نتائج الحملة الفرنسية

عودة للموسوعة

نتائج الحملة الفرنسية

هزت الحملة العسكرية الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت عام 1798 روتين الحياة السائدة في الانطقيم العربية، التي عاشت فترة طويلة من الركود الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، اثر توطد اركان السيطرة العثمانية في مطلع القرن السادس عشر.

ينبغي التذكير في هذا السياق ان جيش نابليون لاقى لقاءة شديدة وعداء صارخا من الشعب المصري، وأن البعثة الفهمية التي رافقت الجيش عجزت – رغم عظمة الدور الذي قامت به – عن آداء رسالة تنويرية في وادي النيل الغارق في ظلام القرون الوسطى. ومما لا ريب فيه حتى البحوث اللامعة التي قام بها الفهماء الفرنسيون في شتى حقول الفهم كانت تخدم في المقام الأول الأهداف الحربية السياسية التي خططت لها الدوائر الاستعمارية في باريس. وان نسينا فلن ننسى التذكير بأن نسغ الحياة الثقافية في مصر كاد يتوقف تماما بسبب الخراب الاقتصادي والتأخر الاجتماعي السياسي اللذين سادا في البلاد من جراء السيطرة الهجرية التي جثمت على صدر الشعب المصري أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمان. فالقاهرة (أم الدنيا) التي أصبحت في القرن العاشر الميلادي المركز الحضاري الرئيسي في العالم العربي لم تتمكن في ظل الحكم الهجري الجائر الا من الحافظ على الأزهر: مركز التعليم الاسلامي الذي توالت عليه أحوال شتى بين عسر ويسر.

لقد بدأ الفرنسيون بطبع المنشورات والأوامر بالعربية وهم على سفنهم في عرض البحر. ولما وطئت أقداهم أرض النيل أمر نابليون باصدار الجريدة الرسمية السياسية الناطقة بلسان الجيش الفرنسي بعنوان "بريد مصر" ("كورييه ديجبت") في 29 أب (أغسطس) 1798، كانت تصدر جميع خمسة أيام، وصدر منها 116 عددا، تبعتها جريدة "العشارى المصرية" (دكاد إجبسيان) ، وكانت تصدر جميع عشرة أيام (كانت في الحقيقة فصلية لم يصدر منها سوى ثلاثة أعداد). وهي لسان حال البعثة الفهمية المرافقة للجيش الفرنسي. كان قراء هاتين الجريدتين باللسان الفرنسي أساسا من الفرنسيين المرافقين للحملة العسكرية، فضلا عن الدوائر الحاكمة في باريس (169، ج1، 45).

وامتثالا لأوامر نابليون صدرت في القاهرة عدة صحف في لغة الناطقين بالضاد، وهي جريدة "الحوادث اليومية" التي اكتنفت الغموض ظروف نشأتها ولا يزال. فقد ذكر المؤرخ المصري الكبير عبد الرحمن الجبرتي (31 ، ج4، 238) خبرا مفاده ان قائد الجند الفرنساوية أنشا جريدتين باللسان العربي، كانت احداهما "الحوادث اليومية (169، ج1، 48) وقد أشار المؤرخ الجليل فيليب الطرزي أنه لم يتحقق من اسم الجريدة، ورجح هذه التسمية استنادا الى رواية الجبرتي المنقولة عن إسماعيل بن سعد الخشاب، إمام زمانه في العلوم الأدبية، وقد حاول مؤرخ الأدب العربي حنا الفاخوري اماطة اللثام هن هذا الابهام من خلال تعريبه لاسمي الجريدتين المذكورتين أعلاه "بريد مصر" و"العشارى المصرية" (136، ج2، 326).

ومن الجائز حتى "التنبيه كانت الصحيفة العربية الأولى التي نشرها الفرنسيون بتاريخستة كانون الاول (ديسمبر) 1800، فلم تعمر طويلا، كان الهدف الرئيسي لنشرها ايصال الأوامر والتفهميات العسكرية الصادرة عن القيادة الفرنسية الى المصريين . وقد اعتنى بنشرها الجنرال الفرنسي جاك منوالذي اعتنق الاسلام وتكنى بعبد الله. أما محررها إسماعيل بن سعد الخشاب فلم يستحق – وياللعجب- سوى اشارات عابرة في تاريخ الثقافة العربية. والمعروف عنه انه عكف على تفهم العربية بنفسه وتضلع فيها حتى أصبح محررا بليغا وشاعرا أديبا خلف لنا الكثير من الآثار الأدبية، لعل أشهرا "ديوان الخشاب" الذي جمعه صديقه الشيخ حسن العطار (156، ج4، 210). ولكن كتاباته الأخرى لم تجد حتى اليوم ما تستحقه من البحث والتنقيب. وقد يزول عجبنا اذا عهدنا ان التاريخ العربي – كقاعدة – يتغاضى عن مسألة البحث في نشأة الصحيفة العربية البونابرتية ، اويسعى في أحسن الأحوال لاسدال ستار من التكتم حول هذه الدورية.

وبعد انشاء المطبعة الفرنسية مباشرة قام 146 من الفهماء الفرنسيين بتاسيس مدرستين لتعليم أبنائهم المولودين في مصر على الطراز الاوروبي وانشؤوا مسرحا للتمثيل، ومجمعا فهميا مصريا، ومركزا للطب والصيدلة ومستشفى من خمسمئة سرير وخدمة الكرنتينا (الحجر الصحي) ومخبرا كيميائيا ومرصدا فلكيا ومعرضا للرسم وحديقة للحيوانات ومتحفا للتاريخ الطبيعية وسلاح الهندسة وورشات لانتاج المواد الاستهلاكية والصناعات والمعامل والطواحين... وهلم جرا.

ورغم الأهداف العسكرية السياسية الكامنة وراء هذه التدابير الانشائية، فان الأهداف التنويرية لم تكن تجد سبليها الى الحياة المصرية لولا صدور أمر بونابرت بتأسيس المعهد المصري بأقسامه الأربعة (الرياضيات – الطبيعيات – الاقتصادي السياسي – الأدب والفن) في 21 أغسطس 1798. كان هذا المعهد الفهمي صورة مصغرة لمجامع العلوم الأوروبية، وقد تراس ادارته العالم الفرنسي مونج، واضع أسس الهندسة الوصفية ومؤسس معهد البوليتكنيك في باريس. وكان بونابرت نائبا للرئيس ، والرياضي الشهير لافوربيه أمينا للمعهد ( وهوالذي أطلع شاملبيون على الآثار الفرعونية، فكان الأخير أول من فك رموز الكتابة الهيروغليفية المصرية على حجر رشيد). وقد عمل في المعهد المذكور أكثر من 48 عالما طبقت شهرتهم الآفاق في أوروبة والعالم قاطبة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: برتلوعالم الكيمياء والطبيعيات، والأكاديمي فيفيان دينون مدير معهد الفنون بباريس والرسام الأديب، والفلكيان نوي وتوت، والطبيب ديجينت، والجراح أدرييه، والمهندس ليبر، والخبير العسكري أندريوز، والرياضي لانفريه، وغيرهم (74/ ج1، كذلك 255، 65-66).

كان هدف نابليون من انشاء المعهد المصري يهجرز من جانب في آداء رسالة تثقيقية حضارية تمثلت في نشر منجزات الفهم والتقنية الأوروبيين بين أبناء الشعب المصري ، ومن جانب آخر، الاستفادة من التراث العربي الاسلامي القروسطي في مجال تطوير الفهم الفرنسي. والجدير بالذكر حتى جهود الفهماء الفرنسيين قد تكللت بالنجاح الكامل، ولاسيما ما يخص الجانب الثاني، فهم لم يكتفوا بوضع جداول مقارنة بين المقاييس والأوزان الفرنسية والمصرية، وتاليف كتاب محادثة فرنسي عربي، وتقويم توافقي مصري قبطي أوروبي، بل جمعوا وحققوا المخطوطات العربية القديمة، ودرسوا دراسة دقيقة التاريخ المصري القديمة والحضارة الفرعوينة والاثنوغرافية والفولوكلور والجغرافية وفهم النبات والحيوان والمعادن وغيرها من حقول الفهم والفهم. كما أنهم توصلوا الى فكرة مشروع شق قناة بين البحر الأبيض والمتوسط والبحر الأحمر، وخططوا الملاحة طوال العام في نهر النيل، وانشاء قنوات الري، وتأمين مياه الشرب، والقضاء على الأمراض والأوبئة المتفشية، وزراعة المحاصيل الزراعية الجديدة وغيرها من المشاريع التي وجدت طريقها الى التطبيق في وقت قصير جدا، كما أعاروا انتباها خاصة لترميم الشوارع وانارتها في جميع من القاهرة والإسكندرية، فضلا عن تحسين ظروف العمل والمعيشة فيهما (10، 4، و71، ج1، 213-223:225، و66و80-81).

وقد ظهرت نتائج دراستهم في 24 مجلدا ضخما من كتاب "وصف مصر" (أنظر:56).

غير حتى رجال الدين والفكر في المجتمع المصري قابلوا الغزاة الفرنسيين بعداء صارخ ولم ينصاعوا للنداء النابليوني. ومما اتى في ذلك النداء قوله: "أيها المشايخ والقضاة، والأئمة والجريجية، وأعيان البلد، قولوا لأمتكم ان الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، واثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دامئا يحض النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكوالليرية الذين كانوا يزعمون حتى الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين". والنداء لا يخلومن خلفية اجتماعية تنبه اليها الفهماء المسلمون ذووالصلات الوثيقة مع أشراف المماليك، الذين دافعوا عن مصالحهم بكل تفان واخلاص وشكلوا النادىئم الاساسية التي اعتمد عليها بكوات المماليك، ولاسيما أولئك المشايخ الذين انحدروا من أسر عريقة ثرية. يقول النداء: "إن جميع الناس متساوون عند الله، وان الشئ الذي يفرقهم عن بعضهم هوالعقل والفضائل والعلوم فقط. وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب. فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا ان يمتلكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان، والخيل العتاق, والمساكن المفرحة،يا ترى؟ فان كانت الارض المصرية التزاما للماليك فليرونا الحجة التي خطها الله لهم. ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم. ولكن بعونه تعالى، من الآن فصاعدا لا ييأس واحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية. فالفهماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيديرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها" (31 ج4، 4-5، وايضا 81،9).

ان الغالبية العظمى من رجالات الأزهر العقلاء والفضلاء والفهماء الذين وعدهم نابليون بتقلد المناصب السامية وادارة امور البلاد ، فضلا عن الاستمتاع بالخيرا، قد قاطعوا قيادة الحملة الفرنسية، لا بل وأثاروا حفيظة الأهالي ضد المتدخلين.

بيد حتى نفرا من الأزهريين وجدوا حظوة لدى نابليون، إما بسبب الظروف القاهرة وإما انطلاقا من مصالحهم الضيقة. كان على رأس هؤلاء الشيخ الفقيه العلامة عبد الله الشرقاوي (1737-1812( (192-223) الذي تولى مشيخة الأزهر، فانصب جميع جهده على تخليص البلاد من نير الحكم الهجري وتسلط المماليك. أقامه الفرنسيون رئيس الديوان لاجراء الأحكام، وانتفع في أيامهم. ومن أشهر مؤلفاته " تحفة الناظرين فيمن ولى مصر من الولاة والسلاطين"، اختتمه بوصف خروج الفرنسيين ودخول العثمانية. وكان بين هؤلاء المشايخ عبد الهادي بن محمد المهدي (أمين الديوان) ، وخليل البكري، ومصطفى الدمنهوري، وإسماعيل الزرقاني، وغيرهم (21، ج3، 137). وكان من بينهم أيضا المؤرخ الشهير الجبرتي (1753-1825) الذي وضع كتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" في اربعة أجزاء، ونسب اليه كتاب "مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس".

ومثال الجبرتي مرشد كافي على الأثر الايجابي الذي هجرته الحملة الفرنسية على الحياة الثقافية في مصر. فلما ملك الفرنسيون عين الجبرتي محررا في الديوان، فاختلط الشيخ بالفهماء الفرنسيين، وحدث نوع من الانقلاب الفكري في تصورات الشيخ عن مستويات العلوم والتقنية في أوربة. فبينما كان في الماضي هووأبناء بلده مأخوذين بالننطقة التي استخدمها الفرنسيون بدلا من السلال لنقل التراب ومواد البناء الأخرى، أخذ الشيخ يزور غرفة المطالعة في المخطة التي تستحق جميع الاعجاب، فكان يطلع على الخط النادرة ويحضر التجارب في المخابر الفهمية التي كانت نتائجها كما نطق: "عصية الفهم وعسيرة المنال لعقول مثل عقولنا". وهجر القضاء الفرنسي المرتكز على مبادئ العقل انطباعا عظيما واخاذا في نفس الشيخ الذي اعتاد على القضاء الخاضع لأحكام الدين والشريعة، في الشرق (31، ج3، 33 – 23و166 – 117).

أما صديق الجبرتي الشيخ حسن بن محمد العطار (في حدود 1766- 34-1838) الذي كان أحد كبار مشايخ الأزهر وفر من القاهرة الى الصعيد خشية من الفتن التي نجمت عن دخول الفرنسيين، فقد عاد ادراجه اليها واتصل بفهمائهم، فاستفاد منهم العلوم العصرية الشائعة في بلادهم، وفهمهم اللغة العربية، ثم عمل موظفا في دار النشر الفرنسية، وعل الرغم من حتى المحرر ج. أحمد قد أكد ندرة المعلومات عنه، لكنه جزم بأن العطار كان قد تاثر أكثر من جميع أقرانه بالتقدم الأوروبي الذي تجلى في أروع صوره من خلال أفكار وتأليف الفهماء الفرنسيين في مصر، وأنه كان من أول من اقتنع بالتأخر الشرقي المهيمن في صفوف الأزهريين. وقد أفاد أ. مبارك حتى العطار كان يطلع أصدقائه على المعارف الواسعة في بطون الخط الفرنسي، وانه كان شغوفا جدا بترديد العبارة التالي: "يجب حتى تتغير بلادنا، وعلينا اقتباس العلوم الأوروبية الجديدة علينا" (198/5). ينبغي التذكير هنا حتى العطار رغم اتصاله الوثيق بالفرنسيين – لم يتخل في الواقع عن أحلامه بطرد المتدخلين الأجانب من البلاد.

ومن غير المستبعد اطلاقا حتى بعض المصريين الذيين اتصلوا بالفرنسيين بأية وسيلة من الوسائل المتاحة، ومن بينهم بعض المشايخ الذين اشتغلوا مباشرة أومستقبلا في الوظائف اللفية (مثل الشيخ المهدي)، أوحتى بعض القراء الذين كانوا يطالعون الجريدة العربية الصادرة آنذاك، حتىقد يكونوا قد اطلعوا على مبادئ الثورة الفرنسية الكبرى (جمهورية – حرية – مساواة – عدالة)، وعلى الأفكار الجديدة، ولاسيما التشديد على فكرة "الأمة العصرية" التي ظهرت للمرة الأولى في الواقع المصري. لكن المعطيات التاريخية لا تفيدنا بأي خبر عن حدوث أي تحرك اجتماعي في الواقع الصمري ولوبالمعنى الضيق لهذا التعبير.

فقد خط باتون بهذا الشان ما يلي: "العقبة الكاداء أمام نشر العلوم في مصر لا تكمن في عدم رغبة الفرنسيين في تعليم المصريين ، بل في الاحتقار الشديد الذي يكنه الأخيرون ازاء العلوم الأوروبية عموما" (71، ج1، 222). واذا كان مصدر الحقد كامنا بدائ ذي بدء في العداء السافر للمحتلين الفرنسيين وللمسيحية عامة دفاعا عن معتقداتهم الدينية ومبادئ حب الوطن، فانه تحول في القريب العاجل الى تحد ظاهر لاساليب العنف والقمع التي مارسها الاستعماريون، فضلا عن الاهانات التي كانوا يوجهونها الى تنطقيد المصريين وعاداتهم وقيمهم الاخلاقية.

لقد أكد بعض الكتاب الفرنسيين في ثلاثينيات القرن التاسع عشر الحقيقة التالية: "ان البذور الأولى للحضارة الأوروبية قد تسربت بسرعة في الارض المصرية من شقوق صناديق الذخيرة التي نقلتها الحملة الفرنسية" (48، 445، راجع أيضا: 225، 65). وقد رأى كلوت بك في حينه أنه بات بالامكان تعداد الانعكاسات الطويلة الأمد التي هجرتها الحملة العسكرية، وهي:

1- "لقد زعزع نابليون بيده القوية تلك الأركان التي افترض الشرق أنه يقف عليها بأقادم ثابته، كانت الحملة المصرية الشرارة التي ايقظت الشرق من رقاده الطويل. ان هيبة جيوشنا الجبارة وفوزاتها أثارت انقلابا كبيرا في تفكير الشرقيين".

2- "قضت فوزات الفرنسيين على المماليك، فأظهرت للعرب حقيقة ضعف وخذلان حكامهم المستبدين، ومهدت السبيل لاحياء الأمة العربية وبعثها".

3- إن التسامح المرن الذي أبداه نابليون إزاء المعتقدات الدينية والقيم الأخلاقية للشعب المحتل (للعرب) حفزه، ولومتأخرا، لاجراء اتصالات واسعة مع أوروبة، وللتوجه نحوالحضارة الغربية " (51، ج1، 54-55، ج2، 164-165).

واليوم نجد موقفا مماثلا من الحملة الفرنسية لدى الكثير من الكتاب العرب المعاصرين، وكأنه أصبح من مسلمات التاريخ . ولعل م. صبري خير نموذج لهؤلاء المؤرخين، "لقد أرست الحملة الفرنسية بداية حركة حضارية في مصر، وهجرت آثارا ايجابية على النهضة المصرية الحديثة" تجلت أساسا في الحقائق الآتية:

1- كانت منجزات الفهم والتقنية والمشاريع والتدابير الثقافية الفرنسية بمثابة كشف عظيم دفع المصريين باتجاه التفكير الواعي الهادف.

2- أرست أسس الاتصالات الفرنسية المصرية.

3- مهدت الضربات القاصمة التي تلقاها المماليك تربة صالحة لاستلام الاصلاحي محمد علي زمام السلطة (257، 21).

أما المحرر الأردني حازم نسبية فقد عد سنة 1798 بداية التاريخ العربي الحديث، وكرر حرفيا ما اتى على لسان المحرر السوري خير الله خير الله في مطلع القرن العشرين (237، 26، 30)، مؤكدا ان الحملة البونابرتية "لم توقظ فقط مصر من سباتها الطويل، بل أيقظت الوعي القومي في البلاد العربية ووضع بداية حركة التغريب التي أفضت الى نشوء الطباعة الحديثة واحياء الثقافة العربية التقلديية وبعث الوعي القومي" (252، 35، 108) . ويتصف بعض الكتاب العرب برباطة الجاش وضبط النفس في تقييمهم للحملة. فهم يؤيدون بعض النتائج المشار اليها أعلاه ويرفضون بعضها الآخر. فألبرت حوراني السوري الأصل، الإنكليزي الجنسية، يقبل بواقع التمهيد لظهور محمد علي بينما يكتفي المؤرخ اللبناني كمال الصليبي بالاشارة الى حافز المنجزات الفهمية التقنية التي "أثارت اهتماما عظيما"، ولمح المحرر عبد الجليل الى "الهزة الحقيقية" التي أصابت البلاد العربية "الغارقة فيما يشبه الغيبوبة". وثمت كتاب (أحمد السوداني مثلا) رغم محاولاتهم الارمية لنفي أية محصلة جدية للمغامرات المفاجئة التي بدأها نابليون وانتهت على لاشكل ذاته، فانهم اضطروا للاقرار بحقيقة التحول الذي وقع في وعي بعض المفكرين العرب الذين اتصلوا بالحملة الفرنسية. والاعتراف بالازدياد الملموس في محصلة النتائج الايجابية، ففي النضال ضد الغزاة الفرنسيين، نبتت بذور اليقظة السياسية والوعي القومي في مصر، وعلى الرغم من ان الاتصال بين أوربة والشرق لم ينبتر انقطاعا كاملا في أي وقت من الأوقات، فان الاحتلال الفرنسي لمصر وضع أساس علاقات جديدة بين القارتين، وشكل بداية عصر حديث بالنسبة لمصر.

ورغم التحفظ الظاهر في تقييم أثر الحملة الفرنسية لدى الأجيال المتعاقبة من المستشرقين السوفيت، فانهم قد قدروه تقديرا ايجابيا، على وجه الاجمال. فكريمسكي مثلا اتخذ جانب الحذر في تقييمه وأشار الى حتى النهضة المصرية بدأت اثر الحملة البونابرتية (1798-1801) في ظل الحاكم – المصلح محمد علي (1805-1848) – بيد حتى تنسيق الأفكار الفهمية والآراء المتناثرة في تضاعيف كتابه يتيح لنا الاستنتاج بأن تطلع الشرق المتأخر لاستيعاب الفكر الفهمي التقني الاوربي كان من الحوافز الرئيسية للنهضة المصرية. وأدى بالتالي الى اجراء اصلاحات على الطراز الاوروبي. وان ذلك التطلع والطموح تولدا لدى الشعب المصري اثر احتكاكه بنابليون بونابرت. ويرى كراتشكوفسكي ان المؤثرات الخارجية هجرت على العموم أثرا بالغا على وجه الأدب العربي في القرن التاسع عشر، ولذا عد توطد العلاقات مع أوربة بعيد الحملة الفرنسية واستلام محمد علي لمنطقيد الحكم الباعث الرئيسي للنهضة المصرية.

تجدر الاشارة الى حتى تقييمات الجيل الجديد من المستعمرين السوفيين لم تكن ذات مدلول واحد، فالمستعرب عثمانوف يعتقد "أن التقليد المتبع، والأفكار المسبقة، يدفعان أحيانا لتفسير تلك التغييرات الاقتصادية الثقافية بأنها عاقبة للحملة الفرنسية على مصر". وخط كوديلين أيضا يقول: "كانت لللقاءة مع الغرب (ولاسيما الحدث الهام المتمثل في حملة بونابرت على مصر (1798-1801) نتائج هامة جدا في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الشرق العربي، اذ أنها عجبت وتيرة التفاعلات التي لم تكد تكون ملموسة في أعماق المجتمع الاسلامي".

ومن المؤكد حتى معظم المستعربين يميلون الى الراي القائل بتخصيص مكانة هامة للحملة العسكرية الفرنسية في مصاف المقدمات الاضافية. واعتبار التحولات الاقتصادية الاجتماعية الجارية في القاعدة من العوامل الحاسمة المقررة. فخالدوڤ يرى حتى الصلات التجارية والثقافية في الغرب الراسمالي وجر العالم العربي نهائيات الى حلبة الصراع السياسي العالمي، والمتغيرات التي حدثت في الوعي الاجتماعي، والانطباع العظيم الذي هجرته الحملة الفرنسية على العالم العربي والإسلامي، وادراك ضرورة استيعاب واقتباس منجزات الفهم والتقنية الاوروبية، من الحوافز التي أدت الى التطور الاقتصادي الاجتماعي الذي حتم موضوعيا بداية العملية التاريخية الثقافية العظمى".

بداية هذه العملية على الأرض المصرية اقترنت ولاشك باسم حاكم مصر محمد علي.

المصادر

  • يغيا نجاريان (1986). "الجمعية الفهمية السورية". . يريڤان، أرمنيا: أكاديمية العلوم الأرمنية.
تاريخ النشر: 2020-06-04 21:11:48
التصنيفات: الحملة الفرنسية على مصر, الثورة الفرنسية, حرب التحالف الأول, 1798 في مصر, 1799 في مصر, 1800 في مصر, 1801 في مصر, عصر محمد علي

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

سماع دوي انفجارات في كييف وخاركيف

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:22:04
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 92%

30% انخفاض في الروبل الروسي السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:22:14
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 57%

10 لقطات تلخص مشهد الحرب الأوكرانية (صور)

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:22:06
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 88%

مراكز تدريب ومدارس.. 5 مقترحات للنهوض بالحرف التراثية واستدامتها

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:23:05
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 70%

الطيران الروسي يسيطر على أجواء أوكرانيا السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:22:12
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 55%

استمرار تأثير الرياح النشطة المثيرة للأتربة على 7 مناطق السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:22:13
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 51%

البنك المركزي الروسي يضاعف نسبة الفائدة السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:22:13
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 70%

الجيش الأوكراني يؤكد أن روسيا «بطّأت وتيرة الهجوم» على أوكرانيا

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:22:06
مستوى الصحة: 90% الأهمية: 96%

الروبل ينزف و«المركزي الروسي» يرفع نسبة الفائدة الرئيسية إلى 20 %

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:22:03
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 93%

«الأمر بالمعروف»: بدء تنفيذ أعمال موسم العمرة والزيارة

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:23:10
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 57%

روسيا تعلن رغبتها في الوصول لاتفاق مع أوكرانيا السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:22:12
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 67%

أبرز عناوين الصحف السياسية السودانية الصادرة اليوم الخميس 28 فبراير 2022

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:21:52
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 63%

الجيش الأوكراني يؤكد تراجع وتيرة الهجوم الروسي السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:22:14
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 62%

أوكرانيا: الجيش الروسي يحاول بناء جسر لعبور نهر إيربين

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:23:09
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 50%

أسعار النفط ترتفع أكثر من 5% جراء الغزو الروسي

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:22:04
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 98%

زلزال بقوة 5.8 درجات يضرب تشيلي

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:23:08
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 60%

السودان: منع شحنات أبل محمية بقوة عسكرية من العبور إلى مصر

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:21:51
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 57%

اليوم.. إطلاق أول رحلة سعودية إلى تايلاند بعد انقطاع 32 عام

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:23:07
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 54%

تايلاند تحذر من تداعيات الأزمة الأوكرانية على اقتصادها

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:23:11
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 50%

روسيا تتهم أوكرانيا باستخدام سكان كييف كدروع بشرية السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:22:12
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 53%

برشلونة يواصل الاستفاقة ويمطر بلباو برباعية

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:21:52
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 50%

تحميل تطبيق المنصة العربية