أبو حنيفة النعمان

عودة للموسوعة

أبوحنيفة النعمان

أبوحنيفة النعمان
تخطيط لاسم الإمام أبي حنيفة النعمان ملحوق بنادىء الرضا عنه
الإمام الأعظم، فقيه العراق، فقيه الملة، عالم الأمة، إمام الأئمة الفقهاء
الولادة سنة 80هـ / 699م
الكوفة، العراق
الوفاة رجب أوشعبان أوجمادى الأولى سنة 150هـ / 767م
بغداد، العراق
مبجل(ة) في الإسلام: أهل السنة والجماعة
المقام الرئيسي بغداد، العراق
النسب أبوه: ثابت بن زوطى بن ماه، وقيل: ثابت بن النعمان بن المرزبان

أبوحنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ (80-150هـ / 699-767م) فقيه وعالم مسلم، وأول الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب الممضى الحنفي في الفقه الإسلامي. اشتهر بفهمه الغزير وأخلاقه الحسنة، حتى نطق فيه الإمام الشافعي: «من أراد حتى يتبحَّر في الفقه فهوعيال على أبي حنيفة»، ويُعد أبوحنيفة من التابعين، فقد لقي عدداً من الصحابة منهم أنس بن مالك، وكان معروفاً بالورع وكثرة العبادة والوقار والإخلاص وقوة الشخصية. كان أبوحنيفة يعتمد في فقهه على ستة مصادر هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.

وُلد أبوحنيفة بالكوفة ونشأ فيها، وقد كانت الكوفة إحدى مدن العراق العظيمة، ينتشر فيها الفهماء أصحاب المذاهب والديانات المتنوعة، وقد نشأ أبوحنيفة في هذه البيئة الغنية بالفهم والفهماء، فابتدأ منذ الصبا يجادل مع المجادلين، ولكنه كان منصرفاً إلى مهنة التجارة، فأبوه وجده كانا تاجرين، ثم انصرف إلى طلب الفهم، وصار يختلف إلى حلقات الفهماء، واتجه إلى دراسة الفقه بعد حتى استعرض العلوم المعروفة في ذلك العصر، ولزم شيخه حماد بن أبي سليمان يتفهم منه الفقه حتى توفي حماد سنة 120هـ، فتولى أبوحنيفة رئاسة حلقة شيخه حماد بمسجد الكوفة، وأخذ يدارس تلاميذه ما يُعرض له من فتاوى، حتى وَضع تلك الطريقةَ الفقهيةَ التي اشتُق منها الممضى الحنفي.

سقطت بالإمام أبي حنيفة محنتان، المحنة الأولى في عصر الدولة الأموية، وسببها أنه وقف مع ثورة الإمام زيد بن علي، ورفض حتى يعمل عند والي الكوفة يزيد بن عمر بن هبيرة، فحبسه الوالي وضربه، وانتهت المحنة بهروبه إلى مكة عام 130هـ، وظل مقيماً بها حتى صارت الخلافة للعباسيين، فقدم الكوفة في زمن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. أما المحنة الثانية فكانت في عصر الدولة العباسية، وسببها أنه وقف مع ثورة الإمام محمد النفس الزكية، وكان يجهر بمخالفة المنصور في غاياته عندما يستفتيه، وعندما نادىه أبوجعفر المنصور ليتولى القضاء امتنع، فطلب منه حتىقد يكون قاضي القضاة فامتنع، فحبسه إلى حتى توفي في بغداد سنة 150هـ، ودُفن في مقبرة الخيزران في بغداد، وبني بجوار قبره جامع الإمام الأعظم عام 375هـ.


مولده ونسبه

ولد الإمام أبوحنيفة بالكوفة سنة 80 من الهجرة النبوية، الموافقة لسنة 699 من الميلاد، على رواية الأكثرين التي يكاد يجمع عليها المؤرخون. وأبوه: هوثابت بن النعمان بن زوطى بن ماه ، وهناك خلاف في تحديد أنتماءه العرقي، حيث توجد روايات متعددة، منها أنه من أصل فارسي وهذه الرواية متداولة ومعروفة والقول أنه من أصل نبطيبابلي ،عراقي منذ القدم ، وهوما أثبتته عدد من الدراسات الأكاديمية التاريخية، حيث ثبتت عروبته وإنه من أصل عربي عند المؤرخين العرب مثل مصطفى جواد، وناجي معروف وغيرهم، ولقد ألف الإستاذ ناجي معروف كتابا يثبت فيه عروبته وإنتماءه إلى أصل عربي بسند تأريخي، يبطل جميع ما قيل عنه سابقا بإنه غير عربي، في كتابه القيم عروبة الإمام أبي حنيفة النعمان، وإستنادا إلى مقولة: (أهل مكة أدرى بشعابها)، تؤكد المصادر الحنفية، إنه عربي الأرومة، وان ثابت بن المرزبان، من بني يحيى بن زيد بن أسد، من عرب الأزد الذين هاجروا من اليمن وسكنوا أرض العراق بعد إنهيار سد مأرب جراء سيل العرم.


نشأته الفهمية

أسرته والبيئة التي نشأ فيها

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه الموضوعة جزء من سلسلة:

نشأ أبوحنيفة بالكوفة وتربى بها، وعاش أكثر حياته فيها، متفهماً ومجادلاً ومفهماً، ولم تُبين المصادر حياة أبيه وحاله وما كان يتولاه من الأعمال، ولكن قد يُستنبط منها شيء من أحواله، فقد يستفاد منها أنه كان من أهل اليسار والغنى، وأنه كان من التجار، وأنه كان مسلماً حسن الإسلام. ولقد روي حتى علياً بن أبي طالب نادى لثابت عندما رآه بالبركة فيه وفي ذريته، ويؤخذ من هذا أنه كان مسلماً وقت هذه الدعوة، وقد صرحت خط التاريخ بأن ثابتاً ولد على الإسلام، وعلى ذلكقد يكون أبوحنيفة قد نشأ أول نشأته في بيت إسلامي خالص، وذلك ما يقرره الفهماء جميعاً إلا من لا يؤبه لشذوذهم ولا يلتفت لكلامهم.

ولقد كانت الكوفة وهي مولد أبي حنيفة إحدى مدن العراق العظيمة، بل ثاني مصريه العظيمين في ذلك الوقت، وفي العراق الملل والنحل والأهواء، وقد كان موطناً لمدنيات قديمة، كان السريان قد انتشروا فيه وأنشأوا لهم مدارس به قبل الإسلام، وكانوا يدرسون فيها فلسفة اليونان وحكمة الفُرس، كما كان في العراق قبل الإسلام مذاهب نصرانية تتجادل في العقائد، وكان العراق بعد الإسلام مزيجاً من أجناس مختلفة وفيه اضطراب وفتن، وفيه آراء تتضارب في السياسة وأصول العقائد، ففيه الشيعة، وفي باديته الخوارج، وفيه المعتزلة، وفيه تابعون مجتهدون حملوا فهم من لقوا من الصحابة، فكان فيه فهم الدين سائغاً موروداً، وفيه النحل المتنازعة والآراء المتضاربة.

فتحت عين أبي حنيفة فرأى هذه الأجناس، ونضج عقله فانكشفت له هذه الآراء، وابتدأ منذ الصبا يجادل مع المجادلين، ولكنه كان منصرفاً إلى مهنة التجارة، ويختلف إلى الأسواق ولا يختلف إلى الفهماء إلا قليلاً، حتى لمح بعض الفهماء ما فيه من ذكاء وعقل فهمي، فضن به، ولم يرد حتىقد يكون كله للتجارة، فأوصاه بأن يختلف إلى الفهماء كما يختلف إلى الأسواق. يروى عن أبي حنيفة أنه نطق: مررت يوماً على الشعبي وهوجالس فنادىني، فنطق لي: «إلى من تختلف؟»، فقلت: «أختلف إلى السوق»، فنطق: «لم أعن الاختلاف إلى السوق، عنيت الاختلاف إلى الفهماء»، فقلت له: «أنا قليل الاختلاف إليهم»، فنطق لي: «لا تغفل، وعليك بالنظر في الفهم ومجالسة الفهماء، فإني أرى فيك يقظة وحركة»، نطق: «فسقط في قلبي من قوله، فهجرت الاختلاف إلى السوق، وأخذت في الفهم، فنفعني الله بقوله».


توجهه إلى طلب الفهم

انصرف أبوحنيفة إلى الفهم بعد نصيحة الشعبي، وصار يختلف إلى حلقات الفهماء، وكانت حلقات الفهم في ذلك العصر ثلاثة أنواع: حلقات للمذاكرة في أصول العقائد، وهذا ما كان يخوض فيه أهل الفرق المتنوعة، وحلقات لمذاكرة الأحاديث النبوية وروايتها، وحلقات لاستنباط الفقه من الكتاب والسنة، والفتيا فيما يقع من الحوادث.

وقد ذكرت المصادر عدة روايات عن أبي حنيفة تدل على أنه عندما تفرغ لطلب الفهم اتجه إلى الفقه بعد حتى استعرض العلوم المعروفة في ذلك العصر، واختار أولاً فهم الكلام والجدل مع الفرق، ثم انصرف عنه إلى الفقه. وهذه رواية قد رُويت من عدة طرق إحداها عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة حتى أبا حنيفة سُئل: «كيف وُفقت إلى الفقه؟»، فنطق: «أقول لك، أما التوفيق فكان من الله، وله الحمد كما هوأهله ومستحقه، إني لما أردت تفهم الفهم جعلت العلوم كلها نصب عيني، فقرأت فناً فناً منها، وتفكرت عاقبته وموضع نفعه، فقلت آخذ في الكلام، ثم نظرت، فإذا عاقبته عاقبة سوء ونفعه قليل، وإذا كمل الإنسان فيه لا يستطيع حتى يتحدث جهاراً ورمي بكل سوء وينطق صاحب هوى، ثم تتبعت أمر الأدب والنحو، فإذا عاقبة أمره حتى أجلس مع صبي أفهمه النحووالأدب، ثم تتبعت أمر الشعر، فوجدت عاقبة أمره المدح والهاتى، وقول الكذب وتمزيق الدين، ثم تفكرت في أمر القراءات، فقلت: إذا بلغت الغاية منه اجتمع إلي أحداث يقرؤون علي، والكلام في القرآن ومعانيه صعب، فقلت: أطلب الحديث، فقلت: إذا جمعت منه الكثير أحتاج إلى عمر طويل حتى يُحتاج إلي، وإذا احتيج إلي لا يجتمع إلا الأحداث، ولعلهم يرمونني بالكذب وسوء الحفظ فيلزمني ذلك إلى يوم الدين، ثم قلبت الفقه، فحدثا قلبته وأدرته لم يزدد إلا جلالة، ولم أجد فيه عيباً، ورأيت الجلوس مع الفهماء والفقهاء والمشايخ والبصراء والتخلق بأخلاقهم، ورأيت أنه لا يستقيم أداء الفرائض وإقامة الدين والتعبد إلا بمعهدته، وطلب الدنيا والآخرة إلا به، ومن أراد حتى يطلب به الدنيا طلب به أمراً جسيماً، وصار إلى حملة منها، ومن أراد العبادة والتخلي لم يستطع أحد حتى يقول: تعبد بغير فهم، وقيل إنه فقه وعمل بفهم».

تثقف أبوحنيفة إذن بالثقافة الإسلامية كلها التي كانت في عصره، فقد حفظ القرآن على قراءة عاصم، وعهد قدراً من الحديث، وقدراً من النحووالأدب والشعر، وجادل الفرق المتنوعة في مسائل الاعتقاد وما يتصل به، وكان يرحل لهذه المناقشة إلى البصرة، وكان يمكث بها أحياناً سنةً لذلك الجدل، ثم انصرف بعد ذلك إلى الفقه، واتجه إلى دراسة الفتيا على المشايخ الكبار الذين كانوا في عصره، ولزم واحداً منهم، أخذ عنه وتخرج عليه، ولقد كانت الكوفة في عهده موطن فقهاء العراق، كما كانت البصرة موطن الفرق المتنوعة ومن كانوا يخوضون في أصول الاعتقاد، وقد كانت تلك البيئة الفكرية لها أثرها في نفسه، حتى نطق: «كنت في معدن الفهم والفقه، فجالست أهله ولزمت فقيهاً من فقهائهم».

ملازمته لشيخه حماد بن أبي سليمان

مسجد الكوفة عام 1915م، حيث تفهم أبوحنيفة وعلَّم الفقه الإسلامي

لزم أبوحنيفة حماد بن أبي سليمان، وتخرج عليه في الفقه، واستقر معه إلى حتى مات، وإن حماداً قد توفي في سنة 120هـ، فكأنه توفي وأبوحنيفة في الأربعين من عمره، وعلى ذلك فإن أبا حنيفة لم يستقل بالدراسة إلا وهوفي سن الأربعين، وقد بلغ أشده في الجسم والعقل معاً، وقد روي عن أبي حنيفة أنه نطق عن صلته بشيخه حماد: «صحبته عشر سنين، ثم نازعتني نفسي الطلب للرياسة، فأردت حتى أعتزله، وأجلس في حلقة لنفسي، فخرجت يوماً بالعشي وعزمي حتى أعمل، فلما دخلت المسجد ورأيته لم تطلب نفسي حتى أعتزله، فجئت وجلست معه، فاتىه في تلك الليلة نعي قرابة له قد توفي بالبصرة وهجر مالاً، وليس له وارث غيره، فأمرني حتى أجلس مكانه، فما هوإلا حتى خرج حتى وردت علي مسائل لم أسمعها منه، فكنت أجيب وأخط جوابي، ثم قدم فعرضت عليه المسائل، وكانت نحواً من ستين مسألة، فوافقني في أربعين وخالفني في عشرين، فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت، فلم أفارقه حتى مات».

وقد ثبت حتى أبا حنيفة لازمه ثماني عشرة سنة، فقد روي عنه أنه نطق: «قدمت البصرة فظننت أني لا أُسأل عن شيء إلا أجبت عنه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ألا أفارق حماداً حتى يموت، فصحبته ثماني عشرة سنة». ويُلاحظ من ذلك حتى أبا حنيفة تتلمذ عند شيخه حماد وهوفي سن الثانية والعشرين، ولازمه حتى سن الأربعين، ثم استقل بالدرس والبحث، وتولى حلقته بعد ذلك، وكان مع ملازمته لشيخه حماد قد لاقى غيره من الفقهاء والمحدثين، وكان يتتبع التابعين أينما كانوا وحيثما ثقفوا.

جلس أبوحنيفة وهوفي الأربعين من عمره في مجلس شيخه حماد بمسجد الكوفة، وأخذ يدارس تلاميذه ما يعرض له من فتاوى، وما يبلغه من أقضية، ويقيس الأمور بأشباهها، والأمثال بأمثالها، حتى وضع تلك الطريقة الفقهية التي اشتُق منها الممضى الحنفي.

فقهه وأصول ممضىه

جامع الإمام أبي حنيفة عام 2008م

رُوي عن الإمام أبي حنيفة أنه نطق: «آخذ بكتاب الله تعالى، فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذت بقول الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب -وعدَّد رجالاً- فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا».

ونطق سهل بن مزاحم: «كلام أبي حنيفة أخذٌ بالثقة وفرارٌ من القبح، والنظر في معاملات الناس وما استقاموا عليه وصلح عليه أمورهم، يمضي الأمور على القياس، فإذا قبح القياس أمضاها على الاستحسان، ما دام يمضي له، فإذا لم يمض له عاد إلى ما يتعامل المسلمون به، وكان يؤصل الحديث المعروف الذي قد أجمع عليه، ثم يقيس عليه ما دام القياس سائغاً، ثم يرجع إلى الاستحسان أيهما كان أوفق عاد إليه».

هذه النقول وغيرها تدل على مجموع المصادر الفقهية عند الإمام أبي حنيفة، فهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.


القرآن الكريم

القرآن الكريم عند الإمام أبي حنيفة هوالمصدر الأول والأعلى في مسائل الفقه، لأنه الكتاب البتري الثبوت، لا يُشك في حرف منه، وأنه ليس يوازيه ولا يصل إلى رتبته في الثبوت إلا الحديث المتواتر، لذلك لا يرى نسخ القرآن الكريم بخبر الآحاد من السنة، وإنما يعمل بها ما أمكن، وإلا هجر السنة الظنية للكتاب البتري.

السنة النبوية

لا يجعل الإمام أبوحنيفة السنة النبوية في رتبة واحدة، بل يُقدم مثلاً السنة القولية على العملية، لجواز حتىقد يكون العمل خصوصية للنبي، ويُقدم السنة المتواترة على خبر الآحاد عند التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما، بل إنه يهجر العمل بخبر الآحاد إذا خالف قاعدة شرعية مأخوذة من نص القرآن أوالسنة.

الإجماع

فما أجمع عليه أصحاب الرسول وما اختلفوا فيه لا يخرج عن أقوالهم إلى أقوال غيرهم، والإجماع: هواتفاق الأئمة المجتهدين في عصر من العصور بعد انتنطق الرسول عن الدنيا على حكم شرعي، والإجماع عند الإمام أبي حنيفة حجة معمول به.

القياس

وهوإلحاق فرع بأصل فيه نص بحكم معين من الوجوب أوالحرمة، لوجود علة الحكم في الفرع كما هي في الأصل. والإمام أبوحنيفة يُقدم السنة ولوكان حديثاً مرسلاً على القياس، كما يقدم الحديث الضعيف على القياس.

الاستحسان

وهوطلب الأحسن للاتباع الذي هومأمور به، وقد بان حتى الاستحسان عند الإمام أبي حنيفة ليس اتباعاً للهوى ولا حكماً بالغرض، ولكنه اختيار أقوى الدليلين في حادثة معينة.

العهد والعادة

وهوما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، والأصل في اعتبار العهد دليلاً شرعياً قول ابن مسعود: «ما رآه المسلمون حسناً فهوعند الله حسن»، ويكون العهد دليلاً حيث لا مرشد شرعي من الكتاب والسنة، أما إذا خالف العهد الكتاب والسنة كتعارف بعض التجار التعامل بالربا، فهوعهد مردود لأنه محادٌّ للشريعة ومخالف لها.

تجارته

جامع أبي حنيفة في بغداد عام 1900م

نشأ أبوحنيفة في بيت من بيوت أهل اليسار والغنى، فأبوه وجده كانا تاجرين، ويغلب على الظن حتى تجارتهما كانت في الخز (وهونوع من الأقمشة)، وهي تجارة تدر على صاحبها الخير الوفير، وأخذ أبوحنيفة عنهما هذه التجارة، فنشأ أول نشأته يختلف إلى السوق، ولا يعكف على الاستماع إلى الفهماء، ثم اتجه إلى الفهم، ولكنه لم ينبتر عن التجارة، بل استمر تاجراً إلى حتى مات، وكان له شريك يظهر أنه أعانه على الاستمرار في طلب الفهم وخدمة الفقه ورواية الحديث.

اتصف أبوحنيفة التاجر بصفات تجعله مثلاً كاملاً للتاجر المستقيم، فقد كان ثري النفس لم يستولِ عليه الطمع الذي يفقر النفوس، ولعل منشأ ذلك أنه نشأ في أسرة غنية فلم يذق ذل الحاجة، وكان عظيم الأمانة شديداً على نفسه في جميع ما يتصل بها، وكان سمحاً قد وقاه الله شح نفسه، وكان بالغ التدين شديد التنسك عظيم العبادة يصوم النهار ويقوم الليل. فكان لهذه الصفات أثرها في معاملاته التجارية، حتى كان غريباً بين التجار، وحتى شبهه كثيرون في تجارته بأبي بكر الصديق. ويُروى أنه قد اتىته امرأة بثوب من الحرير تبيعه له، فنطق: «كم ثمنه؟»، فنطقت: «مئة»، فنطق: «هوخير من مئة، بكم تقولين؟»، فزادت مئة مئة حتى نطقت: «أربعمئة»، نطق: «هوخير من ذلك»، نطقت: «تهزأ بي»، نطق: «هاتي رجلاً يقومه»، فاتىت برجل، فاشتراه بخمسمئة.

ولقد كان أبوحنيفة شديد الحرج في جميع ما تخالطه شبهة الإثم ولوكانت بعيدة، فإن افترض إثماً أوتوهمه في مال خرج منه، وتصدق به على الفقراء والمحتاجين، ويُروى أنه بعث شريكه حفص بن عبد الرحمن بمتاع، وأفهمه حتى في ثوب منه عيباً، وأوجب عليه حتى يبين العيب عند بيعه، فباع حفص المتاع ونسي حتى يبين، ولم يفهم من الذي اشتراه، فلما فهم أبوحنيفة تصدق بثمن المتاع كله.

وقد كانت تجارة أبي حنيفة تدر عليه الدر الوفير، ويُروى أنه كان يجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائجَ المشايخ والمحدثين وأقواتَهم وكسوتَهم وجميعَ حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم، فيقول: «أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمدوا إلا الله، فإني ما أعطيتكم من مالي شيئاً، ولكن من فضل الله علي فيكم». كما كان أبوحنيفة حريصاً حتىقد يكون مظهره كمخبره حسناً، فكان كثير العناية بثيابه، يختارها جيدة، حتى لقد كان كساؤه يُقوَّم بثلاثين ديناراً، وكان حسن الهيئة كثير التعطر.

محنته الأولى وهربه إلى مكة

عاش أبوحنيفة 52 سنة من حياته في العصر الأموي، و18 سنة في العصر العباسي، فهوقد استوعب دولتين من دول الإسلام. ويُروى أنه لما خرج زيد بن علي زين العابدين على هشام بن عبد الملك سنة 121هـ كان أبوحنيفة من المؤيدين للإمام زيد، نطق أبوحنيفة: «ضاهى خروجه خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلميوم بدر»، ويُروى أنه نطق في الاعتذار عن عدم الخروج معه: «لوفهمت حتى الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه لأنه إمام حق، ولكن أعينه بمالي، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم». وانتهت ثورة الإمام زيد بقتله سنة 132هـ، كما اغتال ابنه يحيى في خراسان، وابنه عبد الله بن يحيى في اليمن. ولقد كان لزيد بن علي منزلة في نفس أبي حنيفة، وكان يُقدِّره في فهمه وخلقه ودينه، وعدَّه الإمام بحق، وأمده بالمال، ثم رآه يُقتل بسيف الأمويين، ثم يُقتل من بعده ابنه، ثم من بعده حفيده، فأحنقه جميع ذلك.

كان يزيد بن عمر بن هبيرة والي الكوفة آنذاك، فأوفد إلى أبي حنيفة يريد حتى يجعل الخاتم في يده، ولا ينفذ كتاب إلا من تحت يد أبي حنيفة، فامتنع أبوحنيفة عن ذلك، فحلف الوالي حتى يضربه إذا لم يقبل، فنصح الناسُ أبا حنيفة حتى يقبل ذلك المنصب، فنطق أبوحنيفة: «لوأرادني حتى أعد له أبواب مسجد واسط لم أدخل في ذلك، فكيف وهويريد مني حتى يُخط دمُ رجل يُضرب عنقُه وأختم أنا على ذلك الكتاب، فوالله لا أدخل في ذلك أبداً»، فحبسه صاحب الشرطة، وضربه أياماً متتالية، فاتى الضارب إلى الوالي ونطق له: «إن الرجل ميت»، فنطق الوالي: «قل له: تخرجنا من يميننا؟»، فسأله فنطق أبوحنيفة: «لوسألني حتى أعد له أبواب المسجد ما عملت»، ثم أمر الوالي بتخلية سبيله، فركب دوابه وهرب إلى مكة بعد حتى مكَّن له الجلاد من مسببات الفرار، وكان هذا في سنة 130هـ. ولقد عثر في الحرم المكي أمناً، فعكف على الحديث والفقه يطلبهما بمكة التي ورثت فهم ابن عباس، والتقى أبوحنيفة بتلاميذه فيها، وذاكرهم فهمه وذاكروه ما عندهم، وظل مقيماً بمكة حتى صارت الخلافة للعباسيين، فقدم الكوفة في زمن أبي جعفر المنصور.

محنته الثانية ووفاته

استقبل أبوحنيفة عهد العباسيين بارتياح، فقد رأى اضطهاد الأمويين لبني علي بن أبي طالب وأهل بيت النبي محمد، واستمر على ولائه للدولة العباسية لمحبته لآل البيت جميعاً، ولقد كان الخليفة أبوجعفر المنصور يدنيه ويعليه ويحمل قدره ويعطيه العطايا الجزيلة، ولكنه كان يردها ولا يقبل العطاء، ولم يُعهد عن أبي حنيفة أنه تحدث في حكم العباسيين حتى نقم عليهم أبناء علي بن أبي طالب، واشتدت الخصومة بينهم، وقد كان ولاء أبي حنيفة لبني علي، فكان طبيعياً حتى يغضب لغضبهم، وخصوصاً حتى من ثارا على حكومة أبي جعفر هما محمد النفس الزكية بن عبد الله بن الحسن، وأخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، وكان أبوهما عبد الله ممن اتصل به أبوحنيفة اتصالاً فهمياً، وقد كان عبد الله وقت خروج ولديه في سجن أبي جعفر، ومات فيه بعد مقتل ولديه.

كان موقف أبي حنيفة من خروج محمد النفس الزكية على المنصور شديداً، فقد كان يجهر بمناصرته في درسه، بل وصل الأمر إلى حتى ثبط بعض قواد المنصور عن الخروج لحربه. وكان هذا العمل في نظر المنصور من أخطر الأعمال على دولته، لأن أبا حنيفة تجاوز فيه حد النقد المجرد والولاء القلبي إلى العمل الإيجابي، فأراد المنصور حتى يختبر طاعة أبي حنيفة وولاءه له، وقد كان يبني بغداد آنذاك، فأراد حتى يجعله قاضياً، فامتنع أبوحنيفة، فأصر المنصور على حتى يتولى له عملاً أياً كان، فقبل أبوحنيفة حتى يقوم ببعض أعمال البناء من إعداد اللِّبن وما شابه ذلك، فاستطاع بذلك حتى يغمض عنه عين المنصور.

كان أبوحنيفة بعد مناوأة بني علي للمنصور وإيذائه لهم وقتله لرؤوسهم لا يرتاح إلى حكومته، وقد استطاع حتى يدرأ عنه أذاه، وانصرف إلى الفهم، ولكن كان من وقت لآخر يقول بعض الأقوال، أوتكون منه أمور تكشف عن رأيه فيه وفي حكومته، ومن ذلك حتى أهل الموصل كانوا قد انتفضوا على المنصور، وقد اشترط المنصور عليهم أنهم إذا انتفضوا تحل دماؤهم له، فجمع المنصور الفقهاء وفيهم أبوحنيفة، فنطق: «أليس صح أنه عليه السلام نطق: «المؤمنون عند شروطهم»، وأهل الموصل قد شرطوا ألا يخرجوا علي، وقد خرجوا على عاملي، وقد حلت لي دماؤهم»، فنطق رجل: «يدك مبسوطة عليهم، وقولك مقبول فيهم، فإن عفوت فأنت أهل العفو، وإن عاقبت فبما يستحقون»، فنطق لأبي حنيفة: «ما تقول أنت يا شيخ،يا ترى؟ ألسنا في خلافة نبوة وبيت أمان؟»، نطق: «إنهم شرطوا لك ما لا يملكونه، وشرطت عليهم ما لا يناسبك، لأن دم المسلم لا يحل إلا بأحد معان ثلاثة، فإن أخذتهم أخذت بما لا يحل، وشرط الله أحق حتى توفي به»، فأمرهم المنصور بالقيام فتفرقوا ثم نادىه ونطق: «يا شيخ، القول ما قلت، انصرف إلى بلادك ولا تُفتِ الناس بما هوشين على إمامك فتبسط أيدي الخوارج».

لقد كان أبوحنيفة يميل إلى أبناء علي بن أبي طالب، وكان ذلك يظهر على لسانه في حلقة درسه وبين تلاميذه، وكان يجهر بمخالفة المنصور في غاياته عندما يستفتيه، كما كان يمتنع عن قبول العطاء من المنصور، وكان ينقد القضاء نقداً مراً إذا عثر فيه ما يخالف الحق في نظره، من غير حتى يلتفت إلى ما يجره ذلك النقد من ضياع روعة الأحكام.

مقبرة الخيزران خلف جامع الإمام الأعظم عام 2003م

وعندما نادى أبوجعفر المنصور أبا حنيفة ليتولى القضاء امتنع، فطلب منه حتى يَرجع إليه القضاة فيما يشكل عليهم ليفتيهم فامتنع، فأنزل به العذاب بالضرب والحبس، أوالحبس وحده على اختلاف الروايات، ويروى حتى أبا جعفر حبس أبا حنيفة على حتى يتولى القضاء ويصير قاضي القضاة، فأبى حتى ضُرب مئة وعشرة أسواط، وأخرج من السجن على حتى يلزم الباب، وطلب منه حتى يفتي فيما يحمل إليه من الأحكام، وكان يرسل إليه المسائل، وكان لا يفتي، فأمر حتى يعاد إلى السجن، فأُعيد وغُلظ عليه وضُيق تضييقاً شديداً. وقد اتفق الرواة على أنه حُبس، وأنه لم يجلس للإفتاء والتدريس بعد ذلك، إذ إنه توفي بعد هذه المحنة أومعها، ولكن اختلفت الرواية: أمات محبوساً بعد الضرب الذي تكاد الروايات تتفق عليه أيضاً،يا ترى؟ أم توفي محبوساً بالسم فلم يُكتف بضربه بل سقي السم ليعجل موته،يا ترى؟ أم أُطلق من حبسه قبل موته فمات في منزله بعد المحنة ومُنع من التدريس والاتصال بالناس،يا ترى؟ جميع هذه الروايات رُويت.

توفي أبوحنيفة في رجب وقيل في شعبان وقيل لإحدى عشرة ليلةً خلت من جمادى الأولى سنة 150هـ، وقيل سنة 151هـ، وقيل سنة 153هـ، وقيل توفي في اليوم الذي وُلد فيه الإمام الشافعي، وكانت وفاته في بغداد، ودفن في مقبرة الخيزران، وقبره هناك مشهور يُزار، وصحَّ حتى الإمام لما أحس بالموت سجد، فمات وهوساجد. وقد أوصى أبوحنيفة حتى يُدفن في أرض طيبة لم يجر عليها غصب، وألا يدفن في أرض قد اتُّهم الأميرُ بأنه غصبها، حتى يُروى حتى أبا جعفر عندما فهم ذلك نطق: «من يعذرني من أبي حنيفة حياً وميتاً»، وشيعت بغداد كلها جنازة فقيه العراق، والإمام الأعظم، ولقد قُدِّر عدد من صلوا عليه بخمسين ألفاً، حتى لقد صلى أبوجعفر نفسه على قبره بعد دفنه.

مؤلفاته وأسباب قِلَّتها

لم يكن عصر الإمام أبي حنيفة عصر تأليف وتدوين بالمعنى المعروف فيما بعد، بمعنى حتى يخلوالعالم إلى نفسه فيخط أويملي الأمور الكثيرة، فلم يكن أبوحنيفة قد فرغ نفسه للتأليف والإملاء، فقد كان يقوم الليل حتى يصبح، فإذا أصبح صلى الصبح ثم جلس يُعلِّم الناس حتى يضحي، ثم مضى إلى بيته لحاجاته، ثم يخرج إلى السوق لينظرَ في شؤون تجارته ودنياه، ويعودَ مريضاً، أويشيعَ ميتاً، أويزورَ صديقاً، وينام بين الظهر والعصر، ثم يجلس بعد العصر لتعليم الناس والإجابة على أسئلتهم إلى الليل، إلى غير ذلك. والتدريس شغله عن التأليف، وهوفوق ذلك مرجع طلاب الفهم وشُداته، يقصدونه من الكوفة والبصرة وداني البلاد وقاصيها، لذا لم تكن لأبي حنيفة تآليف كثيرة تتناسب مع مكانته الفهمية العظيمة.

ولقد ثبت عن الإمام أبي حنيفة أنه ألف في فهم الكلام كتابي "الفقه الأكبر" و"الفقه الأوسط"، وكتاب "العالم والمتفهم"، وكتاب "الرسالة" إلى مقاتل بن سليمان صاحب التفسير، وكتاب "الرسالة" إلى عثمان البتي فقيه البصرة، وكتاب "الوصية" وهي وصايا عدة لأصحابه.

كما أملى الإمام أبوحنيفة وخط الأحاديث النبوية الشريفة، فقد أخذ أحاديث كثيرة من رواته الأعلام، حتى جمع منه صناديق، وانتخب الآثار التي نطق بها من أربعين ألف حديث، وقد أخذ حديث الكوفة والعراق وغيرها، غير أنه شُغل عن رواية الحديث بفقه الحديث وفهمه وجمع نصوصه. وقد رُوي عن يحيى بن نصر بن حاجب أنه نطق: سمعت أبا حنيفة رحمه الله تعالى يقول: «عندي صناديق من الحديث ما أخرجت منها إلا اليسير الذي يُنتفع به». ولقد جُمع حديث أبي حنيفة في سبعة عشر مسنداً، وكان أبوحنيفة أول من صنف في الحديث النبوي الشريف مرتباً على أبواب الفقه.

فضله وثناء الناس عليه

جامع الإمام الأعظم حيث يوجد قبر أبي حنيفة النعمان

تبشير النبي محمد به

نطق الإمام جلال الدين السيوطي: «قد بشر صلى الله عليه وآله وسلم بالإمام أبي حنيفة في الحديث الذي أخرجه أبونعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله عنه نطق: نطق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لوكان الفهم بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس»». وأخرج الشيرازي في الألقاب عن قيس بن سعد بن عبادة نطق: نطق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لوكان الفهم مُعلَّقاً بالثريا لتناوله قوم من أبناء فارس».

ثناء بعض الفهماء عليه

نطق وكيع بن الجراح وهوشيخ الإمام الشافعي: «كان أبوحنيفة عظيم الأمانة، وكان يؤثر رضا الله تعالى على جميع شيء، ولوأخذته السيوف في الله تعالى لاحتملها».

ونطق الإمام الشافعي: سئل مالك بن أنس: «هل رأيت أبا حنيفة وناظرته؟»، فنطق: «نعم، رأيت رجلاً لونظر إلى هذه السارية وهي من حجارة، فنطق إنها من مضى لقام بحجته».

ونطق الإمام الشافعي: «من أراد الحديث السليم عمليه بمالك، ومن أراد الجدل عمليه بأبي حنيفة، ومن أراد التفسير عمليه بمقاتل بن سليمان». ونطق: «من أراد حتى يتبحر في الفقه فهوعيال على أبي حنيفة، كان أبوحنيفة ممن وُفق له الفقه».

ونطق الإمام أحمد بن حنبل: «إن أبا حنيفة من الفهم والورع والزهد وإيثار الآخرة بمحل لا يدركه أحد، ولقد ضُرب بالسياط لِيَليَ للمنصور فلم يعمل، فرحمة الله عليه ورضوانه». كما كان الإمام أحمد كثيراً ما يذكره ويترحم عليه، ويبكي في زمن محنته، ويتسلى بضِرَب أبي حنيفة على القضاء. ونطق أبوبكر المروزي: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: «لم يصح عندنا حتى أبا حنيفة رحمه الله نطق: القرآن مخلوق»، فقلت: «الحمد لله يا أبا عبد الله، هومن الفهم بمنزلة»، فنطق: «سبحان الله! هومن الفهم والورع والزهد وإيثار الدار الآخرة بمحل لا يدركه فيه أحمد، ولقد ضُرب بالسياط على حتى يلي القضاء لأبي جعفر فلم يعمل».

ونطق عبد الله بن المبارك: «رأيت أعبد الناس، ورأيت أورع الناس، ورأيت أفهم الناس، ورأيت أفقه الناس، فأما أعبد الناس فعبد العزيز بن أبي روّاد، وأما أورع الناس فالفضيل بن عياض، وأما أفهم الناس فسفيان الثوري، وأما أفقه الناس فأبوحنيفة»، ثم نطق: «ما رأيت في الفقه مثله». وعن محمد بن أحمد بن يعقوب نطق: حدثني جدي نطق: أملى علي بعض أصحابنا أبياتاً مدح بها عبد الله بن المبارك أبا حنيفة:

رأيت أبا حنيفة جميع يوم يزيد نبالة ويزيد خيراً
وينطق بالصواب ويصطفيه إذا ما نطق أهل الجور جوراً
يقائس من يقايسه بلب فمن ذا تجعلون له نظيراً
كفانا فقهُ حماد وكانت مصيبتنا به أمراً كبيراً
فردَّ شماتة الأعداء عنا وأبدى بعده فهماً كثيراً
رأيت أبا حنيفة حين يؤتى ويُطلب فهمه بحراً غزيراً
إذا ما المشكلات تدافعتها رجال الفهم كان بها بصيراً

كما أثنى الشيخ أبوزكريا السلماسي على أبي حنيفة فنطق:

أما أبوحنيفة فله في الدين المراتب الشريفة، والمناصب المنيفة، سراج في الظلمة وهَّاج، وبحر بالحكم عجَّاج، سيد الفقهاء في عصره، ورأس الفهماء في مِصره، له البيان في فهم الشرع والدين، والحظ الوافر من الورع المتين، والإشارات الدقيقة في حقيقة اليقين، مهَّد ببيانه قواعد الإسلام، وأحكم بتبيانه شرائع الحلال والحرام، وصار قدوة الأئمة الأعلام، تجاوز الكافة منهم إلى تقرير القياس والكلام، وغدا إماماً تُعقد عليه الخناصر، ويشير إليه الأكابر والأصاغر، انتشر ممضىه في الآفاق، وعُدّ من الأفراد بالاتفاق، فضله وافر، ودينه ثابت، وعَلَمُه في مراده للمجد ثابت، اسمه النعمان وأبوه ثابت.

ونطق الإمام أبويوسف: «كانوا يقولون: أبوحنيفة زينة الله بالفقه والفهم، والسخاء والبذل، وأخلاق القرآن التي كانت فيه». ونطق الإمام سفيان الثوري: «ما مقلت عيناي مثل أبي حنيفة». ونطق يحيى بن سعيد القطان (إمام الجرح والتعديل): «إن أبا حنيفة -والله- لأفهم هذه الأمة بما اتى عن الله ورسوله».

ونطق إسحاق بن أبي إسرائيل: ذَكر قومٌ أبا حنيفة عند ابن عيينة فتنقَّصه بعضُهم، فنطق سفيان: «مه! كان أبوحنيفة أكثر الناس صلاة، وأعظمهم أمانة، وأحسنهم مروءة».

ونطق صدقة المقابري: لمَّا دُفن أبوحنيفة في مقابر الخيزران سمعت صوتاً في الليل ثلاث ليال:

لقد زان البلاد ومن عليها إمام المسلمين أبوحنيفة
فما بالمشرقين له نظير ولا بالمغربين ولا بكوفة
ويأتيكم بإسناد سليم كآيات الزبور على الصحيفة

أخلاقه وصفاته

اتصف أبوحنيفة بصفات تجعله في الذروة العليا بين الفهماء، منها:

أحد التابعين

يُعد الإمام أبوحنيفة تابعياً من التابعين، نطق أبوحنيفة: «لقيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعة وهم: أنس بن مالك، وعبد الله بن جزء الزبيدي، وجابر بن عبد الله، ومعقل بن يسار، وواثلة بن الأسقع، وعائشة بنت عمر، وعبد الله بن أنيس، رضي الله عنهم». وقد روى الإمام جلال الدين السيوطي عن الشيخ ولي الدين العراقي أنه نطق: «الإمام أبوحنيفة لم يصح له رواية عن أحد من الصحابة، وقد رأى أنس بن مالك، فمن يكتف في التابعي بمجرد رؤية الصحابي يجعله تابعياً، ومن لم يكتف بذلك لا يعده تابعياً». ويُروى عن أبي حنيفة أنه نطق: «سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «طلب الفهم فريضة على جميع مسلم»».

غزارة الفهم

تخطيط لاسم الإمام أبي حنيفة النعمان ملحوق بنادىء الرضا عنه

كان الإمام أبوحنيفة صاحب فهم غزير، وقد شهد له الفهماء بذلك، نطق الإمام محمد بن إدريس الشافعي: «من أراد حتى يتبحر في الفقه فهوعيال على أبي حنيفة، كان أبوحنيفة ممن وُفق له الفقه». ونطق: «الناس عيال على أبي حنيفة في القياس والاستحسان».

وقيل للقاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود: «ترضى حتى تكون من غلمان أبي حنيفة؟»، نطق: «ما جلس الناس إلى أحد أنفع من مجالسة أبي حنيفة». ورُوي عن عبد الله بن المبارك أنه نطق: «لولا حتى الله عز وجل أعانني بأبي حنيفة وسفيان، كنت كسائر الناس».

الورع وكثرة العبادة

عُرف عن أبي حنيفة أنه كان ورعاً كثير العبادة، نطق مثمن بن كدام: «دخلت ذات ليلة المسجد، فرأيت رجلاً يصلي فاستحليت قراءته، فقرأ سبعاً فقلت يركع، ثم قرأ الثلث ثم النصف، فلم يزل يقرأ القرآن حتى ختمه كله في ركعة، فنظرت فإذا هوأبوحنيفة». ونطق يحيى بن نصر: «ربما ختم أبوحنيفة القرآن في رمضان ستين مرة». ونطق عبد الله بن المبارك: «قدمت الكوفة فسألت عن أورع أهلها فنطقوا: أبوحنيفة».

ونطق يزيد بن هارون: «خطت عن ألف شيخ حملت عنهم الفهم، ما رأيت والله فيهم أشدَّ ورعاً من أبي حنيفة ولا أحفظ للسانه». وروى ابن إسحاق السمرقندي عن القاضي أبي يوسف، نطق: «كان أبوحنيفة يختم القرآن جميع ليلة في ركعة». وعن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبيه: أنه صحب أبا حنيفة ستة أشهر، نطق: «فما رأيته صلى الغداة إلا بوضوء عشاء الآخرة، وكان يختم جميع ليلة عند السحر».

الهدوء والوقار

كان أبوحنيفة ضابطاً لنفسه، مستولياً على مشاعره، لا تعبث به الحدثات العارضة، ولا تبعده عن الحق العبارات النابية، وكان يقول: «اللهم من ضاق بنا صدره، فإن قلوبنا قد اتسعت له». ويُروى أنه نطق له بعض مناظريه: «يا مبتدع يا زنديق»، فنطق: «غفر الله لك، الله يفهم مني خلاف ذلك، وإني ما عدلت به مذ عهدته، ولا أرجوإلا عفوه، ولا أخاف إلا عقابه»، ثم بكى عند ذكر العقاب، فنطق له الرجل: «اجعلني في حل مما قلت»، فنطق: «كل من نطق في شيئاً من أهل الجهل فهوفي حل، وكل من نطق في شيئاً مما ليس في من أهل الفهم فهوفي حرج، فإن غيبة الفهماء تُبقي شيئاً بعدهم».

وروى الحسن بن إسماعيل بن مجالد عن أبيه، نطق: كنت عند الرشيد إذ ولج عليه أبويوسف، فنطق له هارون: «صف لي أخلاق أبي حنيفة»، نطق: «كان والله شديد الذب عن حرام الله، مجانباً لأهل الدنيا، وطويل الصمت دائم الفكر، لم يكن مهذاراً ولا ثرثاراً، إذا سُئل عن مسألة عنده منها فهم أجاب فيها، ما فهمته يا أمير المؤمنين إلا صائناً لنفسه ودينه، مشتغلاً بنفسه عن الناس لا يذكر أحداً إلا بخير»، فنطق الرشيد: «هذه أخلاق الصالحين».

وعن بشر بن يحيى: سمعت ابن المبارك يقول: «ما رأيت رجلاً أوقر في مجلسه، ولا أحسن سمتاً وحلماً من أبي حنيفة، ولقد كنا عنده في المسجد الجامع، فسقطت حية من السقف في حجره، فما زاد على حتى نفض حجره، فألقاها وما منا أحد إلا هرب».

الإخلاص والتواضع

كان أبوحنيفة مخلصاً في طلب الحق، وكان لإخلاصه لا يفرض حتى رأيه هوالحق المطلق الذي لا يشك فيه، بل كان يقول: «قولنا هذا رأي، وهوأحسن ما قدرنا عليه، فمن اتىنا بأحسن من قولنا فهوأولى بالصواب منا». وقيل له: «يا أبا حنيفة، هذا الذي تفتي به هوالحق الذي لا ريب فيه»، فنطق: «والله لا أدري لعله الباطل الذي لا ريب فيه». وكان أبوحنيفة لإخلاصه في طلب الحق يرجع عن رأيه إذا ذَكر له مناظرُه حديثاً لم يصح عنده غيره ولا مطعن له فيه، أوذكرت له فتوى صحابي كذلك.

قوة الشخصية

اتصف أبوحنيفة بقوة الشخصية، والنفوذ والمهابة، والتأثير في غيره بالاستهواء والجاذبية وقوة الروح، وقد وصف مجلس أبي حنيفة مع أصحابه معاصره مثمن بن كدام، فنطق: «كانوا يتفرقون في حوائجهم بعد صلاة الغداة، ثم يجتمعون إليه فيجلس لهم، فمن سائل ومن مناظر، ويحملون الأصوات لكثرة ما يحتج لهم، إذا رجلاً يُسكن الله به هذه الأصوات لعظيمُ الشأن في الإسلام».

صفته الشكلية

كان الإمام أبوحنيفة أسمرَ اللون مع ميل إلى بياضه، ربعةً من الناس، إلى الطول أقرب، جميلَ الصورة، مهيبَ الطلعة، طويلَ اللحية، وقوراً، يتأنق في ثوبه وعمامته ونعليه، حسنَ المنطق، حلوَ النغمة فصيحاً، كثيرَ التطيب يُعهد به إذا مضى وإذا اتى، نحيفاً "ما أبقى عليه خوفه من الله تعالى وطول مراقبته وكثرة عبادته فضلاً من لحم بَلْه من شحم".

نطق أبونعيم بن دكين: «كان أبوحنيفة جميلاً، حسنَ الوجه، حسنَ اللحية، حسنَ الثوب». ونطق أبويوسف: «كان أبوحنيفة ربعة من الرجال، ليس بالقصير ولا بالطويل، وكان أحسن الناس منطقاً، وأحلاهم نغمةً، وأبينهم عما تريد». ونطق عمر بن جعفر بن إسحاق بن عمر بن حماد بن أبي حنيفة: «إن أبا حنيفة كان طويلاً تعلوه سمرة، وكان لَبَّاساً حسنَ الهيئة كثيرَ التعطر، يُعهد بريح الطيب إذا أقبل وإذا خرج من منزله قبل حتى تراه». ونطق علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة الكوفي بمصر: سمعت أبي، يقول: «رأيت شيخاً في مسجد الكوفة يفتي الناس وعليه قلنسوة طويلة، فقلت من هذا؟»، نطقوا: «أبوحنيفة».

شيوخه

شيوخ الإمام أبي حنيفة كثيرون لا يسع ذكرهم، وقد ذكر منهم الإمام أبوحفص الكبير أربعة آلاف شيخ، ونطق غيره: «له أربعة آلاف شيخ من التابعين، فما بالك بغيرهم؟»، ومن شيوخه: الليث بن سعد، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة. وقد روى الإمام أبوحنيفة عن كثير من الشيوخ منهم: عطاء بن أبي رباح، وهوأكبر شيخ له وأفضلهم على ما نطق، والشعبي، وطاووس، وجبلة بن سحيم، وعدي بن ثابت، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعمروبن دينار، وأبي سفيان طلحة بن نافع، ونافع مولى ابن عمر، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، ومحارب بن دثار، وعلقمة بن مرثد، وعبد العزيز بن رفيع، وحماد بن أبي سليمان وبه تفقه، وسماك بن حرب، وعبد الملك بن عمير، وأبي جعفر الباقر، وابن شهاب الزهري، ومحمد بن المنكدر، وعطاء بن السائب، وهشام بن عروة، وخلق سواهم.

تلاميذه

حدَّث عن الإمام أبي حنيفة خلقٌ كثير منهم: أبويوسف يعقوب بن إبراهيم، وأبوالهذيل زفر بن الهذيل العنبري، وإبراهيم بن طهمان عالم خراسان، وأبيض بن الأغر بن الصباح المنقري، وأسد بن عمروالبجلي، وإسماعيل بن يحيى الصيرفي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وحفص بن عبد الرحمن القاضي، وابنه حماد بن أبي حنيفة، وحمزة الزيات وهومن أقرانه، وداود الطائي، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقرئ، ومحمد بن الحسن الشيباني، ويوسف بن خالد السمتي، وغيرهم كثير.

انتشار الممضى الحنفي عبر التاريخ

أماكن انتشار الممضى الحنفي (اللون الأخضر الفاتح) في العالم

يُسمى الممضىُ الحنفي ممضىَ أهل الرأي، وهوأقدم المذاهب الأربعة، وصاحبه هوالإمام أبوحنيفة النعمان، وقد نشأ الممضى الحنفي بالكوفة موطن الإمام أبي حنيفة، ثم تدارسه الفهماء بعد وفاة شيخه ببغداد، ثم شاع من بعد ذلك وانتشر في أكثر البقاع الإسلامية، فكان في مصر والشام وبلاد الروم والعراق وما وراء النهر، ثم اجتاز الحدود فكان في الهند والصين، حيث لا منافس له ولا مزاحم، ويكاد حتىقد يكون هوالمنفرد في تلك الأصقاع إلى الآن.

وينطق لأصحاب الممضى الحنفي أهل الرأي، لأن الحديث كان قليلاً بالعراق، فاستكثروا من القياس ومهروا فيه. ورُوي حتى أصحاب أبي حنيفة الذين دونوا ممضىه أربعون رجلاً منهم: أبويوسف يعقوب بن إبراهيم، وأبوالهذيل زفر بن الهذيل العنبري، وأن أول من خط خطه أسد بن عمرو.

إيثار الحنفية بالقضاء في العصر العباسي

لما تولى هارون الرشيد الخلافة، ولى القضاء أبا يوسف صاحب أبي حنيفة، وذلك بعد سنة 170هـ، وأصبحت تولية القضاء بيده، فلم يكن يولي ببلاد العراق وخراسان والشام ومصر (إلى أقصى عمل إفريقية) إلا من أشار به، وكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين إلى ممضىه، فاضطرت العامة إلى أحكامهم وفتاواهم، وفشا الممضى في هذه البلاد فشواً عظيماً، حتى نطق ابن حزم: «ممضىان انتشرا في بدء أمرهما بالرئاسة والسلطان: الحنفي بالمشرق، والمالكي بالأندلس». ولم يزل هذا الممضى غالباً على هذه البلاد لإيثار الخلفاء العباسيين بالقضاء، حتى تبدلت الأحوال وزاحمته المذاهب الثلاثة الأخرى. وبلغ من تمسكهم به في القضاء حتى القادر بالله استخلف مرة قاضياً شافعياً هوأبوالعباس أحمد بن محمد البارزي الشافعي عن أبي محمد بن الأكفاني الحنفي قاضي بغداد، فشاع حتى الخليفة نقل القضاء عن الحنفية إلى الشافعية، فاشتهر ذلك وصار أهل بغداد حزبين ثارت بينهما الفتن، فاضطر الخليفة إلى صرف البارزي، وإعادة الحنفية إلى القضاء، وذلك في سنة 393هـ.

انتشاره في المغرب وصقلية

كان الغالب على إفريقية السنن والآثار، إلى حتى قدم عبد الله بن فروح أبومحمد الفاسي بممضى أبي حنيفة، ثم غلب عليها لما ولي قضاءها أسد بن الفرات بن سنان، ثم بقي غالباً عليها حتى حمل المعز بن باديس أهلها على الممضى المالكي، وهوالغالب إلى اليوم على أهلها إلا قليلاً منهم يقلدون الممضى الحنفي. ورُوي حتى الممضى الحنفي ظهر ظهوراً كثيراً بإفريقية إلى قريب من سنة 400هـ، فانبتر ودخل منه شيء إلى ما وراءها من المغرب قريباً من الأندلس ومدينة فاس. كما رُوي حتى أهل صقلية حنفيون.

انتشاره في مصر

كان أهل مصر لا يعهدون الممضى الحنفي حتى وَلَّى الخليفة المهدي قضاءها لإسماعيل بن اليسع الكوفي سنة 146هـ، وهوأول قاضٍ حنفي بمصر، وأول من أدخل إليها الممضى الحنفي، وكان من خير القضاة، إلا أنه كان يمضى إلى إبطال الأحباس، فثقل أمره على أهل مصر ونطقوا: «أحدث لنا أحكاماً لا نعهدها ببلدنا»، فعزله المهدي.

ثم فشا الممضى الحنفي فيها بعد ذلك مدة تمكِّن العباسيين، إلا حتى القضاء بها لم يكن مقصوراً على الحنفية، بل كان يتولاه الحنفيون تارة، والمالكيون أوالشافعيون تارة أخرى، إلى حتى استولى عليها الفاطميون، وأظهروا ممضى الشيعة الإسماعيلية، وولوا القضاة منهم، فقوي هذا الممضى بالدولة، وعمل بأحكامه، إلا أنه لم يَقض على المذاهب السنية في العبادات، لأنهم كانوا يبيحون للرعية التعبد بما يشاؤون من المذاهب.

ثم لما قامت الدولة الأيوبية بمصر، وكان من سلاطينها شافعية، قضوا على التشيع فيها، وأنشأوا المدارس للفقهاء الشافعية والمالكية. وكان نور الدين الشهيد حنفياً، فنشر ممضىه ببلاد الشام، ومنها كثرت الحنفية بمصر، وقدم إليها أيضاً عدة فقهاء منهم من بلاد المشرق، فبنى لهم صلاح الدين الأيوبي المدرسة اليوسفية بالقاهرة، وما زال ممضىهم ينتشر ويقوى، وفقهاؤهم يكثرون بمصر، إلا في آخر هذه الدولة. وأول من رتب دروساً أربعة للمذاهب الأربعة في مدرسة واحدة هوالصالح نجم الدين أيوب في مدرسته الصالحية بالقاهرة سنة 641هـ. ثم فشا هذا النوع من المدارس في الدولتين الهجرية والجركسية، وحدث في الأولى جعْلُ القضاة أربعة، فعاد الحنفية إلى القضاء بعد انقطاعهم عنه مدة الفاطميين، والاقتصار مدة الأيوبيين على نواب منهم ومن المالكية والحنابلة عن القاضي الشافعي.

ثم لما فتح العثمانيون مصر حصروا القضاء في الحنفية، وأصبح الممضى الحنفي ممضى أمراء الدولة وخاصتها، ورغب كثير من أهل الفهم فيه لتولي القضاء، إلا أنه لم ينتشر بين أهل الريف (الوجه البحري) والصعيد انتشاره في المدن ولم يزل كذلك إلى اليوم.

انتشاره في البلاد الإسلامية الأخرى

أما بدء دخول الممضى الحنفي في سائر البلاد الإسلامية فكان في القرن الرابع الهجري، وقد كان الممضى الحنفي هوالغالب على أهل صنعاء وصعدة باليمن، والغالب على فقهاء العراق وقضائه، وكان منتشراً بالشام، تكاد لا تخلوفيه قصبة أوبلد من حنفي، وربما كان القضاء منهم، إلا حتى أكثر العمل فيها كان على الممضى الفاطمي في زمنه، أي كما كان بمصر. وكان الممضى الحنفي في إقليم الشرق أي خراسان وسجستان وما وراء النهر وغيرها، إلا في بلاد منها كان أهلها شافعية، وكان أهل جرجان وبعض طبرستان من إقليم الديلم حنفية. وكان غالباً على أهل دبيل من إقليم الرحاب الذي منه الران وأرمينية وأذربيجان وتبريز، وموجوداً في بعض مدنه بلا غلبة. وكان غالباً على أهل القرى من إقليم الجبال، وكثيراً في إقليم خوزستان المسمى قديماً الأهواز، وكان لهم به فقهاء وأئمة كبار. وكان بإقليم فارس كثير من الحنفية، إلا حتى الغلبة كانت في أكثر السنين للظاهرية، وكان القضاء فيهم. وكانت قصبات السِّند لا تخلومن فقهاء حنفية، كما حتى أهل سجستان كانوا حنفية، وكان ملوك بنجالة بالهند جميعاً حنفية.

انتشاره في البلاد الإسلامية في العصر الحالي

يغلب على بلاد المغرب العربي في المغرب والجزائر وتونس وطرابلس الممضى المالكي، ولا تكاد تجد فيها من مقلدي غيره إلا الحنفية بقلة، وهم من بقايا الأسر الهجرية وأكثرهم في تونس، ومع قلة المقلدين للممضى الحنفي فإن من السنن المتبعة عندهم حتىقد يكون نصف مدرسي جامع الزيتونة حنفية، والنصف مالكية، وإنما امتاز الحنفي بذلك لكونه ممضى الأسرة المالكة سابقاً.

ويغلب في مصر الشافعي والمالكي: الأول في الريف، والثاني في الصعيد، ويكثر الحنفي وهوممضى الدولة سابقاً والمتبع في الفتوى والقضاء، والحنبلي قليل بل نادر. ويغلب الممضى الحنفي في بلاد الشام، فيكاد يضم نصف أهل السنة بها، بينما ربعهم شافعية، والربع الآخر حنابلة. ويغلب الممضى الشافعي على فلسطين، ويليه الحنبلي، فالحنفي، فالمالكي. ويغلب في السودان الممضى المالكي.

والغالب على الحجاز وتهامة: الممضىان الشافعي والحنبلي، وفيهما حنفية ومالكية في المدن، ويغلب في نجد الممضى الحنبلي، ويغلب في عسير الممضى الشافعي، وأهل السنة في اليمن وعدن وحضرموت شافعية أيضاً، وقد يوجد بنواحي عدن حنفية.

وأهل السنة من أهل فارس أغلبهم شافعية وقليل منهم حنفية. والغالب على بلاد الأفغان الممضى الحنفي، ويقل الشافعي والحنبلي. وكان الغالب على هجرستان الشرقية (المسماة أيضاً بالصينية) الممضى الشافعي، ثم تغلب الممضى الحنفي بمسعى الفهماء الواردين إليها من بخارى. والغالب على بلاد القوقاز وما والاها الممضى الحنفي، وفيهم الشافعية. والغالب في الهند الممضى الحنفي، ومسلموسريلانكا (سرنديب أوسِيلان) وجزائر الفلبين والجاوة وما جاورها من الجزائر: شافعية، وكذلك مسلموسيام، وبها قلة من الحنفية ، وهم النازحون إليها من الهنود. ومسلموالهند الصينية شافعية، وكذلك مسلموأستراليا. والغالب على مسلمي البرازيل الممضى الحنفي، وفي البلاد الأمريكية الأخرى تختلف مذاهب المسلمين.

المصادر

  1. ^ أبوحنيفة: حياته وعصره - آراؤه وفقهه، الإمام محمد أبوزهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، ص14
  2. ^ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، دار الرسالة، بيروت، 1965 ، (مادة - أبوحنيفة) .
  3. ^ الإمام الأعظم، العباسي، أحمد، بغداد، 1956، ص431
  4. ^ المذاهب والأديان في العراق، الخيون، رشيد، ص67
  5. ^ ، عروبة أبي حنيفة، د.ناجي معروف الأعظمي ، ص15
  6. ^ منازل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، أبوزكريا يحيى بن إبراهيم الأزدي السلماسي، مخطة الملك فهد الوطنية، الطبعة الأولى، 1422هـ/2002م، ص163
  7. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص20
  8. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص21
  9. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص21-22
  10. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص22
  11. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص23-24
  12. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص24-25
  13. ^ انظر أيضاً: تبييض الصحيفة، السيوطي، ص23
  14. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص27
  15. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص28-29
  16. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص29-30 نقلاً عن تاريخ بغداد للخطيب البغدادي
  17. ^ تبييض الصحيفة، السيوطي، ص24
  18. ^ سير أعلام النبلاء، المضىي، ص398
  19. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص 30 نقلاً عن تاريخ بغداد للخطيب البغدادي
  20. ^ تهذيب الكمال، المزي، (29 / 427)
  21. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص30-31
  22. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص31
  23. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص130
  24. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص130-131
  25. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص132
  26. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص133
  27. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص133-134
  28. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص135
  29. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص135-137
  30. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص139-140
  31. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص141
  32. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص32
  33. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص33
  34. ^ انظر أيضاً: مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، شمس الدين أبوعبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز المضىي، لجنة إحياء المعارف النعمانية، حيدر آباد الدكن بالهند، الطبعة الثالثة، 1408هـ، ص38
  35. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص34
  36. ^ تبييض الصحيفة، السيوطي، ص30
  37. ^ منازل الأئمة الأربعة، أبوزكريا السلماسي، ص171
  38. ^ انظر أيضاً: مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، المضىي، ص41
  39. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص34-35
  40. ^ انظر أيضاً: مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، المضىي، ص46
  41. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص35
  42. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص36-37
  43. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص38-40
  44. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص42-44
  45. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص45
  46. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص46-47
  47. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص48-49
  48. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص53
  49. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص54-55
  50. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص55 نقلاً عن كتاب المناقب لابن البزازي
  51. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص57-58
  52. ^ تبييض الصحيفة، السيوطي، ص41
  53. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص59
  54. ^ انظر أيضاً: مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، المضىي، فصل في وفاة أبي حنيفة، ص48
  55. ^ أبوحنيفة النعمان - إمام الأئمة الفقهاء، وهبي سليمان غاوجي، دار القلم، دمشق، الطبعة الخامسة، 1413هـ/1993م، ص289
  56. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص290
  57. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص166-171
  58. ^ سليم مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل فارس، 2546
  59. ^ تبييض الصحيفة، السيوطي، ص11
  60. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص5
  61. ^ منازل الأئمة الأربعة، أبوزكريا السلماسي، ص173
  62. ^ مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، المضىي، ص30-31
  63. ^ تبييض الصحيفة، السيوطي، ص28
  64. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص110
  65. ^ مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، المضىي، ص43
  66. ^ منازل الأئمة الأربعة، أبوزكريا السلماسي، ص174
  67. ^ تبييض الصحيفة، السيوطي، ص31
  68. ^ منازل الأئمة الأربعة، أبوزكريا السلماسي، ص161-162
  69. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص5-6
  70. ^ مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، المضىي، ص17
  71. ^ منازل الأئمة الأربعة، أبوزكريا السلماسي، ص175
  72. ^ تبييض الصحيفة، السيوطي، ص13
  73. ^ تبييض الصحيفة، السيوطي، ص15
  74. ^ تبييض الصحيفة، السيوطي، ص16
  75. ^ منازل الأئمة الأربعة، أبوزكريا السلماسي، ص170
  76. ^ تبييض الصحيفة، السيوطي، ص25
  77. ^ تهذيب الكمال للمزي (29 / 428)
  78. ^ تبييض الصحيفة، السيوطي، ص29
  79. ^ مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، المضىي، ص22
  80. ^ مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، المضىي، ص23
  81. ^ سير أعلام النبلاء، المضىي، ص400
  82. ^ انظر أيضاً: مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، المضىي، ص21
  83. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص64-65
  84. ^ مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، المضىي، ص16-17
  85. ^ مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، المضىي، ص18
  86. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص68-69
  87. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص70-71
  88. ^ أبوحنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي، ص79
  89. ^ منازل الأئمة الأربعة، أبوزكريا السلماسي، ص165-166
  90. ^ أخبار أبي حنيفة وأصحابه، الصيمري، ص16
  91. ^ مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، المضىي، ص16
  92. ^ الخيرات الحسان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي المكي، مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر، الهند، 1324هـ، ص26
  93. ^ سير أعلام النبلاء، المضىي، ص391-392
  94. ^ سير أعلام النبلاء، المضىي، ص393-394
  95. ^ انظر أيضاً: طبقات الفقهاء، أبوإسحاق الشيرازي، دار الرائد العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1970، ص134
  96. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص520
  97. ^ نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة، أحمد بن إسماعيل بن محمد تيمور، دار القادري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ - 1990م، ص50-51
  98. ^ نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة، أحمد تيمور، ص51-52
  99. ^ أبوحنيفة، محمد أبوزهرة، ص521
  100. ^ نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة، أحمد تيمور، ص53
  101. ^ نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة، أحمد تيمور، ص55
  102. ^ نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة، أحمد تيمور، ص56
  103. ^ نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة، أحمد تيمور، ص57-58
  104. ^ نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة، أحمد تيمور، ص58
  105. ^ نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة، أحمد تيمور، ص58-59
  106. ^ نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة، أحمد تيمور، ص85-88

منطقات ذات صلة

  • عروبة الإمام أبي حنيفة النعمان (كتاب)
  • أئمة السنة الأربعة

وصلات خارجية

  • الإمام أبوحنيفة - مسقط سيرة الإسلام.
  • أبوحنيفة النعمان، المسقط الرسمي للمخطة الكاملة.
  • الإمام الأعظم أبي حنيفة - إسلام ويب.
  • الإمام أبوحنيفة النعمان - موسوعة النابلسي للعلوم الإسلامية.

نطقب:الأئمة الأربعة

تاريخ النشر: 2020-06-08 00:22:05
التصنيفات: علماء مسلمون, مقالات مميزة, أحناف, القضاء في الإسلام, تابعون, تبع التابعين, حنفية, شخصيات دينية عراقية, علماء الدراسات الإسلامية, علماء دين سنة, فقهاء, مفسرون, مواليد 699, مواليد 80 هـ, وفيات 150 هـ, وفيات 767, آراميون, عراقيون

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

البيت الأبيض يصف قرار مجلس الأمن الدولي حول غزة بأنه "غير ملزم"

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-28 00:07:32
مستوى الصحة: 79% الأهمية: 96%

غينيا.. افتتاح مسجد محمد السادس بكوناكري رسميا يوم الجمعة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-28 00:07:34
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 87%

صحيفة ألمانية تتوقع موعد انتهاء الصراع في أوكرانيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-28 00:07:43
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 85%

إطلاق صافرات الإنذار في كييف و12 منطقة أوكرانية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-28 00:07:42
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 92%

زينباور يُصعد مهاجم الأمل عز الدين لفتاح إلى الفريق الأول

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2024-03-28 00:06:36
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 64%

هجوم على سموتريتش خلال إلقائه إحدى محاضراته في إيلات (فيديو)

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-28 00:07:45
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 98%

محكمة روسية تقرر حبس أفراد خلية دينية متطرفة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-28 00:07:37
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 85%

تحميل تطبيق المنصة العربية