الإمبراطورية الأثينية الثانية

عودة للموسوعة

الإمبراطورية الأثينية الثانية

ولايات الامبراطورية الأثينية الثانية

الإمبراطورية الأثينية الثانية أوالاتحاد الأثيني الثاني كان اتحاداً بحرياً للمدن-الدول الإيجية من 378-355 ق.م. برئاسة أثينا، والغرض الأساسي منه هوالدفاع عن النفس ضد اشتداد عود اسبرطة، وثانياً ضد الامبراطورية الفارسية.

حاولت أثينة للمرة الأخيرة حتى تؤلف الوحدة. واستطاعت بفضل أسوارها الطويلة، وأساطيلها التي جددت بناءها، وماليتها الثابتة الموثوق بها، وما تيسر لها من زمن بعيد من الوسائل المالية والتجارية، استطاعت بفضل هذا كله حتى تستعيد ما كان لها من سيادة تجارية في بحر إيجة. وكانت الدول التي خضعت لها من قبل والدول المتحالفة معها قد فهمتها الحروبُ التي دامت خمسين عاماً كاملة إنها في مسيس الحاجة إلى سلامة أعظم مما تهيئه لها السيادة الفردية، ولهذا اتحدت معظم هذه الدول مرة أخرى في عام 378 بزعامة أثينة، ولم يحل عام 370 حتى كانت هذه المدينة مرة أخرى أقوى الدول سلطاناً في شرق البحر الأبيض المتوسط.

الصناعة والتجارة

وكانت الصناعة والتجارة هما وقتئذ عماد حياتها الاقتصادية. ذلك حتى أرض أتكا لم تكن في يوم من الأيام مما يوائم الزراعة الجماعية. نعم إذا العمل الشاق الطويل قد جعلها أرضاً مثمرة بفضل عناية الأهلين بأشجار التوت وبالكروم؛ ولكن الإسبارطيين كانوا قد دمروا هذه الغروس، وقلما كان من المزارعين من يستطيع الصبر نصف جيل حتى تثمر بساتين الزيتون الجديدة ثمارها. وكان معظم الزراع الذين عاشوا قبل الحروب قد قضوا نحبهم، وكان معظم من بقي من الزُراع قد دب اليأس في نفوسهم فمنعهم حتى يعودوا إلى أملاكهم المخربة فباعوها بأبخس الأثمان لملاك يستغلونها وهم بعيدون عنها، وفي وسعهم حتى يستثمروا أموالهم فيها استثماراً طويل الأجل. وبهذه الطريقة، وبانتزاع ملكية الأراضي الزراعية المثقلة بالدين، انتقلت هذه الأراضي في أتكا إلى أيدي عدد قليل من الأسر كانت تستغل كثيراً من المزارع الواسعة بجهود الأرقاء(10). وأعيد فتح مناجم لوريوم، وأوفد إلى الحفر ضحايا جدد، وتكونت ثروات جديدة من الفضة الغفل ومن الدماء البشرية؛ وعرض أكسانوفون(11) طريق ظريفة تستطيع بها أثينة حتى تملأ خزائنها بالمال، ولا تكلفها أكثر من حتى تشتري مائة ألف من الأرقاء تؤجرهم إلى المقاولين في لاريوم. وأثمرت هذه الطريقة ثمرتها المرجوة فاستخرجت من الفضة مقادير تفوق ما كان ينتج من السلع، فارتفعت الأثمان، أسرع من ازدياد الأجور، وسقط عبء هذا الانقلاب على كاهل الفقراء.

وازدهرت الصناعة وتلقت محاجر بنتلكس ومصانع الفحار في السرمكس طلبات من عالم بحر إيجة كله. وجمع بعضهم ثروات طائلة لشراء منتجات الصناع اليدويين أوالمصانع الصغيرة بأثمان بخسة وبيعها بعدئذ بأغلى الأثمان في الأسواق المحلية أوالخارجية. وسرعان ما تضاعف عدد المصارف المالية في أثينة تبعاً لنموالتجارة وتجمع الثروة النقدية بدل الثروة العقارية. وتلقت هذه المصارف كثيراً من النقود أوالذخائر القيمة لحفظها لديها، ولكن يلوح أنها لم تكن تؤدي فوائد من هذه الودائع. وسرعان ما عثر أصحاب المصارف حتى هذه الودائع لا تسترد كلها في وقت واحد في الظروف العادية، فشرعوا يقرضون المال بفوائد عالية، واقتصروا في بادئ الأمر على إقراض المال دون الاشتغال بوسائل الائتمان الأخرى، فكانت تضمن عملاءها، وتحصل لهم مطلوباتهم، وتقرض النقود بضمان العقاري أوالنفائس، وتمد السفن التي تنقل البضائع بحاجتها من المال. وكان في وسع التاجر، بفضل هذه المصارف وأكثر من هذا بفضل القروض التي يقدمها الأفراد مجازفة منهم ومضاربة لجني الأرباح الطائلة، حتى يستأجر سفينة ينقل عليها بضاعته إلى إحدى الأسواق الأجنبية، ويشتري منها بدل هذه البضاعة شحنة أخرى، إذا وصلت إلى بيرية بقيت فيها ملكاً لأصحاب الديون حتى يستردوا ديونهم(12). ولما تصرم بعض القرن الرابع نشأ نظام من نظم الائتمان الحقيقي: فشرع أصحاب المصارف يصدرون خطابات الاعتماد، والأذون المالية، والتحاويل المصرفية بدل حتى يقدموا النقود؛ وبهذه الطريق أصبحت الثروة تنتقل من عميل إلى عميل بتدوينها في سجلات المصارف لا غير(13). وكان رجال الأعمال أوأصحاب المصارف يصدرون السندات للحصول على القروض التجارية، حتى صارت هذه السندات جزءاً كبيراً من جميع شركة. وكان لبعضهم - كالمعتوق باسيون مثلاً - صلات مالية متشعبة، واشتهروا بين الناس بأمانتهم ونزاهتهم فوثقوا بهم، وكانت سنداتهم موضع الثقة في جميع بلاد اليونان. وكان لمصرف باسيون Pasion أقسام متعددة يعمل فيها عدد كبير من الموظفين معظمهم من الأرقاء، ويحتفظ بطائفة كبيرة من السجلات المتنوعة الأنواع تدون فيها جميع عملية مالية بعناية فائقة جعلت في المحاكم أدلة لا يقبل الطعن فيها. ولم يكن إفلاس المصارف أمراً غير مألوف، ويحدثنا المؤرخون عما كان يحدث من "ذعر" مالي يغلق فيه مصرف بعد مصرف أبوابه(14). وكانت توجه أحياناً إلى المصارف، ومنها أعظمها نفوذاً، تهم خطيرة لسوء استعمال ما آل إليها من سلطان، وكان الناس ينظرون إلى رجال المصارف نظرة يجتمع فيها من الحسد والإعجاب، والكراهية مثل ما يجتمع في نظرة الفقراء إلى الأغنياء في جميع العصور(15).

وأنتج تبدل الثروة من عقارية إلى منقولة كفاحاً شديداً للحصول على المال، وكان لا بد للغة اليونانية من حتى تخترع لفظاً تعبر به عن هذه الشهوة الجامحة للحصول على "أكثر فأكثر" من المال، فأطلقت عليه لفظ "بليونكسيا Pleonexia" ولفظاً آخراً يعبر عن الانهماك في طلب الثراء "كرماتستيكي Chrematistike". وأخذت السلع والخدمات من ذلك الوقت تقدر قيمتها بالمال، بل إذا الناس أنفسهم أصبحوا يقدرون به وبما يمتلكون منه، وأصبحت الثروات تتكون ثم تزول بسرعة لا عهد للناس بها، وتنفق في مظاهر من البذخ لوشهدتها أثينة في عصر بركليز لارتاعت واهتزت منها مشاعرها. فأخذ "الأثرياء المحدثون" (وكان لهم عند اليونان اسم خاص هونيوبلوتوي Neoplutoi) يشيدون البيوت الكثيرة الزخرف، ويزينون نساءهم بالملابس والجواهر الغالية ويفسدونهن بكثرة الخدم، وأصبح تقديم أغلى أصناف المأكل والمشرب للضيوف دون غيرها من المأكولات والمشروبات هوالقاعدة المقررة المألوفة(16).


الثراء والفقر

وانتشر الفقر وسط هذه الثروة الطائلة، ذلك بأن حرية التبادل وأنواعه المتنوعة اللتين أمكنتا مهرة الناس من جمع المال جعلتا السذج منهم يفقدونه أسرع مما كانوا يفقدونه من قبل، فكان الفقراء في نظام الاقتصاد التجاري الجديد أفقر نسبياً مما كان في أيام استرقاقهم في أملاك إقطاعيين؛ فكان الفلاحون في الريف يكدحون ليحصلوا بكدحهم وعرقهم على قليل من الزيت أوالخمر؛ وفي الحواضر ظلت أجور العمال الأحرار منخفضة المستوى بسبب منافسة الأرقاء؛ وكان مئات من المواطنين يعتمدون في معيشتهم على الأجور التي ينالونها نظير حضور جلسات الجمعية أوالمحاكم؛ ولم يكن آلاف من الناس يجدون طعاماً إلا ما تقدمه لهم المعابد أوالدولة، ولا يملكون شيئاً. وفي عام 431 بلغ عدد من لا يملكون شيئاً قط من الناخبين (دع عنك عدد السكان بوجه عام) خمسة وأربعين في المائة من مجموعهم الكلي، فلما حلت سنة 335 ارتفعت هذه النسبة إلى سبعة وخمسين في المائة(17). وفقدت الطبقات الوسطى، التي كانت لكثرة عددها وسلطانها تحفظ التوازن بين الأشراف والعامة، جزءاً كبيراً من ثروتها، ولم يعد في وسعها حتى تتوسط بين الأغنياء والفقراء، بين المتحفظين الشديدي العناد والخياليين المتطرفين، وبذلك انقسم المجتمع الأثيني إلى "مدينتي" أفلاطون-"إحداهما مدينة الفقراء والأخرى مدينة الأغنياء، وكلتاهما في حرب مع الأخرى"(18). وأخذ الفقراء يضعون الخطط لسلب مال الأغنياء بالتشريع أوبالثورة، كما أخذ الأغنياء ينظمون أنفسهم جماعات لاتقاء شر الفقراء. ويقول أرسطاطاليس إذا المنتمين إلى بعض النوادي الألجركية كان جميع منهم يقسم بأن "أكون عدوالشعب" (أي العامة) "وأن أوذيهم في المجلس بكل ما أستطيع من الأذى"(19) وقد خط إسقراط حوالي عام 366 يقول: "لقد أصبح الأغنياء ينفرون من سائر الطبقات الأخرى نفوراً يفضلون معه حتى يلقوا بثروتهم في البحر عن حتى يعينوا بشيء منها المحتاجين، على حين حتى الرقيقي الحال يسرهم حتى ينتهبوا أموال الأغنياء أكثر مما يسرهم العثور على كنز ثمين"(20).

وانحاز عدد متزايد من أفراد الطبقات المتفهمة إلى جانب الفقراء(21). ذلك بأنهم كانوا يحتقرون التجار ورجال المصارف لما بدا لهم من حتى ثروتهم تتناسب تناسباً عكسياً مع ثقافتهم وأذواقهم. وحتى الأغنياء من هؤلاء الفهماء أخذت تدور بخلدهم أفكار شيوعية. وكان بركليز قد اتخذ من الاستعمار صمام أمان ليقلل به حدة النزاع بين الطبقات(22)؛ ولكن ديونيشيوس كان يسيطر على الغرب، ومقدونية كانت تمد أملاكها في الشمال، فأخذت الصعاب تزداد في سبيل فتح أثينة بلاداً جديدة والاستقرار فيها. واستحوذ الفقراء في آخر الأمر على جميع السلطة في الجمعية وشرعوا يقررون مصادرة أموال الأغنياء ويحولونها إلى خزائن الدولة، لتوزعها من حديث على المحتاجين والناخبين عن طريق المشروعات الحكومية والأجور(23). وأخذ رجال السياسة يبذلون جميع ما في وسعهم من جهد ويستخدمون جميع ما وهبوا من ذكاء ليكشفوا عن موارد جديدة لزيادة إيراد الدولة، فضاعفوا الضرائب غير المقررة، والضرائب الجمركية على الواردات والصادرات، وضريبة الواحد في المائة على نقل الملكية العقارية، وظلوا في وقت السلم يجبون الضرائب غير الاعتيادية التي قررت زمن الحرب، وأخذوا يطالبون بالتبرعات "الاختيارية"، وفرضوا على الأغنياء "فروضاً" أو"خدمات" جديدة متزايدة لتمويل المشروعات العامة من أموالهم الخاصة. وكانوا يلجأون بين الفينة والفينة إلى مصادرة الأموال ونزع الملكيات، ووسعوا نطاق ضريبة الإيراد حتى ضمت مستويات من الثروة أدنى مما كانت تضمها من قبل(24).

وكان في وسع جميع من يلقى عليه عبء إحدى الخدمات العامة حتى يستعين بالقانون لكي يرغم غيره على أدائها، إذا استطاع حتى يثبت حتى لهذا الممول الثاني أكثر منه ثروة، وأنه لم تفرض عليه خدمة ما في خلال سنتين. وعملوا على تسهيل جمع الإيرادات بتقسيم دافعي الضرائب إلى مائة جماعة من الشركاء. فكان يطلب إلى أغنى الأعضاء في جميع جماعة حتى يؤدوا في بداية جميع سنة ضرائبية جميع الضريبة المفروضة على هذه الجماعة طوال السنة، ثم يهجر لهم بعدئذ حتى يجبوا في خلال السنة ما يخص غيرهم من الأعضاء بما يرونه من الوسائل.

وكانت نتيجة هذه الفروض حتى أخذت هذه الجماعات والأفراد تخفي ثروتها وإيرادها إخفاءً تاماً، وانتشر التهرب من الضرائب بين الناس جميعاً، وتفننوا في أساليبه تفنن الدولة في فرضها وجبايتها. وفي عام 355 عين أندروتيون Androtion على رأس فرقة من رجال الشرطة مهمتها البحث عن الإيرادات المخبوءة، وجباية الضرائب المتأخرة، وحبس الذين يفرون من الضرائب، فكانت تكبس البيوت وتصادر الأمتعة، ويلقى الرجال في السجن. ولكن الثروة مع ذلك ظلت تختفي أوتذوب. ونطق إسقراط الشيخ الغني الغاضب في عام 353 يشكومما فرض عليه من خدمات: "لما كنت في صباي، كانت الثروة تعد من الأمور المأمونة التي يعجب بها الناس، حتى كان الواحد منا يتظاهر بأن لديه أكثر مما يملك عملاً...أما الآن فقد أصبح من واجب جميع إنسان حتى يدفع عن نفسه تهمة الغنى، كأن هذا أشنع الجرائم"(25). ولم تكن الكيفية التي اتبعت في غير أثينة لمنع هجريز الثروة تستند إلى القانون كما كانت تستند إليه فيها. من ذلك حتى المدنيين في متليني قتلوا دائنيهم جملة بحجة أنهم جياع، وأن الدمقراطيين في أرغوس (370) انقضوا فاتىة على الأغنياء وقتلوا منهم ألفاً ومائتين، وصادروا أملاكهم، وعقدت الأسر الغنية في غير هذه من الدول التي كان العداء قائماً بينها لغير هذا السبب حلفاً سرياً تعهدت فيه حتى يساعد بعضها بعضاً إذا قامت في إحداها ثورات شعبية. وأخذت الطبقات الوسطى تحذوحذوالطبقات العليا في عدم الثقة بالدمقراطية وترى أنها حسد أتيح له السلطان، كما أخذ الفقراء يفقدون ثقتهم فيها ويرونها مساواة زائفة بين الناخبين تنقصها الفروق الهائلة بين الثروات. وقد هجرت هذه الأحقاد المريرة بين الطبقات بلاد اليونان منقسمة على نفسها داخلياً ودولياً حين انقض عليها فليب، حتى لقد رحب بقدومه كثيرون من الأغنياء في المدن اليونانية، ورأوا أنه لولاه لما كان هناك مفر من اندلاع لهيب الثورة في أرجائها(26).

الأخلاق

وسار الانهيار الخلقي مع ازدياد الترف واستنارة العقل جنباً إلى جنب، واعتزت العامة بخرافاتها واستمسكت بأساطيرها، فقد كانت آلهة الأولمبس تلفظ أنفاسها الأخيرة ولكن آلهة أخرى كانت تولد، فكانت أرباب غريبة مثل إيزيس وأمون، وأتيس، وبندس، وسبيل، وأدنيس تستورد من مصر وآسية؛ وجمع انتشار الأرفية عباداً جدد للديونشس في جميع يوم. ولم يكن للدين التقليدي القديم فائدة تذكر لطبقة الملاك الوسطى النصف الأجنبية الآخذ شأنها في الارتفاع، فلم تكن آلهة المدينة التي ترعاها تنال من هذه الطبقة إلا الاحترام الصوري الرسمي، ولم تعد توحي إلى أفرادها بالمبادئ الخلقية أوالإخلاص للدولة والولاء لها . وكافحت الفلسفة لكي تجد في الولاء السياسي ومبادئ الأخلاق الطبيعية بديلاً من الأوامر الإلهية، أوحتى تتخذ منها رباً يرقب الناس من علٍ، ولكن قل من المواطنين من كان يهمه حتى يعيش عيشة البساطة السقراطية أوعيشة رجل سقراط السامي "ذي العقل العظيم".

ولما فقد دين الدولة سلطانه على الطبقات المتفهمة زاد بالتدريج تحرر الأفراد من القيود الأخلاقية القديمة - فتحرر الابن من سلطان أبويه، وتحرر الذكور من الزواج، وتحررت المرأة من الأمومة، وتحرر المواطن من التبعة السياسية. وما من شك في حتى أرسطوفان قد بالغ في وصفه لهذه التطورات، وإذا كان أفلاطون، وأكسانوفون، وإسقراط كلهم يتفقون معه في رأيه، فإنهم كانوا جميعاً من المحافظين الذين ترتعد فرائصهم من مثال الجيل الناشئ الجديد. وتحسنت أخلاق الناس في الحرب خلال القرن الرابع، واتىت موجة من الإنسانية المستنيرة في أعقاب تعاليم يوربديز وسقراط والمثل الذي ضربه للناس أجسلوس(27). ولكن الآداب والجنسية السياسية ظلت سائرة في طريق الانهيار، وزاد عدد العزاب والسراري وأصبحت الصلات بين هؤلاء وأولئك هي الطراز الحديث الذي يهواه الناس، كما حتى الاتصال الحر بين الرجال والنساء أصبحت له الغلبة على الزواج الشرعي(28). انظر مثلاً إلى هذا السؤال الذي يسأله أحد الأشخاص في مسلاة ألفت في القرن الرابع: "أليست الحظية مرغوباً فيها أكثر من الزوجة،يا ترى؟ ولم لا،يا ترى؟ إذا إحداهما في جانبها القانون الذي يرغمنا على الاحتفاظ بها، مهما نكن كارهين لها، أما الأخرى فهي تفهم حتى من واجبها حتى تتسلط على الرجل بحسن سلوكها، وإلا فإن عليها حتى تبحث لها عن رجل غيره"(29). وعلى هذا النحوعاشر بركستليز ومن بعده هيبريديز Hypereides فريني Phryne، وعاشر أرستبوس لئيس Lais، وعاشر ستلپوStilpo نكاريتي Nikarete، وعاشر ليسياس متانيرا Metaneira، وعاشر إسقراط الصارم لاجسكيوم Lagiscium(30). وفي ذلك يقول ثيوبمبس مبالغاً في قوله كعادة رجل الأخلاق: "لقد كان الشبان يقضون جميع أوقاتهم بين السراري والقيان، أما الذين هم أكبر من هؤلاء قليلاً فكانوا منهمكين في الميسر والفسق، وكان الناس كلهم ينفقون على المآدب العامة والملاهي أكثر مما ينفقونه على الأعمال اللازمة لحفظ كيان الدولة ورعاية مصالحها"(31).

وأصبح تحديد عدد أفراد الأسرة تحديداً اختيارياً هوالطراز العصري في ذلك الوقت؛ وكانوا يصلون إلى هذا الغرض بمنع الحمل، أوالإجهاض، أواغتال الأطفال. ويقول أرسطاطاليس إذا بعض النساء كن يمنعن الحمل بطلاء جزء الرحم الذي يسقط عليه مني الرجل بزيت شجر الأرز، أوبمرهم الرصاص. أوالكندر الممزوج بزيت الزيتون . وكانت الأسر القديمة سائرة في طريق الانقراض فلم تكن توجد، على حد قول إسقراط، إلا في قبورها؛ وأخذت الطبقات الدنيا يتضاعف عدد أفرادها، أما طبقة المواطنين في أتكا فقد نقص عددها من 000ر43 في عام 431 إلى 000ر22 في عام 400 وإلى 000ر21 في عام 313(33). ويقابل هذا نقص في عدد المواطنين الذين كانوا يجندون للخدمة العسكرية؛ ويرجع بعض هذا النقص إلى مذابح الحرب، وبعضه إلى قلة من لهم في الدولة أملاك يتحتم عليهم الدفاع عنها، وبعضه إلى رغبة الناس عن الخدمة العسكرية. ذلك حتى حياة الدعة والانصراف إلى العناية بالشئون المنزلية، والانهماك في الأعمال التجارية والصناعية، وطلب الفهم، جميع ذلك قد حل محل حياة الرياضة البدنية، والتربية العسكرية، والعناية بالشئون العامة، وهي الحياة التي كان يألفها الناس في عهد بركليز(34). فأما الرياضة فقد أصبحت حرفة، وصار المواطنون الذين كانوا في القرن السادس يملأون مدارس التدريب الرياضية يقنعون الآن بأن يجهد غيرهم أنفسهم بالنيابة عنهم، وحسبهم هم حتى يشاهدوا استعراض المحترفين. وكان بعض الشبان يتلقون بعض الدروس في فن الحرب، ولكن الكبار كانوا يجدون عشرات من الطرق للهرب من الخدمة العسكرية. وأضحت الحرب نفسها مهنة بسبب ما ولج عليها من التعقيدات الفنية، بحاجة إلى رجال مدربين لها تدريباً خاصاً يستغرق وقتهم كله؛ وكان لا بد من استبدال الجنود المرتزقة بالمحاربين المواطنين، وكان هذا نذيراً بأن زعامة بلاد اليونان لن تلبث حتى تنتقل من رجال السياسة إلى رجال الحرب. وبينما كان أفلاطون يتحدث عن الملوك الفلاسفة، كان الملوك العسكريون ينشئون تحت سمعه وبصره. وكان مرتزقة اليونان يبيعون أنفسهم إلى القواد سواء كانوا من اليونان أو"البرابرة" بلا تفريق بين هؤلاء وأولئك؛ ولقد حاربوا في الجيوش التي غزت بلاد اليونان بقدر ما حاربوا دفاعاً عنها، وشاهد ذلك حتى الجيوش الفارسية التي قابلها الإسكندر كانت ملأى باليونان؛ فلم يكن الجنود وقتئذ يسفكون دماءهم دفاعاً عن بلادهم، بل كانوا يسفكونها في سبيل من يؤدي لهم أكبر الأجور.

وظل الفساد السياسي والاضطراب اللذان أعقبا موت بركليز سائرين في طريقهما خلال القرن الرابع، إذا استثنينا من ذلك حكم يكلديز الطاهر النزيه (403)، وإدارة ليقورغ المالية (338-326). فالرشوة مثلاً كان يعاقب عليها، حسب نص القانون، بالإعدام؛ لكن إسقراط يقول إذا المرتشي كان يجزى على ارتشائه بالترقي في المناصب العسكرية والسياسية. ولم يجد الفرس أية صعوبة في إرشاء ساسة اليونان وحملهم على حتى يشنوا الحرب على الدول اليونانية أوعلى مقدونية؛ وحتى دمستين نفسه أصبح في آخر الأمر مرآة تنعكس عليها أخلاق أهل زمانه. لقد كان من أنبل الأفراد في جماعة من أحط الجماعات في أثينة - أعني جماعة الخطباء المأجورين الذين صاروا في ذلك القرن محامين وساسة محترفين. ومن هؤلاء الناس من كانوا مثل ليقورغ شرفاء معقولين، ومنهم من كانوا مثل هيبريديز ذوي شهامة ومروءة، ومنهم من لمقد يكونوا خيراً مما وجب عليهم حتىقد يكونوه؛ وإذا جاز لنا حتى نصدق ما يقوله عنهم أرسطاطاليس فقد كان منهم من تخصص في إبطال نصوص الوصايا(36). وجمع الكثيرون منهم ثروات طائلة بانتهاز الفرص السياسية وبالتهريج والخطابة في الجماهير.

وانقسم الخطباء المأجورون أحزاباً، ومزقوا الهواء بحملاتهم. ونظم جميع حزب لنفسه لجاناً، ووضع له حدثات سر، وعين له وكلاء، وجمع له مالاً. وكان الذين يؤدون نفقات هذه الأعمال كلها يعترفون صراحة بأنهم "سيستردونها ضعفين"(37).

وكانت الروح الوطنية تضعف حدثا زادت السياسة قوة، واستنفذت مرارة الانقسام جميع الجهود العامة والوفاء للوطن، فلم تهجر للمدينة من هذه الجهود وذلك الإخلاص إلا القليل الذي لا يغني، وكان دستور كليستنيز، والنزعة الفردية التي أثارتها التجارة والفلسفة، قد زعزعا كيان الأسرة، وحررا الفرد؛ وكأنما أراد الفرد الحر وقتئذ حتى يثأر للأسرة مما أصابها من انحلال فهوى بمعوله على الدولة يقوض أركانها.

وأراد الديمقراطيون المنتصرون في عام 400 ق. م أوحواليه حتى يضمنوا حضور المواطنين الفقراء في الإكليزيا، وأن يمنعوا بذلك ذوي الأملاك حتى تكون لهم السيطرة عليها، فجعلوا حضور الجمعية هوالآخر عملاً من الأعمال التي يؤجر الناس عليها. وكان جميع مواطن في بادئ الأمر يؤجر على حضور الجلسة أبلة (17slash100 من الريال الأمريكي)، ولما زادت نفقات المعيشة زيد هذا الأجر إلى أبلتين، ثم إلى ثلاث أبلات، وظل يزداد حتى كان في زمن أرسطاطاليس درخمة (أي ريالاً أمريكياً) عن اليوم الواحد(38). ولقد كان هذا في حد ذاته تدبيراً معقولاً لا غبار عليه، لأن المواطن العادي كان يكسب في أواخر القرن الرابع درخمة في جميع يوم؛ ولم يكن ينتظر منه حتى يهجر عمله دون حتى يعوض عن هجره. وما لبثت هذه الخطة حتى جعلت للفقراء الأغلبية في الجمعية، ويئس الأغنياء من الفوز فيها، فزاد إعراضهم عنها تدريجاً، وامتنعوا عن حضور جلساتها. وعدل الدستور في عام 403 وقصر حق التشريع على هيئة مكونة من خمسة مشترعين Nomothetai يُختارون من بين المواطنين الذين انتخبوا بالقرعة ليكونوا قضاة، ولكن هذا التعديل لم تكن له أقل فائدة في الحد من طغيان الطبقات الدنيا. ذلك حتى هذه الهيئة الجديدة هي الأخرى إلى جانب العامة، وكان تدخلها سبباً في إضعاف هيئة المجلس الذي هوأكثر محافظة من الجمعية والانتقاص من سلطانه. ويبدوحتى مستوى الذكاء في الجمعية قد نقص في القرن الرابع، ولعل منشأ هذا النقص هوأداء الأجور على حضور جلسات الجمعية. نقول هذا ببعض التحفظ لأن الذين نعتمد عليهم في هذا القول هم الرجعيون المتحيزون أمثال أرسطوفان وأفلاطون(39). ويقول إسقراط إذا أعداء أثينة هم الذين يجب عليهم حتى يؤدوا الأجور لحضور جلسات الجمعية حتى يكثر اجتماعها، وذلك لكثرة ما ترتكبه من الأغلاط(40) في أعمالها.


صعود طيبة

تدخل اسبرطة وغزوها طيبة في 382 ق.م. منح الأخيرة سبباً بالغ الوجاهة للانضمام للعصبة. إلا حتى سلوكها داخل العصبة أصبح صعباً وبدأت أثينا تدرك حتى طيبة لا يمكن بالضرورة الوثوق بها. عملى سبيل المثال، فقد دمرت طيبة پلاتايا في 372 ق.م.، التي كانت قد أعيد تأسيسها للتو. فبدأت اثينا في التفكير في التفاوض على سلام مع اسبرطة؛ وبينما كانت أثينا تفاوض اسبرطة قامت طيبة بهزيمة ساحقة للجيش الاسبرطي في معركة لوكترا (371 ق.م.).

انهيار الامبراطورية

وخسرت أثينة بسبب هذه الأغلاط إمبراطوريتها وحريتها جميعاً. ذلك حتى الحرص الشديد على المال والسلطان الذي قوض أركان الحلف الأول قد دك وقتئذ قواعد الحلف الثاني أيضاً، فقد شعرت أثينة بعد سقوط إسبرطة في لكترا حتى في وسعها الآن حتى توسع أملاكها، وكانت وهي تنظم إمبراطوريتها الجديدة قد بترت على نفسها عهداً ألا تسمح للرعايا الأثينيين بامتلاك أرضين خارج حدود أتيكا. ولكنها بعد حتى فتحت ساموس، والكرسنيز التراقية، ومدائن بدنا، وبوتيدبا، وميتوني على سواحل مقدونية وتراقية استعمرتها على أيدي المواطنين الأثينيين. واحتجت على ذلك الدول المتحالفة معها وانسحب الكثير منها من الحلف. واستخدمت أثينة وسائل القسر والعقاب التي استخدمتها من قبل في القرن الخامس، ولكنها لم تجنِ من ورائها فائدة في هذه المرة كما لم تجن منها فائدة في المرة السابقة. وكانت النتيجة حتى أعربت طشيوز، وكوس، ورودس، وبيزنطية في عام 357 "حرب" عصيان "اجتماعية". ولما حتى رفض تموثيوس Timotheus وأفكراتيز، وهما قائدان من أعظم القواد الأثينيين كفاية، حتى يهاجما الأسطول الثائر في الهلسبنت أثناء عاصفة هواتى، اتهمتهم الجمعية بالجبن، وفرضت على تموثيوس غرامة باهظة لا قبل لأحد بأدائها قدرها مائة وزنة (000ر600 دولار أمريكي)، فلم يجد أمامه سبيلاً إلا الفرار من البلاد، وبرئ إفكرتيز ولكنه لم يقم لأثينة بخدمة ما فيما بقي من حياته. وأحبط الثوار جميع ما بذلته من محاولات لإخضاعهم، فاضطرت في عام 355 إلى حتى تسقط صلحاً تعترف فيه باستقلال بلادهم، وأضحت المدينة العظيمة بلا أحلاف، ولا زعماء، ولا مال، ولا أصدقاء.

بعد هزيمة اسبرطة في 371 ق.م. على يد طيبة، فإن البنود الأصلية الموضوعة في the prospectus قد تم تحقيقها، إلا حتى أثينا لم ترد التخلي عن سلطتها على تلك الدول. فقامت سلسلة من الثورات التي انتهت بالحرب الاجتماعية (357-355 ق.م.) وثورات الكثير من كبار حلفاء أثينا مما أدى في النهاية إلى إنهاء الاتحاد.

ولعل عوامل أخرى أدق وأخفى من العوامل السابقة كان لها أثر في إضعاف أثينة. ذلك حتى حياة الفكر تعرض للخطر جميع حضارة تزدان بهذه الحياة. ففي المراحل الأولى من تاريخ الأمة قل حتىقد يكون للتفكير وجود، بل الذي يسود وينتشر هوالعمل، ويكون الناس في هذه المراحل صريحين، محررين من عوامل الكبت جريئين في مشاكساتهم وصلاتهم الجنسية. وحدثا ارتقى مدارج الحضارة وفرضت عليهم العادات، والأنظمة، والشرائع، وقواعد الآداب والأخلاق، قيوداً تزداد على مر الأيام كبتاً للغرائز، حل التفكير محل العمل، والخيال محل الإقدام، والاحتيال محل الصراحة، والخفاء محل التعبير الصادق، والعطف محل القسوة، والشك محل اليقين؛ وزالت الوحدة الأخلاقية التي يشهجر فيها الإنسان البدائي مع الحيوان؛ وأصبح السلوك مجزءاً طابعه التردد، والإدراك، وتقدير العواقب؛ وضعفت الرغبة في القتال، واستحالت ميلاً إلى الجدل الذي لا يقف عند حد. وما أقل الأمم التي استطاعت حتى تصل إلى الرقي العقلي والإحساس القوي بالجمال من غير حتى تضحي في سبيل ذلك بالقدر الكثير من رجولة أبنائها ووحدتهم، فلم تستطيع صد الأقوام الهمج المعدمين الطامعين في ثروتها. فحول جميع رومة يحوم الغاليون، وحول جميع أثينة يحوم المقدونيون.

للاستزادة

  • Cargill, Jack. The Second Athenian League: Empire or Free Alliance? Berkeley: University of California Press, 1981. ISBN 0520040694
  • Rhodes, P. J. A History of the Classical Greek World, 478-323BC. Blackwell Publishing, 2005.
تاريخ النشر: 2020-06-04 17:36:19
التصنيفات: الامبراطورية الأثينية, اليونان الكلاسيكية المتأخرة, التحالفات العسكرية في القرن 4 ق.م.

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

عمال بلدية عنابة يبيتون في العراء ويطالبون برحيله

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-09 15:24:41
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 52%

منسوب المياه يواصل الانخفاض في خزان أوكراني بعد كارثة سد كاف

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-06-09 15:23:02
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 68%

مواجهات بين مواطنين لبنانيين وجنود الاحتلال الإسرائيلي في كف

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-06-09 15:23:17
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 58%

قفزة نوعية.. المملكة المغربية استقبلت عددا قياسيا من السياح في شهر ماي

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-09 15:23:38
مستوى الصحة: 74% الأهمية: 77%

واشنطن وطهران: لا اتفاق حول النووي - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-06-09 15:24:24
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 58%

جمرك الحديثة يُحبط محاولتي تهريب أكثر من 450 ألف حبة كبتاجون السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-06-09 15:24:29
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 61%

الله اكبر عليكم يا كيزان الكيماوي!

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-09 15:23:42
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 50%

ماكرون يزور الأطفال المصابين في المستشفى بعد هجوم بسكين

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-06-09 15:23:12
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 60%

إصابة 3 أشخاص إثر هجوم بمسيرات على مدينة روسية قرب أوكرانيا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-06-09 15:23:07
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 64%

برعاية سعودية أمريكية.. هدنة جديدة في السودان لـ 24 ساعة السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-06-09 15:24:30
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 57%

تحميل تطبيق المنصة العربية