معركة الخندق (939 م)

عودة للموسوعة

معركة الخندق (939 م)

معركة الخندق
جزء من حروب الاسترداد

أسوار سمورة.
التاريخ 5 أغسطس 939
المسقط
Zamora, Spain
النتيجة Victory for the Caliphate of Córdoba
الخصوم
مملكة ليون خلافة قرطبة
القادة والزعماء
راميروالثاني من ليون عبد الرحمن الثالث

سلسلة تاريخ إسپانيا
إيبريا قبل التاريخ
هسپانيا الرومانية
إسپانيا العصور الوسطى
 – مملكة القوط الغربيين
 – المملكة السويبية
 – سپانيا البيزنطية
 – الأندلس
 – حروب الاسترداد
مملكة إسپانيا
 – عصر التوسع
 – عصر التنوير
رد العمل والثورة
الجمهورية الإسپانية الأولى
الاستعادة
الجمهورية الإسپانية الثانية
الحرب الأهلية الإسپانية
إسپانيا الفرانكوية
الانتنطق إلى الديمقراطية
إسپانيا المعاصرة
مواضيع
التاريخ الاقتصادي
التاريخ العسكري


معركة الخندق (بالإسبانية: Batalla de Alhandic)، معركة سقطت في أغسطس 939/شوال 327 هـ في المنطقة الحدودية بين حدود مملكة ليون والدولة الأموية في الأندلس، وتحديدًا الواقعة في منطقة قشتالة وليون التابعة لمملكة ليون، على خلاف في تحديد مسقطها ما إذا كانت قد سقطت على أسوار قلعة شنت منكش أم على أسوار قلعة سمورة، ودارت بين قوات خليفة الأندلس عبد الرحمن الناصر من جهة، وقوات راميروالثاني ملك ليون من جهة أخرى، وانتهت بفوز مملكة ليون.

كانت خسائر المسلمين البشرية في تلك المعركة كبيرة تراوحت في بعض التقديرات بين 40,000-50,000 رجل، من بينهم قائد جيش المسلمين نفسه نجدة بن حسين الصقلبي، كما أُسر القائد محمد بن هاشم التجيبي والي سرقسطة في تلك الفترة، وظلّ في الأسر لأكثر من عامين حتى افتداه عبد الرحمن الناصر بالمال. كان لتلك المعركة أثرًا كبيرًا في نفوس المسلمين، وفي نفس عبد الرحمن الناصر الذي لم يخرج في أي غزوة بعدها.

مقدمات المعركة

حكم عبد الرحمن الناصر الدولة الأموية في الأندلس سنة 300 هـ، ولم يكن يخضع لسطان أمير قرطبة سوى قرطبة وبعض المناطق المجاورة لها، إلا أنه في غضون عقدين من الزمن، أخضع كافة التمردات على حكمه في مناطق الأندلس، وأعاد تنظيم دولته داخليًا حتى أصبحت دولته مهيبة الجانب.

كانت العلاقة بين الأمويين في الأندلس وجيرانهم من الممالك المسيحية في شمال شبه الجزيرة الأيبيرية علاقة شد وجذب تتأرجح فيها المناطق الحدودية وفقًا للقدرات العسكرية للقوتين المتنافستين. كان لعبد الرحمن الناصر عدد من المنازلات التي لاقى فيها قوات مملكتي ليون ونافارا، وكانت فيها الغلبة لجيوش الأمويين ومن أبرزها معركة خونكيرا. وفي إطار ذلك الصراع المستديم، قرر عبد الرحمن الناصر سنة 327 هـ مهاجمة المدن التي تمثل الحاجز الدفاعي لأراضي مملكة ليون وأستورياس ومن بينها مدينة سمورة. أوفد الناصر خطه إلى ولاياته لجمع المتطوعين لقتال أهل جليقية، فوافته الجموع من شتى أراتى مملكته حتى فاقت جموعه 100 ألف مقاتل، مما أدخل روح الثقة في نفسه حتى أنه سمّاها «غزاة القُدرة»، وجعل قيادة جيشه للقائد نجدة بن حسين الصقلبي. ذكر ابن حيان القرطبي في السفر الخامس من كتابه المقتبس من أنباء الأندلس حتى جيش الناصر خرج من قرطبة للغزوفي يوم الجمعة 22 شعبان سنة 327 هـ (أول يونيه سنة 939 م)، وبلغ طليطلة في 23 رمضان سنة 327 هـ، وعبر نهر دويرة ومر بحصن شنت منكش في 29 رمضان 327 هـ وافتتحه، ومنه سار إلى قشتالة فيخمسة شوال 327 هـ. بثّ الناصر السرايا في قشتالة أيامًا، فوجد أهلها قد أخلوا معظم أرجائها، مُخلّفين ورائهم الكثير من الأقوات، فاستولى المسلمون عليها، ثم تقدم في 13 شوال 327 هـ إلى حصن أشكر، فخرّبه ثم حصن أطلة، فحصن برتيل.

في تلك الأثناء، كان راميروالثاني ملك ليون قد جمع حشودًا ضخمة بالقرب من سمورة، وقد انضمت إليه تودا النافارية وصية عرش مملكة نافارا وفرنان غونثالث كونت قشتالة في قواتهما، إضافة إلى حليفه أمية بن إسحاق القرشي الثائر على سلطة عبد الرحمن الناصر في شنترين الذي لجأ إلى راميروالثاني بعدما سخط الناصر على شقيقه أحمد بن إسحاق القرشي وقتله في عقوبة شرعية فزوّده أمية بنصائح ومعلومات ثمينة عن قدرات جيش المسلمين.


الروايات حول المعركة

خندق قلعة سمورة كان مملوءً بالماء وقت المعركة.

تضاربت الروايات التي تناولت المعركة عن كيفية سير الأحداث، بل واختلفت أحيانًا في تحديد مسقطها. تناول عدد من المصادر العربية المعركة.

رواية المسعودي

نقل المقري في كتابه نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب رواية المسعودي المعاصر للفترة التي سقطت فيها الأحداث، وإن لم يكن من سكان الأندلس في ذلك الوقت ناقلاً من كتاب المسعودي مروج المضى ومعادن الجوهر حتى عبد الرحمن الناصر اخترق أراضي مملكة ليون حتى بلغ مدينة سمورة الحصينة، فحاصرها في شوال سنة 327 هـ، وتمكّن جيشه من تجاوز سورين من أسوارها السبعة التي يفصلها عن بعضها البعض خنادق مائية، إلا حتى الإعياء لحق بالمسلمين لمناعة الحصن، فهاجمهم جيش راميروبقوة، فاختلّت صفوف المسلمين، وهزموا هزيمة شديدة، وقتل منهم نحوأربعين ألفاً وقيل خمسين ألفاً.

رواية ابن حيان القرطبي

ذكر ابن حيان القرطبي المعركة في كتابه المقتبس من أنباء الأندلس، ونقل رواية مؤرخ يدعى عيسى بن أحمد الرازي، حتى عبد الرحمن الناصر حشد لغزوجليقية، وخرج بحشوده من قرطبة في يوم الجمعة 22 شعبان سنة 327 هـ/أول يونيه سنة 939 م، وقد بعث قبل خروجه وزيره أحمد بن محمد بن أبي عبدة1 في بعض قواته إلى الغرب للتأمين ولضمان عدم تطويق جيش المسلمين من الخلف أثناء الحملة. ويذكر ابن حيان في تفاصيل روايته حتى الناصر وصل طليطلة في 23 رمضان، ثم خرج إلى قشتالة فيخمسة شوال، فاجتاحها أيامًا، فوجد معظمها خاليًا من أهلها، تاركين ورائهم الكثير من الغنائم، فاستولى عليها المسلمون، هاجم حصون أشكر وأطلة وبرتيل، وخرّبها في 13 شوال. سبقت قوات محمد بن هاشم التجيبي قوات الناصر، وعبرت نهر بيسرغة عند شنت منكش، فاستدرجت قوات راميروالمسلمين بالانسحاب، ثم هاجمت المسلمين. وفقًا لابن حيان، فقد حقق المسلمون فوزًا في البداية، لكنهم أعادوا ترتيب صفوفهم وهاجموا المسلمين، فانهزم المسلمون وقتل منهم الكثير وسقط محمد بن هاشم أسيرًا. كان الناصر قد لحق بقواته قوات التجيبي، واضطر جيش المسلمين للتراجع، وحوصروا بين قوات راميرووخندق عميق، فسقط الكثير منهم فيه. ففرّ الناصر بقواته نحومنبع النهر، واحتل الليونيون خيمته. عسكر الناصر بقواته بقية اليوم، عجز جيش راميروعن مطاردته، ثم عاد الناصر إلى قرطبة سالكًا طريق مدينة وادي الحجارة.

رواية ابن الخطيب

هناك رواية أخرى ذكرها لسان الدين بن الخطيب في كتابه «أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام»، ذكر فيها حتى المعركة سقطت يوم الجمعة 11 شوال سنة 327 هـ/أول أغسطس سنة 939 م، على أبواب مدينة شنت منكش، واستمر القتال أيام، تأرجحت الغلبة فيها بين الفريقين، قبل حتى يتمكن جيش راميرومن دفع جيش المسلمين إلى خندق عميق، تساقط فيه المسلمون حتى ساووا بين ضفتيه، واستولت قوات راميروعلى متاع المسلمين، وفقد فيها الناصر مصحفه ودرعه.

الروايات الغربية

أما الروايات الغربية، فقد أورد ألفونسوالحكيم في كتابه التاريخ العام حتى عبد الرحمن الناصر وابن يحيى حاكم سرقسطة2 هاجما بجيش ضخم مملكة ليون حتى بلغا شنت منكش، فخرج راميروبجيشه لقتالهم، وهزم المسلمين، وقتل منهم ثمانين ألفًا، وأسر ابن يحيى. ثم فر بقية المسلمين إلى حصن «Alfondiga»، فحاصرهم راميروفي الحصن، وفر عبد الرحمن في عدد من جنده. كما نقل رينهارت دوزي في كتابه «تاريخ المسلمين في إسبانيا» ويوسف أشباخ في كتابه «تاريخ الأمويين في إسبانيا» عددًا من الروايات الأخرى مفادها حتى عبد الرحمن التقى بجيشه قوات راميرووحليفته تودا النافارية وصية مملكة نافارا بالقرب من سيامنقة فيخمسة أغسطس سنة 939 م، وانتهت المعركة بهزيمة ساحقة لجيش المسلمين ومقتل القائد نجدة الصقلبي وأسر محمد بن هاشم التجيبي وإصابة عبد الرحمن الناصر بجروح بالغة، بعد حتى تخاذل القادة العرب في جيش المسلمين عن القتال.


نتائج المعركة

حصن شنت منكش مسقط محتمل لساحة المعركة.

كان للمعركة أثرها الشعبي السيء على العامة في أراتى الأندلس، نظرًا للخسائر البشرية الكبيرة التي حدثت بين صفوف جيش المسلمين في تلك المعركة، مما استدعى حتى يستصدر الخليفة بيانًا خطه الوزير عيسى بن فطيس وهوفي مدينة وادي الحجارة، في طريق عودته إلى قرطبة، وأمر في تلاوته على العامة في ربوع الأندلس. برر عبد الرحمن الناصر في بيانه مسببات الهزيمة إلى كمين تعرضت له ساقة جيشه إثر مرور الجيش في طريق عودته على وادي وعر الطريق ضيق المسالك، بعد حتى عاد مُظفّرًا من معركته الأولى التي أُسر فيها القائد التجيبي، فأصاب جيش مملكة ليون مغانم كثيرة «من الأمتعة والدواب المثقلة، ما لوأصاروا مثله في مجال حرب أوسهل من الأرض»، نافيًا بذلك حتى تكون الهزيمة بسبب خسارة حدثت في ميدان قتال. أورد لسان الدين بن الخطيب في كتابه «أعمال الأعلام» بأن الناصر أمر قبيل وصوله إلى قرطبة، حتى تقام المصالب على ضفة نهر الوادي الكبير، وما كاد يصل إلى قرطبة، حتى قبض على نحو300 فارس، فصلبهم وأمر بالنداء عليهم: «هذا جزاء من غش الإسلام، وكاد أهله، وأخل بمصاف الجهاد». كان أبرز هؤلاء المعدومين فرتون بن محمد الطويل، الذي فرّ برجاله من ميدان المعركة، وأدركه أحد رجال الناصر ويدعى سلمة بن أحمد بن سلمة وأسره قرب قلعة أيوب، واتى به مقيدًا إلى الناصر في قرطبة، فصلبه مع من صُلب أمام القصر.

رجّح مؤرخون معاصرون مثل محمد عبد الله عنان وعبد المجيد نعنعي أنه من الأسباب المباشرة لهزيمة الناصر في المعركة، سياسته في الاعتماد على الصنطقبة في المناصب الهامة والقيادية في الجيش على حساب نظرائهم من العرب والبربر، وإن كانت تلك السياسة قد آتت أُكلها من قبل حيث مكّنت الناصر من السيطرة على الأندلس، بعد حتى كان نفوذ الزعماء المحليين من العرب والبربر قد تعاظم حتى انحصرت سلطة الأمراء السابقين في قرطبة وربوعها. استوعب عبد الرحمن الناصر عدم مواءمة تلك السياسة لحكمه عندئذ، فلجأ لاتخاذ سياسة جديدة نحوأمراء الثغر الأعلى من العرب والمولدين كبني تجيب وبني ذي النون وبنى زروال وبني غزوان وبني الطويل وبني رزين بتقليدهم شئون مدنهم بالثغر الأعلى، وإطلاق أيديهم للدفاع عن مدنهم، على حتى يزودهم الناصر جميع عام بالعدد والسلاح والمتطوعين للقتال ليتمكنوا من ذلك. بل وتعافي الناصر سريعًا من آثار الهزيمة، وأطلق حملة أخرى يقودها القائد أحمد بن يعلى على بعض نواحي مملكة ليون حقق مغانم مادية، وأسر نحو200 من جيش راميرو. أما قائده محمد بن هاشم التجيبي فقد افتداه عبد الرحمن الناصر بالمال وأعاده إلى قرطبة في صفر سنة 330 هـ وأعلى مراتبه، بعد حتى بقي في أسر راميروالثاني أكثر من عامين.

وعلى الجانب الآخر، فقد كان لتلك المعركة أثرها الجيد على جيش مسيحيي شمال أيبيريا، إلا أنهم تراجعوا عن مطاردة جيش الناصر بعد المعركة، بعد حتى حذّرهم أمية بن إسحاق القرشي من حتى هذا الانسحاب قد يحدث كمينًا أعده المسلمون، وأغراهم بجمع الغنائم والأسلاب التي خلّفها الجيش المنهزم. كما لم يتمكن راميروالثاني من استثمار الموقف وتطويره لصالحه، بعد حتى قابل راميروالثاني تمردًا داخليًا على حكمه من قبل فرنان غونثالث كونت قشتالة ودييغومونوث كونت سلدانيا شغله عن مواصلة حربه ضد الأمويين، مما دعى راميروإلى طلب معاهدة جديدة مع عبد الرحمن، وهوما قبله عبد الرحمن.

نص كتاب عبد الرحمن الناصر المؤرّخ في يوم الإثنينثمانية ذى القعدة سنة 327 هـ، بعد المعركة بأسابيع، ونقل نصه المؤرخ ابن حيان القرطبي في السفر الخامس من كتابه المقتبس من أنباء الأندلس المخطوط المحفوظ بالخزانة الملكية بالرباط، وفصّله في حوادث سنة 327 هـ:

استعزم الله أمير المؤمنين ليلته، واستخاره عن رحمته في النهوض إلى مدينة شنت مانكش دار الكفرة ومجمع النصرانية، التي إليها اسهجرن عدوالله، وضاقت الحيل عليهم، ووثقوا بحصانته، ليفهمهم حتى حدثة الله هي إظهار دينه، ونصر أوليائه، وإعزاز خلفائه، في مشارق الأرض ومغاربها، ولوكره المشركون، فضم صاحب المقدمة عمال الثغور عندهم وفرسانهم وخيلهم، واكتنف الجمع في مجنبتي العسكر مع من والاهم، وجرد الرجالة من الخيول بأسلحتهم، وصمد لجمع المشركين، فاستقبلهم بنية صادقة، ونفس صابرة، وجموع كثيفة، وكتايب تملأ الفضا، ومغانب تضيق عنها الشعاب، ويصير في سهل الأرض كالآكام، تتألق عليهم سوابغ الدروع، فإذا تداعوا، قلت موج تراكم، وإذا وقفوا فكأنما النقع عليهم ليل مظلم. فلما قربت العساكر من محل الخنازير، ثابوا فيما بينهم، وثاروا إلى خيولهم، وعلوا الشراقين، ينظرون إلى كتايب دين الله، بقلوب قد خلعها الذعر، وقبضهم عن التقدم الوجل، وجعلوا بينهم وبين المسلمين وادي بشررقه، ثقة بوعورته، وقلة مخاوضه، فلم ترعهم إلا مقدمة الجيش وراءه، قد سهل الله عليهم جوازه، وتبعتهم الأثنطق، وتحيز أمير المؤمنين كدية سامية، يتطلع منها على عسكر المسلمين، فأمر بالاضطراب فيها للعسكر، وتقدمت الخيول بين يديه، وقد تلاحقت جموع الكفرة، وقدموا صلبانهم، ووثقوا بشيطانهم الذي غرهم. وكان المسلمون على نشطة إلى لقايهم، فلم ينتظر أولهم إلى حتى توافي آخرهم، ولا فارسهم حتى يقتعد براجلهم، وتخطوا الرماح إلى السيوف، والطعن إلى الضرب، وكروا في حومة المنايا، كرّ من يحمي حليله، ويخشى بعد ساعة حتى تسبى ذريته، فلم ير المسلمون حرباً مثلها، ولا شهدوا يوم وغى أطول من يومهم ذاك. ونصر الله تعالى يهون عليهم ما هم فيه، حتى فضوا جموع المشركين، وزلزلوا ردؤهم التي كانت أكاليل الجبال، وردم الشعاب، وضمهم إلى معسكرهم، وأثارت سنابك الخيل من القتام، ما غيب من كان في القلب عمن يليه من يمين الحرب ويسارها. وكان محمد بن هاشم في وقدتها حاثاً سعيره قد طال به مدامها، واستدارت حوله رحامها، فكبا به فرسه، ولم يفهم أحد بمصرعه، فصار في أيدي الخنازير أسيراً، فاستشفوا به الحياة. بعد اليأس منها، فجالدوا بنفوس قد عاودتها رمقها، وانحاز المسلمون إلى معسكرهم، قد قتلوا من أعلام المشركين وقوامسهم وأهل البأس من فرسان الحرب، ومن صبر لسقط السيف، فكانت مصيبتهم بمن اغتال منهم عظيمة، فلما أصبح أمير المؤمنين لمحلته، أمر بحمل من عقر فرسه، وصلة من أغنى في حربه، وتعرض المشركون للحرب تعرض من قد تنخل لعدوقد أصابهم، ونكايته قد فلقت قلوبهم. فلما كان في اليوم الثالث من احتلاله، عهد أمير المؤمنين إلى صاحب العسكر بمصاحبتهم بالحرب، وقد تلاحقت بهم المدود من أقصى بنبلونة وألبة والقلاع، وأهل قشتيلة، إلى مشركي قلمرية، وكل صنف من أصناف العجم معهم، وهتف على المسلمين بالخروج تحت راياتهم، والتأهب للقاء عدوهم، وأغدوا في نهوضهم، ونزل صاحب العسكر، فرتب تعيينهم، فكثف الردوء، وضم إليها الرجال، وألزم القلب بنفسه، وميز فيه خيل الميمنة والميسرة، وقدم إليهم المقاتلة، وأقام بين يديه جملة الخيل عدة، فإذا رأى في جهة من جهات الحرب خللاً سده واستدركه، أوفتقاً رتقه، حتى كانت أيدي المسلمين في الماقط عالية، فتلظت الحرب واحتدمت، وكأن المنايا إنما قصدت فيها أعلام الكفرة وقوامسهم، فصرع قومس غرماج، وابن أخي الخنزير ابن فرذلند، وشيخ النصرانية وعميدها ابن دخبر، إلى العدد الجم من فرسانهم، وأهل الصبر منهم، وانجلت الحرب عن هزيمتهم، وانكشاف أجبل قد كانوا علوها، وسدوا بالخيل والرجال ما بينها، وظنوا حتى لا غالب لهم، فزلزلوا زلزالا شديداً، وانصرف المسلمون بعد الظفر والسلامة في المنقلب، فباتوا بأنعم بال، وأسكن حال. فلما افترض أعداء الله حتى قد ملوا حربهم، وتجددت لهم مدودهم، حملوا معسكرهم، وقدموا صلبانهم، وخرجوا بفارسهم وراجلهم فألقوا إلى ما يلي منهم العسكر، سراع خيولهم، فبادر المسلمون إليهم تبادر الأسود الضارة، فغادروموقفهم، وجالدوا بسيوفهم، حتى انفرج الموقف عن اغتال عظيم من عظمائهم، وأعولوا عليه، واستداروا حواليه، وانصرفوا قد أذلهم الله، ووهنهم، وهون عليهم جمعهم، ووفور مددهم، في ضبط المعيشة، وقلة التبسط، ومصابحة الحرب ومماساتها، حتى كأنهم أهل حصن حوصروا فيه، أوفل جيش لا يستطيعون الرجوع إليه. وأقام أمير المؤمنين ومن معه من جيوشه وحشده، وأهل البصاير والحفايظ، وبلغ أمير المؤمنين أقصى أمل من إذلال جميع المشركين، والاحتلال بساحتهم، وانحياز طاغيتهم في أعلى شاهق، يرجوالنجاة بنفسه، فأمر بالرحيل وقد ضاعف النظر، والعدوفي ضبط ساقة جيشه لما تسقط خروج الكفرة في أثره. وأصبح منتقلا، فما أقدم أعداء الله حتى ينظروا من الجيش إلا من بعد على رأس جبل، ونهض يطأ بلادهم وطأة متثاقل، حتى انصرف إلى نهر دويرة، واستقبل عمارته من حصن مانكش التي اتصلت بنكاية أهله، فلم يدع في جليقية حصناً إلا هدمه، ولا معاشاً إلا انتسفه، حتى انتهى إلى مدينة روضة، وهي خالية على عروشها، فأقام على هدمها، وهدم حصن دبيلش معها، يومين كانا أطول على أعداء الله من عامين، لما غير فيهما من نعمهم، وهدم من مساكنهم، وبتر من شجرهم. وكان أمير المؤمنين يَرَ التقدم على نهر دويرة إلى شنت إشتيبن وغرماج لنقص الزروع لديه وضيق العلف بإفساده. فحمل إليه من حضره من أهل مدينة الفرج وحصونها، يشكون ما يلقونه من مشركي وادي أبينه، ومعاقلها، وترددوا عليه ضارعين إليه، حتى يجعل ممر الجيش المؤيد على حصونهم وعمارتهم، وذكروا حتى ذلك أنفع لهم ولأهل الثغور معهم، من الإيغال في بلد المشركين، ونكاية من لا ينالهم بغارة، ولا ينهض إليهم بقوة، فصرف الجيوش عند ذلك إلى وادي أبينه، فلم يدع فيها حصناً إلا هدم، ولا قرية إلا هدمت، ولا معاشاً إلا استقصى جميعه. فلما صار في آخره ولم يبق موضع يقوم الجيش بالتردد عليه، أمر الأدلاء بالكشف عن أفضل الطرق إلى حصن أنتيشة، وأرفقها بالمسلمين في منصرفهم برازح ظهرهم، وأحوط عليهم في طريقهم، وأجمعوا على قصد حصن قشترب، وأيأسوا من الخروج على غيره، فلما استقبل أمير المؤمنين لامه، وبتر بعض محلته، استقبل شَعْراء لا يتخللها المتفرد بحمده، ولا يتخلص منها المخف، لولم يكن أحد يعترضه. ثم أشرف على خنادق قفرة ومهاوتتقاذفه، وأجراف منبترة قد عهدها المشركون وقدموا إليها، وألقوا إلى ساقة الجيش فرسانهم، فدارت عليهم الحرب، وصرع فيها من جلة فرسانهم، ومتقدمي رجالهم جملة، لوأصيبت بحيث يتراء الجمعان لكانت سبب هزيمتهم، ولكنهم وثقوا بالوعد، وانتظروا تقدم الحماة وترادف الأثنطق، فحامى أمير المؤمنين برجاله وخاصته عن المسلمين ساعات من النهار، حتى تقدم أكثرهم، وجازت الخندق لقتالهم، إلا من ضعفت دابته، أوضعفت تعبئته عن استنفارها. فلما رأوا الخلل تصايحوا من قنن الجبال، وانحطوا من أعاليها انحطاط الأوعال، فأصابوا من الأمتعة والدواب المثقلة، ما لوأصاروا مثله في مجال حرب أوسهل من الأرض، لما أنكر مثله عند مقارعة الرجال، وتصرف الأحوال. وحامى صاحب العسكر عن جميع من أجاز الخندق وخلص من مضايقه، حتى أسهلوا، واجتمع لأمير المؤمنين جيوشه وانتظمت جموعه، وسلم الله رجاله، فلم يصب منهم أحد. وفي ذلك مرشد للسامع عن المسقطة أنها لم تدر بغلبة، ولا ظفر المشركون أظفروا به فيها عن مساواة ولا كثرة، ولكن ضيق المسالك، ووعر الطريق، وسوء فهم الدليل، خلى لما جلبه إلى أقدار الله تعالى التي لا تصرف، ومحنه التي لم يزل يمتحن بها أولياءه، ليعظهم، ويبتلي عبيده ليرهبهم، وأمير المؤمنين، شاكر لله تعالى على عظيم نعمه، وواقف على تصرف محنته، مستسهل ما اختص به في حب طاعته، ضارع إلى الله في التقبل لقوله وعمله. وكتابه إليك، وهوقافل بالمسلمين على أحسن أحوالهم، وأسهل طريقهم، وأجمعه بمعايشهم، إذا شاء الله. فأمر بقراءة كتاب أمير المؤمنين على الناس قبلك أثر صلاة الجمعة ليشكروا الله على ما أنعم به من نصر إمامهم، وسلامة إخوانهم، والصنيع الذي عمهم، فإنه يحب الشاكرين، ويزيد الحامدين. واعهد نسخة إلى عمال الكور حولك إذا شاء الله تعالى، والله المستعان. وخط يوم الإثنين لثمان خلون من ذي القعدة سنة سبع وعشرين وثلاث ماية.
—السفر الخامس من كتاب المقتبس من أنباء الأندلس لابن حيان القرطبي المحفوظ بالخزانة الملكية بالرباط، في حوادث سنة 327 هـ


هوامش

  • 1 جانبت هذه الرواية الصواب في خروج القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة في تلك الحملة، نظرًا لمقتله سنة 305 هـ في معركة شنت إشتيبن، ولعله قصد أحمد بن محمد بن إلياس الذي قاد إحدى حملات الناصر بعد ذلك بعامين.
  • 2 خلط ألفونسوالعاشر بين شخصية والي سرقسطة في تلك الفترة محمد بن هاشم التجيبي وبين شخصية أخرى وهوالمنذر بن يحيى التجيبي الذي استقل بعد تلك المعركة بنحو80 عامًا بالثغر الأعلى مؤسسًا طائفة سرقسطة مستغلاً اضطراب الأحداث في الأندلس إثر الفتنة التي ضربت الأندلس في مطلع القرن الخامس الهجري.

المراجع

  1. ^ Historia General Civil y Eclesiástica de la Provincia de Zamora. Madrid: Editorial Revista de Derecho Privado. 1965.
  2. ^ دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان - ج1 ص418
  3. ^ تاريخ الدولة الأموية في الأندلس – التاريخ السياسي لعبد المجيد نعنعي، دار النهضة العربية، بيروت، 1986، ص347
  4. ^ تاريخ الدولة الأموية في الأندلس – التاريخ السياسي لعبد المجيد نعنعي، دار النهضة العربية، بيروت، 1986، ص317
  5. ^ تاريخ الدولة الأموية في الأندلس – التاريخ السياسي لعبد المجيد نعنعي، دار النهضة العربية، بيروت، 1986، ص342
  6. ^ STVDIA ZAMORENSIA, Segunda Etapa. VIII. Unknown parameter |السنة= ignored (help); Unknown parameter |المكان= ignored (help); Unknown parameter |الصفحات= ignored (help); Unknown parameter |الأول= ignored (help); Unknown parameter |الأخير= ignored (help); Unknown parameter |العنوان= ignored (help); Missing or empty |title= (help)
  7. ^ دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان - ج1 ص415
  8. ^ نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب للمقري - تحقيق إحسان عباس - ج1 ص355
  9. ^ أخبار مجموعة في فتح الأندلس لمؤلف مجهول، تحقيق: إبراهيم الإبياري (1989). دار الكتاب المصري، القاهرة - دار الكتاب اللبناني، بيروت. ISBN 977-1876-09-0 ص137
  10. ^ دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان - ج1 ص413
  11. ^ Martínez Díez, Gonzalo (2005). El Condado de Castilla (711-1038): la historia frente a la leyenda (in Spanish). 2 volumes. Valladolid. ISBN 84-9718-275-8. p. 356, vol. I
  12. ^ Martínez Díez, Gonzalo (2005). El Condado de Castilla (711-1038). La historia frente a la leyenda. Valladolid: Junta de Castilla y León. ISBN 84-9718-275-8., p. 344-347
  13. ^ أخبار مجموعة في فتح الأندلس لمؤلف مجهول، تحقيق: إبراهيم الإبياري (1989). دار الكتاب المصري، القاهرة - دار الكتاب اللبناني، بيروت. ISBN 977-1876-09-0 ص139
  14. ^ مروج المضى ومعادن الجوهر للمسعودي - ذكر ما كان بين عبد الرحمن والجلالقة
  15. ^ دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان - ج1 ص414
  16. ^ دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان - ج1 ص419
  17. ^ دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان - ج1 ص420
  18. ^ دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان، الجزء الأول: القسم الثاني: الخلافة الأموية والدولة العامرية، مخطة الخانجي، القاهرة. ISBN 977-505-082-4. ص711-714
  19. ^ دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان - ج1 ص421 نقلاً عن كتاب أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام للسان الدين بن الخطيب
  20. ^ نصوص عن الأندلس من كتاب ترصيع الأخبار وتنويع الآثار، والبستان في غرائب البلدان والمسالك إلى جميع الممالك لأحمد بن عمر بن أنس العذري المعروف بابن الدلائي، تحقيق د. عبد العزيز الأهواني، منشورات معهد الدراسات الإسلامية في مدريد، ص71
  21. ^ تاريخ الدولة الأموية في الأندلس – التاريخ السياسي لعبد المجيد نعنعي، دار النهضة العربية، بيروت، 1986، ص346-347
  22. ^ البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذاري - ج2 ص210
  23. ^ Torres Sevilla-Quiñones de León, Margarita Cecilia (1999). Linajes nobiliarios de León y Castilla: Siglos IX-XIII. Salamanca: Junta de Castilla y León, Consejería de educación y cultura. ISBN 84-7846-781-5. p.211
  24. ^ دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان - ج1 ص422
  25. ^ البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذاري - ج2 ص171

انظر أيضًا

  • يوم سمورة
  • معركة شنت منكش
  • Ramiro II of León
تاريخ النشر: 2020-06-04 19:12:15
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, Pages with citations lacking titles, تاريخ إسپانيا, صفحات بها وصلات إنترويكي, 939 في أوروبا, 939 في إسبانيا, القرن 10 في الأندلس, القرن 10 في إسبانيا, معارك الاسترداد, معارك الدولة الأموية في الأندلس, معارك مملكة ليون, نزاعات عقد 930, 930s conflicts, 10th century in Spain, Battles involving the Kingdom of León, 939 in Europe, Battles involving the Caliphate of Córdoba

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

"اللي معاه دولار يشربه".. مفاجأة في سعر الدولار الفترة القادمة

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-26 12:22:26
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 70%

أول أيام معرض القاهرة للكتاب.. اعرف كل برج هيشترى كتاب إيه النهاردة؟

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-26 12:22:38
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 39%

بريطانيا تفرض حظر على بيع أو حيازة "غاز الضحك".. تايمز تكشف التفاصيل

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-26 12:22:47
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 49%

أمر أميري بقبول استقالة الحكومة الكويتية

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-26 12:22:50
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 56%

فتاة وشاب ومُسنة.. انتحروا بطريقة بشعة لسبب صادم

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-26 12:22:21
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 65%

تحذير خطير للفتيات من رسم الحناء في هذه المناطق من الجسم

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-26 12:22:23
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 58%

اعتصام أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت أمام قصر العدل

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-26 12:22:54
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 64%

الصحة الفلسطينية: ارتفاع عدد شهداء المجزرة الإسرائيلية فى جنين لـ 9

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-26 12:22:46
مستوى الصحة: 30% الأهمية: 36%

"ميسى الفراعنة فى سقارة".. تعرف على القصة والحكاية.. صور

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-26 12:22:39
مستوى الصحة: 31% الأهمية: 45%

رواتب تصل لـ7500 جنيه.. كل ما تريد معرفته عن 3149 وظيفة خالية بالمحافظات

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-26 12:22:36
مستوى الصحة: 34% الأهمية: 48%

أسعار الذهب فى مصر اليوم الخميس تسجل 1765 جنيها للجرام

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-26 12:22:41
مستوى الصحة: 34% الأهمية: 48%

تحميل تطبيق المنصة العربية