رواقية

زينون من قيتيوم.

الرواقية Stoicism مدرسة فلسفية تعتمد على تعاليم زينون الرواقي (333 ق.م. - 264 ق.م.).

تزعم الرواقية حتى التحكم الذاتي، الثبات وعدم الالتهاء بالعواطف، التي قد تفسّر باللامبالاة بالمتعة والألم، تجعل الإنسان مفكرا سليما، متزن التفكير وموضوعي. أحد جوانب الرواقية الأساسية هي تحسين رفاهة الفرد الروحية.

الفضيلة، المنطق والقوانين الطبيعية هي تعليمات أساسية.

الفلسفة الرِّوَاقِيَّة ممضى فلسفي ازدهر حوالي القرن الرابع قبل الميلاد واستمر حتى القرن الرابع الميلادي. بدأت في اليونان ثم امتد إلى روما. افترض الفلاسفة الرواقيون حتى لكل الناس إدراكًا داخل أنفسهم، يربط جميع واحد بكل الناس الآخرين وبالحق ـ الإله الذي يتحكم في العالم. أدى هذا الاعتقاد إلى قاعدة نظرية للكون، وهي فكرة حتى الناس هم مواطنوالعالم، وليسوا مواطني بلد واحد، أومنطقة معينة. قادت هذه النظرة أيضًا إلى الإيمان بقانون طبيعي يعلوعلى القانون المدني ويعطي معيارًا تقوَّم به قوانين الإنسان. ورأى الرواقيون حتى الناس يحققون أعظم خير لأنفسهم، ويبلغون السعادة باتباع الحق، وبتحرير أنفسهم من الانفعالات، وبالهجريز فقط على أشياء بوسعهم السيطرة عليها.

لقد كان للفلاسفة الرواقيين أكبر الأثر في القانون والأخلاق والنظرية السياسية. على أنهم وضعوا أيضًا نظريات مهمة في المنطق، والفهم، والفلسفة الطبيعية.

كان الرواقيون الأوائل، وخاصة كريسيبيس، مغرمين بالمنطق، والفلسفة الطبيعية وكذلك بالأخلاقيات. وشدد الرواقيون المتأخرون ـ خاصة سنيكا وماركوس أورليوس وإپيكتتوس ـ على الأخلاقيات.

التوفيق بين الإپيقورية والرواقية

لما كان عدد متزايد من أتباع أبيقور قد أخذوا يفسرون أقواله بأنه ينصح الناس بالجري وراء اللذة الجسمية فإن النظرية الأساسية في فهم الأخلاق- وهي ما هي الحياة الطيبة؟- لم يتوصل إلى حلها، بل جميع ما في الأمر أنها وضعت في صيغة أخرى وهي: كيف من الممكن أن يوفق بين أبيقورية الفرد الفطرية وبين الرواقية التي لا بد منها للجماعة والجنس البشري؟- وكيف يستطاع حتى يوحي إلى أعضاء المجتمع أوحتى يرهبوا حتى يسيطروا على أنفسهم أويضحوا بها لأن هذه التضحية وتلك السيطرة لا غنى عنهما لبقاء المجتمع. ولم يعد في مقدور الدين القديم حتى يؤدي هذا الواجب، كما حتى الدولة القديمة دولة- المدينة لم تسمُ بالناس إلى حد يجعلهم ينسون أنفسهم. واتجه اليونان المتفهمون إلى الفلسفة يسألونها الجواب، واستدعوا الفلاسفة يطلبون إليهم التضحية أوالسلوى في أزمات الحياة، وبحثوا في الفلسفة عن نظرة تكسب الوجود الإنساني معنى خالداً أوحكمة دائمة في نظام الأمور، وتمكنهم من حتى ينظروا إلى الموت الذي هم ملاقوه حتماً بلا رهبة ولا فزع. لقد كانت الرواقية آخر ما بذله الأقدمون الأمجاد من جهد للبحث عن مبدأ خلقي فطري، ولقد حاول زينون مرة أخرى حتى يصل إلى الهدف الذي عجز أفلاطون عن الوصول إليهِ.

وكان زينون من أهل قيتيوم إحدى مدائن قبرص؛ وكانت المدينة فينيقية في بعض أحيائها يونانية في أكثرها؛ وكثيراً ما ينطق إذا زينون فينيقي، وينطق أحياناً إنه مصري؛ والذي لا ريب فيه حتى أبويه يختلط فيهما الدم الهليني والدم السامي(44). ويصفه أبلونيوس الصوري بأنه نحيل الجسم، طويل القامة، أسمر اللون، وأن رأسه كان يميل إلى أحد الجانبين، وأن ساقيه كانتا ضعيفتين. ويخيل إلينا حتى أفرديتي لوعرض عليها لأسلمته إلى أثينة، وإن لم يكن هفستس Hephaestus خيراً منه. وإذ لم يكن له ما يشغل باله ويشتت جهوده فإنه سرعان ما جمع من التجارة ثروة طائلة، فلما حتى اتى إلى أثينة أول مرة كان لديه، كما يقولون، أكثر من ألف وزنة. ويقول ديجين ليرتيوس إذا السفينة تحطمت به عند ساحل أتكا، وإنه فقد ثروته، فوصل إلى أثينة حوالي عام 314 وهولا يكاد يملك شيئاً(45). وجلس الرجل إلى جوار دكة خطي وشرع يقرأ في محرر ممر بيليا لأكسانوفون وسرعان ما افتتن بأخلاق سقراط، وأخذ يسأل : "أين يوجد أمثال هذا الرجل اليوم؟". ومر به في تلك الساعة أقراطيس الفيلسوف الكلبي، فأشار عليه الخطي حتى يتبع ذلك الرجل. انظم زينون وهووقتئذ في سن الثلاثين إلى مدرسة أقراطيس وسره حتى كشف الفلسفة ونطق: "لقد قمت برحلة ناجحة موفقة حين تحطمت سفينتي"(46). وكان أقراطيس هذا رجلاً من أهل طيبة هبط عن ثروتهِ البالغ قدرها ثلاثمائة وزنة إلى مواطنيهِ وعاش عيشة الزهد والتقشف التي يعيشها الكلبيون المتسولون. وكان يندد بالنادىرة المتفشية في أيامهِ، وينصح الناس بأن يجوعوا ليعالجوا الحب. وشغفت تلميذته هپارخيا Hipparchia بحبهِ، لكثرة ما كان لديها من الطعام، وهددت أبويها بأنها يفترض أن تقتل نفسها إذا لم يزوجاها بهِ، فتوسلا إلى أقراطيس حتى ينصحها بالرجوع عن عزمها، وحاول هوحتى يجيبهما إلى ما طلبا ووضع مخلاة تسوله بين قدميها ونطق لها: "هذا جميع ما أملك؛ ففكري الآن فيما تعملين"؛ ولم يثنِ ذلك من عزمها فغادرت منزلها الفخم، وارتدت ثياب المتسولين، ومضىت لتعيش مع أقراطيس عيشة العشق الحر الطليق. وينطق لنا إذا زقابلا قد تم علناً، ولكن حياتهما كانت مثلاً أعلى في الحب والوفاء(47).

وأثرت في نفس زينون حياة الكلبيين البسيطة الصارمة؛ ذلك حتى أتباع أنستانس قد أصبحوا وقتئذ هم الرهبان الفرنسسكان في الزمن القديم، نذروا حتى يعيشوا فقراء زاهدين، ينامون في مأوى طبيعي يعثرون عليه، ويعيشون على صدقات الناس الذين يمنعهم جدهم حتىقد يكونوا قديسين. وأخذ زينون عن الكلبيين المبادئ الأولية لنظامهِ الأخلاقي، ولم يحول قط حتى يخفي ما مدين بهِ إليهم. وقد تأثر بهم في أول كتاب له وهوكتاب الجمهورية تأثراً جعله يعتنق شيوعيتهم الفوضوية التي ى تكون فيها نقود، ولا ملكية، ولا زواج، ولا دين، ولا شرائع(48). ولما استوعب حتى هذه الطوبى، وأن نظام التغذية الكلبي، لا يصلحان لأنقد يكونا منهاجاً فهمياً للحياة، فارق أقراطيس وأخذ يفهم مع زنوقراطيس في المجمع الفهمي ومع استبلوالمغاري. وما من شك في أنه قرأ خط هرقليطس قراءة استيعاب لأنه أدخل في أفكارهِ كثيراً من آراء هرقليطس- كالنار المقدسة بوصفها روح الإنسان والكون، وأبدية القانون وتكرار خلق العالم واحتراقه؛ ولكن كان من عادته حتى يقول إنه مدين لسقراط بأكثر مما هومدين به لغيرهِ من الفلاسفة، وإن سقراط هومعين الفلسفة الرواقية ومثله الأعلى.

وبعد حتى قضى زينون كثيراً من السنين تحت وصاية غيره من الفلاسفة أنشأ أخيراً مدرسته الفلسفية الخاصة به في عام 301، وذلك بأن أخذ يتحدث إلى الطلاب وهورائح غادٍ تحت أعمدة الاستواء بوسيلي Stoa Poecile أوالمدخل المحدد. وكان يرحب بالفقراء والأغنياء على السواء، ولكنه لم يكن يشجع انضمام الشبان إلى تلاميذهِ، لأنه كان يشعر بأن الفلسفة لا يفهمها إلا الرجال الناضجوا العقل. وحدث حتى أطال أحد الشبان في الكلام فنطق له زينون "لقد خُلق لنا أذنان وفم واحد لكي ننصت كثيراً ونتحدث قليلاً"(49). وحضر أنتجونس الثاني وهوفي أثينة دروس زينون، وأضحى صديقاً له معجباً بهِ، يستنصحه في مهام الأمور، وأغراه بالترف برهة وجيزة، ونادىه لأن يعيش ضيفاً عليهِ في بلا Pella، ولكن زينون اعتذر له وأوفد إليه بدلاً منه تلميذه برسيوس Persaeus، وظل هوأربعين عاماً يفهم في الاستوا ويعيش عيشة تتفق وتعاليمه اتفاقاً أصبحت معه تعبير "أكثر اعتدالاً من زينون" مثلاً سائراً في بلاد اليونان. وأسلمته الجمعية الأثينية رغم صلته الوثيقة بأنتجونس "مفاتيح الأسوار"، ووافقت على المال الذي خصص لإقامة تمثال له وإهدائه تاجاً. وهذا نص القرار:

"لما كان زينون القتيومي قد قضى سنين كثيرة في مدينتنا يفهم الفلسفة، ولما كان في جميع ما عدا هذا رجلاً طيباً (هكذا)، يحض جميع الشبان الذين يسعون لصحبتهِ على الاعتدال في حياتهم ويجعل حياته أنموذجاً لأعظم ما تسموإليه الحياة... فقد صحت عزيمة الشعب على تكريم زينون... وعلى حتى يهديه تاجاً من المضى... وأن يبني له قبراً في حي الرمكس من الأموال العامة"(51).

والشائع حتى موته كان في سن التسعين، ويقول ليرتيوس إنه توفي بالطريقة الآتية: "بينما هوخارج من مدرستهِ إذ زلت قدمه وكسر إصبع من أصابعها، فضرب الأرض بيدهِ وأعاد بيتاً من الشعر في نيوبي وهو"لقد جئتُ؛ فلمَ تناديني على هذا النحو؟" ثم خنق نفسه من فورهِ"(52).

وواصل عمله في الاستوا رجلان من يونان آسية هما أقليانتس من أسوس Cleanthes of Assus ومن بعدهِ خريسيپوس من صولي Chrysippus of Soli. وكان أقليانتس ملاكماً محترفاً قدم إلى أثينة ومعه أربع درخمات، واشتغل فاعلاً عادياً، ورفض حتى يتقاضى إعانة من الدولة، ودرس على زينون تسعة عشر عاماً، وعاش مجداً فقيراً زاهداً، أما أقريسبوس فكان أكثر تلاميذ المدرسة فهماً وإنتاجاً، وهوالذي أكسب العقيدة الرواقية صورتها التاريخية بأن شرحها في 270 كتاباً، جعلت ديونيسيوس من هليكرناسوس Dionysius of Halicarnassus يعدها أنموذجاً لغزارة الفهم المملة. وانتشرت الرواقية من بعدهِ في جميع أنحاء هلاس، وكان أعظم نادىتها في آسية: پانيتيوس من رودس Panaetius of Rhodes، وزينون من طرسوس، وپوئثوس من صيدا Boethus of Sidon، وديوجين من سلوقس. وكل الذي نستطيعه للتعريف بها حتى نؤلف مما عثرنا عليه عرضاً من النتف الباقية من المؤلفات الضخمة الكثيرة التي خطت عنها صورة لأوسع فلسفات العالم القديم انتشاراً وأعظمها أثراً.

وأكبر الظن حتى أقريسبوس هوالذي قسم الفلسفة الرواقية إلى منطق، وعلوم طبيعية، وأخلاق. وكان زينون ومن اتى بعده يفخرون بما خطوه في النظريات المنطقية، ولكن أنهار المداد التي فاضت بها أقلامهم في هذا الموضوع لم تهجر أثراً ملحوظاً في إنارة العقول أوفي نفعها . لقد كان الرواقيون يتفقون مع الأبيقوريين في حتى الفهم لا تنشأ إلا من الحواس، وكان المقياس النهائي للحقيقة في رأيهم هوالمدركات الحسية التي تضطر العقل إلى قبولها بما فيها من وضوح أوثبات، على أنه ليس من الضروري حتى تؤدي التجارب إلى الفهم، لأن بين الحواس والعقل توجد العواطف أوالانفعالات، وهذه قد تشوه التجارب فتجعلها أخطاء، كما تشوه الرغبات فتجعلها رذائل. والعقل هوأسمى ما أحرزه الإنسان، وهوبذرة من بذور العقل الكلي الذي وضع قواعد العالم.

والعالم كالإنسان مادي بأكملهِ وإلهي بفطرتهِ. فكل ما تنقله لنا الحواس مادي، والأمور المادية دون غيرها هي التي تحدث الأفعال أوتستقبلها. والصفات والكميات، والفضائل، والانفعالات، والنفس والجسم، والله والنجوم، كلها صور مادية أوعمليات، تختلف في درجة رقتها، ولكنها واحدة في جوهرها(54). غير حتى المادة كلها حركية، مملوءة بالتوتر والقوى، لا تنبتر عن العمل على الانتشار أوالهجريز، يبعث فيها الحياة من داخلها وخارجها النشاط والحرارة أوالنار. والعالم يعيش بواسطة عدد لا يحصى من دورات التمدد والانكماش، والتطور والانحلال، يحترق من آن إلى آن في لهب عظيم، ثم يتشكل على مهل من جديد. ثم يعود فيمر في تاريخه القديم كله بأدق تفاصيله لأن تسلسل العلل والمعلولات يسير في دائر مفرغة ويتكرر إلى غير نهاية. وكل الحوادث وكل أعمال الإدارة مقررة معينة، ومن المحال على شيء ما حتى يحدث على نحويخالف ما وقع عليه، كما أنه يستحيل على شيء حتى ينشأ من لا شيء؛ ولوحدثت أية ثغرة في السلسلة لتمزق العالم.

والله في هذا النظام هوالبداية والوسط والنهاية. وكان الرواقيون يعترفون بضرورة وجود الدين ليكون أساساً للأخلاق الفاضلة؛ فكانوا ينظرون نظرة التسامح اللطيفة لعقائد الشعب الدينية وما فيها من شياطين، ومن تنبؤ بالغيب، وكانوا يجدون لهذه تفسيرات مصوغة في تشبيهات ومجازات يسدون بها الثغرة الفاضلة بين الخرافة والفلسفة. وكانوا يقبلون فهم التنجيم الكلداني ويعتقدون بصحته في جوهره، ويرون حتى شؤون الأرض تنطبق انطباقاً خفياً مستمراً على حركات النجوم(55). فكان ذلك لديهم صورة من صور التعاطف العالمي الذي يجعل جميع ما يحدث في جزء منه يؤثر في سائر الأجزاء. وكأنهم أرادوا ألا يكتفوا بوضع نظام أخلاقي للمسيحية، بل شاءوا حتى يضعوا لها أيضاً نظامها الديني، ففكروا في العالم، والشرائع، والحياة، والنفس، والأقدار من حيث صلتها بالله، وعهدوا الأخلاق الفاضلة بأنها الاستسلام عن رضا واختيار لإرادة الله. والله عندهم، كالإنسان، مادة حية؛ فالفهم كله جسمه، ونظام العالم وقانونه عقله وإرادته؛ والكون كائن حي ضخم، الله روحه، ونسمته المنعشة، وعقله المخصب، وناره المحركة المنشطة(56). وترى الرواقيين أحياناً يفكرون في الله تفكيراً مجرداً غير مجسد؛ ولكنهم يصورونه في الأكثر الأهم على أنه قوة مدبرة تضع للكون خطته وترشده بعقلها الأعلى، وتنظم أجزاءه كلها لتؤدي أغراضاً تنطبق على العقل، وتجعل جميع شيء فيه يعود بالنفع على الأفاضل من الناس. ويوحد أقليانيتس بين الله وزيوس في ترنيمة توحيدية خليقة بأن ينطبق بها أخناتون أوإشعيا:

حمداً لك يا زيوس، حمداً يفوق حمد جميع الآلهة: إذا أسماءك لكثيرة،

وإن قوتك لأعظم القوى إلى أبد الدهر.

منك بدأ العالم، وأنت تحكم الأمور كلها بقوة القانون،

وإليك تتحدث جميع الأجسام لأننا نحن جميعاً أبناؤك.

ومن أجل هذا أحمل إليك نشيداً أتغنى فيه بقوتكَ:

إن نظام الكون بأجمعه يطيع حدثتك في تحركها حول الأرض

حيث تختلط الأضواء الصغيرة والكبيرة: ألا ما أجل شأنك

لك الملك إلى أبد الدهر!

لا شيء يحدث على الأرض إلا بفهمك، ولا في السماء ولا في البحار:

إلا ما يعمله الأشرار: مدفوعين إليه بحمقهم؛

ولكن لك من الحذق ما يصلح المعوج نفسه، وما لا صورة له يصور

والبعيد أمامك قريب

إلى غير ذلك نظمت الأمور كلها فجعلتها وحدة: خيرها وشرها:

حتى تكون حدثتك واحدة في الأمور جميعها: باقية إلى الأبد.

طهر نفوسنا من الحماقة، حتى نرد إليك

الفضل الذي تفضلت علينا به:

فنتغنى بمدح أعمالك إلى أبد الآبدين:

غناء يليق ببني الإنسان.

وما أشبه الإنسان والعالم بالكون الصغير في الكون الكبير، فهوأيضاً كائن حي ذوجسم مادي والنفس مادية، ذلك بأن جميع ما يحرك الجسم أويؤثر فيهِ، وكل ما يحركه الجسم أويؤثر فيه، لا بد حتىقد يكون ذا جسم. والنفس نسيم ناري (نيوما Pneuma) منبثة في جميع أجزاء الجسم، كما حتى النفس العالمية منبثة في جميع العالم. وهي تظل بعد الجسم إذا مات، ولكنها تظل على هيئة طاقة غير شخصية. وحين يحدث اللهب الأخير تمتص الروح مرة أخرى في محيط الطاقة وهوالله كما يمتص أتمان Atman في برهمان Brahman.

وإذ كان الإنسان جزءاً من الله أوالطبيعة فإن من اليسير حتى تحل المشكلة الأخلاقية على النحوالآتي: الخير هوالتعاون مع الله أي مع الطبيعة ونعني بها قانون العالم. وليس الخير هوالجري وراء الاستمتاع أواللذة لأن هذا الجري يخضع العقل للشهوة، وكثيراً ما يؤذي الجسم أوالعقل، وقلما يرضينا في آخر الأمر. ولا يمكن حتى تتحقق السعادة إلا بالمواءمة بين أغراضنا وسلوكنا من جهة، وبين أغراض العالم وقوانينه من جهة أخرى؛ وليس ثمة تعارض بين صالح الفرد وصالح الكون، لأن قانون الخير في حالة الفرد يتفق مع قانون الطبيعة. وإذا لحق الشر بالرجل الطيب فإن هذا لاقد يكون إلا إلى أجل قصير، وليس هوفي واقع الأمر شراً؛ ولوأننا استطعنا حتى نفهم الأمر كله لرأينا ما وراءه من خير مهما يظهر في أجزائه من الشر . والرجل العاقل لا يفهم العلوم الطبيعية إلا بالقدر الذي يكفي لفهم قانون الطبيعة ثم يكيف حياته وفق هذا القانون، وغرض الفهم والفلسفة والمبرر الوحيد لدراستها هما تمكيننا من حتى نعيش وفق الطبيعة Zen Kata physin. ويسلم أقليانيتس إرادته لإرادة الله في ألفاظ تكاد حتى تكون هي بعينها ألفاظ نيومن Neunam:

أهدني يا الله، وأنتَ يا قدري،

إلى ذلك المكان الوحيد الذي تريدني حتى أشغله.

وسأتبع هديكما مسروراً. فإذا ما وصلتُ معكما

ثم نكثتُ العهد، فلا بد لي من حتى أواصل السير معكما.

ومن أجل هذا يتجنب الرواقي الترف والتعقيد، والمنازعات السياسية والاقتصادية؛ وهويقنع بالقليل، ويقبل بلا تذمر صعاب الحياة وما يلاقيه فيها من خيبة. ولا يأبه بشيء غير الفضيلة والرذيلة- ر يبالي بالسقم والألم، بحسن السمعة أوسوئها، بالحرية أوالرق، بالحياة أوالموت. ويقمع جميع شعور يقف في وجه سير الطبيعة أويبعث على الارتياب في حكمتها: فإذا توفي ولده لم يحزن، بل يرضى بحكم القدر معتقداً أنه أحسن الأحكام وإن خفي الأمر عليه؛ ويسعى لأنقد يكون مجرداً من الشعور تجرداً تاماً، حتىقد يكون هدوء عقله آمناً من جميع تقلبات الحظ، أوالرحمة، أوالحب، ومن سقطها عليه . وعلى الرواقي حتىقد يكون مفهماً قاسياً، وإداريا صارماً. والجبرية لا تتضمن الانطلاق من القيود، بل يجب علينا حتى نكبح جماح أنفسنا وأنفس غيرنا، وأن نتحمل من الناحية الخلقية تبعات جميع أعمالنا. ولما حتى ضرب زينون عبده لأنه سرق، وكان العبد يعهد قليلاً من الفهم، نطق له: "ولكني قد قدر عليَّ حتى أسرق"، فرد عليه زينون بقولهِ: "وقدر أيضاً حتى أضربك"(61). ويرى الرواقي حتى جزاء الفضيلة هوالفضيلة نفسها، وأنها واجب مطلق وأمر محتوم، مستمد من اشتراكه في الألوهية؛ وإذا أصابه مكروه عزى نفسه بأنه حين يتبع القانون الإلهي يصبح هوالله مجسداً(62). فإذا سئم الحياة، واستطاع حتى يفارقها من غير حتى يسبب الأذى لغيره، فلا حرج عليه من حتى ينتحر. ولما بلغ أقليانتيس سن السبعين شرع يصوم صوماً طويلاً، ثم نطق إنه لن يعود بعد حتى بتر نصف الطريق، وواصل الصوم حتى مات(63).

على حتى الرواقي مع هذا ليس بالرجل غير الاجتماعي، وهولا يفخر بالفقر كالكلبي، ولا يغرم بالوحدة كالأبيقوري. وهويوافق على الزواج وعلى وجود الأسرة ويراهما لازمين، وإن كان لا يمتدح الحب الروائي؛ وهويتطلع إلى وجود مدينة فاضلة تكون فيها النساء شركة بين الرجال(64). ويقبل وجود الدولة، بل يقبل الملكية المطلقة نفسها؛ وليست لديه ذكريات عزيزة عن دولة- المدينة، ويرى حتى أوساط الناس مغفلون شديدوا الخطر، ويفضل الملوك المطلقي السلطة على تحكم الغوغاء. والحق أنه قلما يعنى بأية حكومة، ويتمنى حتىقد يكون الناس كلهم فلاسفة، حتى تصبح القوانين لا ضرورة لها. وهولا يفكر في الكمال كما يفكر فيه أفلاطون أوأرسطومن حيث علاقته بخير المجتمع، بل يفكر فيه من حيث علاقته بالرجل الصالح. ولا يرى حرجاً في حتى يشهجر في الشؤون السياسية، ويناصر جميع حركة ضعيفة، تهدف إلى الحرية والكرامة الإنسانية، ولكنه لا يقيد سعادته بقيود المنصب أوالسلطان. وهويرضى بأن يضحي بحياتهِ في سبيل بلاده، ولكنه يرفض جميع وطنية تقف في سبيل ولائه للإنسانية بأجمعها؛ فهووالحالة هذه مواطن عالمي. وكان زينون، وهوالذي يجري في عروقه، كما تجاوز القول، الدم اليوناني والدم السامي، يتوق كما يتوق الإسكندر لتحطيم الحواجز العنصرية والقومية؛ وإن نزعته الدُّوَلية لتكشف عن فكرة الإسكندر التي كانت آخذة في الزوال، فكرة توحيد بلاد شرق البحر الأبيض المتوسط. وكان زينون وكريسبوس يأملان في آخر الأمر حتى يحل مجتمع واحد كبير محل تلك الدول والطبقات المتطاحنة؛ وألاقد يكون في هذا المجتمع الجديد أغنياء وفقراء، أوسادة وعبيد؛ يحكمه الفلاسفة فلا يظلمون، ويكون فيه الناس جميعاً أخوة لأنهم أبناء إله واحد(65).

وملاك القوى حتى الرواقية كانت فلسفة نبيلة، وأنها كانت فلسفة عملية إلى حد أبعد مما يتسقطه الساخر منها في الوقت الحاضر. لقد وحدت هذه الفلسفة جميع عناصر الفكر اليوناني وبذلتها في مجهود نهائي قام به العقل الوثني لوضع نظام أخلاقي ترتضيه الطبقات التي خرجت على الدين القديم؛ ومع أنه لم ينضوِ تحت لوائها إلا أقلية ضئيلة، فإن هذه الأقلية أينما وجدت كانت خير العناصر. وقد أنتجت كما ابتكر الممضىان المسيحيان اللقاءان لها- وهما الكلفنية والمتزمتة- أقوى الأخلاق في زمنها. على أننا إذا نظرنا إلى هذه الفلسفة من الوجهة النظرية رأينا عقيدة شاذة مروعة تهدف إلى كمال قاسٍ يحتاج من أصحابهِ اعتزال المجتمع، لكنها في واقع الأمر قد خلقت رجالاً شجعاناَ، قديسين أطهاراً، خيرين أمثال كاتوالأصغر، وإبكتتس Epictetus، وماركس أورليوس. ولقد تأثر بها الروماني فوضع على هديها تشريعاً للأمم غير الرومانية، وأعانت على حفظ كيان المجتمع القديم حتى ظهر له دين جديد. ولسنا ننكر حتى الرواقيين قد شدوا من أزر الخرافات، وأنهم كان لهم أثر سيئ في العلوم الطبيعية، ولكنهم رأوا بنافذ بصيرتهم المشكلة الأساسية القائمة في عصرهم - وهي أساس الأخلاق الديني- وبذلوا مجهوداً شريفاً لملء الهوة الفاصلة بين الدين والفلسفة. لقد كسب أبيقور اليونان وضمهم إلى لوائهِ، أما زينون فقد كسب أرستقراط رومة، وظل الرواقيون إلى آخر تاريخ الوثنية يحكمون الأبيقوريين، وسيظلون على الدوام هم الحاكمين لهم. ولما حتى نشأ دين حديث من أنقاض الفوضى العقلية والأخلاقية الضاربة أطنابها في العالم الهلنستي، كانت السبيل قد مهدتها لهذا الدين فلسفة آمنت بضرورة الدين، ونادت بعقيدة تقشفية من مبادئها البساطة وضبط النفس، عقيدة ترى في الله جميع شيء.


انظر أيضًا

  • زينون الرواقي
  • إپيكتتوس
  • ماركوس أورليوس
  • لوسيوس أنايوس سنيكا

المصادر

وصلات خارجية

  • Stoicism entry in the Stanford Encyclopedia of Philosophy by Dirk Baltzly
  • رواقية entry in the Internet Encyclopedia of Philosophy
  • Stoics on PhilPapers
  • The Rebirth of Stoicism
  • The Dialectical School, Stoic Logic and the Doctrine of Lekta (Sayables) with an annotated bibliography on Stoic logic
  • BBC Radio 4's In Our Time programme on Stoicism (requires RealAudio)
تاريخ النشر: 2020-06-04 21:35:16
التصنيفات: مدارس وحركات أخلاقية, فلسفة ودين هليني, حركات فلسفية, مدارس وتقاليد فلسفية, فلسفة العصر الروماني, رواقية, بذرة فلسفة, فلسفة

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

شركة ألمانية: لا توجد خطط لإعادة تأهيل "السيل الشمالي"

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-26 12:17:07
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 92%

الجيش السوداني يؤكد أن عمر البشير في المستشفى تحت حراسة قضائية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-26 12:17:13
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 88%

خسر نحو نصف قيمته.. انهيار سهم بنك أمريكي في ظل موجة سحب للودائع

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-26 12:17:08
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 86%

روسيا.. إجلاء أكثر من 140 عاملا من منجم في كوزباس

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-26 12:17:05
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 98%

"بلومبرغ": أوروبا فشلت في محاولتها بتوجيه ضربة لروسيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-26 12:16:56
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 91%

إردوغان يلغي أنشطته المقررة للأربعاء بسبب المرض (بيان)

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-26 12:16:49
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 97%

عشية حدث نووي.. أردوغان ينوي الاتصال ببوتين

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-26 12:17:00
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 98%

أكار يعلق على مفاوضات موسكو الرباعية بشأن سوريا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-26 12:16:59
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 88%

زاخاروفا تشبه الولايات المتحدة بعجوز شمطاء من فيلم كرتون مشهور

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-26 12:17:15
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 98%

نيكي هايلي تهاجم بايدن وتدعو لإقالته

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-26 12:17:12
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 91%

امتثالا لنصائح الأطباء.. أردوغان يلغي جولات انتخابية وسط تركيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-26 12:17:09
مستوى الصحة: 81% الأهمية: 96%

بايدن يواصل العيش في "العالم الموازي" (فيديو)

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-26 12:17:06
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 97%

بوتين وباشينيان يبحثان هاتفيا الوضع في قره باغ

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-26 12:16:58
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 98%

تحميل تطبيق المنصة العربية