كاردينال ريشليو

عودة للموسوعة

كاردينال ريشليو

كاردينال ريشليو
Portrait of Cardinal Richelieu, 1637, فيليپ دى شامپين
أول كبير وزراء للملك الفرنسي
في المنصب
12 أغسطس 1624 – أربعة ديسمبر 1642
العاهل لويس الثالث عشر من فرنسا
خلفه جول مازاران
تفاصيل شخصية
وُلِد 9 سبتمبر 1585
باريس، فرنسا
توفي ديسمبر 4, 1642(1642-12-04) (عن عمر 57 عاماً)
باريس، فرنسا
القومية فرنسي
الجامعة الأم Collège de Navarre
المهنة Clergyman, cardinal
المهنة Statesman, nobleman
الدين Roman Catholicism
Styles of
Armand Cardinal de Richelieu
أسلوب الإشارة His Eminence
أسلوب المخاطبة Your Eminence
أسلوب غير رسمي كاردينال

أرمان جان دوپلـِسي دي ريشليو, كاردينال دوق دي ريشليو Armand Jean du Plessis de Richelieu, Cardinal-Duc de Richelieu (و.تسعة سبتمبر 1585 – أربعة ديسمبر 1642), كان رجل دين فرنسي ونبيلاً ورجل دولة.

سيـِّم أسقفاً عام 1607, ولاحقاً ولج معهجر السياسة, ليصبح وزير خارجية في 1616. سرعان ما صعد ريشليوفي جميع من الكنيسة والحكومة, ليصبح كاردينالاً في 1622، وكبير وزراء الملك لويس الثالث عشر في 1624. وقد ظل في المنصب حتى وفاته في 1642؛ وخلـَفه الكاردينال جول مازاران.

صعوده للسلطة

الكاردينال والهيجونوت

كيف يشق إنسان طريقه إلى القمة،يا ترى؟ في تلك الأيام كانت تعينه على ذلك عراقة أصله. وكانت أم أرمان جان دبليس دريشليوابنة محام في برلمان باريس، أما أبوه فهوالسنيور دريشليو، المدبر الأكبر لبيت الملك في عهد هنري الرابع وورثت أسرة بواتوالعريقة الحق في حتى توصي الملك باختيار من ترشح لأسقفية لوسون. وقد عين هنري أرمان بهذه الطريقة (1606) وكان يومها في الحادية والعشرين. وإذ كان أصغر من السن المشترطة للأسقفية بسنتين، فإنه سارع إلى روما، وكذب في أمر سنه، وألقى أمام بولس الخامس خطاباً لاتينياً جميلا حمل البابا على حتى يسلم له الأسقفية أما وقد تحقق له »الأمر الواقع«، فقد اعترف ريشليوبكذبته، وطلب المغفرة. وامتثل البابا وهويقول »إن هذا الفتى سيكون محتالاً كبيراً«(17).

وصف الأسقف الشاب أسقفيته بأنها »أفقر وأقذر« الأسقفيات في فرنسا، ولكن كانت الأسرة تملك بعض المال، فما لبث حتى امتلك المركبة والآنية الفضية ولم يتخذ وظيفته منصباً شرفياً عاطلاً، بل فرغ لأداء واجباته في اجتهاد ومثابرة، ولكنه عثر الوقت لتملق جميع صاحب ذونفوذ ويسخر جميع صاحب قوة. فلما اختار كهنة بواتومندوباً لمجلس الطبقات (1614) كان أرمان رجلهم، وأعجب جميع من كان بالمجلس، لا سيما ماري مديسي، بوجهه الرزين، وقوامه الفارع الممشوق، وقدرته القانونية تقريباً على تفهم الموضوعات تفهماً واضحاً وعرضها عرضاً مقنعاً. وعين سكرتيراً للدولة بنفوذها ونفوذ كونشيني (1616). وبعد عام اغتال كونشيني وفقد ريشليووظيفته. وبعد حتى خدم الملكة الأم المنفية في بلوا فترة قصيرة عاد إلى لوسون. وبيتت ماري الهروب؛ واشتبه في اشتراك ريشيليوفي المؤامرة، فنفي إلى أفنيون (1618)، وبدا حتى مجرى حياته السياسية قد انتهى. ولكن الجميع-حتى خصومه-اعترفوا بقدراته، ولما تدلت ماري ليلاً من إحدى نوافذ قلعتها في بلوا وانضمت إلى قوة من النبلاء المتمردين، استدعى لون الأسقف الشاب وعهد إليه حتى يرد الملكة إلى رشدها ويصلح بينها وبين الملك. فأفلح في مهمته، وحصل له لويس على قلنسوة الكردينالية، وعينه في مجلس الدولة. وسرعان ما وضح للعيان تفوق ريشليوعقلاً وإرادة، فأصبح رئيساً للوزراء في أغسطس 1624 وهوفي التاسعة والثلاثين.

وقد عثر الملك فيه بالضبط تلك الصفات التي افتقدها في نفسه: الذكاء الموضوعي، والهدف الواضح، وصلابة الغايات، ومرونة الوسائط، وكان للويس من الحصافة ما جعله يتقبل ارشاد الكردينال في المهمة الثلاثية -مهمة اخضاع الهيجونوت، والنبلاء، وأسبانيا، نطق ريشليوفي مذكراته مقدراً له هذه الخلة »إن قدرة الملك العظيم على حتى يسمح بأن يخدم (أي بأن يفوض غيره بالسلطة) ليست من أقل صفات الملك العظيم شأناً(18)«. لم يكن لويس متفقاً مع وزيره في جميع الحالات، وكان أحياناً يوبخه، وكان دائماً يغار منه، وقد فكر بين الحين والحين في طرده. ولكن أبى له حتى يرفض رجلاً مطلق السلطة في فرنسا وصاحب الحدثة العليا في أوربا، ويحصل له من الضرائب أكثر حتى مما كان صلى يجمعه،يا ترى؟

وتجلت روح الكردينال أول ما تجلت في موقفه من الدين. فلقد قبل في غير نقاش عقائد الكنيسة، وأضاف إليها بعض الخرافات التي يعجب المرء لأن عقلاً أوتي مثل هذه القوة آمن بها. ولكنه رفض ما مضى إليه حزب »مؤيدي سيادة البابا المطلقة« من حتى للبابوات تام السيادة على الملوك، وحافظ على »الحريات الغاليَّة« للكنيسة الفرنسية ضد روما، وأخضع الكنيسة للدولة في الأمور الزمنية بنفس المضاء الذي أخضعها به أي إنجليزي، ونفي الأب كوسان، الذي تدخل في السياسة بوصفه كاهن الاعتراف الملكي، ففي رأيه حتى أي دين من الأديان يجب ألا يختلط بشئون الدولة. أما التحالفات التي أدخل فيها فرنسا فكانت مع الدول البروتستنتية والكاثوليكية على السواء.

وقد طبق مبادئه في حزم على الهيجونوت المشتغلين بالسياسة، ذلك انهم برغم صلح 1622 جعلوا لاروشيل مدينة صاحبة سيادة من الناحية العملية، يشرف عليها تجارها ووزراؤها وقوادها. ومن هذا الميناء الاستراتيجي أوفد التجار تجارتهم مع العالم، وأقلع القراصنة ليقتنصوا أية غنيمة أومركب، حتى المراكب الفرنسية، وكان في استطاعة أي عدولفرنسا حتى يدخل البلاد من هذا الميناء إذا أذن له الهيجونوت. كذلك انتهك لويس ذاته المعاهدة، فقد وعد بهدم »حصن لويس« الذي كان خطراً دائماً على المدينة، ولكنه بدلاً من حتى يهدمه زاده تحصيناً، وحشد أسطولاً صغيراً في ثغر لابلافيه القريب. فأسر بنيامين روهان (أخوهنري)، سيد سوبيز، الذي قاد أسطولاً هيجونوتياً، هذا الأسطول الملكي وقطره ظافراً إلى لاروشيل 01025) لذلك بنى روشيليوأسطولاً آخر، ونظم جيشاً، ورافق الملك في حصاره للقلعة الهيجونوتية.

وأقنع سوبيز دوق بكنجهام بأن يرسل أسطولاً ضخماً قوامه 120 سفينة لحماية المدينة. فحصر الأسطول، ولكنه عانى الويل من مدفعية الحصون الملكية القائمة على جزيرة ري. فاضطر إلى التسلل عوداً إلى إنجلترا وهويجر أذيال الخزي والعار (1627). وكان ريشليوخلال ذلك قد استولى على جميع الطرق البرية المؤدية إلى لاروشيل (بوصفه قائداً لملكه المريض). ولم يبق إلا حصارها من البحر. فأمر مهندسيه وجنده حتى يقيموا تلاً من الحجر طوله 1700 ياردة بعرض مدخل الميناء، تاركين فتحة لحركة المد والجزر. وقد بلغ عنف هذه الحركة، التي ارتفعت فيها المياه وهبطت اثني عشر قدماً، مبلغاً جعل تطبيق المشروع يظهر محالاً، ففي جميع يوم كان الماء يكتسح نصف الأحجار المبنية يومها. وملّ الملك هذه الحرب التي لم تسفك فيها دماء وانطلق إلى باريس، وتسقط كثير من رجال الحاشية أنه طارد ريشليولعجزه عن أخذ المدينة عنوة. ولكن التل اكتمل بناؤه أخيراً وبدأ مهمته المرسومة. ومات نصف سكان لاروشيل جوعاً. ولم يستطع الحصول على القليل من اللحم غير أغنياء القوم، فكانوا يدفعون خمسة وأربعين جنيهاً ثمناً للقط، وألفي جنيه ثمناً للبقرة. أما جان جيتون عمدة المدينة فقد توعد جميع من يجري على لسانه حديث الاستسلام بالقتل بخنجره. ولكن المدينة استسلمت في يأسها بعد ثلاثة عشر شهراً من المجاعة والسقم (30 أكتوبر 1628). ودخلها ريشليوممتطياً جواده من خلفه الجند يوزعون الخبز رحمة بالناس.

وتصايح نصف فرنسا مطالباً باستئصال شأفة الهيجونوت. ولم يكن في وسعهم-بعد حتى أضنتهم الحرب-إلا حتى يتوسلوا. ولكن ريشليوفاجأهم بشروط صلح رأى فيها الكاثوليك تساهلاً شائناً. سليم حتى لاروشيل فقدت استقلال بلدتها، وحصونها، وأسوارها، ولكن أشخاص سكانها وأملاكهم لم تمس، وسمح لمن بقي من الجنود الهيجونوت بالرحيل بأسلحتهم، ومنحت حرية العبادة في المدينة للبروتستنت والكاثوليك على السواء، وتلقت مدن هيجونوتية أخرى مثل هذه الشروط بعد استسلامها. ووجب رد الأملاك الكاثوليكية التي انتزعها البروتستانت، ولكن القساوسة الهيجونوت الذين فقدوا مأواهم مؤقتاً عرضوا باعانة من الدولة بلغت 200.000 جنيه، واعفوا من فرضة الرؤوس (آلتاي) شأن الأكليروس الكاثوليك(19). ومنح عفوعام لجميع من شاركوا في التمرد. وثبت مرسوم نانت الذي أصدره هنري الرابع في جميع نصوصه الجوهرية، بمرسوم ريشليوالمسمى »مرسوم العفو« (28 يونيو1629) وفتحت وظائف الجيش والبحرية والحكومة أمام الجميع دون نظر للعقيدة. وأذهل أوربا حتى ترى الكاثوليك الفرنسيين يتبعون ويبجلون قواداً من البروتستنت كتورين وشومبير وهنري روهان. نطق ريشليو»منذ ذلك الحين لم تمنعني قط خلافات الدين عن أداء جميع أنواع الخدمات للهيجونوت(20)«. وقد تبين الكردينال العظيم، في حكمة افتقدها لويس الرابع عشر فيما بعد افتقاداً مؤسفاً، قيمة الهيجونوت الاقتصادية الهائلة لفرنسا-كما سيتبينها كولبير. ومن ثم فقد أقلعوا عن الثورة، وانصرفوا في هدوء إلى التجارة والصناعة، وأصابوا من التوفيق والفلاح ما لم يصيبوه في أي وقت مضى.


الكردينال والأشراف

بمثل هذا المضاء، وبتساهل أقل، تناول ريشليوالنبلاء الذين ما زالوا يرون في فرنسا التعدد لا الوحدة. لم تكن الاقطاعية قد ماتت قط، فلقد حاربت من قبل في الحروب الدينية لتهيمن على الحكومة المركزية. وكان كبار النبلاء يحتفظون بقلاعهم المنيعة، وقواتهم المسلحة، وحروبهم الخاصة، وبطاناتهم، وموظفيهم القانونيين، وبفلاحيهم تحت رحمتهم، ويتقاضون الرسوم المعوقة على التجارة التي تخترق أملاكهم. إذا فرنسا لم تكن بعد أمة لأن الاقطاع والدين بترا أوصالها، بل كانت مجموعة مضطربة قلقة من البارونات المغرورين، أشباه المستقلين، القادرين في أية لحظة على تكدير السلام وتمزيق اقتصاد الدولة. وكان أكثر الأنطقيم يحكمه الأدواق أوالكونتات الذين يدعون لأنفسهم حق حكمها مدى الحياة ويورثونها أبناءهم.

ولاح لريشليوحتى البديل العملي الوحيد لهذه الفوضى المضعفة هوهجريز النفوذ والسلطة في الملك. ويخيل إلينا أنه من الممكن أمكنه حتى يجاهد ليوازن هذا الهجريز برد قسط من الاستقلال للبلديات. ولكنه لم يستطع رد كومون العصر الوسيط الذي اعتمد على نقابات التجار والصناع والاقتصاد المحلي المحمي؛ ذلك حتى الانتنطق من سوق المدينة إلى سوق الأمة قوض هذه النقابات والكومونات، وتطلب التشريع المركزي لا المحلي . ولعل العقول التي تجمدت في الأوضاع الحاضرة لا ترى في السلطة الملكية المطلقة التي نشرها ريشليوغير استبدادية رجعية؛ أما في رأي التاريخ، وفي رأي الكثرة الغالبة من الفرنسيين في القرن السابع عشر. فإنها كانت تقدماً حرر البلاد من الطغيان الاقطاعي إلى الحكم الموحد. لم تكن فرنسا قد نضجت بعد للديمقراطية، فأكثر سكانها مفتقرون إلى الغذاء الطيب والكساء الجيد، أميون، رانت على عقولهم الخرافة وتوحشت نفوسهم بعمل التعصب للعقيدة. وكانت المدن يهيمن عليها رجال الأعمال الذين لا يستطيعون التفكير إلا في كسبهم اوخسارتهم، ولم يكن هؤلاء الرجال، الذين عرقلت الامتيازات الاقطاعية جميع خطوة من خطواتهم، ميالين إلى الاتحاد مع صغار النبلاء كما وقع في إنجلترا لإقامة برلمان يقف في وجه السلطة الملكية. ولم تكن »البرلمانات« الفرنسية برلمانات تمثيلية تشريعية، إنما كانت محاكم عليا غذتها السوابق ورسختها، ولم تكن منتخبة من الشعب، وقد غدت قلاعاً للمحافظة. وحبذت الطبقات الوسطى، ومهرة الصناع، والفلاحون، سلطة الملك المطلقة بوصفها الحماية الوحيدة التي يرونها ضد سلطة النبلاء المطلقة.

في عام 1626 أصدر ريشليوباسم الملك مرسوماً طعن في الصميم، فقد أمر بهدم جميع القلاع إلا ما كان منها على الحدود، وحظر تحصين المساكن الخاصة في المستقبل. وفي نفس العام (بعد حتى توفي أخوه الأكبر منه سناً في مبارزة) اعتبر المبارزة جريمة كبرى، فلما تبارز مونمورنسي بوتفيل والكونت دي شابيل برغم هذا الأمر أعدمهما. وقد اعترف بأنه »يحس كدراً شديداً في روحه« لهذا الاجراء، ولكنه نطق لمولاه »إن الأمر خيار بين القضاء على المبارزات أوعلى أوامر جلالتكم(21)«. وأقسم النبلاء حتى ينتقموا من الوزير، وراحوا يتآمرون على اسقاطه.

الملك الشاب لويس الثالث عشر كان مجرد قابلة في مطلع عهده؛ فقد استقرت السلطة في يد والدته، ماري دى مديتشي.

وقد وجدوا في الملكة الأم حليفاً مشوقاً إلى الانتقام منه. فهذه الأم التي كانت يوماً ما حامية ريشليوباتت تبغضه حين رأته يعارض سياستها، ولما سقم لويس سقماً خطيراً (يوليو1630) سقمته هي والملكة حتى استعاد بعض صحته، ثم طلبا إليه رأس الكردينال مكافأة لهما. وكررت ماري مديسي المطلب بالحاح شديد وهي في قصرها-قصر للكسمبورج-ظانة حتى ريشليوبعيد جداً، ثم اقترحت ميشيل دمارياك، حامل الأختام، بديلاً راغباً في الحلول محله. ولكن ريشليوالذي أتى بطريق ممر سري، ولج الحجرة في غير إذن وقابل الملكة الأم، واعترفت بأنها أبلغت الملك بأن عليه حتى يختار بين حتى تمضى هي أوهو-أي ريشليو. وانسحب الملك المرهق، وانطلق راكبا إلى كوخ صيده في فرساي. وتقاطرت الحاشية حول ماري في اغتباط بفوزها المنتظر. ولكن لويس أوفد في طلب ريشليو، وثبته رئيساً للوزارة، وأكد له مساندة الملك له، وسقط أمراً بالقبض على مارياك. وأشاع »يوم المغفلين« هذا في (10نوفمبر 1630) الفوضى والحنق في صفوف النبلاء المتآمرين. وسمح لمارياك بالبقاء حياً، ولكن أخاه الذي كان مرشالاً لفرنسا اتهم بعد ذلك بالاختلاس وأعدم في شيء من العجلة (1632) وأمر لويس أمه حتى تعتكف في قصرها الريفي بمولان وأن تنفض يدها من السياسة. ولكنها هربت إلى فلاندر بدلاً من ذلك (1631)، وجمعت لها حاشية في منفاها ببروكسل، وراحت تعمل لاسقاط ريشليو. ولم تقع عيناه قط على الملك بعد ذلك.

أما ولدها الثاني، »مسيو« جاستون، دوق أورليان، فقد حشد جيشاً في اللورين وقاده في تمرد صريح على أخيه (1622). وانضم إليه نبلاء، ومنهم أحمل شريف في فرنسا-هنري، دوق مونمورنسي، وحاكم لانجدوك. وانضوى الآلاف من الطبقة الارستقراطية تحت لواء الثورة. وعلى مقربة من كاستلونداري (أول سبتمبر) اشتبك مونمورنسي، البالغ من العمر سبعة وثلاثين ربيعاً، مع القوات التي جردها عليه ريشليو. وقاتل حتى أسقطه سبعة عشر جريحاً، وتحطم جيشه هووجاستون تحت وطأة الهجوم، وكان جيشاً غنياً في الألقاب فقيراً في النظام، وأسر مونمورنسي. واستسلم جاستون، ودل على شركائه ثمناً للعفوعنه. وأمر لويس برلمان تولوز بأن يحاكم مونمورنسي بتهمة الخيانة؛ وكان الحكم هوالاعدام. إلى غير ذلك توفي آخر أدواق مونمورنسي دون خوف أوتذمر وهويقول »أنني أعد هذا الأمر الذي أصدره قضاء الملك أمراً أصدرته رحمة لله(22)«. وأدان معظم فرنسا الكردينال والملك لهذه الصرامة المجردة من الشعور، وأجاب. لويس »ما أنا بملك لوكان لي شعور الأشخاص العاديين«. أما ريشليوفدافع عن الإعدام بأنه إنذار ضروري للنبلاء بأنهم هم أيضاً خاضعون للقوانين قائلاً »لا شيء يدعم القوانين كعقاب الأشخاص الذين تعظم رتبتهم عظم جريمتهم«(23).

بقيت عقبتان أخريان في طريق سياسة ريشليو، ولاة الأنطقيم والبرلمانات. لقد ساء الكردينال فقدان إيراد الأنطقيم بسبب ما شاب سلوك الولاة النبلاء والقضاة من البورجوازيين أوصغار النبلاء عن فساد ونقص في الكفاية، لذلك أوفد الكردينال لكل قسم »محافظين« للإشراف على إدارة المالية والقضاء وتطبيق القوانين. واتخذ هؤلاء الموظفون الملكيون مكاناً أعلى من الموظفين المحليين كائنة ما كانت رتبتهم، واضمحل استقلال الأنطقيم الذاتي، وانتعشت الكفاية وزادت حصيلة الضرائب. ونظام المحافظين هذا الذي استبق هنري رابع إليه بقدر ما، والذي عطله النبلاء في الفروند، والذي دعمه لويس الرابع عشر، ثم اقتبسه نابليون-هذا النظام أصبح من الملامح البارزة للبيروقراطية المحكومة مركزياً والتي لفت منذ الآن قوانين فرنسا.

أما برلمان باريس فقد خيل إليه حتى الفرصة في ظل ملكية ضعيفة مواتية لتوسيع وظائفه من تسجيل القوانين وتفسيرها إلى دور المجلس الاستشاري للملك. ولكن ريشليوما كان ليطبق مثل هذه المنافسة لمجلس دولته، فنادى لويس زعماء البرلمان، على الأرجح بتحريض منه، مستعملاً مباراته الحادة، ونطق لهم »لقد عينتم لا لشيء إلا لتقضوا بين زيد وعمرومن الناس، فإذا تماديتم أنتم فيه فاني مقلم أظافركم تقليماً حاداً تأسفون له(24)«. وأذعن برلمان باريس، وحذت برلمان الأنطقيم حذوه، واختزلت وظائفهم حتى التقليدي منها، فأقام ريشليو»لجاناً فوق العادة« لتنظر في النادىوى الخاصة. وأصبحت فرنسا دولة بوليسية، وانتشر جواسيس الكردينال في جميع مكان حتى في الصالونات، وغدت »الأوامر المختومة« أداة مألوفة في الحكم. إلى غير ذلك أصبح ريشليوالآن في حقيقة الأمر وواقعه ملك فرنسا.


الكردينال صاحب الحدثة العليا

Henri Motte's stylised depiction of Cardinal Richelieu at the Siege of La Rochelle.

أما وقد ملكت يداه هذه السلطة المركزة، فقد عمل جميع شيء من أجل فرنسا، ولم يعمل إلا القليل من أجل الشعب. كان يرى فرنسا دولة لا مجموعة من الأفراد الأحياء، أنه لم ينظر إلى الرجل العادي نظرة مثالية، ولعله رأى »العذوبة واللياقة« في حتى يموت أمثال هؤلاء الرجال في سبيل وطنهم، فهوراغب في التضحية بهم ليؤمن وطنه المستقل من تطويق الهابسبورج له. وكان يشقى ساعات الليل الطويلة في تصريف شئون الدولة، ولكن همه كان أكثر الوقت سياستها الخارجية. لم تكن لديه متسع من الوقت لتحسين الاقتصاد، إلا حتىقد يكون لتصيد المتهربين من الضرائب وجلب الدخل و»الأنباء« لباريس بقدر أقل من التسرب وهي في الطريق. وفي عام 1627 نظم البريد العام.

وكانت الضرائب ما زال يجمعها رجال المال الذين »أبتروا« هذه الضرائب، وكانوا يقتضون المثلين، وأحياناً ثلاثة أمثال المبلغ الذي يؤدونه للحكومة. وقد أعفى النبلاء ورجال الدين من الضرائب الهامة، ووجد مهرة رجال الأعمال وثروات الموظفين المختزنة السبيل للتهرب من الجباة أواسترضائهم، أما المدن فكانت تدفع مبلغاً صغيراً لتنجومن فرصة الرؤوس، وسقطت وطأة الضرائب على طبقة الفلاحين التي قصدها ريشليووحتى الفاقة ليجعل من فرنسا أقوى دوراً في العالم المسيحي. وكان كهنري الرابع يؤثر حتى يقهر أعداءه بالمال لا بالدم، وكثير من المعاهدات التي خاض بها الحرب تضمن إعانات مالية للحلفاء ورشا للأعداء المحتملين. وكان أحياناً يقرض الخزانة من جيبه الخاص إذ أعوزه تدبير المال، ومرة أستأجر أحد المشتغلين بالكيمياء القديمة ليصنع المضى(25). وتضافر نظام الضرائب، والسحرة الحكومية على الطرق، مع الجفاف والمجاعة والطاعون وغارات الجنود، لتدفع الفلاحين إلى حال من اليأس تقرب من الانتحار، حتى لقد اغتال عدد منهم أسرهم وأنفسهم، وقتلت الأمهات الجائعات أطفالهن وأكلتهم (1639)(26). وفي عام 1634، في رواية من الممكن بولغ فيها، كان ربع سكان باريس يتسولون(27). وكان الفقراء ينتفضون في فترات دورية وأوقات متفرقة انتفاضات قمعت في غير رحمة.

واستخدم ريشليوالضرائب لبناء الجيوش والأسطول؛ ذلك حتى الحق في رأيه لا يجد إذناً صاغية إلا إذا تحدث بالمدفع. ولما اقتنى منصب الأميرال لاكير، قام بواجباته بعزيمة ماضية. فأصلح الموانئ وحصنها، وأنشأ الترسانات ومخازن الذخيرة في الثغور، وبنى خمساً وثمانين سفينة، وأسس مدارس لمرشدي السفن. ودرب أفواج الجنود البحريين. وجند مائة فوج من المشاة، وثلاثمائة جندي من الخيالة؛ ورد النظام إلى الجيش. ولم يخفق غلا في جهوده لاقصاء مومسات الجيش. وبفضل هذه القوات الحربية التي بث فيها الحياة من حديث تصدى لفوضى العلاقات الخارجية التي خلفتها وصاية ماري مديسي، وعاد إلى سياسة هنري الرابع، ووجه جميع قواته لهدف واحد-هوتحرير فرنسا من نطاق القوة الهابسبورجية في الأراضي المنخفضة والنمسا وإيطاليا وأسبانيا.

كانت ماري قد ألفت بين فرنسا وأسبانيا-أي أنها في رأي ريشليوخضعت للعدو، وأقصت أولئك اللذين اعتمد هنري الرابع على صداقتهم وهم الإنجليز، والهولنديون، وبروتستنت ألمانيا. ورأى ريشليوبعين القائد الاستراتيجية اللماحة حتى الممرات الفاتيلية التي تربط النمسا بإيطاليا الأسباينة هي المفتاح لقوة أسبانيا والإمبراطورية الموحدة في تبادل المؤن والجنود. وكافح اثني عشر عاماً لظفر بهذه الممرات، وقد صرفته عن هذا الهدف وهزمته حروبه مع الهيجونوت والنبلاء، ولكنه استرد بالدبلوماسية أكثر كثيراً مما خسر في الحرب. ذلك أنه اكتسب »فرانسوا اوكليرك دوترمبليه« خادماً أميناً، وكان قد اتخذ اسم جوزف حين أصبح راهباً كبوشياً. وأوفد »الأب جوزف« في جميع مكان في بعثات دبلوماسية شائكة فأداها بمهارة، وبدأت فرنسا تزاوج بين الراهب الرمادي العباءة الذي لقبته »صاحب القداسة الرمادي«، وبين ريشليوذي العباءة الحمراء الذي لقبته »صاحب القداسة الأحمر«. أما وقد ظفر الكردينال بهذا المعين، فإنه أقسم أنه »مثبت للعالم حتى عصر أسبانيا في سبيل الزوال«، وأن عصر فرنسا قد أقبل(28).

في عام 1629 بدا حتى الصراع الطويل في ألمانيا أوشك ان ينتهي بنصر الإمبراطور الهابسبورجي الكاثوليكي نصراً مؤزراً على الأمراء البروتستنت. ولكن ريشليوقلب الأوضاع قلباً كاملاً بالمال. ذلك أنه أبرم مع جوستاف أدولف (1631) معاهدة نصت على حتى يغزوملك السويد المغوار ألمانيا وينقذ الدويلات البروتستنتية، يعينه على ذلك مليون من الجنيهات تدفعها له فرنسا جميع عام. وندد أنصار السلطة البابوية المطلقة في فرنسا بالوزير خائناً لدينه، أما هوفكان رده حتى الحياد خيانة لفرنسا. فلما توفي جوستاف وهوظافر في لتزن (1632) واستسلم معظم الأمراء الألمان للإمبراطور، ولج ريشليوالحرب عملاً. وزاد الجيوش الفرنسية من 12.000 في عام 1621 إلى 150.000 في عام 1638. وأعان الثورة التي قام بها القتلونيون في أسبانيا، وبفضل دبلوماسيته سيطر على كوبلنتز، وكولمار، ومانهايم، وبازل، واستولى جنوده على اللورين وشقوا طريقهم عنوة مخترقين سافوا إلى ميلان قلب القوة الأسبانية في شمال إيطاليا.

On the "Day of the Dupes" in 1630, it appeared that Marie de Médicis had secured Richelieu's dismissal. Richelieu, however, survived the scheme, and Marie was exiled as a result.

ثم دار الحظ دورته وبدا حتى جميع هذه الفوزات لا معنى لها. ففي يوليوأغسطس 1636 عبرت قوة كبيرة من الجيوش الأسبانية والامبراطورية الأراضي المنخفضة ودخلت فرنسا، واستولت على أكس-لا-شابل (آخن) وكوربي, وزحفت على أميان واجتاحت أودية السوم والواز الخضراء. وكانت جيوش ريشيلوبعيدة جداً، وأصبح الطريق إلى باريس مفتوحاً عديم الدفاع أمام العدو. واغتبطت الملكة الأم في بروكسل، والملكة سان جرمان، وحزبها الموالي لأسبانيا في فرنسا، وراحوا يعدون الايام لسقوط الكردينال المنتظر. وازدحمت الجماهير الغاضبة في باريس في الشوارع منادية بموته - ولكن حين طلع عليهم بادئ الهدوء فوق جواده المهيب لم يجرؤ أحد منهم على حتى يمسه، وابتهل الكثيرون لله حتى يمنحه القوة لانقاذ فرنسا. وهنا لم تتضح شجاعته فحسب، بل بعد نظره واجتهاده؛ ذلك انه كان قد نظم منذ أمد بعيد مواطني باريس في ميليشيا احتياطية، واختزن السلاح والمؤونة لهم، ومن ثم فقد نفخ الآن فيهم روح الحماسة فاستجابوا لندائه، وأقر برلمان باريس والمجالس البلدية والنقابات الحرفية المال اللازم، ولم تمض أيام حتى كان جيش حديث في طريقه إلى القتال، فحاصر كوربي. وتلكأ جاستون أورليان المتولي قيادة الجيش، فحضر ريشيلو، وتولى القيادة، وأمر بالهجوم. وفي 14 نوفمبر سقطت كوربي، وتقهقرت الجيوش الهابوسبورجية إلى الأراضي المنخفضة.

وفي عام 1638 استولى برنان أمير ساكسي-فيمار الذي قاد جيشاً ألمانياً يموله ريشيلو، على ألزاس، فلما توفي بعد سنة أوصى بها لفرنسا، وأصبحت الرأس ولوثرينجن الالزاس واللورين، وبدأت تتحول فرنسية. وفي عام 1640 سقطت أراس. وفي عام 1642 استولت قوة يقودها الملك والكردينال على بربنيان، واقتطع إقليم روسيون المحيط بها من أسبانيا. إلى غير ذلك بدا ريشيلوالآن في جميع مكان المنظم للنصر.

Jules Cardinal Mazarin succeeded Richelieu in office.


على حتى النبلاء الذين ظلوا على خصومتهم، والحزب الأسباني في البلاط، والنساء النبيلات المغرقات في الدس، جميع أولئك بذلوا آخر محاولة لإسقاط الوزير عن كرسيه. ففي سنة 1632 توفي الماركيز إفيا بعد حتى خدم الكردينال طويلاً في الدبلوماسية والحرب تاركاً أرملة وغلاماً وسيماً في الثانية عشرة من عمره يدعى هنري كوافييه دروزيه، مركيز سانك- مارس. وبسط ريشيلوحمايته على الصبي وقدمه للملك، ولعله رأى بهذه اللعبة حتى يصرف لويس عن الآنسة أوتفور التي كانت واحدة من »الدساسات«. وهذا ما وقع فقد افتتن الملك بحسن الغلام وظرفه ووقاحته، وعينه مشرفا على خيول الملك ورجاه حتى يشارك الملك في فراشه(29). ولكن سانك-مارس، الذي نضج الآن إذ بلغ الحادية والعشرين، آثر المحظية الحسناء ماريون ديلورم، وماري دجونزاج المتعالية، ملكة بولندة المستقبلة، التي كانت الآن من أجمل خصوم الكردينال. ولعل الشاب ألح على لويس حتى يدخله عضواً في مجلس الملك ويجعله قائداً في الجيش بإيعاز منها وإثارة من خلواتها الاستراتيجية. فلما لم يرض ريشيلوعن هذه المقترحات التمس سانك - مارس من الملك حتى يطرد وزيره. ورفض الملك، فانضم الفتى إلى جاستون أورليان ودوق بويون وغيرهما في مؤامرة لتسليم سيدان إلى الجيش الأسباني، واتفق على حتى يدخل المتآمرون باريس وهذا الجيش من خلفهم ويعتقلوا الملك، وتعهد جاستون بأن يدبر اغتيال الكردينال في طريقه إلى بربنيان. والتمس جاك أوجست دتو، صديق سانك - مارس، تعاون الملكة. ولكن آن النمسوية التي تسقطت موت لويس القريب ووصولها إلى السلطة بوصفها وصية أوفدت إلى ريشيلة إشارة خفية بالمؤامرة. وتظاهر هذا بأن لديه نسخة من الاتفاق مع أسبانيا، فصدقه جاستون واعترف، ثم دل على شركائه كما هي العادة. وقبض على سانك - مارس، ودتو، وبويون. وأيد بويون اعتراف جاستون ثمناً للعفوعنه. وحوكم الشابان أمام محكمة في ليون، فدينا بالإجماع، وشرفا خيانتهما بموت رابط الجأش. وهرع الملك إلى باريس ليحمي قوته. أما ريشيلو، المريض سقماً مميتاً، فقد حمل على محفة مخترقاً بلداً يموت من الفوزات ويصرخ طلباً للسلام.


الفنون والثقافة

Cardinal de Richelieu


رثاء

أي رجل كان هذا الكردينال الذي لم يكدقد يكون مسيحياً، هذا الرجل. العظيم الذي شعر أنه ليس في وسعه حتىقد يكون إنساناً طيبا ً،يا ترى؟ لقد أسلمه فليب دشامبان إلى الأجيال التالية في لوحة من أشهر لوحات اللوفر. قوام فارع تنقذه أثوابه من مظهر السخف، تخلع عليه السلطة عباءة وقبعة حمراوين، يقف كأنه في مرافعة قانونية، يعلن عن نبالته بقسماته الواضحة المحددة ويديه الرقيقتين، ويتحدى أعداءه بعينيه الحادتين، ولكنه شاحب بعمل السنين المضنية، محزون بوعيه بالزمن الذي لا يرحم. هنا دنيوية السلطان يعارضها نسك التكريس.

كان عليه حتىقد يكون قوياً ليمنع عيوبه من حتى تهزم مراميه. بدأ سيرته في البلاط بتواضع متملق، انتقم له بعد حين بكبرياء لا تعترف بغير سيد واحد دون غيره. فبينما كانت الملكة تزوره ذات مرة ظل جالساً - وهوخروج عن الأدب لا يؤذن به إلا للملك. كان (كأكثرنا) مغروراً بمظهره، شرهاً للألقاب، كارهاً للنقد، تواقاً إلى الشعبية. كان يغار من كوريني، فاشتهى حتى يشتهر هوأيضاً محرراً مسرحياً وشاعراً، وقد خط عملاً النثر الرائع كما تشهد بذلك مذكراته. وقد وفق في غير تردد - كما وفق ولزي - بين أتباع المسيح، والاهتمام بشيطان المال. رفض الرشا ولم يتقاض راتباً، ولكنه استولى على ولج الكثير من الرتب الكنسية، زاعماً أنه في حاجة إلى تمويل سياساته. وشيد لنفسه كما عمل ولزي قصراً بلغ من فخامته أنه رأى من الحكمة قبل موته حتى يهديه إلى ولي العهد؛ ولنا حتى نفترض أنه مبنى للموظفين الإداريين وللمظهر الدبلوماسي أكثر من الترف الشخصي. لم يكن بخيلاً، وقد أثرى أقرباءه، وكان في وسعه حتى يسخوبمال الدولة. وأوصى بنصف ثروته للملك، ونصحه بأن يستعمله »في الظروف التي لا تحتمل بطئ الإجراءات المالية(30)«.

أما ما يظهر لنا قسوة شديدة فيه فكان في رأيه ضرورة من ضرورات الحكم، فمن القضايا المسلمة بها عنده حتى الناس - والدول بالتأكيد - لا يمكن حتى يساسوا باللطف، بل لا بد من تخويفهم بالصرامة. إنه أحب فرنسا، ولكن الفرنسيين لم يبعثوا فيه حرارة الحب. وقد وافق كوزيمودي مديتشي على حتى الدولة لا يمكن حكمها بالصلوات الربانية، ووافق مكيافللي على حتى أخلاقيات المسيح لا يمكن اتباعها بأمان في حكم الأمة أوصيانتها. خط يقول »إن المسيح لا يسعه الإبطاء في العفوعن الإساءة، ولكن الحاكم لا يسعه الإبطاء في عقابها إذا كانت جريمة ضد الدولة ... ولا بقاء للدول بغير هذه الفضيلة (فضيلة الصرامة) التي تصبح شفقة بقدر ما يمنع عقاب مجرم واحد ألف مجرم من نسيانه(31)«. وريشليوهوالذي روج تعبير »مبرر الدولة«، أي حتى القانون الأخلاقي يجب حتى يخضع لمبررات الدولة(32). ويبدوأنه لم يخامره قط شك في حتى سياساته هي واحتياجات فرنسا شيء واحد، ومن ثم اضطهد أعداءه الشخصيين بنفس الحزم الذي عاقب به أعداء الملك.

على أنه كان داخل قلعته وجبهته الدبلوماسية إنساناً، يهفوإلى الصداقة، ويحس عزلة العظماء ووحشتهم. ويريدنا كتاب تالمان »أقاصيص« المملوء بالقيل والنطق حتى نصدق حتى ريشليوحاول حتى يجعل من ماري مديسي خليلة له، وكانت تكبره بعشرين عاما(33)، ولكن هذا بعيد الاحتمال. وهناك أساطير أخرى عن علاقات الكردينال الغرامية السرية، حتى مع نينول دلا نكلو، وما كان لينتهك عهد العصر حتى يعزى رجل السياسة المرهق نفسه ببعض الانحرافات. بيد حتى جميع ما نعهده عن عواطفه فهم واضحة هوأنه كان شديد التعلق بابنة أخته ماري-مادلين دكومباليه. فقد أرادت حتى تدخل ديراً بعد حتى ترملت عقب زقابلا، ولكن ريشليوأقنع البابا بمنع هذا، وأبقاها قريبة منه لتدير بيته، واستجابت بالإخلاص له إخلاصاً أشد حرارة من أكثر العلاقات الغرامية. كانت تلبس لباس الراهبة وتخفي شعرها. وسلك ريشليومنها مسلك اللياقة الواجبة كله، ولكن الملكتين رفضتا تبرئتها لفقدان الأدلة الكافية على إدانتها، وسقتا غيرهما إلى حديث الشائعات الذي أضاف وخزة عديدة لسيرة الكردينال. إنه لم يحب »رجلاً، ولا امرأة أيضاً« وقد ثأر كلاهما منه.

الكاردينال الرمادي - الكاردينال ريشليو، بريشة جان ليون جيروم

أما ما كان يملكه فوق جميع شيء فهوالارادة. وقليل من الناس في التاريخ كله من اجتمعت لهم هذه الوحدة في الهدف، وهذا المضاء والثبات في السعي إليه، وما كان لقوانين الحركة حتى تكون أكثر ثباتاً. ولا بد حتى نعجب باخلاصه لواجباته، وافنانه نفسه فيها طوال سنين من الجهد وليالي حرم فيها النوم. وقد كرس هذه الجهود لأولئك الذين يسر لهم النوم دون مخاوف مستظلين برعايته الساهرة. ولا بد حتى نعترف له بالشجاعة الفائقة التي تصدت للنبلاء الأقوياء والنساء الدساسات، وقاومتهم وصدتهم، وقضت عليهم في غير خوف ولا رهبة وسط المؤامرات المتكررة على حياته. وقد غامر برأسه المرة بعد المرة بسبب نتائج سياساته. وقلما كان يشعر بالعافية. فقد عرضته الحمى التي أبتلته بها مستنقعات بواتولصداع متكرر كان أحياناً يلازمه أياماً بطولها. ولعل جهازه العصبي كان ضعيفاً بالوراثة. أومضروراً بالخلقة، فقد كانت إحدى شقيقاته ضعيفة العقل، وأحد إخوته مجنوناً بعض الوقت، وأرجفت شائعات القصر حتى الكردينال ذاته تعتريه نوبات من الصرع وهلوسات جنونية(34). وكان يعاني من البواسير، والبثور، وسقم المثانة، وكانت أزماته السياسية تزداد تعقداً أحيانا بحصر البول كما كان الشأن مع نابليون(35). وقد حملته علته على التفكير غير مرة في الاعتزال، ولكنه وهوحبيس إرادته كان يأخذ الزمام ثانية ويواصل النضال.


ولسنا نستطيع حتى ننصفه إلا إذا نظرنا إليه في مجموعة، بما فيه من ملامح تتخذ شكلها ونحن ماضون في الرؤية. لقد كان رائداً للتسامح الديني، رجلاً واسع الثقافة حساسها، ذواقة للموسيقى، وجماعاً خبيراً للفنون، وعاشقاً للدراما والشعر، وصديقاً معيناً لرجال الأدب، ومؤسساً للأكاديمية الفرنسية. ولكن التاريخ يذكر فيه بحق أولاً وقبل جميع شيء الرجل الذي حرر فرنسا من تلك السيطرة الأسبانية التي نجمت عن الحروب الدينية والتي جعلت من فرنسا، بمقتضى الحلف، دولة تتلقى من أسبانيا معاشاً، بل تكاد تكون تابعة لها. أنه حقق ما كان فرنسيس الأول وهنري الرابع يصبوان طويلاً إليه وما أخفقا في تحقيقه، فقد كسر »النطاق الخانق« الذي طوقت به دولتا الهابسبورج فرنسا. ولا بد حتى تفصل الصفحات التالية تلك الاستراتيجية البعيدة النظر التي حسم بها حرب الثلاثين سنة، وأنقذ البروتستنتية الألمانية باعتبارها حليف فرنسا الكاثوليكية، ويسر لمازران حتى يصوغ صلح وستفاليا البناء. أما لفرنسا ذاتها فقد خلق وحدة وقوة على حساب دكتاتورية واستبدادية ملكية ولدت الثورة حين حان وقتها. وإذا كان أول واجبات رجل الدولة حتى يجعل شعبه سعيداً حراً، فإن ريشليوكان شديد القصور في تحقيق هذا الهدف. وقد أدانه الكردينال ريتز-وهوقاض ذكي ولكنه لم يتجرد من التحامل-لأنه »أرسى أشنع وأخطر طغيان استرق دولة من الممكن في التاريخ كله(36)«. ولوسئل ريشليوفي هذا لربما أجاب بأن على رجل الدولة حتى يأخذ في الاعتبار سعادة وحرية الأجيال القادمة لا جيله فحسب، وأن عليه حتى يقوي وطنه ليحميه من الغزوأوالسيطرة الأجنبية، وأن له في سبيل هذا الهدف حتى يضحي بحق جيلاً حاضراً من أجل أمن الأجيال التالية. وبهذا المعنى رأي فيه أوليفارس، غريم ريشليوالأسباني، »أقدر وزير في العالم المسيحي في الألف السنة الأخيرة(37)«. ورأى فيه تشسترفيلد »أكفأ رجل دولة في عصره وربما في أي عصر آخر(38)«.

وكانت عودته من نصره النهائي في روسيون موكب الجنازة لرجل ما زال على قيد الحياة استقل زورقاً من تاراسكزن إلى ليون على الرون، ومكث في ليون حتى حوكم سانك-مارس ودوتووأعدما، ثم اضطر لضعفه من ألم تسبب عن ناسور شرجي حتى يمضى إلى باريس على محفة حملها أربعة وعشرون من حراسه، واتسعت لسرير الرجل المحتضر، ومائدة، وكرسي، وسكرتير يملي أوامر للجيش ورسائل دبلوماسية. واستغرقت مسيرة الموت هذه ستة اسابيع، وعلى طول الطريق احتشد الناس ليلقوا نظرة خاطفة على الرجل الذي لم يكن في قدرتهم حتى يعطوه الحب، بل الخوف، والاحترام، والتبجيل، بوصفه التجسيد المهيب للكنيسة والدولة جميعاً، ونائب الله والملك. فلما بلغ باريس نقل إلى قصره دون حتى يبرح محفته. وأوفد استنطقته لمولاه الذي رفض قبولها. وحضر لويس إلى فراشه، وسقمه، وأطعمه، وتساءل ماذا عساه حتى يعمل إذا توقفت هذه الإرادة المتجسدة عن الحياة. أما كاهن اعتراف الكردينال فقد سأله بعد حتى ناوله القربان الأخير هل غفر لأعدائه، فأجاب بأنه لم يكن له قط أعداء إلا أعداء فرنسا. وبعد يوم من الغيبوبة توفي في أربعة ديسمبر 1642، وهوفي السابعة والخمسين. وأمر الملك بأسبوع تام من مراسم الحداد، ومرت صفوف المشاهدين بجثمانه طوال يوم ونصف. ولكن الناس في كثير من الأنطقيم أشعلوا نيران الفرح شكراً لله على موت الكردينال الحديدي(39).

واستمر يحكم فرنسا حيناً. وذلك أنه أوصى بجوليومازاريني خلفاً له في الوزارة، ووافق لويس. وقد هجر عشرة مجلدات من المذكرات، مسجلاً فيها أعمال الدولة كأنها ليست أعماله بل أعمال الملك. وكان في سنواته الأخيرة قد أهدى لويس »ميثاقاً سياسياً« »ويصلح بعد موتي لإدارة مملكتك وسياستها«. هنا وسط بعض الملاحظات التافهة نجد قواعد دقيقة بليغة للحكم، صيغت في أسلوب زمانه. إنه ينصح الملك بأن يجتنب الحرب، باعتبارها شيئاً لا يصلح له جلالته بطبعه. »إن مصالحة عشرة أعداء أجدى وأدعى للفخر من القضاء على عدوواحد(40)« ثم أسر إليه حتى الفرنسيين قوم لم يخلقوا للحرب، ففي بدايتهاقد يكونون الشجاعة كلها والحماسة كلها، ولكن يعوزهم الصبر ورباطة الجأش انتظاراً للحظة المواتية، ويمضي الوقت »يفقدون الاهتمام، ويغدون أضعف حتى من النساء(41)«. ويجب حتىقد يكون الملك، كالقائد شجاعة الرجال القادرة على مقاومة الميول العاطفية؛ وعليه ألا يعطي النساء حدثة في الحكومة، لأنهن يتبعن نزواتهم وأهواءهن أكثر مما يستمعن لصوت العقل(42). على حتى »الفكر« في المرأة لا يناسبها »لأني لم أر في حياتي امرأة عالمة لم يفسدها فهمها(43)«. والنساء لا يستطعن كتمان السر، » والكتمان روح السياسة(44)«، ورجل الدولة الحصيف قليل الكلام كثير الإصغاء(45)«. وهويحذر حتى يسيء بحدثة غافلة؛ وهولا يتحدث بشر عن أحد إلا إذا اقتضى ذلك صالح الدولة(46). ومن واجب الملك حتىقد يكون لديه معلومات عامة عن تاريخ جميع الدول ونظامها، لا سيما دولته(47)«. ثم يرجوالمؤلف شيئاً من التفهم لوزارته وخلقه »إن عظماء الرجال الذين يعينون لحكم الدولة أشبه بالمحكوم عليهم بالتعذيب، مع فارق واحد، هوحتى هؤلاء يتلقون العقاب على سيئاتهم، أما أولئك عملى حسناتهم(48).

وعاش الملك خمسة أشهر بعد موته، وقد ذكر الناس حكم لويس القصير شاكرين، لأنه أطلق السجناء السياسيين، وسمح بعودة المنفيين، وأتاح لفرنسا حتى تتنفس. وكان يشكومن حتى الكردينال لم يدعه يتصرف كما يشاء. كانت أمه قد ماتت قبل ريشليوببضعة شهور، فأمر بجلب جثمانها من كولونيا واحتفل بدفنها رسمياً، وفي لحظاته الأخيرة توسل حتى يغفر الله والناس له الخشونة التي عاملها بها.

ورأى نفسه يتهاوى، ولكنه اغتبط بما كان عليه ولده البالغ من العمر أربعة سنين من عافية ووسامة. سأله معابثاً »ما اسمك؟« فأجاب الصبي »لويس الرابع عشر« فنطق الملك مبتسماً »ليس بعد يا بني، ليس بعد«. وأمر بطانته بقبول وصاية الملكة حتى يبلغ ابنه سن الرشد، ولما أبلغوه حتى قد حانت ميتته نطق »إذن فأنا راضٍ من جميع قلبي يا إلهي(49)« ومات في 14 مايو1643 وقد بلغ الحادية والأربعين. نطق تالمان »مضى الناس إلى مأتمه كأنهم يمضىون إلى حفل زفاف، وظهروا أمام الملكة كأنهم في مباراة رياضية(50)« وكان الكردينال الرهيب قد أعد جميع شيء لمجيء الملك العظيم و»القرن العظيم«.

المصادر

  • Belloc, Hilaire (1929). Richelieu: A Study. London: J. B. Lippincott.
  • Burckhardt, Carl J. (1967). Richelieu and His Age (3 volumes). trans. Bernard Hoy. New York: Harcourt Brace Jovanovich.
  • Church, William F. (1972). Richelieu and Reason of State. Princeton: Princeton University Press.
  • Kissinger, Henry (1997). Diplomatie. s.l.: Fayard.
  • Levi, Anthony (2000). Cardinal Richelieu and the Making of France. New York: Carroll and Graf.
  • Lodge, Sir Richard (1896). Richelieu. London: Macmillan.
  • Murphy, Edwin (1995). After the Funeral: The Posthumous Adventures of Famous Corpses. New York: Barnes and Noble Books.
  • Richelieu, Armand Jean du Plessis, Cardinal et Duc de (1964). The Political Testament of Cardinal Richelieu. trans. Henry Bertram Hill. Madison: University of Wisconsin Press.CS1 maint: multiple names: authors list (link)

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)


انظر أيضاً

  • The pen is mightier than the sword

وصلات خارجية

اقرأ اقتباسات ذات علاقة بكاردينال ريشليو، في فهم الاقتباس.
  • Damayanov, Orlin. (1996). "The Political Career and Personal Qualities of Richelieu."
  • Volume XIII. New York: Robert Appleton Company
  • Translated by A. J. W. Morrison.
  • http://cardrichelieu.free.fr/
  • http://cardinalderichelieu.forumactif.com/index.htm
مناصب سياسية
سبقه
شاغر
اللقب كان آخر من شغله بشكل غير رسمي: كونسينوكونسيني
كبير وزراء العرش الفرنسي
1624-1642
تبعه
الكاردينال مازاران

نطقب:D'Artagnan Romances

تاريخ النشر: 2020-06-07 17:15:12
التصنيفات: Pages using deprecated image syntax, CS1 maint: multiple names: authors list, Pages with citations using unsupported parameters, كرادلة فرنسيون, نبلاء فرنسيون, سياسيون فرنسيون, رؤساء وزراء فرنسا, أشخاص من پاريس, شخصيات ألكسندر دوما, مواليد 1585, وفيات 1642, كاثوليك فرنسيون, دوقات ريشليو, خريجو جامعة پاريس, أساقفة لوسون, وزراء خارجية فرنسا, وفيات بالسل, سياسيون من باريس, فرنسيون في حرب الثلاثين عام

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الصحة: مصر خالية من شلل الأطفال.. وإطلاق حملة تطعيم قومية قريبًا

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-12 18:20:54
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 59%

انقلاب سيارة محملة بـ10 براميل زيت طعام بالطريق الإقليمى

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-12 18:20:55
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 53%

«أوبك» تخفض توقعاتها لنمو الطلب في 2022 و2023 مع تباطؤ الاقتصاد

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-12 18:20:54
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 53%

حكيم بن عبد الله: نهضة بركان فوق كل اعتبار

المصدر: راديو مارس - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-10-12 18:19:23
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 56%

بايدن : لقائي ببوتين الشهر القادم "محتمل" ولا أعتقد أنه سيستخدم النووي

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-12 18:19:37
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 61%

كامبوس ينفي رغبة مبابي بالرحيل عن باريس سان جيرمان في يناير

المصدر: راديو مارس - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-10-12 18:19:19
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 55%

"فيفا" يخصص 200 مليون دولار للأندية التي يشارك لاعبوها في مونديال قطر

المصدر: راديو مارس - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-10-12 18:19:21
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 60%

إغلاق خط أنابيب متجه إلى ألمانيا بعد تسرب نفطي - أخبار العالم

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-12 18:20:37
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 67%

هذا ما سيجنيه المُنتخب المغربي نظير مشاركته بمونديال قطر 2022

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-12 18:19:38
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 63%

سلا.. توقيف شخصين في قضية تتعلق بالسكر العلني البين

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-12 18:19:39
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 53%

ضبط متهمين بتحصيل أموال من سائح لتمكينه الصعود لمأذنة مسجد أثري

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-12 18:20:42
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 60%

تحميل تطبيق المنصة العربية