رحلة ماركس إلى الجزائر

عودة للموسوعة

رحلة ماركس إلى الجزائر

ماركس في الجزائر، مارس 1881.
حسين الموزاني

ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا الموضوع

نظرة فيلسوف البروليتاريا العالمية إلى العرب والمسلمين

تعّرض كارل ماركس إلى صدمة نفسية عميقة أواخر عام 1881 إثر الوفاة المفاجئة لزوجته ورفيقة حياته جيني فون فستفالن، مما جعل صحته المتدهورة أصلاً تزداد سوءاً. فقد كان ماركس مصاباً بالتهاب حاد في المجاري التنفسية وتورم في ألياف القفص الصدري، أدّى بدوره إلى تقلّص الرئتين وضيق التنفس وإلى نوبات سعال شديدة (كان ماركس مدخناً شرهاً ومصاباً بأمراض جلدية مزمنة تمنعه دائماً تقريباً من الاغتسال.) وبات يخشى من زحف الالتهاب الصدري إلى دماغه، فقرر بناءً على نصائح الأطباء وصديقه فريدريش إنجلز وأفراد أسرته حتى يمضي فصل الشتاء في مدينة الجزائر، ليواصل علاجه هناك، مستفيداً من اعتدال المناخ. فغادر ماركس مكان إقامته لندن في التاسع من شباط 1881 متوجهاً إلى باريس، ليودّع ابنته الكبرى المسماة جيني أيضاً، ويتابع رحلته إلى مرسيليا ومن ثمّ إلى الجزائر المدينة التي وصلها بحراً في العشرين من شباط؛ حيث أمضى فيها إثنين وسبعين يوماً، نزيلاً في أحد الفنادق وتحت رعاية القاضي الفرنسي فرميه الذي كان يرتبط بعلاقة صداقة مع زوج ابنة ماركس، جيني. وكان ماركس قد التقى شخصياً بفرميه عام 1866 أثناء انعقاد مؤتمر الأممية الأولى في جنيف، وقد أبعد فرميه إلى الجزائر بسبب نشاطه المعادي للحكومة الفرنسية آنذاك.

بداية الاهتمام بالعالم العربي

كان فريدريش إنجلز أوّل من لفت انتباه كارل ماركس، الملّقب بالمغربي، Der Mohr نظراً لهيئته الشرقية وقصر ساقيه بالمقارنة مع جذعه، إلى قضية الجزائر وذلك في منطق مطوّل نشره إنجلز عام 1857 في المجلة الأمريكية New American Cyclopedia، إلا أنّ هيئة تحرير المجلة حذفت المقاطع التي كانت تتحدث عن الكفاح التحرري للجزائريين بقيادة الأمير عبد القادر الجزائري، وقد أشار إنجلز إلى هذا الأمر في رسالة إلى ماركس مؤرخة في 22 أيلول 1857. وبعدما وصف إنجلز المسقط الجغرافي للجزائر ومناخها، استعرض تاريخها السياسي، بدءاً من المستوطنات القرطاجية على السواحل الجزائرية إلى فترة الاحتلال النورماندي إثر هزيمة قرطاجة في الحرب البونية عام 201 قبل الميلاد؛ ثمّ تطرّق إنجلز إلى التاريخ العربي الإسلامي فالاحتلال العثماني فالفرنسي ليخلص إلى القول بأنّ “البلد التعيس بات مسرحاً للمجازر الدموية وترويع الآمنين وأعمال القمع الوحشية منذ الاحتلال الفرنسي الأوّل )1830( حتّى يومنا هذا. فتمّ احتلال المدن، الصغيرة والكبيرة منها، بيتاً بيتاً، بعد مقاومة عنيفة وتضحيات جسيمة من قبل السكّان الجزائريين. وقد ذاق العرب والقبائليون الذين يعتبرون قضية التحرر ومحاربة الغزاة الأجانب أثمن من حياتهم نفسها، ذاقوا أصناف القهر والهوان إبّان الحملات التنكيلية التي هدمت ديارهم وأحرقت أملاكهم ومحاصيلهم، وقتلت من بقي حيّاً من السكّان بأشد الوسائل عنفاً ووحشية. ومارس الفرنسيون أثناء قيامهم بهذه الحرب البربرية جميع الأساليب المنافية للقيم الإنسانية والحضارة والتعاليم المسيحية”.

وكان ماركس قد اطلع أيضاً على كتاب صديقه المؤرّخ الروسي كوفاليفسكي Kowalewski عن نظام الملكية المشهجرة وأسباب نشوئها وتطورها والنتائج الاجتماعية والسياسية المترتبة عن انهيارها، الصادر في موسكوعام 1879، والذي يحتوي على فصل تام عن ملكية الأرض ونظام الزراعة في الجزائر. واقتبس ماركس فقرات وافية من هذا الكتاب، ليوظّفها في دراسه كان يزمع وضعها عن “تاريخ الملكية المشهجرة” بعد عودته من الجزائر. وهذه الملكية المشهجرة للأرض هي نمط اقتصادي اجتماعي كان سائداً في الجزائر منذ مئات الأعوام، ويتناقض إلى حدّ ما مع نظرية كارل ماركس عن المراحل الخمس التي مرّت، أوالتي ستمّر بها البشرية بصورة حتمية، وهي المشاعية البدائية، أوالشيوعية الأوّلى، ثم العبودية فالإقطاع فالرأسمالية وأخيراً الاشتراكية.

وقد عهدت الجزائر، حتى في حقبة ما قبل الإسلام، شكلاً من أشكال النظام العائلي، الأبوي بصورة أدقّ، والذي كان معروفاً في بلدان أخرى مثل الهند على سبيل المثال، حيث تنتقل ملكية الأرض ضمن أفراد العائلة الكبيرة أوالقبيلة بالتتابع. فكانت الأرض في الجزائر لا تباع ولا تؤجّر إلا تحت شروط الانتماء القبلي، وكانت حرية التصرّف الفردي بالأرض معدومة تماماً. ويعود هذا النظام في جزء منه إلا المفهوم الإسلامي للملكية، المعروف بالوقف أوالإقطاع. وشبّه كوفاليفسكي الشكل التضامني لملكية الأرض بنظام Allmende الألماني الجماعي أو“مير” Mir الروسي التعاوني.

وقد تحايل الاحتلال الفرنسي على هذا النظام التقليدي بحجة حتى الأراضي المصادرة كانت تابعة أصلاً للحكومة الجزائرية، أي أنها أراض أميرية منزوعة الملكية بسبب انهيار الدولة ودخول ملكيتها في خزينة الدولة الفرنسية مباشرة. فصادر الفرنسيون بأمرة الجنرال برمون 12 سفينة حربية جزائرية و1500 مدفع وما يقرب منعشرة ملايين دولار من العملة المعدنية. وقد عرضت أسهم بيع الأراضي، وبالأخص الزراعية منها، في الجرائد والمطبوعات الناطقة بالفرنسية، ومنح حقّ المضاربة للمستثمرين الفرنسيين، وقد علّق كارل ماركس على هذا الإجراء بأنه “عملية سطوسافرة”.

وعبّر أحد قادة الحكم الفرنسي في الجزائر، كافنيوCavaignacs، والذي ساهم فيما بعد في قمع كومونة باريس، أبلغ تعبير رسميّ عن سياسة الاحتلال الفرنسي حينما نطق إنّ “طريقة خوض الحرب التي نشنها على العرب قد أصابتهم في الصميم. فالعربي مرتبط بالأرض أكثر بكثير مما كنّا نتصوّر. والملكية الريفية للأرض تشكّل الجزء الأعظم من القاعدة الجماعية والتضامنية في الجزائر. وما علينا الآن إلا حتى نحطّم هذه القاعدة”.

وقبل وصول كارل ماركس بزمن طويل كان الجزائريون قد تمرسّوا على المقاومة التحررية بعد لقاءات يومية دامية مع قوات الاحتلال الفرنسي. وتمكن الأمير عبد القادر الجزائري من إقامة حكومة وطنية خالية من نفوذ المستوطنين والأمراء الجزائرين الكبار. وشرّع قوانين اجتماعية اتسمت بالعدل والمساواة، وأعاد توزيع الأراضي على الدوائر والمقطاعات الخاضعة لإدارة السكّان المحليين. واتبع نظاماً لا مركزياً في قيادة الدولة، مما جعل دور الدولة يقتصر على الدفاع والأمور التشريعية ورسم السياسة الخارجية. فدفع هذا التطوّر بالحكومة الفرنسية إلى تعبئة مئة وثمانية آلاف جندي بغية الإطاحة بحكومة عبد القادر الجزائري وتخريب دولته بالكامل. فعقدت لهذه الغاية معاهدة مع المغرب، اشترط فيها عدم تقديم أيّ مساعدة إلى الحكومة الجزائرية المستقلة. وبعد اعتنطق الأمير عبد القادر الجزائري إثر نشاط خياني مبيّت انهارت دولته، وأجهز الفرنسيون على ما بقي منها. بيد حتى جذوة المقاومة لم تنطفئ تماماً، فاتى قادة آخرون، وتلاحقت انتفاضات القبائل العربية والبربرية.


ماركس في الجزائر

كان ماركس ينشد من طبيعة الحال الاستجمام والابتعاد قدر المستطاع عن النشاط السياسي، مثلما نصحه أصدقاؤه، بيد حتى الأحداث كانت تلاحقه إينما حلّ، فقد ضمّت فرنسا تونس إلى جمهوريتها وأحكمت بريطانيا سيطرتها على مصر في هذه الفترة بالذات، فضلاً عن وصول الأسطولين الفرنسي والروسي إلى ميناء الجزائر في مهمات استطلاعية. وكان ماركس مبهوراً عملاً بالتقنيات الحربية لهكذا أساطيل، وقام بزيارة إحدى البارجات الفرنسية وتحدّث إلى بحّارتها. بيد حتى حالته الصحيّة لم تسمح بعد بمراجعة الطبعة الثالثة من كتابه رأس المال والتي وعد ناشره بإعدادها إثناء إقامته في الجزائر.

لم يطرأ في الواقع تحسّن واضح على صحّة كارل ماركس، فكان يمضي معظم وقته في القراءة أوفي التجوال عبر حدائق المدينة وأسواقها، بحثاً عن الهدايا التي سيقدمها إلى أفراد أسرته وصديقه إنجلز الذي اقتنى له خنجراً عربياً.

ولكن ما يهمنا في هذا السياق هوالحدث المأساوي الذي سقط أثناء وجود ماركس في الجزائر والذي تابعه عن كثب عبر الصحف المحلية مثل صحيفة “أخبار” الممولة من قبل السلطة الفرنسية و”مونيتور” و”بيتي كولون” وغيرها وكذلك عن طريق صديقه فرميه، وذكر ماركس هذا الحدث عدة مرّات في رسائلة الستة عشرة التي بعث بها من الجزائر.

ففي مطلع عام 1880 وضعت السلطة الفرنسية خطّة لإخضاع المناطق الصحراوية الجنوبية. فتصدى لها الجزائرون بقوّة، بل اندلعت ثورة جديدة بقيادة سيدي بوعمامة الذي أظهر شجاعة نادرة وموهبة فذّة في خوض حرب العصابات، حتىّ حتى الثوار أطلقوا عليه لقب “عبد القادر الثاني”. وخطت إحدى الصحف الفرنسية، Debats ، تقول آنذاك: “إنّ أحداً لم يجرؤ قبل بوعمامة على أسر ثلاثمئة محارب فرنسي في ضربة واحدة والاستيلاء على ألفّ عربة محملّة بالقمح، وذلك كلّه أمام أنظار السلطات الحاكمة”. إلا أنّ القوّات الفرنسية تمكنت من تدبير مكيدة، فأسقطت بهذا الثائر واعتقلته في التاسع من نيسان عام 1882 بعد حتى تعهدت له بالأمان، لكنها نكثت العهد، وقررت إعدامه. وحين طالب بوعمامة بأن ينفّذ قرار الحكم رمياً بالرصاص بدلاً من المقصلة، لأن بتر رأس المسلم البريء محرّم في الإسلام، رفضت السلطات الفرنسية طلبه، وأصرّت على إعدامه بالمقصلة مثلما يقضي قانون العقوبات الفرنسي آنذاك.

وأشار كارل ماركس إلى هذه الواقعة بشكل غير مباشر وذلك في رسالة إلى ابنته لاورا في 13 نيسان 1882، وهي رسالة طويلة ومعقدة خطها ماركس بثلاث لغات في آن واحد، وهي الألمانية والفرنسية والإنجليزية، إضافة إلى بعض المفردات اللاتينية. فخط ماركس يصف الجزائريين: “كان هناك ثلّة من المغاربة يجلسون حول طاولة متهالكة ويحتسون القهوة، وكان كلّ واحد منهم يحمل أبريقاً من القهوة، وكانوا يلعبون الورق) وهذا هوالفوز الوحيد الذي سجلته الحضارة ضدهم(. فبدا المشهد مثيراً للغاية، إذ أنّ البعض من هؤلاء المغاربة كان حسن الهندام، بل فاخر الملبس، والبعض الآخر كان يرتدي بلوزة إذا ما عنّ لي هنا إطلاق تسمية كهذه، بلوزة لها مظهر الصوف الأبيض، فباتت الآن مهلهلة ممزقة – لكن من وجهة نظر المسلم الحقيقي فإن حالات السعادة والتعاسة لا تفرّق بين أبناء محمّد. وهذه أمور لن تؤثّر على تعاملهم مع بعضهم البعض، بأسلوب قائم على المساواة المطلقة، بل على العكس من ذلك. غير أنهم في حالة تعرّضهم إلى الإهانة سرعان ما يشعرون بالكراهية ضد المسيحيين، وكذلك بالأمل في النصر على الكفّار. إلى غير ذلك ينظر ساستهم وبحقّ إلى هذا الشعور وإلى تطبيق المساواة المطلقة)ليس في الثراء أوالدرجة الاجتماعية، بل بالمساواة الشخصية، باعتبارها ضمانة للحفاظ على هذا الشعور من ناحية وعدم التخليّ عن الشعور بالمساواة من ناحية أخرى(. ومع ذلك فليمضىوا إلى الشيطان طالما لم تكن لهم حركة ثورية”.

ونجد، في موضع آخر، وصفاً تفصيلياً لحادثة إعدام بوعمامة في رسالة بعث بها ماركس إلى إنجلز مؤرخّة في 18 نيسان 1882 اتى فيها: “يجب حتى أذكر لك هنا مقلباً دبرته السلطة الفرنسية ضد لصّ مسكين وقاتل محترف من العرب. ففي اللحظة الأخيرة التي يسميها اللندنيون الخبثاء لحظة الانطلاق نحوالأبدية، اكتشف بأنه يفترض أن لا يعدم رمياً بالرصاص، وإنما سيبتر رأسه بالمقصلة! نقضاً للتعهّد! فقطوا رأسه رغم التعهّد المسبق. ولم ينته الأمر عند هذا الحدّ: فقد كان أهله ينتظرون من الفرنسيين إعادة رأس القتيل، مثلما كان مألوفاً بعد الصلب، لكي يخيط الأهل الرأس على الجذع ثانية، فيتسنى لهم دفنه بجسد كامل. لكن الفرنسيين لم يحققوا رغبتهم، فصار الأهل يبكون ويقذفون بالشتائم، ثم ثارت ثائرتهم تماماً. غير أنّ السلطة الفرنسية بترت الرأس عن الجسّد بالتمام والكمال. والآن إذا ما مضى الجذع إلى الجنّة، فإنّ محمّداً سيسأله: أين أضعت رأسك،يا ترى؟ أومن ذا الذي فصل رأسك عن جذعك،يا ترى؟ إنّك غير آهل لدخول الجنّة، فتلمضى طعماً سائغاً لكلاب المسيحيين، إلى غير ذلك كان الأهل يولولون وينتحبون”.

النظرة المركزية الأوروبية

تفصح هذه الملاحظة، وغيرها الكثير المبثوث في ثنايا الكتاب المفصّل الذي وضعته الباحثة الألمانية مارلينا فسبر عن رحلة كارل ماركس إلى الجزائر، تفصح عن النظرة الأخلاقية والسياسية لماركس، وهي في التحليل النهائي نظرة أوروبية مركزية، استعلائية وارستقراطية في جوهرها، وبالذات نظرة أوروبا الوسطى والشمالية الذي تحدث عنها إدوار سعيد في كتابه عن الاستشراق. لكننا وقبل مناقشة النظرة “الماركسية” للشرق العربي الإسلامي نود حتى نشير إلى بعض الآراء التي طرحها إدوارد سعيد عن تعامل ماركس مع الشرق.

يعزوإدوارد سعيد هذه النظرة إلى فهم ماركس للنظام الاقتصادي الآسيوي الذي تحدث عنه عام 1853 أثناء تحليلة لطبيعة السيطرة البريطانية على الهند. فبعد حتى استعرض ماركس سياسة القمع والطمع والتدخل الاستعماري الفظّ في شؤون الهند، عاد وبقناعة تامة إلى أفكارة الأصلية التي ترى في تحطيم الهند فرصةً للثورة الاجتماعية الحقيقية. ويعلّق سعيد بأن هدف الاستعمار البريطاني لم يكن قطّ اتاحة الفرصة أمام الهنود للقيام بثورة اجتماعية، بل الطمع والمصالح الاستعمارية وحدها. فماركس يرى وفقاً لتحليل سعيد بأن بريطانيا تقوم بمهمتين مزدوجتين في الهند، إحداهما هدّامة والأخرى بناءة تهدف إلى تدمير النظام الاجتماعي الآسيوي القديم ووضع الأسس المادية لنظام اجتماعي غربي في آسيا. فماركس يصف هؤلاء بالشرقيين الذين لا يعهدون المعاناة، ولذلك يجب معاملتهم بأسلوب يختلف عما هومألوف لدى الأوروبيين. وهويعمل ذلك بطريقة آلية لتبرير فرضياته حول الثورة الاجتماعية الاقتصادية اعتماداً على عدد من كتابات المستشرقين التي حددت نظرته إلى الشرق.

لكن ماركس لم يتحدث فقط عن الهند بل تحدث مباشرة عن الديانات السامية بالتفصيل، بالأخص الديانة اليهودية التي أفرد لها منطقة تفصيلية، والمسيحية أيضاً، لكنّه سجّل الكثير من الملاحظات عن الإسلام وعن العلاقة القائمة بين الديانات السامية. فهويعتقد بأن اليهودية ما هي إلا قبيلة بدوية صغيرة تقيم منظومة علاقات محلية الطابع وتعتاش على النظام الزراعي البدائي، على العكس من القبائل الأخرى، والعربية منها بصورة خاصة التي تقوم بالغزوات والفتوحات. ويقول ماركس بأن العرب قبل الإسلام كانوا متحضرين شأنهم شأن قدماء المصريين والآشوريين، ولذا فإنّ “الثورة الدينية التي قام بها محمّد لا تختلف عن أي حركة اجتماعية، فهي حركة رجعية على نحوشكليّ، تزعم العودة إلى ماهوقديم وبسيط”.

ويتعرض ماركس في درس حول “تاريخ القضية الشرقية” إلى بساطة التفكير الإسلامي فيقول إنّ “القرآن والتشريع المستمد منه يقلصّان الجغرافية والتنوّع العرقي لمختلف الشعوب في ثنائية سهلة ومريحة وهي: المؤمنين والكفّار”.

ويعتقد ماركس بأنّ القرآن يعتبر كلّ أجنبي كافراً، بحيث حتى أحداً لم يجرؤ على دخول بلد إسلامي دون حتى يتخذ إجراءات الحيطة والحذر”.

كارل ماركس نفسه طبّق هذه التصوّرات حرفياً أثناء زيارته إلى الجزائر، فهولم يلتق بعربيّ أوبربريّ واحد، لأنهم أفظاظ ولا يؤتمن لهم جانب على حد تعبير ماركس؛ ثم ّإنهم اتباع دين رجعيّ صحروايّ لا علاقة له بالفهم والفهم اللذين يشكلان “جوهر” الفلسفة الماركسية. وفي رسالة الشكر التي بعثها إنجلز إلى ماركس بعد استلام الخنجز الهدية خط إنجلز: “إنّه خنجر شرقيّ حقيقيّ، وحيثما يطعن لا ينتب في موضع طعنته عشب أبداً”.

ماركس نفسه عاد إلى قصّة الخنجر مجدداً: “بالمناسبة! إنّ الخنجر، ومثلما لمست بنفسك فظاعة العرب، هوصناعة قبائلية”.

لكن حتى جرائم الفرنسيين في الجزائر بدت في نظر ماركس وإنجلز مجرد دروس أوليّة في “مدرسة جلادّي البرولتياريا الفرنسية” مثلّا عبّر إنجلز في منطقة له بعنوان “الخامس والعشرون من حزيران”.


الأخلاق الماركسية

ونحن هنا لسنا بصدد الدفاع عن العرب والمسلمين، بقدر ما نلقي قليلاً من الضوء على نظرة ماركس الأخلاقية إزاء الشعوب غير الأوروبية التي كانت تعاني من وطأة الاحتلال الأوروبيّ وحروبه المستمرة. وهي في الواقع نظرة أحادية الجانب وتبسيطيه أكثر من نظرة ماركس نفسه للتقسيم الإسلامي للشعوب. فنظريته لم يقرأها ويطبقها إلا المثقفون البرجوازيون، بل حتى أبناء البرجوازية الكبرى، فأنا شخصاً لم أر في حياتي عاملاً بروليتارياً ماركسياً، حتى في ألمانيا بلد كارل ماركس نفسه، حيث أقيم منذ ثلاثين عاماً. ولعلّي كنت من العمّال العراقيين القلائل الذين آمنوا بنظرية ماركس عن الثورة البروليتارية في العراق! حيث لم نكن نعهد بعد أيّ جرائم إبادة قام بها ويقوم بها حتّى هذه اللحظة حملة لواء ماركس ضد شعوبهم والشعوب الآخرى، والتي مضى ضحيتها عشرات الملايين من البشر باسم “الديانة” الماركسية الإطلاقية التي تختزل الإنسان إلى عامل اقتصادي بحت، فتمسخ فوراً شخصيته وأخلاقه وتطلعاته الفردية وعلاقاته الاجتماعية الطبيعية. ويحضرني هنا أننا كنّا ونتيجة فهمنا الماركسي لصراع الطبقات نعادي جميع الطبقات غير العمّالية، وكنّا ننظر حتى لمفهميّ المدارس الابتدائية في العراق باعتبارهم ممثليّ البرجوازية الصغرى، أي أنهم ينتمون إلى طبقة قلقة إيديولوجياً، ولا يعتمد عليها في عملية الصراع الطبقي الدموية، مثلما يعتمد على الفلاحين، الحلفاء الطبيعيين للعمّال.

وكنت اطلعت قبل فترة وجيزة، وبمحض الصدفة، على درس للسويسري أرنولد كونتسلس Künzlis بعنوان “كارس ماركس، سيرة نفسية” تحدث فيه كونتسلس عن معاملة كارل ماركس لابنه غير الشرعي فريدريك، المحرّف اسمه قليلاً عن اسم فريدريش صديق ماركس الذي تنبّى فريدريك هذا الذي أنجبه ماركس من خادمته هِلِنه ديموت Demuth التي كان يستغلها جنسياً لأنها خادمة، لكنه تخلّى عن التزامه الأبوي إزاء ابنها هذا الذي ربته امرأة غريبة. ولم يسمح له ماركس برؤية أمّه الحقيقية إلا في مطبخ بيته. وتعلّم فريدريك القراءة والكتابة بصعوبة ثم اشتغل عاملاً بلا أي مؤهلات قبل حتى تختفي آثاره نهائياً.

وتكشف هذه النظرة الأخلاقية-الاجتماعية لماركس والتي هي في نهاية المطاف جزء من نظرية أوروبية، بريطانية-فرنسية-ألمانية بالتحديد، تعود إلى القرون الوسطى ومازلنا نرى ذيولها حتى يومنا هذا، تكشف عن برودة قاسية وطبيعة لاإنسانية، كما أنّها تفتقر إلى أدنى قدر من الإحساس والتعاطف الاجتماعيين. فماركس يحاول هنا تسفيه ثقافات الآخرين وإزاحة كلّ ما من شأنه وضع نظريته حول المراحل التاريخية للبشرية موضع الشكّ. وهولايريد الاعتراف بأنّ هناك أنظمةً اجتماعيةً مستقلة لا علاقة لها بالتصنيف الماركسي الجامد لمراحل التاريخ. فالعرب لم يعهدوا قطّ نظام المشاعية الأولى ولا العبودية ولا الاقطاع بشكله الأوروبيّ ولا الرسمالية، وربّما لن يصلوا يوماً إلى الاشتراكية التي ستقودها الطبقة العاملة. وعلى الرغم من أنّ ماركس أظهر قدراً من التعاطف مع العمّال الجزائرين، مثلما شدد في رسالة إلى لافروج، زوج ابنته، إلا أنّه وضع ذلك ضمن إطار نظريته الشمولية، مقارناً إيّاهم بعمّال أمريكا اللاتينية. ولاشكّ أنّ ماركس كان متأثراً بآراء أستاذه هيغل عن الإسلام، والتي اتىت مقتضبة وفي غاية الإيجاز خلال محاضراته الكثيرة عن الديانات، والتي اعتبر فيها العرب مجرد إداة توصيل لربط الحضارات، ونقلةِ أفكار فلاسفة الإغريق، وليسوا مبدعين على غرار الأوروبيين. وبهذا تجاهل ماركس آراء گوته وهردر وفون هامر وروكرت، وحتى آراء “صديقه” هاينرش هاينه الذي لا تخلوكتابات ماركس من الإحالة إليه والاستشهاد به.

لقد أمضى كارل ماركس إثنين وسبعين يوماً في مدينة الجزائر، حيث قرأ الكثير عن أوضاع البلد وتحدث إلى طائفة كبيرة من الأوروبيين وتجوّل في القصبات والحدائق العامة، دائماً برفقة مرشد عارف بأمور الجزائر، حتّى أنّه زار ذات مرّة الأسطول الروسي القيصري الذي كان راسياً في مرفأ الجزائر. إلا أنّه لم يحاول يوماً الاقتراب من سكّان البلد الأصليين، ولم يظهر أدنى تعاطف معهم أومع قضيتهم، لأنهم عرب ومسلمون، ولم يتعرّض إلى ثقافتهم وتاريخهم مثلما تؤكد لنا كتاباته ومراسلاته التي كان يسقطّها أحياناً بلقب “المغربي” أو“المغربي العجوز”.

الهامش

  1. ^ حسين الموزاني (2015-03-20). "رحلة ماركس إلى الجزائر". فوبيا.كوم.
  2. ^ Marlene Vesper: Marx in Algier, Bonn 1995.
تاريخ النشر: 2020-06-04 17:40:33
التصنيفات: كارل ماركس, ماركسية, الجزائر الفرنسية, 1881, 1881 في الجزائر

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

دعاء الإفطار .. "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت" قلها مع أذان المغرب

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:22:37
مستوى الصحة: 34% الأهمية: 40%

ولاية أمن وجدة توضح حقيقة صور رائجة على مواقع التواصل الاجتماعي

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:23:20
مستوى الصحة: 67% الأهمية: 77%

البنتاجون: ليس هناك أي خطة لإرسال جنود أمريكيين إلى الميناء

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:23:19
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 69%

الداود يشيد بجهود كشافة شباب مكة - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:25:19
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 55%

الحكومة بغزة: الاحتلال تعمّد قتل 13 مريضاً بمجمع الشفاء بمنع

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:23:11
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 65%

تجديد 3 آلاف مصحف شهريًا السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:25:29
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 62%

"يسمح لإسرائيل بتنفيذ عمليتها في رفح".. روسيا تنتقد الطرح ال

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:22:51
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 61%

مسؤولة دفاعية أمريكية: التعاون بين روسيا وإيران يهدد شركاءنا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:23:27
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 63%

صالح ينهي معاناة والده المسن السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:25:30
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 68%

نائب المندوبة الأمريكية بمجلس الأمن: قريبون من التصويت على م

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:23:34
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 62%

وزير إسرائيلي: سنغزو رفح ولو صار العالم كله ضدنا بما في ذلك

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:22:57
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 61%

الدمام تحتضن مركز صيانة شانجان - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:25:21
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 69%

مسلسل المعلم الحلقة 11.. مواعيد العرض والقنوات الناقلة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:22:39
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 49%

حماس: الاحتلال يحتجز المتواجدين بمجمع الشفاء وطالبهم بالنزوح

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:23:04
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 58%

متحف طارق عبد الحكيم يبهر عشاق الفن السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:25:26
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 69%

الطريق سالك أمام مرشحة وحيدة لخلافة "أغلالو" على رأس مجلس الرباط

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:23:31
مستوى الصحة: 74% الأهمية: 70%

الديوان الملكي السعودي يُعلن وفاة أحد أمراء المملكة

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:23:17
مستوى الصحة: 73% الأهمية: 82%

راعى كنيسة وإمام مسجد يشاركان فى تجهيز مائدة إفطار بالغربية.. فيديو

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:22:44
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 42%

الأخوة والأطماع.. صراع على الميراث في مسلسل عفريت التلفزيون

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:22:49
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 50%

قرآن المغرب.. ما تيسر من سورة النور للقارئ الشيخ د. ماهر فرغلى

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:22:34
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 42%

أول فوز للمنتخب الأردني في تصفيات المونديال بقيادة عموتة

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:23:33
مستوى الصحة: 68% الأهمية: 76%

شقيق اللواء سليمان الزكري في ذمة الله - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:25:18
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 64%

مسلسل الحشاشين الحلقة 11.. مواعيد العرض والقنوات الناقلة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-21 18:22:46
مستوى الصحة: 30% الأهمية: 46%

تحميل تطبيق المنصة العربية