vols.) Amsterdam/New York: Rodopi, 2008. ISBN 978-90-420-2321-5
  • Grafton, Anthony. Bring Out Your Dead: The Past as Revelation. Harvard University Press, 2004 ISBN 0-674-01597-5
  • Grafton, Anthony. Worlds Made By Words: Scholarship and Community in the Modern West. Harvard University Press, 2009 ISBN 0-674-03257-8
  • Hale, John. A Concise Encyclopaedia of the Italian Renaissance. Oxford University Press, 1981, ISBN 0-500-23333-0.
  • Kallendorf, Craig W, editor. Humanist Educational Treatises. Cambridge, Mass.: The I Tatti Renaissance Library, 2002.
  • Kraye, Jill (Editor). The Cambridge Companion to Renaissance Humanism. Cambridge University Press, 1996.
  • Kristeller, Paul Oskar. Renaissance Thought and Its Sources. Columbia University Press, 1979 ISBN 978-0-231-04513-1
  • Pico della Mirandola, Giovanni. Oration on the Dignity of Man. In Cassirer, Kristeller, and Randall, eds. Renaissance Philosophy of Man. University of Chicago Press, 1969.
  • Skinner, Quentin. Renaissance Virtues: Visions of Politics: Volume II. Cambridge University Press, [2002] 2007.
  • McManus, Stuart M. "Byzantines in the Florentine Polis: Ideology, Statecraft and Ritual during the Council of Florence". Journal of the Oxford University History Society,ستة (Michaelmas 2008/Hilary 2009).
  • Melchert, Norman (2002). The Great Conversation: A Historical Introduction to Philosophy. McGraw Hill. ISBN .
  • Nauert, Charles Garfield. Humanism and the Culture of Renaissance Europe (New Approaches to European History). Cambridge University Press, 2006.
  • Plumb, J. H. ed.: The Italian Renaissance 1961, American Heritage, New York, ISBN 0-618-12738-0 (page refs from 1978 UK Penguin edn).
  • Rossellini, Roberto. The Age of the Medici: Part 1, Cosimo de' Medici; Part 2, Alberti 1973. (Film Series). Criterion Collection.
  • Symonds, John Addington.The Renaissance in Italy. Seven Volumes. 1875-1886.
  • Trinkaus, Charles (1973). "Renaissance Idea of the Dignity of Man". In Wiener, Philip P (ed.). . ISBN . Retrieved 2009-12-02.
  • Trinkaus, Charles. The Scope of Renaissance Humanism. Ann Arbor: University of Michigan Press, 1983.
  • Wind, Edgar. Pagan Mysteries in the Renaissance. New York: W.W. Norton, 1969.

وصلات خارجية

  • Humanism 1: An Outline by Albert Rabil, Jr.
  • "Rome Reborn: The Vatican Library & Renaissance Culture: Humanism". The Library of Congress. 2002-07-01
تاريخ النشر: 2020-06-04 14:07:46
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, عصر النهضة, فلسفة العصور الوسطى, إنسانية النهضة, حركات فلسفية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

معسكر مغلق للدفاع الجديدي

المصدر: راديو مارس - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:18:50
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 54%

بنوك المغربية..798,5 مليار درهم ودائع الأسر

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:18:22
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 72%

البرتغالي دا كروز يتولى قيادة الجيش الملكي

المصدر: راديو مارس - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:18:53
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 57%

ألعاب التضامن الإسلامي.. التايكواندو يرفع غلته لـ9 ميداليات

المصدر: راديو مارس - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:18:48
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 59%

أوساسونا يهزم إشبيلية في افتتاح الدوري الإسباني

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:17:22
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 97%

مستشار رئيس جزر القمر: نُقدر دعم الرئيس السيسي للشباب العربي والإفريقي

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:18:07
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 68%

القوى العاملة ببورسعيد تسجل 500 شاب لتوفير فرص عمل لهم.. خلال يوليو

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:18:06
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 55%

الجعواني يلجأ إلى غرفة النزاعات ضد الدفاع الجديدي

المصدر: راديو مارس - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:18:52
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 65%

هزة أرضية بقوة 5.3 ريختر يشعر بها سكان بنغازي

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:18:10
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 69%

طقس السبت..استمرار الأجواء الحارة في مناطق من المملكة

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:18:20
مستوى الصحة: 70% الأهمية: 70%

تغريدة تعبّر عن أول موقف رسمي ايراني من الهجوم على سلمان رشدي  

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:16:57
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 86%

المصريين الأحرار يٌكرم لجنة خدمة المواطنين والمركز الإعلامي للحزب

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:18:12
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 67%

الكونغرس الأميركي يقر خطة بايدن الضخمة للمناخ والصحة

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:16:32
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 95%

«المتحدة الروسية» تعرض إمكانات طائراتها بالجيش الروسي 2022

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:18:11
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 62%

دورتموند يقلب خسارته إلى فوز على فرايبورغ

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:17:20
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 94%

منتخب الكرة الشاطئية يهزم السعودية

المصدر: راديو مارس - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:18:45
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 67%

حصاد القوى العاملة ببورسعيد.. تسجيل 500 شاب لتوفير فرص عمل لهم

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-13 03:18:08
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 68%

تحميل تطبيق المنصة العربية