المجتمع الاقطاعي

عودة للموسوعة

المجتمع الاقطاعي

العبد

كان المجتمع في تلك البلاد والأوقات يتكون من الأحرار، ورقيق الأرض، والعبيد. وكان الأحرار يضمون الأعيان، ورجال الدين، والجنود النظاميين، وأصحاب المهن، ومعظم التجار والصناع، والفلاحين الذين يملكون أرضهم ولا يلتزمون إلا بالقليل، أولا يلتزمون بشيء على الإطلاق، لأي سيد إقطاعي، ولا يستأجرونها من سيد نظير إيجار نقدي. وكان أولئك الفلاحون الملاكقد يكونون أربعة في المائة من الزراع بإنجلترا في القرن الحادي عشر؛ وكانوا أكثر من هذا عدداً في غربي ألمانيا، وشمالي إيطاليا، وجنوبي فرنسا. والراجح أنهم كانواقد يكونون ربع الزراع في أوربا الغربية(4). ونقص عدد العبيد بازدياد عدد أرقاء الأرض؛ وكان معظم عملهم في إنجلترا في القرن الثاني عشر مقصوراً على الخدمة المنزلية، ولا يكادقد يكون لهم وجود في أرض فرنسا الواقعة شمال نهر اللوار، وأخذ عددهم يزداد في ألمانيا في القرن العاشر، حين لم يكن الناس يتحرجون أويؤنبهم ضميرهم من القبض على الصنطقبة الوثنيين ليقوموا بالأعمال اليدوية الحقيرة في الضياع الألمانية، أوليبيعوهم في البلاد الإسلامية أوالبيزنطية. كذلك كان التجار الصنطقبة يختطفون السلمين أواليونان من الأراضي الممتدة على شواطئ البحر الأسود، وسواحل آسية الغربية، وإفريقية الشمالية، ليبيعوهم للعمل في الزراعة أوالخدمة المنزلية، أوخصياناً، أوسراري، أوعاهرات في بلاد الإسلام والمسيحية. وراجت تجارة العبيد في إيطاليا بنوع خاص، وأكثر الظن حتى منشأ ذلك هوقربها من البلاد الإسلامية حيث كان في وسع التجار حتى يختطفوهم منها وهم مرتاحوالضمير، فقد كان يلوح لهم حتى اختطافهم هوانتقام عادل من المسلمين لغاراتهم على البلاد المسيحية.

وقد خيل غلى الناس، وفيهم رجال الأخلاق الشرفاء، حتى هذا النظام الذي ظل قائماً من بداية التاريخ المعروف نظام أبدي لا غنى عنه، ولسنا ننكر حتى البابا جريجوري الأول اعتق اثنين من عبيده، ونطق في هذه المناسبة بعبارات خليقة بالإعجاب عما للناس جميعاً من حق طبيعي في الحرية(6)، ولكنه مع ذلك ظل يستخدم مئات العبيد في الضياع البابوية(7)، ويوافق على القوانين التي تحرم على العبيد حتىقد يكونوا قساوسة أوحتى يتزوجوا من المسيحيات الحرائر(8). وقد حرمت الكنيسة بيع الأسرى المسيحيين إلى المسلمين" ولكنها أباحت استرقاق المسلمين والأوربيين الذين لم يعتنقوا الدين المسيحي. وكان آلاف من الأسرى الصنطقبة أوالمسلمين يوزعون عبيداً على الأديرة، وظل الاسترقاق قائماً في أراضي الكنيسة وضياع البابوات حتى القرن الحادي عشر(9)؛ وكان القانون الكنسي يقدر ثروة أراضي الكنيسة في بعض الأحيان بعدد من فيها من العبيد لا بقدر ما تساويه من المال، فقد كان يعد العبد سلعة من السلع كما يعده القانون الزمني سواء بسواء؛ وحرم على عبيد الكنائس حتى يوصوا لأحد بأملاكهم، وقرر حتى ما قد يحدث لهم وقت وفاتهم من مال مدخر يؤول إلى الكنيسة(10)؛ وقد أوصى كبير أساقفة نربونة في عام 1149 بعبيده المسلمين على أسقف بيزيير B(ziers(11). وكان القديس تومس أكويناس يفسر الاسترقاق بأنه نتيجة لخطيئة آدم، وأنه وسيلة اقتصادية في عالم يجب حتى يكدح فيه بعض الناس ليمكنوا بعضهم الآخر من الدفاع عنهم(12). وكانت هذه الآراء متفقة مع أقوال أرسطو، وموائمة لروح عصرها. وكانت القاعدة المقررة في الكنيسة والتي تنص على حتى أملاكها لا يمكن النزول عنها إلا بقيمتها الكاملة في السوق(13)، كانت هذه القاعدة شراً على عبيدها وأرقاء أرضها، فقد علت عنق العبيد والأرقاء في بعض الأحيان أصعب في أملاك الكنيسة منه في أملاك غيرها(14). غير حتى الكنيسة مع هذا خطت خطوات متزايدة في تقييد تجارة الرقيق، وذلك بتحريم استرقاق المسيحيين في الوقت الذي كانت المسيحية سريعة الانتشار.

ولم يكن اضمحلال نظام الاسترقاق ناشئاً عن ارتقاء الأخلاق، بل كان نتيجة تطورات اقتصادية. فقد تبين حتى الإنتاج الذي يؤدي إليه القسر الجسماني المباشر أقل ربحا حقيقياً وأشد صعوبة من الإنتاج الذيقد يكون الحافز عليه هوالرغبة في التملك. ولقد ظل الاسترقاق قائماً وكانت حدثة Servus اللاتينية تطلق على العبيد وعلى رقيق الأرض، ولكن هذا اللفظ تطور مع الزمن واستحال إلى حدثة serf لرقيق الأرض، كما تطورت حدثة villein ومعناها رقيق الأرض فأصبحت villain ومعناها الآن "وغد"، وكما تطورت حدثة Slav ومعناها صقلبي إلى حدثة Slve أي العبد. ولقد كان رقيق الأرض لا العبد هوالذي يصنع الخبز لعالم العصور الوسطى.


رقيق الأرض

الأصل في رقيق الأرض أنه رجل يفلح مساحة من الأرض يمتلكها سيد أوبارون يؤجرها له طول حياته ويبسط عليه حمايته العسكرية ما دام يؤدي له أجراً لها سنوياً من الغلات أوالعمل أوالمال، وكان في وسع هذا المالك حتى يطرده منها متى شاء(15)، وإذا توفي لا تنتقل الأرض إلى أبنائه إلا بموافقة المالك ورضائه. وكان من حق هذا المالك في فرنسا حتى يبيع الرقيق مستقلاً عن الأرض بثمن يعادل أربعين شلناً (حوالي 400،يا ترى؟ ريال أمريكي)؛ وكان مالكه أحياناً يبيعه (أي أنه يبيع عمله) مجزءاً بعض لشخصه وبعضه لآخر؛ وكان في وسع هذا الرقيق في فرنسا حتى يحل العقد الإقطاعي إذا أسلم الأرض وكل ما يملك إلى سيده؛ أما في إنجلترا فقد حرم من هذا الحق-حق مغادرة الأرض- وكان الذين يفرون من أرقاء الأرض في العصور الوسطى يعاد القبض عليهم بنفس الصرامة التي يعاد بها القبض على العبيد في هذه الأيام.

وكانت الواجبات الإقطاعية التي يؤديها رقيق الأرض لمالكها متعددة مختلفة الأنواع، وما من شك في حتى تذكرها وحده كان يحتاج إلى بعض الذكاء. (1) كان يؤدي في العام ثلاث ضرائب نقدية. (1) فرضه (ضريبة الرؤوس) وهي ضريبة صغيرة للحكومة عن طريق المالك (ب) وإيجاراً قليلاً (جـ) ونفقة يقررها الملك كما يهوى وتؤدي إليه مرة أوأكثر من مرة في العام (2) وكان يؤدي للمالك جميع عام جزءاً من محصوله وماشيته، تبلغ عادة عشرة. (3) وكان عليه حتى يعمل عند المالك كثيراً من أيام السنة مسخراً من غير أجر؛ وكان هذا النوع من الواجبات ميراثاً انحدر من النظم الاقتصادية القديمة، حين كان الفلاحون مجتمعين يؤدون بعض الأعمال العامة كتقطيع أشجار الغابات، وتجفيف المستنقعات، وشق القنوات، وإقامة الجسور والحواجز، بوصفها فرضاً واجباً عليهم للمجتمع أوللمالك. وكان بعض الأملاك يطلبون من الرقيق حتى يعملوا عندهم ثلاثة أيام جميع أسبوع في معظم السنة، وأربعة أيام أوخمسة جميع أسبوع في موسم الحرث أوالحصاد؛ وكان من حقهم حتى يطلبوا عند الضرورة عدة أيام أخرى لا يؤدون عنها إلا واجبات الطعام. ولم تكن هذه السخرة تفرض إلا على فرد واحد من الذكور في جميع أسرة (4) وكان رقيق الأرض حتى يطحن حبوبه ويخبز خبزه، ويصنع جعته، ويعصر عنبه في مصنع المالك، أوتنوره، أوخابيته، أومعصرته، وأن يؤدي له في نظير جميع عمل من هذه الأعمال أجراً قليلاً (5) وكان يؤدي أجراً آخر ليكون له حق صيد السمك، أواقتناص الحيوان البري، أورعى ماشيته وحيوانه الأليف في أراضي المالك (6) وكان عليه حتى يحمل قضاياه أمام محاكم صاحب الأرض، وأن يؤدي في نظير هذا رسماً يختلف باختلاف خطر القضية (7) وكان حتى يلبي دعوة المالك في الانضمام إلى فيلقه إذا نشبت الحرب (8) وإذا أسر المال كان على الرقيق حتى يشهجر في أداء فديته (9) وكان عليه فوق ذلك حتى يشهجر في تقديم الهدايا القيمة المستحقة لابن المالك إذا رقى إلى مرتبة الفرسان (10) وكان يؤدي للمالك ضريبة عن جميع ما يحمله من الغلات ليبيعه في السوق أوالمعرض (11) ولم يكن من حقه حتى يبيع جعته أوخمره إلا بعد حتى يسبقه المال باسبوعين يبيع فيهما هوجعته وخمره (12) وكان عليه في كثير من الأحيان حتى يبتاع قدراً معيناً من خمر سيده جميع عام؛ فإذا لم يبتعها في الوقت المناسب (كما تقول إحدى مواد قانون الضيعة) "صب المالك قدراً من الخمر يعادل أربعة جالونات فوق سطح الرقيق، فإذا جرى الخمر إلى أسفل كان على الرقيق حتى يؤدي ثمنه، وإذا جرى إلى أعلى لم يكن يلزم بأداء شيء ما"(16). (13) وكان عليه حتى يؤدي غرامة للمالك إذا ما أوفد هوابناً له ليتفهم تعليماً عالياً أووهبه للكنيسة لأن الضيعة بذلك تخسر يداً عاملة (14) وكان يؤدي ضريبة؛ ويحصل على إذن من المالك إذا تزوج هوأوأحد أبنائه من إنسان خارج عن نطاق الضيعة لأن المالك يخسر بهذا العمل بعض أبناء الزوج أوالزوجة أويخسرهم كلهم، وكان لا بد من الحصول على الإذن وهذه الضريبة في بعض المزارع في جميع زوج أياً كان (15) ونستمع في حالات فردية عن "حق الليلة الأولى" أي حق السيد في حتى يقضي مع عروس رقيق الأرض الليلة الأولى من زقابلا، ولكن الرقيق كان يسمح له أحياناً حتى "يفتدي" عروسه بأجر يؤديه للسيد(18)؛ وقد بقي حق الليلة الأولى بصورته هذه في بافاريا حتى القرن الثامن عشر(19). وكان المالك في بعض الضياع الإنجليزية يفرض غرامة على الفلاح الذي تأثم ابنته؛ وفي بعض الضياع الأسبانية كانت زوجة الفلاح التي يحكم عليها في جريمة الزنى تؤول أملاكها كلها أوبعضها لصاحب الأرض(20) (16) وإذا توفي الفلاح ولم يكن له ولد يقيم معه عاد بيته وعادت أرضه إلى السيد تطبيقاً لحق الحكومة في حتى ترث من لا وارث له؛ وإن كان وارثه ابنة غير متزوجة لم يكن لها حتى تستبقي الأرض إلا إذا تزوجت رجلاً يقيم في الضيعة نفسها، وسواء كان للمتوفى وارث أولم يكن له فقد كان من حق السيد إذا توفي المستأجر حتى يستولي في صورة ضريبة الهجرات على ماشية، أوبترة من بتر الأثاث أوثوب من هجره المتوفى، ولقس الأسقفية في بعض الحالات حتى يستولي على مثل رسوم الوفاة هذه(21). ولم تكن رسوم الوفاة تحصل في فرنسا إلا إذا لم يكن المتوفى وارث يعيش معه في بيته. (17) وكان عليه في بعض الضياع وبخاصة في ضياع الكنيسة حتى يؤدي ضريبة سنوية وضريبة هجرات للقائد الذي ينظم وسائل الدفاع الحربي عن المقاطعة.

وليس في وسعنا حتى نقدر مجموع الفروض الواجب على رقيق الأرض أداؤها بالنظر إلى هذه الرسوم والضرائب المتنوعة، وهي رسوم وضرائب لم تكن كلها تحصل من جميع أسرة. وقد قدرت في ألمانيا في خلال العصور الوسطى بثلثي محصولاته(21)؛ وكانت قوة العادة، التي هي ذات سلطان الأكبر في الأنظمة الزراعية، في صالح رقيق الأرض؛ فقد كانت الرسوم التي يؤديها نقداً وعيناً تنزع على الثبات كما هي على مر القرون(22) رغم ازدياد غلة الأرض وانخفاض قيمة النقد. وكان كثير من القيود والفروض التي تثقل كاهل الرقيق في العصور الوسطى يخففها أويلغيها تسامح الملاك، أوالمقاومة الفعالة من جانب الأرقاء، أونسيانها على مر الزمان(23). ولعل ما يوصف به رقيق الأرض في العصور الوسطى من بؤس قد بولغ فيه؛ فقد كان الجزء الأكبر من الرسوم التي تنتزع منه بديلاً من الإيجار النقدي الواجب أداؤه للمالك. وضرائب تؤدي للمجتمع لتمكنه من أداء الخدمات والأعمال العامة، ولعل نسبتها إلى دخله كانت أقل من نسبة الضرائب التي نؤديها نحن في هذه الأيام إلى حكومة الاتحاد، وإلى الولاية، والمقاطعة، والمدرسة . ولقد كانت حال الفلاح المتوسط في القرن الثامن عشر مماثلة لحال بعض الزراع الذين يقتسمون مع الملاك غلة الأرض التي يغرسونها في الدول الحالية، وكانت بلا شك خيراً من حال صعاليك الرومان في عهد أغسطس(25). ذلك حتى المالك في ذلك الوقت لم يكن يعد نفسه مستغلاً، بل كان يعمل بجد في المغرسة، وقلّما كان موفور الثراء. وظل الفلاحون حتى القرن الثالث عشر ينظرون إليه نظرة الإعجاب، ونظرة الحب في كثير من الأحيان؛ وكانوا إذا ترمل السيد ولم ينجب أبناء يوفدون إليه الوفود يلحون عليه بأن يتزوج مرة أخرى، حتى لا يهجر الضيعة دون وريث من نسله، فتسوء حالها إذا تعرضت لحرب الوراثة(26). وكان الإقطاع، كما كانت معظم الأنظمة الاقتصادية والسياسية في التاريخ، ما لا بد له حتىقد يكون للقاءة مستلزمات المكان والزمان وفطرة الناس.

وكان كوخ الفلاح يقام من الخشب الهش الرقيق، ويسقف عادة بالقش والعشب المتلبد، وأحياناً بالحصباء. ولم نسمع قط عن نظام لمقاومة الحريق قبل عام 1250، ومن أجل هذا كانت النار إذا اشتعلت في أحد هذه الأكواخ أتت عليه وعلى جميع ما فيه. وكان الكوخ في كثير من الأحيان يتكون من حجرة واحدة ولا يزيد قط على حجرتين، وبه مدفأة يحرق فيها الخشب، وتنور، ووعاء للعجين، ومنضدة، وبضعة مقاعد، وصوان، وصحاف، وآنية، ومجمرة، ومرجل، وحمالة لتعليق الأوعية، وحشية كبيرة من الريش أوالقش قرب التنور مبسوطة على الأرض ينام عليها الفلاح، وزوجته، وأبناؤهما، وطارق الليل من الضيوف مختلطين بعضهم ببعض يدفئ بعضهم بعضاً. وكان فناء البيت مأوى الخنازير والدواجن، وكانت النساء يعنين بنظافة البيت بقدر ما تسمح به الظروف، ولكن الفلاحين الكادحين كانوا يجدون في تنظيف البيت مشقة كبيرة. وتحدثنا الأقاصيص حتى الشيطان لا يقبل أرقاء الأرض في الجحيم لأنه لا يطيق رائحتهم(27). وكان بالقرب من الدار فضاء مسور للحصان والأبقار، وقد يحدث فيه أحياناً خلايا للنحل وخن للدجاج، وبالقرب منه كوم الروث يتكون من فضلات الحيوانات وأفراد الأسرة. وكان حول هذا كله أدوات الغرس والصناعات المنزلية، وكان قط يحرس البيت من الفئران وكلب يشرف على هذا كله.

وكان الفلاح يرتدي قميصاً نصفياً من القماش أوجلد الحيوان، وسترة من الجلد أوالصوف، ومنطقة وسروالاً، وحذاءً نصفياً أوعالياً، وما من شك في أنه كان يظهر بملابسه هذه شخصاً قوياً لا يختلف كثيراً عن فلاح فرنسا في هذه الأيام. وليس من حقنا حتى نصوره في صورة الشخص المظلوم المغلوب على أمره، بل علينا حتى نتمثله بطلاً يفلح الأرض، قوياً صبوراً، تحفظ عليه كيانه كما يحفظ كيان جميع إنسان غيره عزة كامنة مهما كانت بعيدة عن العقل والمنطق. ولم تكن زوجته أقل منه كدحاً من مطلع الفجر إلى مغيب الشمس، وكانت إلى هذا تنجب له الأبناء، وإذ كان هؤلاء الأبناء قيمة اقتصادية في المغرسة فقد كانت تكثر منهن؛ لكننا مع هذا نقرأ في أقوال بلاجيوس الفرنسيسي (حوالي 1330) حتى بعض الفلاحين "كثيراً ما كانوا يمتنعون عن مباشرة أزقابلم كيلا يلدن أبناء محتجين بأنهم يخشون لفقرهم حتى يعجزوا عن تربيتهم إذا كثروا"(28).

وكان طعام الفلاح كافياً مغذياً-يتألف من منتجات اللبن، والبيض، والخضر واللحم: وإن كان بعض المؤرخين المتظرفين يرثون له لأنه كان يضطر إلى أكل الخبز الأسود-أي المصنوع من الدقيق غير المنخول(29). وكان يشهجر في حياة القرية الاجتماعية، ولكنه لم تكن له متع ثقافية؛ فلم يكن يعهد القراءة، لأنه في وجود رقيق الأرض التي يعهدها إساءة إلى سيده الأمي. وكان يجهل جميع شيء عدا الغرس، وحتى هذا لم يكن بارعاً فيه. وكانت طباعه خشنة شديدة، ولعله كان فظاً غليظ القلب. وقد اضطرته أحوال أوربا المضطربة حتى يعيش عيشة الحيوان الطيب، وفي الحق أنه استطاع حتى يعيش على هذا النحو. فقد كان لفقره شرهاً، ولخوفه قاسياً، وللكبت الواقع عليه عنيفاً، وكان جلفاً لأنه يعامل معاملة الأجلاف. وكان هوعماد الكنيسة، ولكنه كان لديه من الخرافات أكثر مما كان لديه من الدين، وقد اتهمه بلاجيوس بأنه كان يخدع الكنيسة فلا يؤدي إليها عشورها، ويهمل في مراعاة أيامها المقدسة وأيام صومها؛ ويشكوجوتييه ده كوانسي Gautier de Coincy) في القرن الثالث عشر (من حتى رقيق الأرض "ليس له في قلبه من خشية الله أكثر ما في قلب الشاة ولا يأبه مطلقاً بقوانين الكنيسة المقدسة"(30). وكانت له لحظات فكاهته الثقيلة السمجة، ولكنه كان في حقله وفي بيته قليل الكلام، صريح الألفاظ، رزيناً، يشغله كدحه المتواصل وأعماله الكثيرة عن حتى يضيع جهوده في الكلام أوالأحلام. وكان رغم خرافاته واقعي النزعة، يدرك تصاريف الأقدار التي لا هوادة فيها ولا رحمة، ويوقن حتى الموت آت لا ريب فيه، فقد كان جدب فصل من فصول العام يهلكه هووحيواناته جوعاً. وقد وقع بين عامي 970 و1100 سنون قحطاً حصدت الأهلين زرافات في فرنسا، ولم يكن في وسع أي فلاح بريطاني حتى ينسى ما وقع من القحط في عامي 1086 و1125 في إنجلترا المرحة الطروب؛ وقد روع أسقف ترييه في القرن الثاني عشر حين رأى الفلاحين يذبحون جواده ويأكلون لحمه(31). ثم زاد الفيضان والوباء والزلزال الطين بلة وأحالت المسلاة آخر الأمر مأساة.


مجتمع القرية

وكان جماعة من الفلاحين يتراوح عددهم بين خمسة وخمسمائة يتألفون من أرقاء الأرض، ونصف الأحرار، والأحرار، يبنون قريتهم حول قصر السيد الإقطاعي في الريف. ولم تكن بيوتهم منعزلة بعضها عن بعض بل كانت متجاورة داخل أسوار القرية لأن في قربها أماناً لهم. وكانت القرية عادة جزءاً من ضيعة واحدة أوأكثر من ضيعة، وكان السيد المالك هوالذي يعين الكثرة الغالبة من موظفيها، ولمقد يكونوا يسألون إلا أمامه وحده، ولكن الفلاحين كانوا يختارون لهم عمدة أورئيساً يتوسط بينهم وبين المالك وينسق نشاطهم الزراعي. وكانوا يجتمعون في السوق في فترات معينة ليتبادلوا السلع، وكان هذا التبادل هوالبقية الباقية من التجارة في هذه الضيعة المكتفية بنفسها من الناحية الاقتصادية. فقد كان البيت الريفي ينتج بنفسه ما يلزمه من الخضر وبعض ما يلزمه من اللحوم، ويغزل صوفه أوكتانه، وينسج معظم ما يحتاجه أفراد من الثياب. وكان حداد القرية يصنع الآلات الحديدية، ودابغ الجلود يصنع البضائع الجلدية، والنجار ينشئ الأكواخ ويصنع الأثاث، وصانع العربات يصنع المركبات، والقصابون، والصباغون، والبناءون، وصانعوالسروج، والحذاؤون، والصبانون... كان جميع هؤلاء يعيشون في القرية أويأتون إليها ليقيموا فيها بعض الوقت ليصنعوا ما يطلب إليهم صنعه، وكان القصاب العام أوالخباز ينافس الفلاح وزوجته في إعداد اللحم والخبز.

وكانت تسعة أعشار الاقتصاد الإقطاعي قائمة على الزراعة. وقد جرت العادة في فرنسا وإنجلترا في القرن الحادي عشر حتى تقسم أرض المغرسة إلى ثلاثة حقول: أحدها يغرس قمحاً أوشيلماً، وثانيها شعيراً أوشوفاناً، ويهجر الثالث بوراً. وكان جميع حقل يقسم بتراً مساحة جميع منها نحوفدان إنجليزي أونصف فدان يفصل جميع منها على الأخرى حاجز من أرض غير محروثة. وكان موظفوالقرية يحددون لكل زارع عدداً مختلفاً من البتر في جميع حقل ويحتمون عليه حتى يتبع فيها دورة زراعية تجري على خطة يضعها مجتمع القرية. وكان الأهلون مجتمعين يقومون في الحقل بالعمليات الزراعية كلها من حرث وتمهيد، وغرس وبذر، وحصاد. ولعل توزيع بتر الفلاح الواحد بين ثلاث حقول أوأكثر كان يهدف إلى إعطائه نصيباً معادلاً لنصيب غيره من الأراضي غير المتساوية الخصوبة، ولعل هذه القرية التعاونية كانت باقية من شيوعية بدائية لا تزال آثار قليلة منها باقية في هذه الأيام. وكان من حق جميع فلاح يؤدي ما عليه من الواجبات الإقطاعية بالإضافة إلى غرس هذه البتر حتى يبتر الأشجار، ويرعى ماشيته، ويجمع الكلأ الجاف من غابات الضيعة، وأرض الكلأ المشاع فيها، "وأرضها الخضراء" وكان له عادة حول كوخه ما يكفي من الأرض لإنشاء حديقة وغرس الأزهار.

ولم يكن فهم الزراعة في البلاد المسيحية الإقطاعية يضارع نظيره عند الرومان في عهد كولمبلا Columbella أوعند المسلمين في بلاد العراق أوالأندلس. وكانت أعقاب النبات وغيرها من النفايات تحرق في الحقول لإخصاب التربة وتطهيرها من الحشرات والأعشاب الضارة؛ وكان يتخذ من الطين الغضار أوغيره من التراب والجير نوع من السماد البسيط، فلم يكن يوجد في ذلك الوقت مخصبات صناعية، وكان ما يعترض النقل من صعاب يقلل استخدام روث الحيوان، ولهذا كان رئيس أساقفة رون Rouen يلقي أقذار إسطبلاته في نهر السين بدل حتى ينقلها إلى حقوله القريبة منها في دفيل Deville، وكان الفلاحون يشهجرون في جمع دريهماتهم القليلة لشراء محراث أوزحافة يستعملونهما جميعاً. وظل الثور هوحيوان الجر عندهم حتى القرن الحادي عشر؛ ذلك حتى هذا الحيوان أقل نفقة من الحصان في إطعامه، وكان إذا كبرت سنه أكثر منه نفعاً إذا اتخذ طعاماً. ولكن صانعي السروج اخترعوا حوالي عام 100 بعد الميلاد الطوق الجامد الذي يمكن الحصان من جر حمل ثقيل دون حتى يختنق؛ وإذا وضع هذا الطوق في عنق الحصان أمكنه حتى يحرث في اليوم الواحد ثلاثة أمثال ما يحرثه الثور أوأربعة أمثاله. وإذ كانت سرعة الحرث مهمة في الأجواء المعتدلة الرطبة فقد أخذ الحصان في القرن الحادي عشر يحل محل الثور ويفقد ما كان له من منزلة عالية جعلت الناس يحتفظون به من قبل للسفر، والصيد، والحرب(32). ودخلت السواقي أوربا الغربية في أواخر القرن الحادي عشر، وكانت مستخدمة قبل ذلك بزمن طويل في بلاد الشرق الإسلامية(33).

وكانت الكنيسة تخفف من كدح الفلاح بأيام الآحاد والأعياد التي كان "العمل الوضيع" فيها يعد إثماً من الآثام. وفي ذلك يقول الفلاحون: "إن أثوارنا تعهد متى يحل يوم الأحد، وهي بذلك تأبى حتى تعمل في ذلك اليوم"(34). وكان الفلاح إذا فرغ من الصلاة في ذلك اليوم يغني ويرقص، وينسى في ضحكه الريفي العالي أعباء الوعظ والمغرسة الثنطق. وكانت الجعة رخيصة الثمن، وكان الحديث حراً طليقاً بذيئاً. وكانت أقاصيص خليعة عن النساء تختلط بالخرافات الرهيبة التي تروي عن القديسين. وكانت ألعاب عنيفة ككرة القدم، والهوكي، والمصارعة، وقذف الأثنطق يتبارى فيها رجل مع رجل. وكان قتال الديكة، ومصارعة الثيران كثيري الحدوث، وكان تحمس النظارة يصل غلى غايته حين يحاول رجلان معصوبان بالعينين، مسلحان بالعصى الغليظة حتى يقتلا إوزة أوخنزيراً داخل دائرة مغلقة، وكان الفلاحون في بعض الليالي يتزاورون، ويلعبون ألعاباً داخل البيوت، ويحتسون الخمر، وكانوا في العادة يقضون أوقاتهم داخل البيوت، لأن الحارات لم تكن مضاءة، وكانوا يأوون إلى الفراش مبكرين بعد حتى تظلم الدنيا بقليل لأن الشموع كانت غالية الثمن. وكانت الأسرة إذا حل الشتاء بليله الطويل تأوي الماشية في الكوخ وترحب بها وتفيد ما تحدثه فيه من الدفء.

إلى غير ذلك كان الفلاحون في أوربا يطعمون أنفسهم، وسادتهم، وجنودهم. وقساوستهم، وملوكهم، بكدحهم المتواصل وبسالتهم الصامتة، لا بما تبعثه في نفوسهم الحوافز الصالحة من مهارة وقدرة على الابتكار. وكانوا يجففون المناقع، ويقيمون الجسور والحواجز، ويبترون أشجار الغابات، ويطهرون القنوات، ويشقون الطرق، ويبنون البيوت، ويوسعون نطاق دائر الحضارة، ويكسبون المعركة القائمة بين الغابة والإنسان. وإن أوربا الحديثة لمن خلقهم وصنع أيديهم؛ ونحن إذا ما شاهدنا الآن تلك السياج الأنيقة، والحقول المنظمة، لا نستطيع حتى نتصور ذلك الكدح الطويل، والمحن الشداد التي دامت عدة قرون، والتي حطمت ظهور الرجال وقلوبهم، والتي سخرت المواد الغفل التي تخرجها الطبيعة السخية على كره، ووضعت بها الأسس الاقتصادية لحياتها الحاضرة.

وكانت النساء أيضاً مجندات في تلك الحرب العوان، فقد كان خصبهن وصبرهن على إنجاب الأبناء وتربيتهم هما اللذين ذللا الأرض. وحارب الرهبان وقتاً ما، ولمقد يكونوا في حربهم أقل بسالة من غيرهم، فقد أقاموا أديرتهم مراقب أمامية في الفقار، وأنشئوا من الفوضى نظاماً اقتصادياً، وبنوا القرى في البراري، وبفضل هذه الجهود كلها رفرف فهم الحضارة على ربوع أوربا في نهاية العصور الوسطى بعد حتى كان الجزء الأكبر من أرضها في بداية تلك العصور أرضين غير منغرسة، وغابات خالية من السكان، وبراري مقفرة، ولعل هذا العمل، إذا نظرنا إليه النظرة السليمة، هوأشد كفاح، وأنبل نصر، وأعظم عمل تم في عصر الإيمان.


المالك

في جميع نظام اقتصادي يسيطر الرجال الذين يستطيعون السيطرة على أولئك الذين لا يستطيعونها إلا على الجماد. وكان المسيطر على الرجال في أوربا الإقطاعية هوالسيد مالك-وهوباللغة اللاتينية dominus، وبالفرنسية seigneur، وبالرومانية senior وبالألمانية Hetr، وبالإنجليزية lord (أي السيد) وكانت أعماله تنقسم ثلاثة أقسام: حتى يوفي وسائل الدفاع العسكري عن أراضيه وسكانها؛ وأن ينظم شئون الزراعة والصناعة والتجارة في تلك الأراضي، وأن يخدم سيده الأكبر أومليكه في الحرب. ولم يكن المجتمع قادراً على البقاء في هذا النظام الاقتصادي الذي تحطم إلى عناصره الأولى وتمزق لطول عهده بالهجرة، والغارات، والنهب، والحروب-لم يكن المجتمع قادراً على البقاء في هذا النظام إلا باستقلاله المحلي وكفاية موارده من الطعام والجنود؛ ولهذا أصبح القادرون على تنظيم وسائل الدفاع وفلح الأرض هم سادتها وملاكها بطبيعة الحال، وأضحى امتلاك الأرض وإدارتها مصدر الثراء والسلطان، ونشأ عهد من الأرستقراطية مالكة الأرض دام إلى عهد الانقلاب الصناعي.

وكان المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الإقطاع هوالولاء المتبادل الذي يتمثل فيما على رقيق الأرض أوالتابع من التزامات اقتصادية وعسكرية لسيده. وفيما على هذا السيد من واجبات مثلها لسيده الأعلى، وفيما على هذا السيد الأعلى من واجبات للملك، وفيما على الملك من واجبات نحوالسيد الأعلى، وفيما على هذا السيد الأعلى من واجبات نحوالسيد الأصغر منه، وفيما على هذا السيد الأصغر من واجبات لتابعه أورقيق أرضه. وكان السيد يجزي أرقاءه على خدمتهم إياه أرضاً يستبقونها طوال حياتهم، تكاد تكون ملكاً لهم. وكان يجيز لهم حتى يستخدموا بأجر قليل أفرانه، ومعاصره، وطواحينه، ومياهه، وغاباته، وحقوله؛ وكان يستبدل بكثير من الواجبات التي تتطلب جهودهم العضلية قدراً قليلاً من المال، ويسمح بأن تسقط بعض الواجبات الأخرى على مر الزمان. ولم يكن ينزع الأرض من رقيقه إذا أعجزه السقم أوالشيخوخة-بل كان يعني به عادة ويقدم له المعونة(35). ومن الملاك من كان يفتح أبوابه للفقراء في أيام الأعياد ويطعم جميع من يدخلها؛ وكان ينظم وسائل المحافظة على القناطر، والطرق، والقنوات، والتجارة، ويجد الأسواق التي يصرف فيها ما زاد من منتجات الضيعة على حاجتها، والأيدي العاملة للقيام بأعمالها، والمال ليشتري به حاجاتها. وكان يأتي إليها بالسلالات الطيبة من الماشية ليبريها، ويسمح لأرقائه حتى يلقحوا ماشيتهم بالذكور الممتازة عنده؛ وكان من حقه حتى يضرب رقيق أرضه، أوحتى يقتله في بعض الأماكن أوالأحوال، دون حتى يخشى عقاباً، ولكن شعوره بمصالحه الاقتصادية كان يكبح جماح وحشيته، وكانت له في أملاكه السلطات القضائية والعسكرية، وكان يستفيد فوق ما يجب من الغرامات التي تفرضها محاكم الضيعة: ولكن معظم قضاة هذه المحكمة كانوا من أرقاء الأرض أنفسهم، وإن كانت ترهبها سلطة المأمور التابع للشريف. ويتبين لنا من تهافت الأرقاء على هذه الهيئات القضائية لتعفيه من الخدمات نظير ما يقدمه من المال -يتبين لنا من تهافتهم عليها حتى قراراتها لم تكن شديدة الظلم. وكان في مقدور جميع رقيق يجد في نفسه الجرأة الكافية حتى يجهر برأيه في محكمة الضيعة. ومن الأرقاء من كانوا يجدون في أنفسهم هذه الجرأة، وقد أعانت هذه المحاكم بأحكامها الفردية، وبغير قصد منها، على إيجاد الحريات التي قضت آخر الأمر على عهد رقيق الأرض.

وكان في وسع السيد الإقطاعي حتى يمتلك أكثر من ضيعة واحدة، وكان يعين في هذه الحالة وكيلاً له يشرف على أملاكه أي على ضياعه كلها، وكان له في جميع منها ناظر أومأمور، وكان هوينتقل من ضيعة إلى ضيعة ومعه أفراد أسرته ليستهلكوا غلاتها في مواضع إنتاجها؛ وقد يحدث له قصر حصين في جميع واحد منها. وكان قصر السيد الإقطاعي يرجع نشأته إلى معسكر الفيالق الرومانية المسور (Castellum, Castrum) أوإلى قصر الشريف الروماني الريفي المحصن أوإلى حصن الزعيم الألماني (burg)، وكان يهدف إلى حماية سكانه أكثر مما يهدف إلى راحتهم. وكان أبعد وسائل الدفاع عنه من الخارج خندق عريض عميق: وكانت الأتربة الناتجة من حفره والتي تلقى في الجهة الداخلية منه تكون حاجزاً عالياً تدق فيه عُمد أربعة يرتبط بعضها ببعض ليتكون منها سور متصل. وكان جسر متحرك مثبت طرفه الداخلي يؤدي إلى باب حديدي كبير أوباب آخر شبكي قلبه، يحمي مدخلاً ضخماً في سور الحصن. وكان في داخل هذا السور اسطبلات، ومطبخ، ومخازن، وأبنية صغرى، ومخبز، ومغسل، وكنيسة صغيرة، ومساكن للخدم، مبنية كلها عادة من الخشب. وكان مستأجروا الضيعة يهرعون عادة هم وماشيتهم ومنقولاتهم إلى داخل هذا السور. ويقوم في وسطه البرج أوبيت المالك؛ وهوفي معظم الأحوال برج مربع كبير مقام من الخشب أيضاً؛ ولكنه قبل حتى يستهل القرن الثاني عشر بني من الحجارة واتخذ شكلاً دائرياً ليسهل الدفاع عنه أكثر من ذي قبل وكان الطابق الأدنى من هذا البرج مخزناً وجباً، ومن فوقه يسكن المالك وأسرته. وقد نشأت من هذه الأبراج في القرنين الحادي عشر والثاني عشر قصور الأشراف في إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، وهي القصور التي كانت جدرانها الحجرية المنيعة عماد قوة الملاك ضد مستأجريهم وضد الملك.

وكان البرج من داخل مظلماً، ضيقاً محصوراً، قليل النوافذ صغيرها، وقلّما كانت لها ألواح زجاجية. وكان الخيش أوالورق الملون أوالمصاريع الخشبية، أوشبابيك الشيش تمنع عنه معظم المطر والكثير من الضوء؛ وكانت الشموع والمشاعل تستخدم في الإضاءة الاصطناعية، ولم تكن هناك في معظم الأحوال إلا حجرة واحدة في جميع طابق من أطباقه الثلاثة؛ وكانت السلالم أوالأبواب التي في السقوف، أوالدرج المتعرجة، تصل أطباق البرج بعضها ببعض. وكان في الطابق الثاني البهوالرئيسي، الذي تعقد فيه محكمة المالك والذي يستخدم فضلاً عن ذلك مطعماً، وحجرة لجلوس الأسرة، ونوم معظم أفرادها. وقد يحدث في إحدى أطرافها مصطبة مرتفعة، يتناول عليها المالك، وأسرته، ومن يستضيفه طعامهم. أما غيرهم فكانوا يتناولون طعامهم على موائد متنقلة توضع أمام مقاعد في ممرات هذا الطابق. فإذا حان وقت النوم وضعت الحشيات على الأرض أوعلى أسّرة منخفضة من الخشب في الممرات. وكان أهل الدار كلهم ينامون في هذه الحجرة الوحيدة تحجبهم حواجز بعضهم عن بعض. وكانت الحجرات تطلى بالجير أوبالألوان الزيتية، وتزين بالأعلام، والأسلحة، والدروع. وكان من المستطاع وقاية الحجرة من التيارات الهوائية بالستائر أوالأقمشة المنقوشة. وكانت الأرض تبلط بألواح القرميد أوالحجارة، وتغطى بالقش أوأغصان الأشجار؛ وكانت تدفأ من وسطها من موقد يحرق فيه الخشب وظلت الدار من غير مدخنة إلى أواخر العصور الوسطى؛ وكان الدخان يخرج من فتحة بالسقف، وكان من خلف المصطبة باب يوصل إلى "مشمسة" يستطيع السيد وأسرته وضيفه حتى يستريحوا فيها ويستمتعوا بأشعة الشمس وكان الأثاث هنا أدعى إلى الراحة منه في الحجرات، فقد كان في هذه المشمسة بساط، ومدفأة، وسرير مريح.

وكان مالك الضيعة يرتدي جلباباً يتخذ عادة من الحرير الملون، نقشت عليه رسوم هندسية أونباتية، وحرملة تغطي الكتفين وغير مشدودة يستطاع حملها فوق الرأس؛ وسروالاً تحتياً (لباساً) قصيراً من فوقه سروال آخر (بنطلون) قصير أيضاً؛ وجوربين قصيرين يرتفعان إلى الفخذين، وحذاءين طويلين يرتفع طرفاهما الأماميين كأنهما مقدم سفينة، وكان يتأرجح من منطقة جراب وسيف، وتتدلى عادة من عنقه مدلاة على شكل صليب. ولما أراد الأشراف الأوربيون حتى يميزوا الفرسان ذوي الخوذ والدروع أحدهم عن الآخر في الحرب الصليبية الأولى(36). أخذوا عن المسلمين عادة(37) تمييز أرديتهم، وحللهم، وألويتهم، ودروعهم، وسروج خيلهم بنقوش خاصة أوشعائر حربية، ومن ثم أنشأت الفروسية لنفسها رطانة عجيبة لا يفهمها إلا الفرسان والقائمون على شئون الفروسية . ولم يكن المالك رغم هذه الزينات كلها بالإنسان المتعطل المتطفل، فقد كان يستيقظ في مطلع الفجر، ويصعد إلى برجه ليتبين هل يحدق به خطر، ثم يفطر مسرعاً، وقد يمضى بعد ذلك للصلاة في الكنيسة، ثم "يتغدى" في الساعة التاسعة صباحاً، ويشرف بعدئذ على أعمال الضيعة الكثيرة، ويشهجر بنفسه في بعضها، ويصدر أوامره إلى الناظر ورئيس الخدم، والسائس، وغيرهم من أتباعه، ويستقبل الزائري وعابري السبيل، ثم "يتعشى" معهم ومع أسرته في الساعة الخامسة، ويأوي عادة إلى فراشه في الساعة التاسعة مساء. وكان هذا العمل الرتيب يتغير في بعض الأيام إذا مضى إلى الصيد، ويتغير كذلك أحياناً قليلة إذا لعب "البرجاس"، ويتغير من حين إلى حين إذا قامت الحرب. وكثيراً ما كان يقيم الولائم، ويتبادل الهدايا الكثيرة مع الأضياف.

ولا تكاد زوجته تقل عنه عملاً. فكانت تلد له كثيراً من الأبناء وتربيهم، وكانت توجه الخدم الكثيرين، وتلكمهم أحياناً، وتلاحظ المخبز، والمطبخ، والمغسل، وتشرف على عمل الزبد والجبن، وعصر الجعة، وتمليح اللحم لحفظه أيام الشتاء، وتعمل في تلك الصناعات المنزلية الكبرى صناعات الخياطة، والحياكة، والغزل، والنسيج والتطريز، التي تعد بها معظم ملابس الأسرة، فإذا خرج زوجها للحرب قامت هي بشئون المغرسة العسكرية والاقتصادية، وكان ينتظر منها حتى تمده بحاجاته المالية في أثناء حروبه؛ فإذا سقط في الأسر كان عليها حتى تدبر الماء اللازم لافتدائه من كد رقيق أرضه، أومن بيع جواهرها وأدوات زينتها؛ وإذا توفي زوجها وليس له ولد ذكر، فقد تؤول إليها سيادة الضيعة. فتصبح هي سيدتها dame domina، ولكنها كان ينتظر منها حتى تتزوج مرة أخرى بعد زمن قليل لتهيئ للضيعة والسيد الأكبر ما يلزمهما من الخدمة أوالحماية العسكرية. وكان السيد الأكبر يقصر اختيارها على عدد قليل من الخاطبين القادرين على أداء هاتين المهمتين، وكان في مقدورها حتى تصبح في داخل قصرها مسترجلة أوصخابة، وتبادل زوجها لطمة بلطمة. وكانت في ساعات فراغها تلبس على جسمها القوي أثواباً فضفاضة من الحرير ذات أهداب من الفراء، وتحتذي حذاءين لطيفين، وتغطي رأسها بغطاء جميل وتزدان بالحلي المتلألئة فتصبح بذلك كله قادرة على بعث نشوة الحب أوالأدب في قلوب الشعراء الجوالين.

وكان أبناؤها يتلقون تعليماً يختلف جميع الاختلاف عن تعليم الجماعات. لأن أبناء الأشراف قلّما كانوا يرسلون إلى المدارس العامة، ولم يكن في كثير من الحالات يبذل أي مجهود في سبيل تعليمهم القراءة. ذلك حتى القراءة والكتابة كانتا تهجران للقساوسة والخطة الذين كانوا يستأجرون بأقل الأجور، وأن الكثرة الغالبة من فرسان الإقطاع كانوا يحتقرون المعارف العقلية، فقد تفهم جسكلين Guesclin مثلاً، وهومن أجل شخصيات الفروسية، جميع فنون الحرب، وتعود لقاءة جميع تقلبات الجوبقلب ثابت، ولكنه لم يعن أقل عناية بتفهم القراءة؛ ولم يحتفظ الأشراف بتنطقيدهم الأدبية إلا في إيطاليا وبيزنطية. وكان ابن أسرة الفرسان يرسل في السابعة من عمره، بدل المدرسة، ليكون وصيفاً في بيت شريف آخر يتأدب فيه ويتفهم الطاعة، والأخلاق الطيبة، وطريق اللبس، وقانون الشرف الخاص بالفرسان، ومما تتطلبه المثاقفة والحرب مع حذق، وربما أضاف القسيس المحلي إلى هذا شيئاً من التدريب على القراءة والحساب. وكانت البنات يتفهمن مائة من الفنون النافعة أوالجميلة، ولم تكن الوسيلة إلى هذا تزيد على النظر والعمل. وكن يعنين بشئون الضيوف، والفارس حين يعود من الحرب أوالبرجاس؛ فكن يحللن دروعه، ويحضرون حمامه، ويأتين له بالثياب التحتية والفوقية، والعطور، ويخدمنه وقت الطعام بأدب جم وتواضع ورقة مدروسة؛ وكن هن، لا الأولاد، يتفهمن القراءة والكتابة، وكان منهن كثرة يستمعن إلى الشعراء، والقصاصين والمغنين وإلى نثر ذلك الوقت وشعره الإبداعيين.

وكثيراً ما كان بيت الشريف يشتمل على بعض المبترين أوالأتباع. فأما المُقْطَع فكان رجلاً ينال من الشرف نظير خدمته العسكرية والشخصية، أوالمعونة السياسية، منفعة أوميزة قيمة-وهي في العادة مساحة من الأرض ومن عليها من أرقاء الأرض، وفي هذه الحالقد يكون للمبتر حق الانتفاع بالريع، أما الملكية فتبقى للشريف. وكان الرجل الذي يمنعه كبرياؤه أوتمنعه قوته من حتىقد يكون رقيق أرض ولكنه أضعف من حتى يعد لنفسه وسائل الدفاع العسكرية، ويؤدي مراسم "الولاء" لشريف إقطاعي: يركع أمامه وهوأعزل عاري الرأس، ويضع يديه في يدي الشريف، ويعلن أنه "رجل" (homme) (وإن كان يحتفظ بحقوقه بوصفه رجلاً حراً)، ثم يقسم على بعض المخلفات المقدسة أوعلى الكتاب المقدس حتى يظل وفياً للسيد إلى آخر أيام حياته. ثم يحمله السيد، ويقبله، ويمنحه إقطاعية ، ويعطيه رمزاً لهذه المنحة قشة، أوعصاً، أوحربة، أوقفازاً. ويصبح السيد من ذلك الحين ملزماً بحماية المبتر، وصداقته، والإخلاص له، وتقديم المعونة الاقتصادية والقضائية؛ وكان عليه، كما يقول أحد المحامين في العصور الوسطى، ألا يهين هذا المبتر، أويغري ابنته أوزوجته(39)، فإذا عمل كان من حق المبتر حتى "يلقى القفاز" علامة على التحدي، أي أنه أصبح خارجاً عن الولاء له-ومن حقه مع ذلك حتى يحتفظ بإقطاعيته.

وقد يُبتر المبتر "من باطنه" جزءاً من الأرض إلى مبتر أقل منه تكون علاقته به وتبعاته نحوه هي نفس العلاقة والتبعات التي بين المبتر الأصيل والسيد. وكان في وسع المبتر حتى تكون له إقطاعيات من عدد من السادة، وأنقد يكون مديناً لهم "بولاء بسيط" وخدمات محددة، ولكن عليه حتى يدين لسيد أعلى "بولاء كامل" وخدمة كاملة في لسلم والحرب. وقد يحدث السيد نفسه مهما عظم شأنه، مبتراً من قبل غيره من السادة إذا أخذ منه ملكاً أوإقطاعية، وقد يحدث مبتراً-أي مالكاً لإقطاعية-من مبتر من سيد آخر. وكان السادة كلهم مبترين من الملك. ولم تكن الرابطة الأولى في هذه الصلات المعقدة هي الرابطة الاقتصادية، بل كانت هي الرابطة العسكرية، فقد كان الرجل يقدم الخدمة العسكرية والولاء الشخصي، أويدين بهما، إلى سيد، وكان ما يعطي له من الأرض جزاء له على خدمته وولائه لا أكثر ولا أقل. وكان الإقطاع من الوجهة النظرية نظاماً عظيماً تتبادل بمقتضاه الأخلاق الطيبة، يربط رجال المجتمع المعرض للخطر بعضهم ببعض برباط قوامه تبادل أداء الواجبات، والحماية، والإخلاص.


الكنيسة الإقطاعية

وكان مالك الضياعة في بعض الأحيان أسقفاً أورئيس دير؛ وكان كثير من الرهبان يعملون بأيديهم، وكثير من الأديرة والكنائس تنال حظها من أموال العشور التي تجبي من الأبرشية، ولكن المؤسسات الكهنوتية الكبيرة كانت بالإضافة إلى هذا العمل اليدوي وتلك الأموال في حاجة غلى المعونة المالية؛ وكانت تنال الجزء الأكبر من هذه المعونة من الملوك والأشراف على صورة هبات من الأرض أوأنصبه من الإيرادات الإقطاعية. وتراكمت هذه الهدايا حتى أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضي، وأكبر السادة الإقطاعيين في أوربا؛ فقد كان دير فلدا مثلاً يمتلك 15.000 قصر صغير من قصور الريف، وكان دير سانت جول يمتلك ألفين من رقيق الأرض(40)؛ وكان ألكوين في تور سيداً لعشرين ألفاً من أرقاء الأرض(41). وكان الملك هوالذي يعين رؤساء الأساقفة، ورؤساء الأديرة، وكانوا يقسمون يمين الولاء له كغيرهم من الملاك الإقطاعيين، ويلقبون بالدوق والكونت وغيرهما من الألقاب الإقطاعية، ويسكون العملة، ويرأسون محاكم الأسقفيات والأديرة، ويضطلعون بالواجبات الإقطاعية الخاصة بالخدمة العسكرية والإشراف الزراعي. وكان الأساقفة ورؤساء الأديرة المرتدون الزرد والدروع والمسلحون بالحراب من المناظر المألوفة في ألمانيا وفرنسا. وكان رتشرد أمير كورنوول في عام 1257 يجهر بأسفل الخلوإنجلترا من "الأساقفة ذوي الحمية المتوقدة والروح الحربية القوية"(42). إلى غير ذلك أضحت الكنيسة جزءاً لا يتجزأ من النظام الإقطاعي، فألفت نفسها منظمة سياسية، واقتصادية، وحربية لا منظمة دينية وكفى. وكانت أملاكها "الزمنية" أي المادية، وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية بما يجلل بالعار جميع مسيحي مستمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين، ومصدراً للجدل العنيف ببين الأباطرة والبابوات. إلى غير ذلك أصبحت الكنيسة جزءاً لا يتجزأ من نظام الإقطاع.


الملك

وكما كانت الكنيسة في القرن الثاني عشر منشأة إقطاعية ذات حكومة دينية غرضها تبادل الحماية، والخدمات، والولاء، تقوم بها طائفة من رجال الدين ويرأسها البابا سيدها الأعلى، كذلك كان الحكم الزمني الإقطاعي يحتاج لكي بلغ تمامه رئيساً أعلى لجميع المبترين، وسيداً صاحب السلطان على جميع السادة الزمنيين، أي أنه كان في حاجة إلى ملك. وكان الملك من الوجهة الزمنية تابعاً لله، يحكم بما له من حق إلهي، بمعنى حتى الله أجاز له حتى يحكم، ومن ثم فوضه في حتى يحكم. أما من الوجهة الفهمية فإن الملك قد ارتفع إلى عرشه بطريق الانتخاب أوالوراثة، أوالحرب. نعم إنهم رجالاً من أمثال شارلمان، وأتوالأول، ووليم الفاتح، وفيليب أغسطس، ولويس التاسع، وفردريك الثاني، ولويس الجميل، وسعوا سلطانهم الموروث بقوة الخُلق أوالسلاح؛ ولكن ملوك أوربا الإقطاعية لمقد يكونوا عادة حكاماً لشعوبهم بقدر ما كانوا مندوبين من قبل الأقيال التابعين لهم؛ فقد كان كبار الأشراف ورجال الدين هم الذين يختارونهم أويوافقون على اختيارهم، وكان سلطانهم المباشر محصوراً في أملاكهم الإقطاعية أوضياعهم؛ أما في غير هذه الأملاك والضياع من مملكتهم فقد كان رقيق الأرض أوالتابع الذي أبتر أرضاً يدين بالولاء للمالك الذي يحميه، وقلّما كان يدين بهذا الولاء للملك الذي كانت قوته الصغيرة البعيدة عنه عاجزة عن حماية المراكز الأمامية المشتتة في أنحاء المملكة. وعلى هذا فإن الدولة في النظام الإقطاعي لم تكن إلا ضيعة الملك.

ومضى هذا التفتيت في الحكم إلى أبعد حد في غالة لأن الأمراء الكارلونجيين أضعفوا قواهم بتقسيم الإمبراطورية، ولأن الأساقفة أخضعوهم لسلطان الكنيسة، ولأن هجمات الشماليين على فرنسا كانت أشد هجمات هؤلاء الأقوام عنفاً. ولم يكن الملك في هذا النظام الإقطاعي الكامل إلا "صاحب المقام الأول بين أنداد"؛ لا يعلوعمن يحملون لقب الأمير، والدوق، والمركيز، والكونت إلا قليلاً، ولكنه كان من الناحية العملية شبيهاً "بأشراف الدول هؤلاء"" فقد كان شريفاً إقطاعياً تقتصر موارده المالية على أربع أراضيه، ويضطر إلى الانتنطق من ضيعة ملكية إلى أخرى ليحصل على طعامه وشرابه، ويعتمد في الحرب والسلم على المعونة العسكرية أوالخدمة الدبلوماسية التي يؤديها له تابعوه الأغنياء، ولم يكن هؤلاء يتعهدون له بأكثر من أربعين يوماً من العمل المسلح جميع عام، وكانوا يقضون نصف وقتهم في الإئتمار به لخلعه. وكان الملك يضطر إلى منح الضيعة في إثر الضيعة لأقوياء الرجال ليكسب بذلك معونتهم أويجزيهم على هذه المعونة، حتى كان ما بقي من الأرض لملوك فرنسا في القرنين العاشر والحادي عشر أقل من حتى يجعل لهم فوق أتباعهم الملاك من السيادة ما يؤمنهم على عرشهم؛ ولما حتى أورث هؤلاء الملاك أبناءهم ضياعهم، وأنشئوا لأنفسهم شرطة ومحاكم، وسكوا باسمهم النقود، لما حتى عملوا هذا لم يجد الملك لديه من القوة ما يمنعهم عمله من عمله، ولم يكن في وسعه حتى يتدخل في اختصاصات أتباعه القضائية في أملاكهم إلا في قضايا الإعدام التي تستأنف له، ولم يكن من حقه حتى يرسل موظفيه أوجباته إلى أملاكهم، أويمنعهم حتى يعقدوا المعاهدات المستقلة، أويشنوا الحروب من تلقاء أنفسهم. نعم إذا ملك فرنسا كان من الناحية النظرية يمتلك جميع أراضي الملاك الذين يلقبونه سيدهم، ولكنه لم يكن في واقع الأمر إلا مالكاً من كبار الملاك، ولم يكن حتماً أكبرهم، ولم تكن أملاكه في يوم من الأيام أكبر من أملاك الكنيسة.

وكما حتى عجز الملوك عن حماية ممالكهم كان سبباً في نشأة نظام الإقطاع، كذلك كان أعجز أمراء الإقطاع عن حفظ النظام فيما بينهم أوإقامة الحكومة الموحدة التي يتطلبها النظام الاقتصادي التجاري، كان هذا العجز سبباً في إضعاف السادة الإقطاعيين وتقوية الملوك، وكان تحمس الأشراف في المنازعات الحربية في أوربا الإقطاعية يلق بهم في غمار الحروب الخاصة والعامة حتى امتصت دماءهم الحروب الصليبية، وحرب الأعوام المائة، وحروب الوردتين، والحروب الدينية التي اختتمت بها هذه الحروب، ومنهم من افتقروا وخرجوا على القانون فصاروا أشرافاً من قطاع الطرق ينهبون ويقتلون كما يشاءون؛ وتطلبت المساوئ التي نشأت من الإفراط في الحرية سلطة موحدة تحفظ النظام في ميع أنحاء المملكة؛ وأوجدت التجارة والصناعة في خارج نطاق الرابطة الإقطاعية طبقة غنية متزايدة العدد؛ ولم يكن التجار راضين عن الضرائب الإقطاعية، وأخطار النقل داخل الممتلكات الإقطاعية، وأخذوا يطالبون بأن تحل حكومة مركزية محل القوانين الخاصة. وتحالف الملك مع هذه الطبقة ومع المدن الآخذة في النماء فأخذت هذه وتلك تمده بما يحتاجه من المال لتأييد سلطانه وتوسيعه؛ وأخذ جميع من يحس بالظلم أوالأذى من الأعيان يتطلع إلى الملك لينقذه ويرد الأذى عنه. وكان كبار الملاك من بين رجال الكنيسة أتباعاً للملك عادة وأوفياء له، كذلك كان البابوات يجدون حتى اتصالهم بالملك أيسر من اتصالهم بالأشراف المتفرقين الذين لا يستمسكون جميع الاستمساك بالقانون، ولم يمنعهم من هذا الاتصال كثرة ما كان يحدث بينهم وبين الملوك من نزاع. واستطاع ملوك فرنسا وإنجلترا تؤيدهم هذه القوى المتنوعة حتى يجعلوا سلطتهم وراثية بعد حتى كانت بالانتخاب؛ وكانت وسيلتهم إلى هذا حتى يتوج الواحد منهم ابناً أوأخاً له قبل وفاته، وارتضى الناس هذه الملكية الوراثية بديلاً من فوضى الإقطاع؛ كذلك كان تحسين سبل الاتصال وازدياد تداول النقد مما جعل فرض الضرائب المنتظمة مستطاعاً، وأمكن الملك بفضل موارده المتزايدة حتى يحصل على ما يلزمه من المال لتقوية جيشه وزيادة عدده؛ وانضمت طبقة رجال القانون الناشئة إلى العرش وقوته بفضل ما في القانون الروماني الذي عاد إلى الحياة من نزعة نحوالمركزية؛ فلم يحل عام 1250 حتى أيد فهماء القانون حق الملك في حتى يبسط سلطانه القضائي على جميع من في مملكته، وحتى كان جميع الفرنسيين يقسمون يمين الولاء لمليكهم لا لسيدهم الإقطاعي. وبهذا كان لفليب الجميل في آخر القرن الثالث عشر من القوة ما أمكنه من إخضاع أشراف بلاده، بل وإخضاع البابوية نفسها، لسلطانه.

وخفف ملوك فرنسا على أشراف بلادهم مرارة هذا الانتنطق بمنحهم ألقاباً وامتيازات في بلاطهم تعوضهم عن حقهم الخاص في سك النقود، وإصدار الأحكام القضائية، وشن الحروب؛ فكان كبار أتباعه يؤلفون حاشية الملك Curia regis، وأصبحوا بذلك رجال بلاط لا أصحاب صولة، واستحالت مراسم قصور الأعيان شيئاً فشيئاً إلى خدمات رسمية يقومون بها في مجالس الملك، وحول مائدته، وفي غرفة نومه. وكان أبناء الأعيان وبناتهم يرسلون إلى قصر الملك ليخدموه أوليخدموا الملكية بأنقد يكونوا خدماً خصوصيين أووصيفات، وليتفهموا آداب البلاط، وبذلك أصبح قصر الملك مدرسة لأبناء الأشراف وكانت خاتمة الحفلات وأعظمها هي حفلة تتويج ملك فرنسا في ريمس أوإمبراطور ألمانيا في آخن أوفرانكفورت، ففي هذه الحالات كان صفوة الأعيان من جميع البلاد يجتمعون في أثوابهم وعدتهم الفخمة الرهيبة، وكانت الكنيسة تستخدم جميع ما في شعائرها من خلفاء وجلال لإحاطة تتويج الحاكم الجديد بجميع مظاهر المجد والجلال، وبهذا أضحت سلطة الملك سلطة إلهية، لا يستطيع أحد حتى يعارضها وإلا عد خارجاً صراحة على الدين. وأقبل الملاك الإقطاعيون على بلاط الملك الذي أخضعهم لسلطانه، وأسبغت الكنيسة حقاً إلهياً على الملوك الذين حطموا زعامتها وسلطانها في أوربا بعد ذلك الوقت.

تاريخ النشر: 2020-06-04 16:24:28
التصنيفات: إقطاع, العصور الوسطى

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

ضابطة في الجيش البريطاني تُكملُ رحلة استكشافية منفردة إلى ال

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:29:50
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 65%

برلمانية فرنسية تدعو لتنشيط العلاقات التجارية مع ليبيا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:30:03
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 65%

لبنانية تعرض عباءة لحسن نصر الله بمليوني دولار.. ما القصة؟

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:30:08
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 50%

البابا فرانسيس: اختيار الحيوانات بدلا من الأطفال أنانية

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:29:19
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 55%

آيات الرفاعي: جريمة قتل تهز الشارع العربي وتجدد المطالب بوقف

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:29:29
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 53%

ارتفاع العجز التجاري الأمريكي خلال نوفمبر الماضي

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:29:24
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 55%

اجتماع نقابي للأطر العليا المجازة المعطلة بالمغرب - فاس نيوز ميديا

المصدر: فاس نيوز - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:30:52
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 63%

طفل عمره 4 أعوام.. آخر ضحايا العنف بالمجتمع الفلسطيني داخل ا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:29:54
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 70%

"بينها تشغيل الفيديو في الخلفية".. "تيك توك" تعمل على التوسع

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:29:58
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 51%

لأول مرة في تاريخ الإمارات.. دوام عمل رسمي غدا الجمعة

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:29:10
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 58%

زعيم مافيا هارب منذ 20 عاما يسقط في قبضة الشرطة والسبب خرائط

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:29:35
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 67%

تسجيل 11 وفاة و6050 إصابة بفيروس (كوفيد-19) خلال الـ24 ساعة الماضية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:32:18
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 55%

ألمانيا.. ارتفاع معدل التضخم إلى أعلى مستوى له منذ 1993

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:29:14
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 51%

علماء في حدائق كيو الملكية البريطانية يطلقون اسم "ديكابريو"

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:29:43
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 50%

حقائق يجب أن تعرفها عن متحور كورونا "الفرنسي" الجديد!

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:29:05
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 62%

عيد ميلاد المسيح: لماذا يُحتفل به في تواريخ مختلفة؟

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:29:39
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 59%

تسجيل 11 وفاة و6050 إصابة بفيروس (كوفيد-19) خلال الـ24 ساعة الماضية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:32:25
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 68%

عاجل.. حنبعل المجبري يلتحق بركب المصابين بفيروس كورونا

المصدر: تونس الرقمية - تونس التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-01-06 18:33:16
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 62%

تحميل تطبيق المنصة العربية