الجغرافيا في العصر العباسي نشأ فهم الجغرافيا عند المسلمين نشأة بسيطة ثم أخذ ينموتدريجيًا حتى أصبح من أبرز العلوم العربية، واحتل مركزًا مرموقًا في الآداب العالمية، وقد تميزت الفترة الأولى من تطور هذا الفهم بتأثرها بكتاب بطليموس وخرائطه، ومن فهماء هذه الفترة الخوارزمى الذى وضع كتابًا عن صورة الأرض . نطق عنه العالم الإيطالى "نللينو": "إن مثل هذا الكتاب لا تقوى على وضعه أمة أوربية في فجر نهضتها". ويعالج في كتابه بصفة أساسية أبرز الموضوعات الجغرافية المتعلقة بخطوط طول وعرض الأماكن، والجبال ، والبحار، والأنهار، وأسماء المدن الواقعة على الجانب المعمور من الأرض . ونذكر أيضًا الكندى صاحب كتاب "رسم المعمور من الأرض"، وابن خرداذبه صاحب كتاب "المسالك والممالك"، الذى ضمنه دليلاً للطرق وأشهر البلاد واقتبس فيه عن بطليموس. وفى هذه الفترة المبكرة نطق فهماؤنا بكروية الارض ، ويذكر "سورتون": "أن الفهماء المسلمين أجمعوا على كروية الأرض في الوقت الذى أجمعت فيه أوربا خلال العصور الوسطى على تسطيحها، بل حاكموا من نطق بغير ذلك، واعتبر القديس أوغسطين راعى الكنيسة حتى كروية الارض من المسائل التى لا يجوز الخوض فيها ولا يمكن التسليم بها. ونقتطف هنا بعضًا من أقوال الفهماء المسلمين في خطهم عن كروية الأرض على الرغم من كثرتهم على حسب الترتيب الزمنى: فهذا ابن خرداذبة يقول في كتابه "المسالك والممالك": إذا الارض مدورة كتدوير الكرة، موضوعة في جوف الفلك كانظرة في جوف البيضة ، والنسيم حول الأرض، وهوجاذب لها من جميع جهاتها إلى الفلك. أما ابن رسته فيذكر آراء السابقين في القول بتسطيح الأرض ، ثم يعقب بقوله: "إن الله جل وعز قد وضع الفلك مستديرًا كاستدارة الكرة، أجوف دوارًا والأرض مستديرة أيضًا كالكرة، مصمتة في جوف الفلك ، قائمة في الهواء ، يحيط بها الفلك من جميع نواحيها بمقدار واحد من أسفلها وجوانبها كلها". ثم يدلل على ذلك، فيقول: "والدليل على حتى الشمس والقمر وسائر الكواكب لا يوجد طلوعها ولاغروبها على جميع من في نواحى الأرض في وقت واحد، بل يرى طلوعها على المواضع المشرقية قبل غيبوبتها من المغربية". أما الهمدانى فيقول في كتابه "صفة الجزيرة": "افهم حتى الأرض ليست بمسطحة، ولا ببساط مستوى الوسط والأطراف، ولكنها مقبية". كما قام الخوارزمى وأعوانه وكانوا تسعة وتسعين برسم خريطة للسماء والكون. كما قام هؤلاء بمحاولة ناجحة لقياس محيط الأرض ، وقد أجريت هذه المحاولة على سهل سنجار - سهل إلى الشمال من الفرات - وكذلك على مقربة من مدينة تدمر ، وكانت نتيجة هذه المحاولة حتى توصل هؤلاء إلى حتى طول الدرجة الزوالية(56 ميلاً)، وتلك نتيجة دقيقة، إذ لم تزد عن الطول الحقيقى لهذه الدرجة الذى حدد فيما بعد إلا بمقدار( 959 ياردة)، وتوصل هؤلاء بعد فهم طول الدرجة الزوالية إلى حتى محيط الأرض يبلغ (20.000 ميلاً)، وأن نصف قطرها(6500 ميلاً). أما الفترة الثانية: من تطور هذا الفهم فتتمثل في القرن الرابع الهجرى بوضع خرائط عن العالم الإسلامى وأنطقيمه، وتتميز هذه الفترة في تاريخ البحث الجغرافى بالنضج والاستقلال والارتقاء بمستوى رسم الخرائط لمساعدة الرحالة. ومن فهماء هذه الفترة: أبوزيد البلخى الذى وضع أول أطلس إسلامى، وألحقه بكتابه (صورة الأنطقيم). ثم اقتفى أثره ابن حوقل ، وكان يعنى بالخارطة وإخراجها، كما هوواضح في كتابه "صورة الارض". ثم كان الإصطخرى ، وقد عاصر كلاً من البلخى وابن حوقل، وقد انتفع كثيرًا بصور البلخى، وتوجيهات ابن حوقل، واعتمد المقدسى على الإصطخرى في إعداد خرائطه. ويعتبر المقدسى من أكثر الجغرافيين الذين اهتموا بعمل الخرائط، فيقول: رسمنا حدودها وخططها، وحررنا طرقها المعروفة بالحمرة، وجعلنا رمالها المضىية بالصفرة، وبحارها المالحة بالخضرة، وأنهارها المعروفة بالزرقة، وجبالها المشهورة بالغبرة، ليقرب الوصف إلى الأنهار، ويقف عليه الخاص والعام. وللبيرونى في فن رسم الخرائط مبتكرات كثيرة في كيفية نقل صورة الأرض الكروية إلى الورق المسطح، وكذلك في كيفية رسم الخرائط الفلكية للسماوات، مما جعل فضل البيرونى على فن رسم الخرائط غير منكور. ومن مؤلفاته في هذا الفن كتاب "تسطيح الصور وتبطيح الكور"، وكتاب "تحديد المعمورة وتسليمها في الصورة"، ثم "تكميل صناعة التسطيح". وبمجىء الفترة الثالثة في القرن الخامس الهجرى؛ بلغت الجغرافيا درجة عالية في البحث المبنى على الاختبار الشخصى والفهم المكتسبة من السفر والتنقل، وازدهرت حركة التأليف الجغرافى، وزاد الاهتمام بالجغرافيا الرياضية، واتسع رسم الخرائط حتى ضم العالم الإسلامى كله مما يمكن حتى نسميه أطلس العالم الإسلامى فنحا الشريف الإدريسى بالخرائط منحىً آخر، ظل عليه العمل حتى مطلع عصر النهضة في أوربا. حيث خلق كرة سماوية وخريطة للعالم على شكل قرص وكلاهما من الفضة وقدمهما إلى "روجرالثانى" ملك صقلية وإيطاليا ، ومن أبرع ما وصل إليه الإدريسى أنه رسم خريطة نهر النيل أبرز عليها منابع النيل الأصلية التى اكتشفها الأوربيون في القرن التاسع. وتعد خريطته للعالم أول خريطة سليمة وضعت لجغرافية العالم. ويقول المستشرق الفرنسى "جاك ريسلر": "لم يكن بطليموس الأستاذ الحقيقى في جغرافية أوربا ، لكنه الإدريسى. ومصورات الإدريسى التى تعترف بكروية الأرض، كانت تتويجًا لفهم المصورات الجغرافية في العصر الوسيط بوفرتها وصحتها، واتساعها. ويعد كتابه "نزهه المشتاق في اختراق الآفاق" بمثابة الشرح والتفسير لهذه الخريطة الفريدة التى اهتم بها العالم الألمانى "مبلير" وأخرج هذه الخريطة في طبعة ملونة عام (1931م). وترجم كتاب الإدريسى إلى اللاتينية وترجمت جميع أمة ما يعينها منه، وتفهمت منه أوربا فهم الجغرافيا في القرون الوسطى. لقد استطاع الإدريسى مع غيره من الجغرافيين والفلكيين والرياضيين أمثال: البتانى، وابن يونس، والبيرونى، حتى يحددوا بدقة متناهية المسقط الجغرافى للبلدان الهامة بالنسبة إلى خطوط الطول والعرض، وإذا كان بطليموس قد أخطأ في رسم خرائطه في بضع درجات فإن فهماء المسلمين لم يتجاوزوا الواحد السليم ببضع دقائق. كما استطاع الزرنطقى في القرن الخامس الهجرى حتى يقرر حتى طول البحر المتوسط هو(42) درجة وهوتقدير قريب جدًا من الحقيقة. ويرجع الفضل إلى الإدريسى الذى استطاع الربط بين: الجغرافيا الوصفية ، والجغرافيا الرياضية ، والجغرافيا الفلكية . واتى في دائرة المعارف الفرنسية: "إن كتاب الإدريسى هوأوفى كتاب جغرافى هجره لنا العرب، وإن ما يحتويه من تحديد المسافات والوصف الدقيق يجعله أعظم وثيقة فهمية جغرافية في القرون الوسطى". وقد أحصى "ميللر" الخرائط التى رسمها المسلمون للعالم الإسلامى فوجدها خمسًا وسبعين ومائتين (275) خارطة، باستثناء خرائط الإدريسى التى وصفها "ميللر" بأنهما تمثل مدرسة جغرافية خاصة ذات أثر كبير في تصوير الدنيا للأوربيين. اتجاهات التأليف الجغرافى: كان التأليف الجغرافى في عصر النهضة الإسلامية يخضع لاتجاهات ثلاثة:

• الاتجاه الأول:

فهوالعناية شديدة بوصف أنطقيم العالم الإسلامى والأقطار المجاورة له، وعادات الأمم والشعوب وطباعها، وما يوجد بها من آثار وغرائب، وكانوا يقصون ذلك بأسلوب ممتع وجذاب، في نحوما نجده في كتاب البلخلى "صورة الأنطقيم"، والإصطخرى في كتابه "المسالك والممالك" أو"صورالأنطقيم"، والمقدسى في كتابه "أحسن التقاسيم في فهم الأنطقيم" وغيرهم.

• الاتجاه الثانى:

وهويتخصص في قطر واحد، كماعمل الهمدانى العالم اليمنى في كتابه "صفة جزيرة العرب"، ويعتبر هذا الكتاب في نظر المتخصصين كتابًا جغرافيًا وصفيًا جيدًا، وهوكتاب من خط الأدب الجغرافى المتخصصة في جغرافية جزيرة العرب، ويتجلى عن عالم حق، ودليل لا يخطئ في مسالك الجزيرة وشعابها، ونستطيع حتى نقرأ نصه لصفة جزيرة العرب ابتداء من صفحة (55) فصاعدًا والخريطة بين يديك فستجد كلامه سليمًا ومعهدته فهمًا حقيقيًا. وقد حرر هذا الكتاب العالم الألمانى "موللر" في ليدن عام (1884م)، ووصفه المستشرق السويدى "كريسترفرتول" بأنه يعادل في القيمة المؤلفات الجغرافية لياقوت الحموى. وكذلك خط البيرونى عن الهند كتاب "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أومرذولة" أو"كتاب الهند" وتكمن قيمة هذا الكتاب فيما يقول "ألدوميلى" في أنه أصبح مرجعًا أساسيًا سواءً بالنظر إلى التعهد على الفهم العربى أم على فهم الهنود. وكان البيرونى ينظر في بحثه هذا بعقل الفيلسوف الرياضى العارف بمناهج البحث عند أرسطو، وأفلاطون ، وبطليموس ، وجالينوس . فهولماح في نقده، عميق في بحثه، معتدل في قصده، متحر للحقيقة التاريخية ماوسعه ذلك. وقد قام المستشرق الألمانى دكتور "إدوارد سخاو" بتحقيق هذا الكتاب ونشره في عام (1878م) كما نشرت ترجمة إنجليزية له في لندن عام (1879م) وظهرت له طبعات عديدة بعد ذلك، ونظرًا لأهمية هذا الكتاب؛ فقد اعترف فهماء الجغرافيا ودارسوها بتأثيره في تقدم هذا الفهم وتطوره، حتى حتى بعضهم أطلق على البيرونى بطليموس العرب. ويقدم البيرونى في كتابه ذخائر نفيسة عن الجغرافيا البشرية، والوصفية، والرياضية، والفلكية، ويتحدث بهجريز عن طبيعة جغرافية الهند من حيث: الجبال، والأنهار، والسيول، والمناخ، والتضاريس، والأمطار. وهجر أحمد بن فضلان رسالة وصفت أحوالاً طبيعية واجتماعية في بقاع الأرض في هجريا وروسيا ومضى إليها أيام الخليفة المقتدر ، وغير ذلك من الخط الأخرى التى خطت في هذا الاتجاه.

• الاتجاه الثالث:

منذ القرن الخامس الهجرى أخذت تظهر المعاجم الجغرافية التى تتناول جغرافية العالم بأسره، وترتب المادة الجغرافية على حسب الحروف الهجائية . وكان ظهور هذه المعاجم نتيجة لتراكم المادة الجغرافية عند فهماء العرب والمسلمين. فوضع البكرى "معجم مااستعجم"، ثم وضع ياقوت الحموى "معجم البلدان". وبهذه الإلمامة السريعة عن جهود الفهماء المسلمين في فهم الجغرافيا وتراثهم فيه تبين تجاوز الفهماء المسلمين إلى مفهوم البحث الجغرافى وإنجازه عن طريق المعاينة والمشاهدة والرحله الميدانية. وبالإضافه إلى ما أضافوه من معلومات جغرافية لاتزال معينًا للباحثين والدارسين، وما صححوه من أخطاء وأوهام الأقدمين، فقد كان المسلمون معبرًا انتقلت بواسطته إلى أوربا أفكار اليونان الجغرافية والفكرة الهندية عن صورة الأرض وعقيدة استدارة الكرة الأرضية ، والنظرية الصائبة عن مسببات المد والجذر .

المصادر

موسوعة الحضارة الإسلامية