آن روبير جاك طورگو

عودة للموسوعة

آن روبير جاك طورگو

آن روبير جاك طورگو, بارون لون Anne-Robert-Jacques Turgot, Baron de Laune, وغالباً ما يشار إليه باسم طورگوTurgot (و.10 مايو1727 - 18 مارس 1781), كان اقتصادي ورجل دولة فرنسي. وقد كان أسلوب وزارته في الليبرالية الاقتصادية هوالقشة الأخيرة التي قصمت ظهر الشعب الفرنسي ودفعته إلى الثورة.

النشأة

ولد في أسرة عريقة "من أصل طيب" Une Bonne Race كما نطق لويس الخامس عشر-شغل أفرادها المناصب الهامة أجيالاً عديدة بكل كفاية. وكان أبوه مستشاراً للدولة وسر تجار باريس، وهوأحمل منصب إداري في باريس، وأخوه الكبر أميناً للالتماسات والمطالب في برلمان باريس وعضواً بارزاً فيه. وكانت النية توجيه طورجو(آن روبير-جاك)، وهوالابن الأصغر إلى وظيفة القسوسية.

واجتاز بتفوق جميع الامتحانات في كلية لوي-لجران، وفي مدرسة سان-سولبيس اللاهوتية؛ وفي الصوربون، وأصبح "الأبيه دبروكور" وهوبعد في التاسعة عشرة. وتفهم قراءة اللاتينية، واليونانية، والعربية، والأسبانية، والإيطالية، والألمانية، والإنجليزية، والكلام بثلاثة من هذه اللغات على الأقل بطلاقة. وفي 1749 انتخب رئيساً للصوريون، وبوصفه هذا ألقى محاضرات أثارت اثنتان منها ضجة خارج نطاق اللاهوت.

ففي يوليو1750 ألقى محاضرة على الصوريون باللاتينية في "الفوائد التي أفاد بها توطيد المسيحية الجنس البشري"، ونطق إنه أنقذت العالم القديم من سلطان الخرافة، وصانت الكثير من الآداب والفنون والعلوم، وقدمت للبشر المفهوم المحرر لقانون العدالة يسموفوق جميع ألوان التعصب والأنانية البشرية. "أفيستطيع الإنسان حتى يطمع في هذا من أي مصدر آخر غير الدين،يا ترى؟ إذا الدين المسيحي دون غيره هوالذي أخرج إلى النور حقوق الإنسان"(47). وفي هذه التقوى تسمع صدى الفلسفة؛ وواضح حتى الرئيس الشاب كان قد قرأ مونتسيكووفولتير، وتأثر لاهوته بعض الشيء بما قرأ.

وفي ديسمبر 1750 ألقى محاضرة في الصوربون عنوانها "جدول فلسفي بالتقدم المطرد للعقل البشري". وكان هذا التعبير عن ديانة التقدم الجديدة إنجازاً رائعاً من فتى في الثالثة والعشرين. وقد تجاوز كونت-وربما حذا حذوفيكو-فقسم تاريخ العقل البشري إلى ثلاث مراحل: فترة لاهوتية، وأخرى ميتافيزيقية، وثالثة فهمية. نطق:

"قبل حتى يفهم الناس العلاقة العلية بين الظواهر الطبيعية، كان طبيعياً جداً حتى يفترضوا أنها صادرة عن كائنات عاقلة، غير مرئية، شبيهة بهم...فلما استوعب الفلاسفة سخف هذه الخرافات عن الأرباب دون حتى يكتسبوا بعد بصراً بالتاريخ الطبيعي، حاولوا تفسير مسببات الظواهر بعبارات تجريدية مثل الظواهر والقوى. ولم توضع الفروض-التي أمكن تطويرها بالرياضيات وإثباتها بالتجربة؛ بملاحظة التفاعل الميكانيكي المتبادل للأجسام-إلا في فترة متأخرة"(48).

ونطق الشاب الألمعي إذا الحيوانات لا تعهد التقدم، فهي تظل كما هي جيلاً بعد جيل، أما الإنسان فبفضل تفهمه تجميع الفهم وتوصيلها يستطيع تحسين الأدوات التي يستخدمها في التعامل مع بيئته وفي إثراء حياته. مادام هذا التجميع والتوصيل للفهم والتكنولوجيا مستمراً فلا مندوحة عن التقدم وإن عطلته أحياناً الكوارث الطبيعية أوتقلبات الدول. وليس التقدم متماثلاً، ولا هوعام، فبعض الأمم يتقدم وبعضها يتقهقر، وقد يركد الفن في حين يتحرك الفهم قدماً، ولكن الحركة في جملتها حركة إلى الأمام. وفضلاً عن هذه الآراء، تنبأ طورجوبالثورة الأمريكية فنطق "إن المستعمرات أشبه بالفاكهة التي تتشبث بالشجرة إلى حتى تنضج، وحين تغدومستكفية بذاتها تعمل ما عملته قرطاجة، وما ستعمله أمريكا يوماً ما(49)".

وقد خطط طورجولكتابة تاريخ الحضارة وهوبعد الصوربون مستوحياً في ذلك فكرة التقدم. ولم يبقَ من مشروعه هذا سوى مذكرات خطها لبعض فصول الكتاب، ومنها يتبين أنه قص حتى يضمنه تاريخ اللغة، والدين، والفهم، والاقتصاد، وفهم الاجتماع، وفهم النفس، كما يضمنه قيام الدول وسقوطها(50). فلما ورث عن أبيه دخلاً كافياً قرر أواخر عام 1750 حتى يهجر الوظيفة الكنسية وألح عليه زميل من الآباء الدينيين في البقاء واعداً إياه بالترقي السريع، ولكن طورجوأجاب على ما روى دبون دنمو"لا أستطيع حتى أفرض على نفسي لبس قناع طوال حياتي(51)". ولم يكن قد رسم إلا لوظيفة كهنوتية صغيرة، لذلك كان حراً في الاشتغال بالسياسة. وفي يناير 1752 أصبح نائباً عاماً مناوباً، وفي ديسمبر أصبح مستشاراً في البرلمان، وفي 1753 اقتنى منصب "أمين الالتماسات والمطالب"، الذي اشتهر فيه بالاجتهاد والعدل. وفي 1755-56 رافق جورنيه في جولات تفتيشية في الأنطقيم، وتفهم الاقتصاد الآن بالاتصال المباشر مع الزراع والتجار، والصناع، وعن طريق جورنيه التقى بكزنيه وعن طريق كزنيه التقى بميرابوالأب، ودبون دنمور، وآدم سميث. ولم ينخرط قط في زمرة المدرسة الفيزوقراطية ، ولكن ماله وقلمه كانا أبرز سند لمجلة دبون المسماة التقاويم.

وفي غضون هذا (1751) استطاع بفضل ذكائه وسلوكه المهذب حتى يلقى الترحيب في صالونات مدام جوفران ومدام دجرافيته، ومدام دوديفان والآنسة دلسبيناس. وهناك التقى بدالامبير، وهلفتيوس؛ ودولباخ، وجريم، ومن بين الثمرات المبكرة لهذا الاتصال كتاب (1753) من رسالتين "في التسامح". وخط لموسوعة ديدرومنطقات في الوجود، والاشتقاق اللغوي، والمهرجانات، والأسواق، ولكن حين أدانت الحكومة مشروع الموسوعة كف عم موافاتها بمنطقاته. وخلال جولاته في سويسرا وفرنسا زار فولتير (1760) وبدأ صداقة معه دامت حتى وفاة فولتير. وخط حكيم فرنيه إلى دالامبير يقول: (قل حتى رأيت طوال حياتي رجلاً ألطف منه أوأوسع إطلاعاً(52)). وادعى جماعة الفلاسفة أنه واحد منهم، وراوده الأمل في حتى يؤثروا على الملك عن طريقه.

وفي 1766 خط لطالبين صينيين على وشك العودة إلى الصين مجملاً للاقتصاد من مائة صفحة عنوانه "تأملات في نشوء الثروة وتوزيعها". فلما نشر في مجلة "التقاويم" (1769-70) أشاد به الناس شرحاً من أكثر شروح النظرية الفيزوقراطية إحكاماً وقوة. نطق طورجوحتى الأرض مصدر الثروة الوحيد، وكل الطبقات فيما عدا زراع الأرض يعيشون على الفائض الذي ينتجه الزراع فضلاً عن حاجاتهم؛ وهذا الفائض يؤلف "صندوق أجور" تدفع منه أجور طبقة مهرة الصناع. ثم يسوق صيغة مبكرة لما أصبح فيما بعد يطلق عليه "قانون الجور الحديدي" يقول:

"إن أجر العامل يحدده مستوى معيشته بالمنافسة بين العمال. والعامل المجرد الذي لا يملك غير ذراعيه وجده، لا يملك شيئاً إلا بقدر ما يوفق في بيع كده لغيره، وصاحب العمل ينقده أقل ما يستطيع من أجر، وبما أنه يستطيع الاختيار بين الكثير من العمال، فإنه يفضل أقلهم أجراً. ومن ثم يضطر العمال إلى خفض ثمنهم في المنافسة فيما بينهم، وفي جميع أنواع العمل لابد حتى يحدث هذا، وهويحدث عملاً، وهوحتى أجر العامل يحدده ما ضروري لإعاشته"(53). ويسترسل طورجومؤكداً أهمية رأس المال. فلابد حتى يوفر إنسان ما، بمدخراته، أدوات الإنتاج ومواده قبل حتى يتسنى له استخدام العامل، ولابد له من إعاشة العامل قبل حتى يرد بيع الناتج له رأس ماله. وإذا لم يكن هناك ضمان على الإطلاق لنجاح مشروع ما، فيجب السماح بربح ليوازن خطر فقد رأس المال. "فحركة رأس المال هذه انطلاقاً ورجوعاً هي قوام دورة النقود، تلك الدورة النافعة المثمرة التي تشيع الحياة في جميع جهود المجتمع، والتي شبهت بكل حق بدورة الدم في الجسم الحيواني"(54). ويفضل عدم التدخل في هذه الدورة، وأن يسمح للأرباح والفائدة، كما يسمح للأجور، بأن تصل إلى مستواها الطبيعي حسب العرض والطلب، ويجب حتى يعفى من الضرائب أصحاب رؤوس الأموال، وأرباب المصانع، والتجار، والعمال؛ فلا تُفرض إلا على ملاك الأرض الذين يستردون ما دفعوه بتقاضي ثمن أغلى لمحاصيلهم. وينبغي حتى لا يفرض إي رسم على نقل أوبيع أي سلعة من سلع الاستهلاك.

في هذه "التأملات" أرسى طورجوالأساس النظري لرأسمالية القرن التاسع عشر قبل التنظيم الفعال للعمل. فهذا الرجل الذي كان من أرحم وأنبل رجال زمانه لم يستطع حتى يتطلع إلى مستقبل للعمال أفضل من أجور الكفاف. ومع ذلك أصبح هذا الرجل خادماً للشعب متفانياً في عمله. ففي أغسطس 1761 عُين ناظراً ملكياً لمديرية ليموج، وهي من أفقر أنطقيم فرنسا، وقد قدر حتى 48% إلى 50% من ولج الأرض فيها يضيع ضرائب للدولة وعشوراً للكنيسة. وكان في فلاحي الإقليم كآبة في نبلائه فظاظة. خط إلى فولتير يقول: "من سوء حظي حتى أكون ناظراً ملكياً. وأقول من سوء حظي لأن السعادة في هذا الزمان الممتلئ بالتناحر واللوم لا تتوافر إلا في حياة الفلسفة بين الخط والأصدقاء". ورد عليه فولتير قائلاً: "ستكسب أهل ليموج وجيوبهم؛ في اعتقادي حتى الناظر الملكي هوالشخص الوحيد الذي يمكنه إفادة الناس. إلا يستطيع إصلاح الطرق، وغرس الحقول، وتصريف المستنقعات، وتشجيع الصناعات؟".

وقد عمل طورجوهذا كله. فكافح بهمة طوال ثلاثة عشر عاماً، أكتسب فيها محبة الشعب وكراهية النبلاء. فالتمس مراراً ، ودون جدوى، من مجلس الدولة حتى يخفض معدل الضريبة، وحسن توزيع الضرائب، وحمل المظالم، ونظم خدمة موظفي الحكومة، وحرر تجارة الغلال، وشق 450 ميلاً من الطرق؛ وكانت هذه الطرق جزءاً من برنامج إنشاء الطرق الذي ينظم البلاد كلها (والذي بدأته الحكومة الفرنسية في 1732) والذي ندين له بالفضل في هذه الطرق الجميلة ذات الأشجار الوارفة الغلال التي تنتشر اليوم في ربوع فرنسا. وكانت الطرق قبل طورجوتشق بالسخرة، فألغى السخرة في ليموج، ودفع أجر العمال من ضريبة عامة على الكافة. وأقنع الفلاحين بأن يغرسوا البطاطس غذاء للإنسان لا للحيوان فقط. وقد ظفر بإعجاب الناس جميعاً لما اتخذ من تدابير فعالة لإغاثة الشعب في فترات المجاعة التي امتدت بين سنتي 1768 و1772.

وفي عشرين يوليو1774 نادىه الملك الجديد للانضمام إلى الحكومة المركزية واغتبطت فرنسا كلها وتطلعت إليه منقذاً مرجواً للدولة المتداعية.


وزارة طورجو1774 - 1776

كان أول هم للويس السادس عشر حتى يعثر على وزراء أكفاء أمناء يصلحون الفوضى التي استشرت في الإدارة والملية. وكان الشعب يطالب في إلحاح بعودة "البرلمانات" التي أقصبت، فأعادها، وأنطق موبيوالذي حاول من قبل لأن يحل محلها هيئة أخرى، ورد إلى فرساي لرآسة وزارته جان- فردريك فلبو، كونت موريبا، الذي كان وزيراً للدولة من 1738 إلى 1749، وأقيل لأنه عرض في أهجوة ساخرة بمدام دبومبادور، فعاد الآن إلى السلطة بعد حتى بلغ الثالثة والسبعين. وكان اختياراً كريماً ولكنه غير موفق، لأن موريبا بعد حتى عاش عقداً على وضعيته الريفية، كان قد فقد صلته بتطور فرنسا في اقتصادها وفكرها، وكان فيه من الظرف أكثر مما فيه من الحكمة. أما للشئون الخارجية فقد اختار الملك ذوالعشرين شارل جرافييه، كونت ديفرجين، ولوزارة الحربية الكون كلود- لوي دسان- جرمان، ولوزارة البحرية آن- روبير- جاك طورجو، بارون دولون.

وقد رأيناه في صفحات سابقة لاهوتياً، ومحاضراً في المسيحية والتقدم، وصديقاً للفزيوقراطيين وجماعة الفلاسفة الفرنسيين، وناظراً ملكياً مقداماً خيراً في ليموج. وقد حذر أتقياء القصر لويس من استخدام طورجولأنه كافر تجاوز حتى شارك في "الموسوعة" بمنطقاته(67)، ومع ذلك ففي 24 أغسطس 1774 حمله الملك إلى أدق مناصب الحكومة- وهومنصب المراقب العام للمالية وحل محل طورجوفي البحرية جابرييل دسارتين، الذي أنفق في خفة على بناء أساطيل ستساعد على تحرير أمريكا، والذي أعتمد على طورجوفي تدبير المال اللازم لبنائها.

وكان طورجورجلاً فرنسياً من معدن شبيه بالذي وجده لويس الرابع عشر في كولبير، كرس نفسه لخدمة وطنه، واتسم ببعد النظر، والعكوف على العمل بغير ملل، ونقاء اليد وطهارتها. وكان فارع الطول حسن الصورة، ولكن اعوزته رقة آداب الرجال الذين صقلتهم الصالونات- وإن رحبت به الآنسة لسبيناس ترحيباً حاراً. وكان قد ضحى بصحته في سبيل عمله، وفي كثير من الوقت الذي كان عاكفاً فيه على إعادة خلق اقتصاد فرنسا كان يلزم مسكنه بسبب النقرس.. وقد حاول حتى يضغط ربع قرن من الإصلاحات في وزارة واحدة قصيرة الأجل لأنه أحس بأن أستزاره قلق مزعزع. وكان في السابعة والأربعين حين تقلد وزارته، وفي التاسعة والأربعين حين فقدها، وفي الرابعة والخمسين حين ودع الحياة.

وقد آمن مع الفزيوقراطيين بتحرير الصناعة والتجارة ما أمكن من التنظيم الحكومي أوالنقابي، وبأن الأرض مصدر الثروة الوحيد، وبأن ضريبة واحدة على الأرض هي أعدل الطرق وأكثرها عملية لجمع إيراد الدولة، وبأنه ينبغي إلغاء جميع الضرائب غير المباشرة. ثم أنه أخذ عن جماعة الفلاسفة تشككهم الديني وتسامحهم، وثقتهم في العقل والتقدم، وأملهم في إصلاح الأمور عن طريق ملك متنور. فإذا كان الملك صاحب ذكاء وإرادة صالحة، يقبل الفلسفة مرشداً وهادياً له، كان هذا ثورة سلمية، تفضل كثيراً الثورة العنيفة الفوضوية التي لا تكتفي بالقضاء على المفاسد بل تطيح بالنظام الاجتماعي ذاته، فالآن إذن حان وقت وضع نظرية فولتير، "النظرية الملكية" هذه موضع الاختبار. ومن ثم نرى جماعة الفلاسفة يشاركون الفزوقراطيين ابتهاجهم بتقلد طورجوزمام الأمور. ومضى طورجوإلى كومبيين في 24 أغسطس 1774 ليشكر لويس السادس عشر على تعيينه وزيراً للمالية. ونطق له "إنني لا أبذل نفسي للملك بل للرجل الأمين". وأجاب لويس وهويأخذ يدي طورجوفي يديه "لن يخيب ظنك"(68). وفي مساء ذلك اليوم بعث الوزير إلى الملك رسالة بينت النقاط الأساسية في برنامجه نطق:

"لا إفلاس، معلناً كان أومقنعاً.

لا زيادة في الضرائب، والسبب حالة شعبك...

لا قروض،... لأن جميع قرض يقتضي في نهاية أجل مسمى إما

الإفلاس وإما زيادة الضرائب..."

ولتلبية هذه النقاط الثلاث لا يوجد غير سبيل واحد وهوخفض الإنفاق عن الإيراد، وخفضه بقدر يكفي ضمان وفر في جميع عام مقداره عشرون مليوناً تخصص لاستهلاك الديون القديمة. وبغير هذا ستدفع أول طلقة نار بالدولة إلى هاوية الإفلاس. (وقد التجأ نكير فيما بعد إلى القروض، وأفضت حرب 1778 بفرنسا إلى الإفلاس). وبعد حتى تبين طورجوحتى إيرادات الحكومة السنوية 213.500.000 فرنك، ومصروفاتها 235.000.000 فرنك، أمر بشتى ضروب الوفر، وأصدر تعليمات بألا يصرف مبلغ من الخزانة لأي غرض دون فهمه أوموافقته، وكان هدفه تنشيط الاقتصاد بإرساء نادىئم حرية المشروعات، والإنتاج، والتجارة، خطوة خطوة. وبدأ بمحاولة لإصلاح الزراعة. وكانت الحكومة قد أشرفت على التجارة في الغلال تجنباً لتذمر أهل المدن، فنظمت بيعها من المزارع لتاجر الجملة، ومن تاجر الجملة لتاجر التجزئة، وحددت ثمن الخبز. ولكن انخفاض الأسعار التي دفعت للفلاح ثبطت همته عن غرس المزيد من الغلال، وثنت غيره عن الاشتغال بالزراعة، فظلت مناطق شاسعة من أرض فرنسا صالحة للزراعة دون غرس، وعطلت ثروة الأمم الممكنة عند منبعها. وبدأ إصلاح الزراعة في نظر طورجوأول خطوة في إحياء فرنسا. ذلك حتى إطلاق يد المزارع في بيع غلته بأي ثمن يستطيع الحصول عليه سيحمل من دخله ويحسن وضعه الاجتماعي، ويزيد قوته الشرائية، وينهض به من الحياة البدائية الوحشية التي وصفها من قبل لابرويير في عصر لويس الرابع عشر المضىي(70).

ومن ثم ففي 13 سبتمبر 1774 استصدر طورجومن المجلس الملكي مرسوماً أطلق تجارة الغلال في جميع مكان عدا باريس حيث قدر حتى رد عمل أهل المدينة سيكون محرجاً. وكان ديون دنمور قد قدم للمرسوم بديباجة تشرح الهدف منه، وهو"تنشيط وتوسيع زراعة الأرض، التي تعد غلتها أكثر ثروات الدولة حقيقة وضماناً، والاحتفاظ بوفرة في الغلال عن طريق مخازنها واستيراد الغلال ممن الخارج... والقضاء على الاحتكار... وإيثاراً للمنافسة الحرة" وهذه المقدمة التفسيرية كانت هي ذاتها تجديداً يعكس ظهور الرأي العام كقوة سياسية. ورحب فولتير بالمرسوم فاتحة لعصر اقتصادي جديد، وتنبأ بأنه سيزيد بعد قليل من رخاء الأمة(71). ثم أوفد مذكرة إلى طورجونطق فيها: "أن عليل فرنيه العجوز يشكر الطبيعة لأنها مدت في أجله حتى يرى مرسوم 13 سبتمبر 1774. وهويقدم احترامه لواضعه، ويرجوله التوفيق"(72).

على ان هذا الترحيب خرج عليه رأي معارض ينذر بالسوء. ففي ربيع 1775 اتى مصرفي سويسري يعيش في باريس ويدعى جاك نكير إلى طورجويحمل مخطوطاً "عن قانون الغلال وتجاراتها"، وسأل إذا كان من الممكن نشره دون إضرار بالحكومة. وقد زعم نكير في كراسته حتى قدراً من الإشراف الحكومي على الاقتصاد لا بد من حتى أريد ألا يفضي حذق القلة الفائق إلى هجريز الثروة في طرف وتكثيف الفقر في الطرف الآخر، واقترح حتى تستأنف الحكومة الإشراف والتنظيم إذا حملت حرية التجارة من ثمن الخبز فوق رقم معين. أما طورجو، الواثق من نظرياته، والمحبذ لحرية النشر، فقد أبلغ نكير بأن ينشر المخطوط ويدع الشعب يحكم(73). فنشره نكير.

ولم تقرأه جماهير المدن ولكنها اتفقت نعه في الرأي. فحين ارتفع ثمن الخبز في ربيع 1775 اندلعت حوادث الشغب في عدة مدن. ففي الأنطقيم المحيطة بباريس، والتي تتحكم في انسياب الغلال إلى العاصمة، راح بعض الرجال يتنقلون بين المدن ويحرضون الناس على التمرد. وأحرقت العصابات المسلحة مزارع المزارعين والتجار وقذفت بالمخزون من الغلال في نهر السين، ثم حاولت منع الغلال المستوردة من إكمال طريقها من هافر إلى باريس، وفي 2 مايوقادت جمعاً محتشداً إلى أبواب القصر في فرساي.

وأعتقد طورجوحتى هذه العصابات يستخدمها الموظفون البلديون أوالأقليميون الذين نقدوا وظائفهم بانتهاء الإشراف الحكومي والذين كان هدفهم حتى يخلقوا في باريس أزمة غلال تحمل ثمن الخبز وتكره الحكومة على العودة إلى التجارة الخاضعة لهيمنتها(74). وظهر الملك على شرفة من شرفات القصر وحاول الكلام، ولكن ضجة الجمع طغت على كلامه. على أنه منع جنوده من إطلاق النار على الشعب، وأمر بخفض ثمن الخبز. ولكن طورجوأكد حتى هذا التدخل في قوانين العرض والطلب سيفسد محاولة اختبارها؛ وكان واثقاً من أنه إذا هجرت لها حرية العمل فإن المنافسة بين التجار وأصحاب المخابز ستهبط بأسعار الخبز عما قليل. وألغى الملك أمره بخفض الثمن. وفي ثلاثة مايوتجمعت حشود غاضبة في باريس وبدأت تنهب المخابز. وأمر طورجومليشيا باريس بحماية المخابز ومخازن الغلال، وبإطلاق النار على أي إنسان يحاول القيام بأعمال عنف. ثم حرص في الوقت نفسه على وصول الغلال الأجنبية إلى باريس والأسواق. وأكرهت هذه المنافسة المستوردة المحتكرين الذين حبسوا غلالهم تسقطاً لارتفاع الأسعار على الإفراج عن مخزونهم، فانخفض ثمن الخبز، وهدأ النمر. وقبض على نفر من زعمائه، وشنق اثنان منهم بأمر البوليس. وخرج طورجوظافراً من "حرب الدقيق" هذه. ولكن إيمان الملك بمبدأ عدم التدخل اهتز، وأحزنه شنق هذين الشخصين في ميدان جريف.

ولكن سرته الإصلاحات التي يجريها طورجوفي ماليوالحكومة. فلم يمض يوم على مرسوم الغلال بدأ الوزير العجول إصدار الأوامر للوفر في مصروفات الدولة، ولتحصيل الضرائب تحصيلاً أكثر كفاءة، وللإشراف إشرافاً أدق على الملتزمين العموميين، ثم ينقل الاحتكارات الأهلية في المركبات العامة، ومركبات البريد، وصنع البارود، إلى الدولة. واقترح، ولكن لم يتح له الوقت لإنشاء "بنك للخصم" وهومصرف لخصم الأوراق التجارية، وتلقي الودائع، وإعطاء القروض، وإصدار البنكنوت الذي تدفع قيمته عند إبرازه، وقد اتخذ هذا البنك نموذجاً لبنك فرنست الذي نظمه نابليون في 1800. فلم تحل نهاية عام 1775 حتى كان طورجوقد خفض المصروفات 66.000.000 جنيه، وأنقص الفائدة على الدين الأهلي من 8.700.000 إلى 3.000.000 جنيه. واستعيدت الثقة بالحكومة حتى استطاع حتى يقرض 60.000.000 جنيه من الماليين الهولنديين بفائدة أربعة في المائة، ويسدد بهذه الطريقة ديوناً كانت الحظانة تدفع عنها فائدة من سبعة إلى اثنتي عشرة في المائة. وأوشك حتى يوازن الميزانية، ولكنه لم يعمل هذا بزيادة الضرائب بل بالحد من الفساد، والإسراف، وعدم الكفاءة، وكثرة الفاقد.

وفي هذه الإصلاحات وغيرها لم يلق طورجوكبير عون من موربيا، ولكنه لقي العون الكثير من كرتيان وماليرب، الذي التقينا به من قبل حامياً للموسوعة ولروسو. فقد أوفد، بوصفه الآن رئيساً لمحكمة المعونات (التي تختص بالضرائب غير المباشرة)، إلى لويس السادس عشر (6 مايو1775)، مذكرة تشرح المظالم التي ينطوي عليها جمع الضرائب بواسطة الملتزمين العموميين، وتحذر الملك من الكراهية التي يولدها استخدامهم. وأشار بتبسيط القوانين وتوضيحها، ونطق "ليس هناك قوانين حسنة غير القوانين البسيطة" وتعلق قلب الملك بماليرب، فعينه وزيراً لبيت الملك (يوليو1775) وحث هذا اللبرالي المسن لويس على تأييد طورجو، ولكنه نصح طورجوبألا يحاول الإسراف في إصلاحاته في وقت واحد، لأن جميع إصلاح سيخلق له أعداء جدداً. وأجاب مراقب المالية العام. وماذا تريدني حتى أعمل،يا ترى؟ حتى حاجات الشعب هائلة، ونحن في أسرتي نموت بالنقرس في الخمسين"(75).

وفي يناير 1776 فاجأ طورجوفرنسا بستة مراسيم صدرت باسم الملك، قرر إحداها حتى تضم حرية التجارة في الغلال باريس، وألغى العدوالكبير من المناصب المتصلة بتلك التجارة، وانضم الموظفون المطرودون على هذا النحوإلى صفوف أعدائه. وألغى مرسومان أوعدلا الضرائب المفروضة على الماشية والشحوم، فاغتبط الفلاحون. وألغى الرابع السخرة- وهي أيام اثنا عشر أوخمسة عشر يفرض فيها الشغل المجاني على الفلاحين جميع عام لصيانة الكباري، والقنوات، والطرق؛ وتقرر حتى يتقاضى الفلاحون منذ الآن أجراً عن هذا العمل من حصيلة ضريبة تفرض على جميع الأملاك غير الكنسية؛ واغتبط الفلاحون، وشكا النبلاء. وأثار طورجوالمزيد من الاستياء بالديباجة التي وضعها في فم الملك. "إننا لواستثنينا عدداً قليلاً من الأنطقيم... لوجدنا حتى جميع طرق المملكة تقريباً شقت بتسخير أفقر شطر من رعايانا. فالعبء كله سقط إذن على أولئك الذين لا يملكون غير أيديهم ولا تهمهم هذه الطرق إلا بدرجة ثانوية جداً. أما الذين يهتمون بها حقاً فهم ملاك الأرض، وكلهم تقريباً أشخاص يتمتعون بامتيازات، وأملاكهم تزداد قيمتها بشق الطرق. فإذا أكره الفقير دون سواه على صيانة هذه الطرق، وإذا أكره على بذل وقته وجهده دون أجر، كان ذلك معناه حتى عدته الوحيدة ضد الفقر والجوع انتزعت منه لإلزامه بالعمل لمنفعة الأغنياء"(76). فلما أوضح برلمان باريس أنه سيرفض تسجيل هذا المرسوم، كاد طورجويعلن الحرب الطبقية".

"إنني رغم عدائي للاستبدادية الآن كما كنت دائماً، فإني لن أني عن حتى أقول للملك، وللبرلمان، وللأمة بأسرها إذا لزم الأمر، حتى هذا أمر من تلك الأمور التي يجب حتى تقررها إرادة الملك المطلقة، ولهذا السبب: وهوحتى هذه القضية هي في صميمها قضية بين الأغنياء والفقراء. والآن ممن يتألف البرلمان،يا ترى؟ من رجال أغنياء إذا قورنوا بالسواد الأعظم من الشعب، وكلهم نبلاء لأن مناصبهم تحمل النبالة. ثم البلاط، الذي يشتد في احتجاجه- ممن يتألف،يا ترى؟ من كبار النبلاء، الذين يملك أغلبهم ضياعاً ستخضع للضريبة... ونتيجة لذلك فلا اعتراض البرلمان... ولا حتى تذمر الحاشية يجب حتى ينال من القضية على أي وجه... وما دام الشعب لا صوت له في البرلمانات، فإنه لا بد حتى يرى الملك في القضية رأيه هوبعد الاستماع إلى هذه البرلمانات، ولا بد حتى يحكم لصالح الشعب، لأن هذه الطبقة أتعس طبقاته"(77). أما آخر المراسيم الستة فقد ألغى الطوائف الحرفية. وكانت قد أصبحت أرستقراطية عمالة، لأنها أشرفت على جميع الحرف تقريباً، وحدت من الدخول في عضويتها بإشتراطها رسوم التحاق عالية، ثم قيدت فوق ذلك الصلاحية لاختيار مفهمي الحرف. وقد عطلت الاختراع، وعرقلت التجارة بالمكوس أوبحظر المنتجات المتنافسة التي تدخل في نطاقها. وقد نددت طبقة المتعهدين أوالمقاولين الصاعدة- وهم رجال يوفرون المبادأة، ورأس المال، والتنظيم، ولكنهم يطالبون بحرية استئجار أي عامل، سواء من المنتمين للوظائف الحرفية أوغيرهم، وبيع سلعهم في أي سوق في متناولهم- هذه الطبقة نددت بالطوائف الحرفية لأنها احتكارات تقيد التجارة. أما طورجو، التواق إلى دعم التنمية الصناعية بإطلاق حرية الاختراع، والمشروعات، والتجارة، فقد شعر حتى الاقتصاد القومي سيفيد من إلغاء الطوائف المالية. وقد اتى في ديباجة هذا المرسوم:

"كانت ممارسة الحرف والصنائع في جميع المدن تقريباً مركزة في أيدي عدد قليل من المفهمين المتحدين في نقابات، والذين كان لهم وحدهم حرية خلق وبيع سلع الصناعة الخاصة التي ينفردون دون غيرهم بامتيازهم. فالذي كرس نفسه لأي صناعة أوحرفة لم يكن في استطاعته ممارستها بحرية إلا بعد وصوله إلى مرتبة مفهم الحرفة، التي لا سبيل له إليها إلا بعد الخضوع لواجبات طويلة مملة لا حاجة إليها، وبعد أداء إبتزازات متكاثرة تحرمه من جزء من رأس المال الضروري لإنشاء تجارة أوتجهيز ورشة. أما العاجزون عن توفير هذه النفقات فمصيرهم العيش القلق تحت سلطان المفهمين، ولا خيار أمامهم إلا الحياة في ضنك... أونقل صناعة قد تكون ذات نفع لوطنهم إلى بلد أجنبي".

وكان لهذه التهم الموجهة إلى النقابات الحرفية ما يبررها على قدر فهمنا ولكن طورجواسترسل في إجراءاته فحظر على جميع مفهمي الحرف وعمال المياومة والتلاميذ الصناعيين تكوين أي اتحاد أوجمعية(79). لقد آمن إيماناً مطلقاً بحرية المشروعات والتجارة، ولم يتسقط حتىقد يكون حق التنظيم هوالوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها الصناع حتى يجمعوا ضعفهم كأفراد في قوة جماعية للمساومة مع أصحاب العمل المنظمين. وقد أحس حتى جميع الطبقات ستفيد في المدى الطويل بتحرير رجال الأعمال من القيود الإقطاعية والنقابية والحكومية المفروضة على المشروعات. وأعرب حتى جميع الأشخاص في فرنسا- حتى الأجانب- أحراراً في الاشتغال بأي صناعة أوتجارة.

وفيتسعة فبراير 1776 حملت المراسيم الستة إلى برلمان باريس. فلم يوافق إلا على واحد منها ألغى المناصب الصغيرة، ورفض الموافقة على تسجيل الباقي، وخص بمعارضته إنهاء السخرة باعتباره افتئاتاً على الحقوق الإقطاعية(80). وبهذا القرار الذي اتخذ بالتصويت جهر البرلمان بأنه حليف طبقة النبلاء والصوت المعبر عنهم، وهوالذي زعم من قبل أنه حامي الشعب من الملك. ودخل فولتير المعمعة بكراسة هاجمت السخرة والبرلمان وأيدت طورجو، فأمر البرلمان بمصادرة الكراسة. ودافع بعض وزراء الملك عن البرلمان، فوبخهم لويس في لحظة ثبات وجلد قائلاً "أرى جيداً أنه ليس هنا من يحب الشعب غيري وغير مسيوطورجو"(81). وفي 12 مارس نادى البرلمان إلى "سرير عدالة" (وهوالمجلس القضائي العالي) في فرساي، وأمره بتسجيل المراسيم. واحتفلت مواكب من العمال بفوز طورجو.

وأبطأ المراقب العام خطوثورته بعد حتى أرهقته الأزمات المتكررة. فلما طبق حرية التجارة الداخلية على صناعة النبيذ (أبريل 1776) لم يشك غير المحتكرين. ثم حث الملك على إرساء نادىئم الحرية الدينية. وأصدر تعليماته إلى ديون دنيمور بأن يضع خطة لتكوين مجالس انتخابية في جميع أبرشية، يختارها جميع من ملك أرضاً قيمتها ستمائة جنيه أويزيد، وهذه المجالس المحلية تنتخب ممثلين في مجلس كنتوني، تنتخب ممثلين في مجلس إفليمي، ينتخب نواباً في مجلس الأمة. وكان طورجومؤمناً بأن فرنسا ليست على استعداد للديموقراطية، فاقترح ألا تعطى هذه المجالس إلا وظائف عن طريق هذه المجالس يحاط الملك فهماً بحال المملكة وحاجاتها. كذلك قدم طورجوللملك تخطيطاً للتعليم العام بصفته المدخل الذي لا بد منه للمواطنة المستنيرة. ونطق: "مولاي، إنني أجرؤ على التأكيد بأنه لن تمضي سنتان حتى تتبدل أمتك فلا تتعهد عليها الأمم، وبفضل التنوير والأخلاق الطيبة... ستسموفوق جميع الدول الأخرى"(82) ولكن الوزير أعوزه الوقت. والملك أعوزه المال، لإخراج هذه الأفكار إلى حيز الوجود.

وكانت مراسيم طورجو- وديباجتها- قد ألهبت غضب جميع الطبقات ذات النفوذ عليه خلا التجار ورجال الصناعة، الذين زكوا في ظل الحرية الجديدة. والواقع أنه كان يحاول حتى يحدث بطريق سلمي تحرير رجال الأعمال، وهوالنتيجة الاقتصادية الأساسية التي أسفرت عنها الثورة الفرنسية. ومع ذلك عارضه بعض التجار سراً لأنه تدخل في احتكاراتهم. وعارضه الأشراف لأنه أراد حتى يفرض جميع الضرائب على الأرض، ولأنه يستعدي الفقراء على الأغنياء. وأبغضه البرلمان لأنه أقنع الملك بإبطال قرارات نقضه. ولم يثق به رجال الدين زاعمينه كافراً يندر حتى يختلف عن القداس، ويدافع عن الحرية الدينية. وحاربه الملتزمون العموميون لأنه حاول حتى يحل محلهم موظفون حكوميين في جمع الضرائب غير المباشرة. وساء الماليين حصوله على القروض من الخارج بفائدة 4%. وكرهته بطانة الملك لأنه سخط على إسرافهم، ومعاشاتهم، ووظائفهم الفخرية. أما موريبا، وهوالأعلى منه منصباً في الوزارة، فلم يغتبط بسلطان المراقب العام للمالية واستقلاله المتزايدين. وخط السفير السويدي يقول "إن طورجويجد نفسه الهدف لحلف رهيب جداً"(83).

أما ماري أنطوانيت فقد رضيت عن طورجوأول الأمر، وحاولت حتى توفق بين نفقاتها واقتصادياته. ولكن سرعان ما استأنفت (حتى 1777) إسرافها في الثياب والعطايا. ولم يخف طورجوفزعه من مطالبهم من الخزنة، وكانت الملكة إرضاء لآن بولنياك قد حصلت على تعيين صديقهم الكونت دجين سفيراً لفرنسا في لندن؛ وهناك ولج في معاملات مالية مشبوهة. وانضم طورجوإلى فرجين في الإشارة على الملك باستنادىئه؛ وأقسمت الملكة لتنتقمن منه.

وكان للويس السادس عشر أسبابه الخاصة لفقد الثقة في الوزير الثوري. ذلك حتى الملك كان يحترم الكنيسة، وطبقة النبلاء، وحتى البرلمانات، وكانت هذه المؤسسات قد رسخت في التنطقيد وتقدست بمرور الزمن، فإقلاقها معناه خلخلة ركائز الدولة؛ ولكن طورجوكان قد أقصاها كلها. فهل تراه على حق وكل هؤلاء على ضلال،يا ترى؟ وشكا لويس سراً من وزيره: "إن أصدقاء فقط هم الأكفاء، وأفكارهم فقط هي الصائبة"(84). وفي جميع يوم تقريباً كانت الملكة أوأحد أفراد الحاشية يحاول إثارته على المراقب العام. فلما رجاه طورجوحتى يقاوم هذه الضغوط ولم يجب لويس، عاد إلى منزله وخط إلى الملك (30 أبريل 1776) رسالة كانت الفاصلة في مصيره:

"مولاي: لن أخفي عنكم حتى قلبي مجروح جرحاً عميقاً بسبب صمت جلالتكم يوم الأحد الماشي... ذلك أنني ما كنت لاستصعب أمراً من الأمور ما دمت أؤمل الاحتفاظ بتقدير جلالتكم لصواب ما أعمل. واليوم أي جزاء ألقى،يا ترى؟ حتى جلالتكم ترون كم يستحيل علي المضي في طريقي قدماً ضد من يؤذونني بالشر الذي يصنعونه بي، وبالخير الذي يمنعونني من عمله بتعطيل جميع إجراءاتي، ومع ذلك فإن جلالتكم لا تمنحوني عوناً ولا عزاء. وأنا أجرؤ يا مولاي على القول بأنني لا أستحق هذا الجزاء... "إن جلالتكم... قد دفعتم بافتقاركم إلى الخبرة. وأنا عليم بأنكم وأنتم في الثانية والعشرين، وفي منصبكم هذا، لا تملكون المرانة على الحكم على الرجال، وهي مرانة يحصل عليها الأفراد العاديون بفضل الاختلاط المعتاد مع نظائرهم؛ ولكن هل سيتاح لكم مزيد من الخبرة بعد أسبوع، بعد شهر،يا ترى؟ وألا يمكن حتى تتخذوا القرار الحاسم حتى تتوافر لكم هذه الخبرة البطيئة؟. "مولاي، إنني مدين لمسيوموريبا الذي قلدتموني إياه، ولن أنسى له هذه اليد ما حييت، ولن أقصر أبداً في الاحترام الواجب له. ولكن أتفهمون يا مولاي مبلغ ضعف شخصية المسيودموريبا؟- وكم تسيطر عليه أفكار من يلتفون حوله. إذا الناس كلهم يعهدون حتى مدام دموريبا، بتفكيرها الأضعف كثيراً من شخصيتها، توحي إليه دائماً بإرادتها... وهذا الضعف هوالذي يدفعه إلى الموافقة دون تردد على سخط الحاشية علي، والذي يجردني من جميع سلطة تقريباً في إدارتي... "مولاي، لا تنس حتى الضعف هوالذي أطاح برأس تشارلز الأول على المقصلة... والذي جعل من لويس الثالث عشر عبداً متوجاً،... والذي جر على الحكم السالف جميع ويلاته.. مولاي، إنهم يعدونك ضعيفاً، وقد أتى وقت خشيت فيه حتىقد يكون في خلقك هذا العيب، ومع ذلك رأيتك في مناسبات أكثر من هذه عسيراً تبدي شجاعة أصيلة... حتى جلالتكم لن تستطيع الاستسلام إرضاء لمسيودموريب دون لأن تكون غير صادق مع نفسك...".


— طورگو

ولم يرد الملك على هذه الرسالة. فقد أحس حتى عليه الآن حتى يختار بين موريبا وطورجو، وأن طورجويطلب خضوع الحكومة التام تقريباً لإرادته. وعليه ففي 12 مايو1776 أوفد إلى طورجوأمراً بأن يستقبل. وفي اليوم ذاته، وخضوعاً لإرادة الملكة وآل بوليناك، حمل الكونت دجين إلى مرتبة الدوقية. فلما سمع ماليرب بإنطقة طورجوقدم استنطقته. ونطق له لويس "إنك رجل محظوظ. ليتني أنا أيضاً أستطيع هجر منصبي"(86). وما لبث معظم من عينهم طورجوحتى طردوا من مناصبهم. وصعقت ماريا تريزا لهذه التطورات، ووافقت فردريك وفولتير على حتى سقوط طورجونذير بانهيار فرنسا(87)، وقد أحزنها الدور الذي لعبته ابنتها في الأمر، وأبت حتى تصدق تنصل الملكة من التبعية، وخط فولتير إلى لاهارب يقول: "لم يبق لي إلا حتى أموت بعد حتى مضى مسيوطورجو"(88).

أما طورجوفقد عاش بعد إنطقته عيشة هادئة في باريس، يفهم الرياضة، والفيزياء، والكيمياء، والتشريح. وكان يلتقي كثيراً بفرانكلين، وقد خط له "مذكرة في الرسوم" ثم اشتدت عليه وطأة النقرس حتى أكرهه بعد 1778 على الاستعانة بعكازين في شميه. ومات في 18 مارس 1781 بعد سنوات حفلت بالألم وخيبة الأمل. ولم يدر بخلده حتى القرن التاسع عشر سيقبل معظم أفكاره ويطبقها. وقد أجمل ماليرب وصفه في حب فنطق: "كان له رأس فرانسيس بيكن، وقلب لوبيتال"(89).


المصادر

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

  • Douglas Dakin, Turgot and the Ancien Régime in France, London, Methuen, 1939
  • Steven L. Kaplan, Bread, Politics and Political Economy in the Reign of Louis XV, 2 T. La Haye, Martinus Nijhoff, 1976.
  • Ronald L. Meek, Social Science and the Ignoble Savage, Cambridge University Press, 1976

الهامش

طالع أيضاً

  • الليبرالية
  • إسهامات للنظرية الليبرالية

وصلات خارجية

  • Map of Paris, 1739 by Michel Turgot at the University of Southern Maine
  • Map of Paris, 1739 by Michel Turgot at the University of Chicago
  • Dr David Hart, "Turgot: life and works" Annotated bibliography of Turgot's published works.
  • "Biography of A.R.J. Turgot: Brief, Lucid, and Brilliant" by Murray Rothbard
  • "Notice sur la linguistique de Turgot" by D. Droixhe, 1993, Encyclopedia of language and linguistics
  • Turgot Page at McMaster
  • Turgot Page at Akamac
  • Turgot entry at Bartleby
  • Jacques Turgot at Catholic Encyclopedia
  • Turgot Page at Acton institute.
  • Turgot page at UCL
  • "Turgot's Gallant Failure" by David Redfearn
  • Turgot on progress and political economy
  • Turgot Page at Paulette Taïeb.
  • Notice Biographique by Paulette Taïeb.
  • "L'Eclat de Turgot" by Murray Rothbard (French translation of "The Brilliance of Turgot")
  • Turgot page at Académie de Strasbourg
  • 12 mai 1776: "Renvoi de Turgot" by Hérodote
  • The Lycée Turgot in Paris
  • The Lycée Turgot in Limoges
  • The Institut Turgot in Paris
  • Turgot & 18th and 19th century Dutch economics and politics
تاريخ النشر: 2020-06-07 17:10:12
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, مواليد 1727, وفيات 1781, أشخاص من پاريس, French economists, فيزيوقراطيون, خريجو ليسيه لوي-لو-گران, Secretaries of State of the Navy (France), Secretaries of State of Ancien Régime France

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الصحة: وصول أول دفعة من دواء كورونا لـ70 ألف مريض بنهاية يناير

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:21:41
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 70%

نشرة الرابعة | نفيس.. وجهة إلكترونية موحدة للتأمين الصحي في السعودية

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:18:14
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 95%

مجزرة بابل المروعة.. الكاظمي يحيل مسؤولين أمنيين للتحقيق

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:17:56
مستوى الصحة: 97% الأهمية: 96%

مندوب الفيفا يصل القاهرة لمراقبة انتخابات اتحاد الكرة

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:21:48
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 60%

هولندا.. مساجد تتلقى رسائل مسيئة للإسلام والرسول الكريم

المصدر: TRTعربي - تركيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:18:53
مستوى الصحة: 69% الأهمية: 85%

الصادرات المصرية تنمو بنسبة 27% في عام 2021 | آخر الأخبار

المصدر: CNBC عربية - الإمارات التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:19:59
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 81%

نشرة الرابعة | قفزات يومية كبيرة لإصابات كورونا في السعودية

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:18:16
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 91%

بعد استقالة حمدوك.. البرهان: يجب تشكيل حكومة كفاءات مستقلة

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:15:56
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 93%

استياء في الأهلي بسبب قرعة كأس الرابطة

المصدر: الأهلى . كوم - مصر التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:20:51
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 48%

هل يوفر اللقاح التركي "توركوفاك" حماية ضد أوميكرون؟

المصدر: TRTعربي - تركيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:18:56
مستوى الصحة: 70% الأهمية: 76%

البابا تواضروس: ميلاد المسيح بمثابة بداية جديدة مفرحة

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:23:03
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 53%

نائب رئيس جامعة الأزهر يشيد بجهود أصحاب الهمم بالجامعة

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:22:56
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 56%

موجز أخبار 16 غرينتش

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:18:09
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 87%

الإرياني: قرصنة الحوثي سفينة الشحن تحمل بصمات الحرس الثوري

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:17:30
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 96%

نجم ريال مدريد يتحول إلى صيد الأسماك

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:18:04
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 90%

الخارجية المصرية تدين الهجوم الحوثي لاختطاف سفينة إماراتية باليمن

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:23:09
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 62%

المفتى: يجوز للمرأة استئصال الرحم فى حالة الضرورة القصوى

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:22:14
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 56%

انتحار فتاة مصرية بسبب الابتزاز الإلكتروني.. ما القصة؟

المصدر: TRTعربي - تركيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-01-03 18:19:09
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 70%

تحميل تطبيق المنصة العربية