جورج-لوي لكلرك، كونت بوفون

عودة للموسوعة

جورج-لوي لكلرك، كونت بوفون

جورج-لوي لكلرك، كونت بوفون
George-Louis Leclerc, de Buffon
Georges-Louis Leclerc, Comte de Buffon, by François-Hubert Drouais
وُلـِد (1707-09-07)سبتمبر 7, 1707
مونبار، كوت-دور
توفي أبريل 16, 1788(1788-04-16) (عن عمر 80 عاماً)
باريس، فرنسا
القومية فرنسا
مبعث الشهرة التاريخ الطبيعي
السيرة الفهمية
المجالات تاريخ طبيعي
الهيئات Jardin du Roi
أثـّر على جان-باتيست لامارك

جورج-لوي لكلرك، كونت بوفون Georges-Louis Leclerc, Comte de Buffon (و.7 سبتمبر 1707 – 16 أبريل 1788) كان عالم تاريخ طبيعي، ورياضيات وكوزمولوجيا ومحرر موسوعي فرنسي. المعلومات التي جمعها أثرت على الجيلين التاليين من فهماء التاريخ الطبيعي، بما فيهم جان-باتيست لامارك وكوڤييه. نشر بوفون خمس وثلاثون مجلد (من بتر كوارتو) من عمله Histoire naturelle في حياته، ثم نـُشرت تسع مجلدات أخرى بعد وفاته. "حقاً، كان بوفون أباً لكل الفكر في التاريخ الطبيعي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر."

شغل بوفون منصب المقيم (المدير) على حديقة الملك Jardin du Roi، المسماة الآن حديقة النباتات Jardin des Plantes؛ وهي المكافئ الفرنسي لحدائق كيو. وتحمل ليسيه بوفون في باريس اسمه.

السيرة

مطلع حياته

ولد أعظم عالم طبيعي من فهماء القرن الثامن عشر بمونبار في برجنديه (1707) لمستشار في برلمان ديجون. وكانت ديجون آنذاك مركزاً مستقلا من مراكز الثقافة الفرنسية. والذي فتح منفذاً لثورة روسوعلى الحضارة وفولتير هومسابقة اقترحتها أكاديمية ديجون. وقد تفهم جورج لوى لكليرك دبوفون في الكلية اليسوعية بديجون، وهناك تعلق بشاب إنجليزي يدعى اللورد كنجزتن، سافر معه عقب التخرج في رحلة إلى إيطاليا وإنجلترا. وفي 1832 ورث هجرة كبيرة أتته بدخل سنوي قدره 300,000 جنيه، فأصبح الآن حراً في هجر القانون كان أبوه يعده للاشتغال به، وإشباع غرامه بالفهم، وبنى على تل في نهاية حديقته بمونبار، وعلى مائتي ياردة من منزله، حجرة للدارسة في برج قديم يسمى برج القديس بولس، هنا كان يعتكف من الساعة السادسة صباح جميع يوم، وهنا ألف معظم خطه. وقد انعمل بسيرة أرخميدس الذي أحرق أسطول الأعداء في ميناء سيراكيوز بسلسلة من المرايا الحارقة، فأجرى ثماني تجارب، جمعت في النهاية 154 مرآة، أشعل بها النار في ألواح من الخشب على بعد 150 قدماً(95). وتردد حيناً بين التاريخ الطبيعي والفلك؛ وفي 1735 ترجم كتاب هيلز "استاتيكا النبات" وأسس نفسه في فهم النبات؛ ولكن في 1740 ترجم كتاب نيوتن في "التدفقات" وأحس بإغراء الرياضة وانضم بذلك إقليدس إلى أرخميدس في مجمع أربابه.

وحيد القرن، نقش على النحاس من بوفون، تاريخ عام للطبيعة. Holle: لايپزيگ 1767؛ الجزء السادس من المجلد الأول، Tafel VII S. 110f. الصورة من اوروبا القرن 18، لأنثى وحيد القرن كلارا الشهيرة.
فرس النهر مع أدوات تشريحية (نقش على النحاس). في: جورج–لوي لوكلرك ده بوفون: تاريخ عام للطبيعة. Holle: لايپزيگ 1767; الجزء السادس من المجلد الثاني، Tafel III S. 30f.

وفي 1739 عين مديراً (ناظراً) للجاردان دورا، فانتقل إلى باريس. عندها فقط جعل فهم الأحياء شغله الشاغل. فتحت إشرافه أغنت مئات النباتات الجديدة المجلوبة من جميع أصقاع الدنيا هذه الحديقة النباتية الملكية. وسمح بوفون لجميع الدارسين المهتمين بالنبات بدخول الحديقة فجعل منها مدرسة للنبات. وبعد حين عاد إلى مونبار وبرج القديس لويس بعد حتى هجر الحديقة في أيد أمينة، وشرع في تنظيم مشاهداته ليؤلف منها أشهر خط القرن الفهمية.

ونشرت المجلدات الثلاثة الأولى من كتابه هذا "التاريخ الطبيعي، العام والخاص" في 1749. وكانت باريس في مزاج يهيئها لدراسة الفهم، وإذ وجدت الآن الجيولوجيا واليولوجيا مقدمتين لها في نثر صاف رصين، مشروحتين بلوحات مغرية، فقد أقبلت على هذه المجلدات إقبالا يقرب من إقبالها على كتاب مونتسكيو"روح القوانين" الذي صدر قبل ذلك بعام فقط. ومضى بوفون -وبمساعدة الأخوين أنطوان وبرنار دجوسيوله في النبات، ولوى دوينتون وجينودمونبليار وغيرهما له في الحيوان، يضيف المجلد تلوالمجلد إلى رائعته الكبرى، فصدر اثنا عشر مجلداً جديداً قبيل 1767، وتسعة مجلدات أخرى عن الطيور في 1770-83؛ وخمسة عن المعادن في 1783-88، وسبعة عن موضوعات أخرى في 1774-89. وبعد موته (1788) أشرف إتيين دلاسيبيد على نشر مخطوطاته التي لم تنشر وأصدرها في ثمانية مجلدات (1788-1804). وبلغت جملة المجلدات الصادرة من كتاب "التاريخ الطبيعي" في النهاية أربعة وأربعين مجلداً استهلك إعدادها أكثر من حياة، واستغرق نشرها أكثر من نصف قرن. ودأب بوفون على أن، يستيقظ مبكراً ويمضي إلى برجه، ويقترب من هدفه خطوة فخطوة. ويبدوأنه -بعد حتى أجتاز بسلام بعض الفلتات الجنسية في شبابه أقصى النساء عن حياته حتى عام 1752 حين تزوج ماري دسان- بيلون وهوفي الخامسة والأربعين. ورغم أنه لم يدع الوفاء لرباط الزوجية(96)؛ فقد تفهم حتى يحب زوجته، كما يعمل الكثير من الفرنسيين بعد حياة الزنا، وقد أظلم موتها في 1769 سني عمره الباقية.

وقد أخذ "التاريخ الطبيعي" على عاتقه وصف السماوات، والأرض، وكل المعروف من عالم النبات والحيوان، بما فيه الإنسان. وحاول بوفون حتى يرد جميع هذه المتاهة من الحقائق إلى نظام وقانون عن طريق أفكار الاستمرارية شظايا تحطمت عن الشمس إثر اصطدامها بمذنب، ونظريته في "حقب الطبيعة" التي رآها مراحل في تطور الكرة الأرضية. أما في عالم النبات فقد رفض تصنيف لينيوس للنباتات حسب أعضائها الجنسية لأنه شديد التعسف والنقص والصلابة. وقد قبل طريقة لينيوس في المصطلحات على مضض، واشترط حتى توضع الأسماء على جنب في أسفل البطاقات الملحقة بالنباتات في حديقة الجاردان(97). وكان تصنيفه للحيوانات غير معقول، ولكنه اعترف بأنه مؤقت ؛ فقد رتبها حسب نفعها للإنسان، ومن ثم بدأ بالحصان. وفي تاريخ لاحق، وبعد إلحاح من دوبنتون، وضع تصنيفاً جديداً لها حسب خصائصها المميزة. وضحك نقاده المتخصصون على تصنيفاته وتشككوا في تعميماته، ولكن قراءه طربوا لأوصافه الحية ولاتساع نظراته العظيم.

وقد ساعد على إرساء نادىئم الأنثروبولوجيا (فهم الأجناس البشرية) بدراسة اختلافات النوع الإنساني تحت تأثير المناخ، والتربة، والأنظمة، والمعتقدات؛ ورأى حتى هذه القوى قد نوعت لون الأجناس وملامحها، وولدت خلافاً في العادات، والأذواق، والأفكار. ومن أجرأ فروضه قوله بأنه ليس في الطبيعة أنواع ثابتة لا تقبل التغير، وأن النوع منها يذوب في النوع التالي، وأن في استطاعة الفهم إذا نضج حتى يصعد خطوة فخطوة من المعادن المفروض أنها ميتة، إلى الإنسان نفسه. ولم ير إلا فرقاً في الدرجة بين غير العضوي والعضوي.

خنزير غينيا وهيكله العظمي. نقش على النحاس من بوفون، تاريخ عام للطبيعة. Grund und Holle: هامبورگ ولايپزيگ، 1765؛ الجزء الرابع من المجلد الثاني، Tafel I S. 4f.

وقد لاحظ حتى صوراً جديدة من الحيوان تكونت بالانتخاب الطبيعي، وزعم حتى في الإمكان إحداث نتائج مماثلة في الطبيعة بالهجرة والعزل الجغرافيين. وسبق ماثوس بملاحظته حتى خصوبة أنواع النبات الحيوان التي لا رابط لها تلقي باستمرار عبئاً باهظاً على خصوبة التربة، مما قد يؤدى بالكثير من الأفراد والأنواع في الصراع على البقاء:

«"لقد اختفت، أوستختفي، أنواع أقل كما لا، وأضعف، وأثقل، وأقل نشاطاً، وأردأ تسليحاً(98). ...وهذبت أنواع كثيرة، أوانحطت، نتيجة لتغيرات كبيرة في اليابس أوالماء، ولرضى أوسخطها عليها، وللطعام، ولتأثيرات المناخ الطويلة الأمد، والمعاكسة أوالمواتية... فلم تعد اليوم كما كانت بالأمس"(99). »

ومع أنه سلم بوجود نفس للإنسان، فقد تبين في جسم الإنسان أعضاء الحس والأعصاب، والعضلات، والعظام، ذاتها التي في الحيوانات العليا.

ومن ثم فقد رد "الحب الرومانسي" إلى ذات الأساس الفسيولوجي الذي في جاذبية الحيوان الجنسية. لا بل أنه احتفظ بشعر الحب لأوصافه البليغة لتزاوج الطيور ورعايتها لصغارها. وتساءل "لم يسعد الحب جميع الكائنات الأخرى ويشقى الإنسان هذا الشقاء الكثير،يا ترى؟ لأن الجزء البدني من هذه العاطفة هووحده الحسن، أما العناصر الأخلاقية فيها فلا قيمة لها"(100). (وقد وبخته مدام دبومبادور على هذه الفقرة ولكن في لطف كثير)(101) وخلص بوفون إلى حتى الإنسان حيوان في جميع نقطة "مادية"(102).

"ومتى سلمنا بأن هناك عائلات من النبات والحيوان، أي حتى الحمار قد ينتمي لعائلة الحصان، وأن الواحد منها لا يختلف عن الآخر إلا في تسلسله المنحط من نفس الجد... فقد نضطر إلى التسليم بأن القرد ينتمي لعائلة الإنسان، وأنه ليس إلا إنساناً منحطاً، وأنه هووالإنسان كان لهما جد واحد. وإذا تبين أنه كان بين الحيوانات والنباتات... ولونوع واحد ابتكر خلال التسلسل المباشر من نوع آخر... إذن فليس هناك حدود يمكن حتى تقيد قوة الطبيعة، ولن نخطئ إذا افترضنا أنه لوهجر لها الوقت الكافي لاستطاعت حتى تطور جميع الأشكال العضوية الأخرى من نوع أصلي واحد".

ثم أضاف بوفون هذه العبارة بعد حتى تذكر فجأة سفر التكوين وجامعة السوربون "ولكن لا. فالثابت من الوحي الإلهي حتى جميع الحيوانات قد وهبت بالتساوي نعمة خلقها خلقاً مباشراً، وأن أول زوج من جميع نوع خرج مكتمل الصورة من يدي الخالق"(103).

ولكن مدير السوربون، أوكلية اللاهوت في جامعة باريس، نبه بوفون رغم ذلك (15 يونيو1751) إلى حتى أجزاء من "تاريخه الطبيعي" تناقض تعاليم الدين، ويجب حتى تسحب-لا سيما آرائه عن عمر الأرض الطويل، وانبعاث الكواكب من الشمس، وتأكيده بأن الحقيقة لا تستقى إلا من الفهم. واعتذر المؤلف مبتسما:

"أقرر أنه لم يكن أي نية في مناقضة نص الكتاب المقدس، وإنني أومن أوطد الإيمان بكل ما حواه الكتاب خاصاً بالخليقة، سواء من حيث ترتيب الزمن أوالحقائق المتضمنة. وإني أعدل عن جميع ما ورد في كتابي عن تكوين الأرض، وبصفة عامة عن جميع ما قد يناقض رواية موسى"(104).

ولعل بوفون، الرجل الأرستقراطي، أحس حتى من سوء الأدب حتى يختلف جهراً مع إيمان الشعب، وأن "سوربونا" لم تهدأ تأثراتها قد تفسد عليه خطته الكبرى؛ وعلى أية حال؛ فإن كتابه إذا اكتمل سيكون تعقيباً منيراً على اعتذاره. وقد تبينت الطبقات المتفهمة الابتسامة فيسحب آراءه، ولاحظت حتى مجلدات الكتاب التالية واصلت هرطقاته. ولكن بوفون أبى حتى ينضم إلى فولتير وديدور في هجومهما على المسيحية. وقد رفض دعوى لامترى وغيره من الماديين باختزال الحياة والفكر إلى مادة في حركة ميكانيكية. حتى النظام، والحياة، والنفس، هي وجودنا الحقيقي السليم؛ وما المادة إلا غلاف غريب لا نعهد صلته بالنفس، ووجوده عقبة(105).

ومع ذلك رحب به "الفلاسفة" حليفاً قوياً. ولاحظوا حتى حماسته ونداءاته موجهة إلى طبيعة لا شخصية، خلاقة، خصبة، لا إلى إله شخصي. فالله عند بوفون كما هوعند فولتير بذر بذور الحياة ثم هجر للأسباب الطبيعة القيام بالباقي كله. وقد رفض بوفون فكرة القصد في الطبيعة، ومال إلى وحدة وجود اسبينوزية ورأى الحقيقة الواقعة كما رآها تورجنيف، مختبراً كونياً شاسعاً تتناول فيه الطبيعة بالتجربة، على مدى دهور طويلة، الشكل أوالعضوأوالنوع، الواحد تلوالآخر، وفي هذه الرؤية انتهى إلى نتيجة تبدومتناقضة مع نقده للينيوس: فالفرد هوالذي بدا الآن غير حقيقي، والنوع هوالحقيقة الباقية نسبياً. ولكن التناقض يمكن حله: فالنوع والجنس والعائلة والرتبة، لم تزل أفكاراً لا غير، يركبها الذهن ليعطي نظاماً ميسراً لخبرتنا بالوفرة المحيرة في الكائنات العضوية، والأفراد هم الحقائق الحية الوحيدة، ولكن أجلهم قصير قصراً يجعل الفيلسوف لا يرى فيهم غير بصمات عابرة بهجرها شكل أكبر وأطول بقاء. وبهذا المعنى كان أفلاطون محقاً: فالإنسان "حقيقي"، أما "الناس" فلحظات عابرة في خيال ظل الحياة.

واستمتع قراء بوفون بهذه الرؤى التي تدير الرؤس، ولكن نقاده أخذوا عليه إنه ضيع نفسه بتهور شديد في التعميمات، مضحياً أحياناً بدقة التفاصيل. وضحك فولتير على تقبله فكرة التوالد الذاتي، واحتقر لينيوس مؤلفه في النباتات، ولم يحترم ريامور دراسته للنحل، واستخف فهماء الحيوان بتصنيفه الحيوانات نفعها للإنسان. ولكن الناس جميعاً صفقوا لأسلوبه. ذلك حتى بوفون ينتمي للأدب كما ينتمي للفهم، ولا يستطيع إنصافه إلا التاريخ المتكامل. فندر من الفهماء من أفصح عن نفسه بمثل هذه البلاغة الرائعة. وقد نطق فيه روسو، وهوأحد أساتذة الأساليب، "إنني لا أعهد له ضريباً في عالم الكتابة. فقلمه أول قلم في قرنه"(106). وفي هذا اتفق جريم الحكيم مع روسورغم عدائه له. "يحق للمرء حتى يدهش لقراءة أحاديث قد يبلغ الحديث منها مائة صفحة، خطت دائماً من أول سطر إلى آخره، بأسلوب رفيع وحرارة مضطردة واحدة، وزينت بأروع تلون وأكثره طبيعية(107). لقد خط بوفون كما يخط رجل تحرر من أغلال العوز ووهب متسعاً من الوقت، فلم يكن في إنتاجه ما خط على عجل كما نجد ذلك كثيراً في فولتير، وكان بألفاظه عنايته بعيناته. وغذ تبين في الأمور قانون استمرارية لاينتسيا"، فقد أرسى نظرية في الأسلوب، فصقل جميع الانتنطقات، ورتب جميع الأفكار في تسلسل جعل لغته تتدفق كأنها نهر عريض عميق. وبينما جميع السر في أسلوب فولتير هوالتعبير السريع الواضح عن الفكر الثاقب، كانت طريقة بوفون هي الترتيب المتأني لأفكار عريضة تنبض بالوجدان فلقد أحس بجلال الطبيعة وجعل من فهمه أنشودة تسبيح.

وكان على وعي تام بنزعته الأدبية، يبهجه حتى يقرأ لزائريه فقرات عذبة من خطه؛ وحين انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية لم يتخذ موضوعاً له يوم استقباله (25 أغسطس 1753) عجيبة من أعاجيب الفهم، بل تحليلا للأسلوب. وحوى هذا الخطاب المشهور، كما نطق كوفييه، "المبدأ والمثال جميعاً"(108)، لأنه هونفسه كان درة من درر الأسلوب. وهومخفي عن عين جميع الناس -إلا الفرنسيين- تحت أكداس مؤلفاته، ولم نكد نعهد منه غير حكمه الشهير، الجامع، الخفي المغزي، "الأسلوب هوالإنسان.

فلنبسطه هنا إذن، ونتأمله على مهل. والترجمة تمضى ببعض روائه، ولكنه مع ذلك، ورغم ما تضطرنا إليه العجلة القبيحة من بتر لبعضه، فإنه خليق بأن الصحائف أياً كانت". نطق بعد حتى قدم لخطابه بتحية لجمهور ضم الكثيرين من أصحاب الأساليب:

"إن الناس لم يتقنوا الكتابة والحديث إلا في العصور المستنيرة. فالبلاغة الصادقة... تختلف تماماً عن سهولة الحديث الطبيعية... التي وهبت لكل صاحب عاطفة قوية... وخيال سريع... أما القلة من الناس الذين وهبوا الفكر المتزن، والذوق الرفيع، والحس المرهف -والذين لا يعبأون كثيراً، شأنكم أيها السادة، بنبر الحدثات، وإيماءاتها، ورنينها الأجوف- هؤلاء يتطلبون المضمون، والفكر، والتمييز، يتطلبون فن تقديم جميع أولئك وتحديدها، وترتيبها، فلا يكفي قرع الآذان واسترعاء العيون، فلا بد للمرء حتى يؤثر في النفس ويلمس القلب وهويتحدث إلى الذهن... وحدثا ازدادت المادة والقوة اللتان نضفيهما على فكرنا بالتأمل، سهل بلوغهما في التعبير.

كل هذا ليس الأسلوب بعد، بل أساسه، أنه يدعم الأسلوب ويوجهه، وينظم حركته، ويخضعه للقوانين. فبدونه يضل خير الكتاب، ويتوه قلمه دون مرشد، ويقذف كيفما اتفق بالخطوط المبهمة والأشكال المتنافرة. ومهما كان بريق الألوان التي يستعملها، وأياً كانت المحسنات التي ينثرها في التفاضيل، فسيختنق بكثرة أفكاره، ولن يبعث فينا وجداناً، ولنقد يكون لكتابته هيكل أوبنيان... ومن ثم يسئ الكتابة من يخطون كما يتحدثون، مهما أجادوا الحديث، والذين يستسلمون لأول الهام حار من خيالهم يتخذون نبرة لا يستطيعون الإبقاء عليها...

ما السر في كمال أعمال الطبيعة،يا ترى؟ هوحتى أي عمل من هذه الأعمال جميع متكامل: لأن الطبيعة تعمل وفق خطة سرمدية لا تنساها أبداً، فهي تعد في صمت بذور إنتاجها، وترسم بخطة فرشاة واحدة الشكل البدائي لكل شئ حي، ثم تطوره وتصقله بحركة متصلة وفي زمن مقرر... وذهن الإنسان لا يستطيع حتى يخلق شيئاً، أوينتج شيئاً، إلا بعد حتى تثريه التجربة والتأمل، وتجاربه هي بذار منتجاته. ولكن لوحتى الإنسان حاكي الطبيعة في طريقته وفي جهوده، ولوأنه ارتقى بالتأمل إلى أسمى الحقائق، ولوأنه وحد بينها من حديث وربط بينها في سلسلة، وألف منها كلا واحداً، ونسقاً محسوباً، لوأنه عمل هذا كله لأقام على أسس راسخة صروحاً خالدة على الزمن.

وبسبب افتقار المحرر إلى مخطط، معدم تفكيره في هدفه تفكيراً كافياً، يجد نفسه حائراً -حتى إذا كان من رجال الفكر- لا يعهد من أين يبدأ الكتابة؛ فهويرى في وقت واحد عدداً كبيراً من الأفكار، ولأنه لم يوازن بينها، ولم يرتبها منظماً، فما من شئ يدعوه لتفضيل بعضها على بعض، ومن ثم يظل في حيرته. أما إذا وضع له مخططاً، وإذا جمع ورتب جميع الأفكار الأساسية في موضوعه، فسيرى للتو، وفي يسر، في أي نقطة يجدر به حتى يتناول قلمه، وسيحسن بأفكاره تنضج في ذهنه، وسيبادر إلى إخراجها للنور، وسيستشعر لذة في الكتابة، وستتلوأفكاره بعضها بعضاً في غير عناء، وسيكون أسلوبه طبيعياً وسهلا، وسينبعث من هذه اللذة ضرب من الدفء ينبسط على عمله، ويضفي الحرارة على عبارته؛ وسيزداد النبض في كتابته ويعلوالنبر، وتتخذ الأمور لها لوناً، ويزداد الشعور وينتشر بعد التحامه بالنور، وينتقل من ذلك الذي نقوله إلى ذلك الذي نوشك حتى نقوله؛ وسيصبح ممتعاً مشرقاً...

ولن تنساب إلى الأجيال القادمة غير الأعمال التي أجيدت كتابتها. ولنقد يكون ما حوت من غزارة في الفهم، أوغرابة في الوقائع، أوحتى طرافة في الكشوف، ضماناً أكيداً للخلود. فلوحتى الأعمال التي تحوي هذا كله اهتمت بموضوعات تافهة، أوخطت دون تمييز أوسمو... لكان مآلها إلى الزوال، ذلك حتى الفهم، والوقائع والكشوف، يسهل نقلها وسلبها، بل إنها تكون أوفر حظاً لووضعت في أيد أقدر وأكفأ. فتلك الأمور خارجة عن الإنسان، أما الأسلوب فهوالإنسان ذاته Le style est i'homme meme، إذا الأسلوب لا يمكن سرقته، ولا حمله، ولا تغييره وتبديله، وإذا كان أسلوباً رفيعاً، نبيلا، سامياً، كان صاحبه موضع الإعجاب في جميع العصور على السواء؛ ذلك حتى الحقيقة وحدها هي الباقية الخالدة".


يقول فيلمان "أن هذا الخطاب الذي أثار الإعجاب الشديد في ذلك الحين يظهر أسمى من جميع ما خطر على الأفكار قبله في هذا الموضوع، ونحن نستشهد به حتى في يومنا هذا بوصفه قاعدة عامة جامعة". وربما وجبت بعض الاستثناءات من هذا الحكم. فوصف بوفون هذا يصدق على النثر خيراً مما يصدق على الشعر، وهوينصف الأسلوب"الكلاسيكي" اكثر مما ينصف الأسلوب "الرومانسي"، وهويتبع تقليد بوالو، ويحمل بحق من شأن العقل؛ ولكنه لا يهجر متسعاً يذكر لفحول النثر الفرنسي من أمثال روسو، وشاتوبريان، وهوجو، ولا لفوضى رابليه ومونتيني اللذيذة، ولا لبساطة العهد الجديد المؤثرة البريئة من التكلف. ومن العسير عليه حتى يدلنا على السر في حتى "اعترافات" روسو، الشديدة الفقر في الفكر، الوافرة الغني في الوجدان، ما زالت من أروع خط القرن الثامن عشر. فالحقيقة قد تكون واقع وجدان كما تكون بنيان فكر أوكمال صورة.

تمثال بوفون في حديقة النباتات.

ولقد كان أسلوب بوفون هوالرجل، رداءاً وقوراً لنفس أرستقراطية. فهولم ينس أنه إقطاعي كما كان عالماً ومحرراً إلا في دراساته. ولم تغير خطوه مسببات التشريف المتكاثرة التي توجت شيخوخته. فقد خلع عليه لويس الخامس عشر لقب الكونت دبوفون في 1771 ونادىه إلى فونتنبلو. ومنحته أكاديميات أوربا وأمريكا الفهمية عضويتها الشرفية. وقد تفرس في هدوء واطمئنان في التمثال الذي أقامه له ابنه في الجاردان دورا وغدا يرجه في مونبار أبان حياته قبلة يحج إليها الزائرون كما يحجون إلى بيت فولتير في فرنيه، وفد عليه روسو، وركع على عتبته، وقبل الأرض. وزاره هنري أمير بروسيا، ومع حتى كاترين الكبرى لم تسطع زيارته، إلا أنها أوفدت له حدثة تقول إنها تضعه في أعلى المراتب بعد نيوتن.

ولقد كان مهيب المظهر مليح الصورة في شيخوخته -"له جسم رياضي" كما نطق فولتير "روح حكيم" وكان في رأي هيوم لا يظهر رجل أدب بل قائداً من قواد فرنسا الحربيين. أما أهل مونبار فكانوا يعبدونه. وكان بوفون على وعي تام بهذا كله، يفخر بلياقته البدنية وبمظهره، ويرجل له شعره ويبدر مرتين في اليوم(114). وقد نعم بصحة سابغة حتى بلغ الثانية والسبعين. ثم بدأ يشكوالحصى، ولكنه واصل العمل، وأبى حتى تجرى له جراحة. وأفسح له في الأجل تسع سنين أخر، ومات في 1788. وسار في جنازته عشرون ألفاً. ولكن لم تكد تمضي سنة على موته حتى نبشت رفاته وذريت في الريح، وسوى تمثاله بالتراب، بأيدي الثوار الذين لم يستطيعوا حتى يغفروا له أنه كان نبيلا، أما ابنه فقد أعدم بالجيلوتين(115).


انظر أيضاً

  • الثورة الفهمية

الهامش

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

  1. ^ Mayr, Ernst. 1981. The growth of biological thought. Harvard. p330.

وصلات

  • The Buffon project : online (in French).
  • Digital text Kyoto University
  • O'Connor, John J.; Robertson, Edmund F., "جورج-لوي لكلرك، كونت بوفون", MacTutor History of Mathematics archive 
  • Buffon's American Degeneracy, from The Academy of Natural Sciences

نطقب:Académie Française Seat 1

تاريخ النشر: 2020-06-04 20:43:49
التصنيفات: Articles with hCards, Pages using infobox scientist with unknown parameters, Pages with citations using unsupported parameters, Articles containing non-English-language text, People from Montbard, علماء طبيعة فرنسيون, رياضياتيون فرنسيون, French ornithologists, علماء حيوان فرنسيون, University of Angers (pre-1793) alumni, Proto-evolutionary biologists, أعضاء الأكاديمية الفرنسية, أعضاء أكاديمية العلوم الفرنسية, كونتات بوفون, كتاب علوم فرنسيون, كتاب فرنسيون من القرن 18, رياضياتيو القرن 18, مواليد 1707, وفيات 1788

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

كندا تعلّق مؤقتاً نشاطها الدبلوماسي في السودان

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:17
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 97%

تسارع عمليات إجلاء الرعايا العرب والغربيين من السودان

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:21
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 86%

قيس الخزعلي: "صدام حسين أصله هندي بتحليل DNA"

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:22:59
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 60%

أجواء العيد والانتخابات تخيم على احتفال تركيا بـ«يوم السيادة»

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:16
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 86%

هل يتحول السودان إلى ساحة لـ«الاستقطاب الدولي»؟

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:19
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 85%

العثور على جثث 11 مهاجرا في صفاقس التونسية

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:25
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 90%

تركيا تشرع في ترتيبات لإجلاء رعايها من السودان

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:23:37
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 69%

لماذ اعتقلت إسرائيل نائباً أردنياً ؟ - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:40
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 67%

عنابة: لا إفراج عن المساجين الذين لم يسدّدوا الغرامات الماليّة

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:27
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 65%

التغيير تنقل الصورة من داخل دور إيواء الفارين من الحرب بمدينة ودمدني

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:23:39
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 51%

مصر تبدأ إجلاء مواطنيها من «المناطق الآمنة» بالسودان

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:14
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 89%

الرئيس تبون يؤدي زيارة دولة إلى فرنسا في النصف الثاني لجوان القادم

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:13
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 67%

قيادي في "الليكود": منصور عباس أشجع من أنور السادات

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:23:12
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 69%

أكثر من 300 خبير من 69 دولة في مؤتمر الموزعين الدولي - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:38
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 58%

إثيوبيا تُبدي استعدادها للمساهمة في حل الأزمة السودانية سلمياً

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:23
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 86%

عيد حزين في السودان: نازحون بمدينة الأبيض يُحاصرهم الحنين إلى الديار

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:23:35
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 61%

الخارجية: خطوط ساخنة لتلقي اتصالات الجالية المصرية في السودا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:23:07
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 53%

تأجيل زيارة الرئيس الجزائري إلى فرنسا

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:23:35
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 74%

بالفيديو.. أول ظهور لحميدتي في الخرطوم

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:23:03
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 63%

تركيا تتهم أميركا بإنشاء «دولة إرهابية» على حدودها

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:28
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 87%

الرئيس الجزائري إلى باريس بعد منتصف يونيو المقبل

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:27
مستوى الصحة: 79% الأهمية: 88%

الولايات المتحدة تحذر من هجمات إرهابية تستهدف الأجانب في السودان

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:23:33
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 58%

استياء غربي بعد تشكيك صيني في انتماء القرم لأوكرانيا

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:24:26
مستوى الصحة: 79% الأهمية: 94%

حزب سياسي يجر حكومة "عزيز أخنوش" إلى المساءلة البرلمانية

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-23 18:23:33
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 74%

تحميل تطبيق المنصة العربية