موت سقراط (گوارديني)

عودة للموسوعة

موت سقراط (گوارديني)

هذا الموضوع مبني على
منطقة لابراهيم العريس.

منذ الفنون المسرحية اليونانية القديمة، حيث تحدث أريستوفان عن موت سقراط، مروراً بالنصوص الأفلاطونية الحوارية الرائعة التي أعادت «خلق» سقراط من جديد، وصولاً إلى العصور الحديثة التي رأت في سقراط، غالباً، رمزاً لحرية الفكر حين تجابه «المدينة»، فتنت حكاية سقراط، وخصوصاً حكاية موته، المفكرين والفنانين والشعراء وأحياناً عامة الناس أيضاً. ونقول غالباً لأن ثمة بين الحين والآخر على أية حال أفلاماً وأصواتاً نهضت ضد سقراط، بعضها رأى فيه مفكراً رجعياً قضى عن عمد منه، لأنه أراد حتى يناقض ديموقراطية أثينا، كما كان ثمة أصوات نهضت لتقول إذا سقراط، أصلاً، لم يكن له وجود، كان مجرد قناع لأفلاطون، وشخصية اخترعها هذا الأخير ليبث من خلالها أفكاره... وإذ نقول هذا نشير إلى حتى عنواناً لكتاب صدر قبل نحوثلاثة عقود في فرنسا ويتحدث عن فيلسوف الإغريق الأكبر، يكاد يكفي وحده لإعادة موضعة أسطورة سقراط، في مكان أساسي من الفكر الإنساني، لم يكن ليخطر في بال أفلاطون. والكتاب هوللمفكر والصحافي الراحل موريس كلاڤيل وعنوانه: «هذا اليهودي سقراط الذي قتلناه جميعاً». ويقيناً إذا الإشارة هنا إلى السيد المسيح وتضحيته في سبيل الإنسان، تبدوأفصح ماقد يكون.

المهم في الأمر هنا، إذاً، هوهذا الانبهار الفكري، على مر العصور، بشخصية عبرت فجر العقلانية، حتى من دون حتى تخلف نصاً، أوسيرة حياة واضحة. ولعل في هذه المفارقة أيضاً يكمن جزء أساسي من الافتتان المؤكد بهذه الأسطورة. بيد حتى ثمة مفكرين كثراً، ابتعدوا تماماً، لدى الحديث عن سقراط، عن مفهوم «الأسطرة» هذا، ليعيدوا التعامل مع صاحب تعبير «اعهد نفسك بنفسك» كمفكر عقلاني، وعلى الأقل كما وصلت إلينا أفكاره، لا حياته فقط، ولا دفاعه فقط - كجزء من سيرة حياته - من طريق نصوص أفلاطون بخاصة. ومن هؤلاء المفكرين الألماني رومانوگوارديني (1885 - 1968) الذي وضع، في القرن العشرين، الكتاب الذي يفترض أنه الأفضل من بين جميع ما خط عن سقراط خلال هذا القرن.

الكتاب

يحمل كتاب گوارديني، والذي صدر عام 1943، باللغة الألمانية، في سويسرا كما يظهر عنواناً بسيطاً ودالاً هو«موت سقراط». ومن الواضح هنا حتى گوارديني يسير في دلالات كتابه على نمط جميع أولئك المفكرين الذين يرون في موت سقراط استكمالاً لفكره، لا لحياته فقط، ما يعطي لهذا الموت دلالته، لا الرمزية فقط، وإنما المعهدية والمنطقية أيضاً. في معنى حتى موت سقراط، ولوبحكم أصدرته عليه أثينا مدينته، بالإعدام، إنما كان الاستطراد المنطقي للحياة التي عاشها، وكذلك للأفكار التي عبّر عنها، وفي هذا استعارة، أيضاً، واضحة من الدلالة الرمزية والمنطقية لموت السيد المسيح كما يمكننا حتى نفهم. ولكن فيما يتخذ موت السيد المسيح (وقيامته) دلالة دينية ورمزية، ثم خصوصاً أخلاقية - لاهوتية تتعلق بخلاص البشرية وفدائها، يتخذ موت سقراط دلالته المعهدية بالتضاد مع سكونية الفهم الما - قبل - سقراطية. طبعاً ليس المفكر الألماني گوارديني أول من رأى هذا، لكنه كان من قلة عهدت كيف من الممكن أن تسبغ عليه دلالته التاريخية والفكرية، رابطة بين فكر الرجل وموته - ليس انطلاقاً من فجائعية هذا الموت - بل انطلاقاً من دلالته الفلسفية.

يعتمد گوارديني، اعتماداً أساسياً على أربعة من النصوص الأفلاطونية الحوارية التي تحدثت، في شكل أوفي آخر، عن حياة سقراط ومصيره، مركزاً في شكل خاص على نص «مرافعة الدفاع»... ولا بد من الإشارة هنا، ومنذ الآن، إلى حتى گوارديني إنما يشتغل في جزء من كتابه، على نسف الصورة الأفلوطينية (لا الأفلاطونية) لموت سقراط... أي الصورة التي صيغت، من قبل أفلوطين (أحد أعمدة مدرسة الإسكندرية) ومن حول أفكار هذا الأخير على يد الكثير من تلاميذه، مركزة على البعد الميتافيزيقي - الأخلاقي المثالي لقبول سقراط تجرع كأس السم، في لقاء الصورة التي صاغها أفلاطون، عقلانية أيديولوجية ترقى إلى مستوى الأنطولوجيا التي تولد اللاهوت، لا اللاهوت الذي يحدد ماهية الأنطولوجيا. فكيف اشتغل گوارديني على سقراط؟

منذ البداية يحدد لنا گوارديني في الكتاب، نظرته إلى موت سقراط باعتباره «موضوعاً أساسياً من مواضيع التاريخ الروحي للغرب». ولم يكن هذا الفهم - كتأسيس - بغريب على فيلسوف كان في الأصل لاهوتياً كاثوليكياً، حيث أنه يقوم هنا أمامنا، ومنذ الأجزاء الأولى للكتاب، بإعادة قراءة النصوص الأفلاطونية المتحدثة عن موت سقراط، في شكل يجعلها مرتبة أمام أنظارنا ترتيباً تصاعدياً، وصولاً إلى مفهوم التقدم البشري. وإذ يعمل هذا يفهمنا گوارديني أنه إنما يتوخى هنا الدنومن ثلاث معضلات أساسية تتعلق بتاريخ الفكر السقراطي: الأولى فحواها السؤال عما إذا كانت رسالة سقراط رسالة ذات وحي إلهي،يا ترى؟ والثانية: ما هي القيمة الحقيقية للمتن المعهدي الأفلاطوني الذي يرى في سقراط مبنادىً لنظرية الكونين،يا ترى؟ والثالثة تتعلق بالمحاولة الجادة التي يقوم بها گوارديني للكشف عن وجود حقيقي، فلسفي ووجودي لسقراط.

وللوصول إلى إجابات واضحة، أوحتى سجالية عن هذه الأسئلة، يسعى گوارديني، أولاً، لفهم الكيفية التي كان بها سقراط نفسه يفهم رسالته. هل تراه كان - انطلاقاً من فهمه الإبداعي - يسبغ بعداً إلهياً، على تلك الأصوات، التي كانت في لحظات معينة ودقيقة من وجوده تسدي إليه النصح بأن يعمل هذا الشيء أويمتنع عن عمل ذالك، و»يتذكر» گوارديني هنا كيف من الممكن أن حتى سقراط، في «مرافعة الدفاع» يتحدث عن أپولون نفسه في شكل يوحي بأن ابولون كان مصدر وحي ما بالنسبة إليه... ما يعني بالتالي حتى ما كان سقراط يقوله ويعمله إنما كان بالنسبة إليه رسالة ما، كُلّف بإيصالها إلى البشرية. واستطراداً من هنا، يصبح في وسع گوارديني حتى يتوقف ليقول إذا قبول سقراط، في نهاية الأمر، بمصيره الذي يظهر لنا على شكل فاجعة، إنما هوفي حقيقته استطراد لرسالته الموحى بها. وبالتالي فإن موت سقراط يصبح جزءاً طبيعياً من حياة هذا الفيلسوف، جزءاً من رسالته، وبالتالي ضرورة لا صدفة، وتخليداً لا عقاباً. ترى أفلا يمكننا، بالتالي، حتى نضع في هذا الإطار - لا في أي إطار بطولي آخر - قبول سقراط بموته، بل حتى سعيه إليه، ورفض جميع العروض التي قدمت إليه كي يتراجع عن رسالة في لقاء تراجع أثينا عن الحكم بإعدامه بتهمة إفساد الشبيبة، ثم ألا يذكرنا هذا، بكل المجتمعات التي كانت تقتل مفكريها وأنبياءها تحديداً بتهمة «إفساد الشبيبة» ويقبلون هم على الموت كعمل مقاومة؟

واضح حتى هذا ما أراد گوارديني أصلاً الوصول إليه. ونحن إذا أدركنا قصده هذا، يصبح علينا حتى نبحث عن الدوافع التي جعلت فكر سقراط غير موجود في أية نصوص هجرها هو، بل في نصوص نقلها عنه أفلاطون، ونسبها إليه. فهل يذكرنا هذا، بدوره، بأمور أخرى لاحقة على سقراط،يا ترى؟ مهما يكن فإن من الواضح هنا حتى گوارديني يركز، في حديثه، على الوسيط (أفلاطون) بقدر ما يركز على صاحب الموضوع (سقراط)... ومن هنا نراه في معظم صفحات الكتاب يحاول التساؤل حول الجذور الحقيقية للأنطولوجيا الأفلاطونية، محرراً إياها من جميع الربقات الأفلوطينية اللاحقة، معتبراً إياها دخولاً في الجوهر الروحي للوجود الفلسفي الإنساني، لا مجرد موجة تجاوزية هلامية. وإذ يعمل هذا، يمكن للمؤلف في نهاية الأمر حتى يعود إلى القضية المحورية التي تشغله: قضية موت سقراط، حيث لا يعود هذا الموت هنا، سوى فوز على الموت... إذ إذا سقراط في «موته»، انتصر على الموت، على خوف الموت، ما يعني حتى في إمكان گوارديني أخيراً حتى يصل إلى غاية بحثه: إذا المسألة، بالنسبة إلى أفلاطون، في كتابته عن سقراط بلسان سقراط، هي مسألة خلود جميع ما يمثل الوجود الفلسفي للإنسان، لا مجرد روحه فقط .

تاريخ النشر: 2020-06-04 15:30:59
التصنيفات: سقراط, كتب 1943, كتب رومانو گوارديني

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الأونروا: إسرائيل تريد تدمير الوكالة لإلغاء حق العودة في غزة

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:23:08
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 52%

5 أسباب تدفعك للتوقف عن مشاهدة التليفزيون أثناء تناول الغداء

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:22:30
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 40%

وزير الرى: تنفيذ 342 مشروعا بالصعيد بتكلفة 34 مليار جنيه

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:22:52
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 35%

الجزائر تتوعد النيجر بـ"الفوضى والعنف" بعد زيارة رئيس وزرائها المغربَ

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:23:19
مستوى الصحة: 62% الأهمية: 78%

ما السبب الحقيقي وراء إلغاء زيارة وزير الخارجية الإسبانية للجزائر؟

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:23:26
مستوى الصحة: 73% الأهمية: 79%

ليفربول يتفوق على برينتفورد بهدف فى الشوط الأول ومشاركة صلاح.. فيديو

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:22:34
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 42%

وزير الخارجية يستعرض رؤية مصر تجاه الأوضاع بغزة في اجتماعات

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:23:31
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 54%

رسامة شمامسة لكنيسة العذراء بالزقازيق

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:21:49
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 54%

جهاز الإحصاء: 7.9% انخفاضا في حوادث الحريق بمصر عام 2023

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:22:28
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 36%

فيضانات عارمة تغرق شوارع مدينة "نتانيا" المحتلة من قبل إسرائيل.. صور

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:23:06
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 42%

الجزائر تقدم مشروع جديد لمجلس الأمن يطالب بوقف فوري لإطلاق ا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:23:23
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 59%

سعر الذهب فى مصر يسجل هبوطا بتعاملات السبت والجرام عيار 21 بـ3630 جنيها

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:22:49
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 45%

رئيس الوزراء يتفقد الحى السكنى الخامس R5 "جاردن سيتى الجديدة"

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:22:43
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 36%

عائلات طلبة كلية الطب والصيدلة توضح دواعي احتجاجاتها

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:23:23
مستوى الصحة: 68% الأهمية: 70%

العمر مجرد رقم.. نظام رونالدو الغذائي سر تألقه بعد وصوله لـ1000 مباراة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:22:25
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 49%

قائمة هدافي الدوري الفرنسي هذا الموسم.. ترتيب مصطفى محمد

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:22:47
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 43%

قصص صحفيين مغاربة بكان الكوت ديفوار: إصابات خطيرة بالملاريا وأمراض أخرى

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:23:30
مستوى الصحة: 62% الأهمية: 84%

قرار عاجل من النيابة بشأن البلوجر سوزي الأردنية...تفاصيل

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-02-17 15:21:56
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 56%

تحميل تطبيق المنصة العربية