فرانسيس دينق

عد إلى بلدك

محمد عثمان إبراهيم

تمهيد: هذا منطق يعنى بالحديث عن مساهمات الدكتور فرانسيس دينق في الكتابة والحياة العامة، ولا يمس بطبيعة الحال شخصه الكريم فهوسيد في قومه موفور الجناب. وبهذا المعنى فإن هذه الموضوعة لا تنطلق إلا من مودة وإعزاز لأهلنا في أبيي في جنوب بلادنا الحبيبة، وأهلنا وراء الحدود في جمهورية جنوب السودان الشقيقة.

يزور الخرطوم هذه الأيام بدعوة من جائزة الطيب صالح (العالمية) للإبداع الكتابي، والتي ترعاها شركة زين، أحد أكابر رجال السودان سابقاً وجمهورية جنوب السودان الشقيقة حالياً الدكتور فرانسيس دينق القانوني والوزير والدبلوماسي الأممي وسط حفاوة وترحيب في أوساط الجائزة، وعدد من أصدقاء الرجل في الفضاء الأكاديمي والثقافي وأعيان المجتمع والطبقة السياسية. يزور الرجل الخرطوم هذه المرة بإعتباره ضيف شرف الجائزة التي أثبتت على امتداد عشرة سنوات منذ تأسيسها أنها منبترة الصلة بالثقافة والإبداع الكتابي والعالمية حسب زعمها الرسمي، وأنها تهدر أموال عملاق الاتصالات في ما لا يفيد وأنها تدار مثل تام الشأن الثقافي في بلادنا بعاطفية شديدة وهرجلة معروفة عنا، ولا فخر!

يخلص هذا الموضوع بناء على حيثيات سنورد بعضها هنا وفق ما تسمح به مساحة الموضوع في صحيفة سيارة إلى حتى الدكتور دينق غير جدير من الوجهة الثقافية ـ التي نعنى بها هنا – بأنقد يكون ضيف الشرف، وكنت سأسعد كثيراً لوامتنعت دائرة الهجرة والجوازات في بلادنا عن منحه تأشيرة الدخول لأسباب كثيرة ومتداخلة. الدول المحترمة تخضع تأشيرات الدخول والخروج لمراجعات لا علاقة لها بوجاهة الجهة مقدمة الطلب أونفوذها المالي، وسيرة الضيف المنشورة جديرة بأن تضعه على قوائم الممنوعين من الدخول. الدكتور فرانسيس دينق شخصية ذات ألوان متعددة وهوأعرض من الحياة، كما يقول التعبير الإنجليزي، في المجال الثقافي ومنتجه الكتابي جدير بالبحث والتمحيص وإعادة القراءة في خط إذا تيسر الأمر لكننا نعمل الآن هنا بعض ما في وسعنا.

ينتمي دينق إلى اسرة أحد كبار سلاطين قبيلة الدينكا فهوابن زعيم قبيلة نقوك دينكا التاريخي دينق مجوك. كان دينق (ولد عام ١٩٣٨) طفلاً مبرزاً وشاباً ناجحاً، وهوالآن شيخ يتمتع بسلطة قبلية وروحية ومعهدية غير مسبوقة في أوساط قبيلة الدينكا وشعب جنوب السودان، وقبل ذلك في أوساط السودانيين إبان عهد ما قبل استقلال بلاده وبعده كما نرى الآن. تلقى الشاب تعليماً متميزاً للغاية لا يتوفر حتى في عصرنا الحالي إلا لأصحاب الإمتياز والنبلاء مثله فقد تخرج دينق في كلية القانون بجامعة الخرطوم، وحصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة ييل الأمريكية المرموقة ثم عمل دبلوماسياً في وزارة الخارجية السودانية، وفي بعثة السودان بالأمم المتحدة في ستينات وسبعينيات القرن الماضي قبل حتى يشغل منصب سفير السودان في كندا، والنرويج، وفنلندا، والسويد، والدنمارك، والولايات المتحدة حتى توج ذلك وزيراً للدولة بالخارجية في عهد حكم الدكتاتور الراحل جعفر نميري. ورشحه السودان مرة لمنصب السكرتير العام للأمم المتحدة في إطار عمليات الإستقطاب الأولية داخل المنظمة الدولية، وهوشرف لم ينله الدبلوماسي السوداني الأكثر شهرة وتأثيراً الدكتور منصور خالد الذي تخاذلت حكومة النميري عن دعمه. هجر دينق الوظيفة الحكومية والعمل التطبيقي في حكومة السودان واتجه للعمل الأممي دبلوماسياً رفيعاً في الأمم المتحدة، واستاذاً وباحثاً في أرقى المؤسسات الفهمية والأكاديمية الأمريكية.

ألف الدكتور دينق ما يربوعلى الأربعين كتاباً باللغة الإنجليزية ترجمت بعضها الى العربية وتتراوح ما بين حكايات قبيلة الدينكا، وشئون السياسة والحياة العامة في السودان، ومجموعة من الأعمال الإبداعية (إن صح التعبير)، لكن هناك ثيمة واحدة تربط الكثير من هذه الأعمال، التي أتيح لنا قراءتها أوتصفحها أوقراءة مراجعات لها، وهي العداء للتيار الرئيسي للمجتمع السوداني وثقافته العروبية والإسلامية ومجمل تنطقيده وهوعداء انتقل بطبيعة الحال نحوصدر الدولة السودانية. يبلغ الآن الدكتور دينق من العمر ٨٢ عاماً قضى أغلبها في العداء لجمهورية السودان وأجدني مطمئن البال إلى القول بانه أحد أبرز صناع الشقاق الثقافي بين مواطني جنوب وشمال السودان. بالطيع ليس هذا موقفاً ضد انفصال جنوب السودان الذي يفخر محرر هذا الموضوع دائماً باعتباره استقلالاً مستحقاً ويوم فخر وطني لمواطني جنوب السودان الأشقاء والأحباء الذين عانوا – لا ريب في ذلك – إبان بقائهم في دولة لمقد يكونوا يعيشون فيها كمواطنين بذات الحقوق والكرامة التي توفرت لغيرهم.

تحمل كتابات الدكتور دينق ونظرياته ورؤاه المنشورة وينتظر حتى ينشر له هذا العام أيضاً كتاب (أبيي بين سودانيين) مع الوزير السابق لوكا بيونق ودانيال جوك دينق، أفكاراً لا تجعل من الصراع والنزاع القائم الآن بين البلدين على أكثر من صعيد حقيقة ثابتة، وإنما تضع العراقيل الصلبة لحل هذه النزاعات إلى الأبد، وغني عن القول إذا تدهور الأحوال في البلدين الشقيقين الآن هومن خلق البلدين جميع في أرض الآخر!

يمكن النظر الى مساهمات د. دينق عبر عدسات ثلاثة هي: مساهماته كمحرر، ومساهماته كباحث ومفكر في عدد من مراكز التفكير الأمريكية (معهد الولايات المتحدة للسلام بشكل رئيسي)، وعمله كدبلوماسي دولي بالأمم المتحدة وعمله الدؤوب في حقلي مساعدة النازحين داخل بلدانهم من جراء الحروب والصراعات الأهلية، وما ظل يعهد في أدبيات العمل الدبلوماسي الدولي بمسئولية الحماية (Responsibility to Protect) والتي اكتسبت اهتماماً كبيراً في أوساط الفكر والبحث الأكاديمي وداخل الأمم المتحدة في الفترة ما بعد فشل المجتمع الدولي (قل تخاذله) في حماية ضحايا الحرب في رواندا وكوسوفووغيرها، وأقرتها الدول الأعضاء في قمة الأرض ٢٠٠٥م لمنع الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والتصفيات العرقية، والجرائم ضد الإنسانية.

قدم دينق كتابين يحتويان على مجموعة من الحكايات المفتعلة المملة توافق المجتمع الثقافي على تسميتها بالروايات وهي (صرخة البومة) والتي تمت ترجمتها الى (طائر الشؤم) و(بذرة الخلاص). منذ أكثر من ١٠ سنوات ظللت أحتفظ بنسخة من رواية بذرة الخلاص ضمن ملف لم يتيسر لي حتى الآن إكمال إنجازه عن الكتابة الرديئة في الأدب السوداني، أما طائر الشؤم فلم أحتمل إكمالها إلا بعد مشقة هائلة وعلى امتداد وقت طويل. للروايتين تصور عندي أنهما مفتعلتان لكن أغناني د. محمد إبراهيم الشوش الأكاديمي والرمز الثقافي المعروف عن مشقة تقديم قراءة مختصرة لهما فقد خط بالإنجليزية في العدد الأول من المجلد ١٨ للمجلة البريطانية للدراسات الشرق أوسطية (١٩٩١) منطقة رفيعة بعنوان (في البحث عن هوية آفروعربية: المفهوم الجنوبي للسودان الشمالي من خلال روايات فرانسيس دينق) وفيه يقول إذا الروايتين هما أطروحتان سياسيتان لهما هدف سياسي محدد بوضوح، ومن أجل خدمة هذا الهدف هناك مجموعة من ملامح الرواية الأدبية والفنية قد تم حرفها، أوتجاهلها، أوالتضحية بها، ف وقذفت الصدقية من النافذة. مشاهد الأحداث مصنوعة بشكل فاضح لتحمل وجهة نظر أوتدعم حجة سياسية. في بعض الأحيان يظهر المؤلف محمولاً بواسطة حجته السياسية فيخرج من الخيال ويملأ القارئ بسلسلة طويلة من الأحاديث السياسية الطاغية والتي يعود بعضها الى ساسة معروفين.

أنظر الى الحشوالأيديولوجي السياسي في (بذرة الخلاص) مثلاً: "بالرغم من كراهيتي لأي تعصب أساسه لون بشرة الإنسان إلا حتى هناك شيئاً هاماً يجب ألا يغيب عن البال في موضوع التعدد العرقي في بلادنا" هذه العبارة منسوبة لرقيق معتوق أيام كان كتشنر يحكم السودان وليس لأحد نشطاء حقوق الإنسان الذين تدربوا في نيروبي في عصرنا الحالي. تخاطب الرواية المفتعلة القاريْ الغربي لذا فإنها تحاول اظهار الحكام الاستعماريين البريطانيين في مظهر إنساني إزاء العرب الأفظاظ الغلاظ " لقد منعت حكومة السودان آنذاك تجارة الرقيق”، "أسس المهدي بعد ذلك نادىئم حكم إسلامي بالبلاد. ولكي تكسب حكومة المهدية مساندة طبقة الأثرياء الذين يمارسون تجارة الرق سمحت من حديث بهذه التجارة بل اعتمدت إلى حد كبير على العبيد لتقوية جيشها”، "... كانت بريطانيا مصممة على إنهاء تجارة الرقيق ... على إذا الرق كان جزءاً هاماً من حياة الناس الاجتماعية والإقتصادية في السودان”، "أما كتشنر فقد تأثر كثيراً بسيرة هذه المرأة وأمر الحرس بهجرها حيث هي وإحضار طبيبه الخاص لفهم ما ألم بها من سقم". جميع الذي بين علامات التنصيص منقول عن الرواية المزعومة التي تحتشد بعبارات محشوة حشواً من خطاب القرن العشرين والكثير من الخطرفات مثل تنزه الأحباء على شاطئ النيل في القرن التاسع عشر! لا تختلف (طائر الشؤم) كثيراً في الهتافية والاستغراق في نقل الواقع بالمسطرة نقلاً مجرداً منذ الفصل الأول الذي تقرأ فيه "في ذلك المبنى كان ينعقد مجلس الشعب الذي كان أداة طيعة لإجازة الأوامر الجمهورية للمشير جابر المنير، ولكن منذ حتى أطاحت الانتفاضة الشعبية بالرئيس المنير وأعادت الحكم الديمقراطي إلى البلاد، أصبح المبنى مقراً للجمعية التأسيسية التي تم انتخابها حديثاً لتضع دستوراً جديداً للبلاد" أين هوالإبداع الكتابي الذي تبحث عنه جائزة شركة زين ووجدته في مثل هذه الكتابات إذا استثنينا (الإبداع) في تغيير اسم المشير جعفر النميري إلى المشير جابر المنير،يا ترى؟ وتمضي الرواية هكذا وهي تعيد حكايات موظفي الحكومة وضباط الشرطة والجيش لترسم صورة نمطية مصنوعة أصلاً ومفعمة بالعداء والكراهية وليس الاختلاف.

أما مساهمات دينق كأستاذ وباحث ومفكر في بعض الجامعات ومراكز التفكير الأمريكية فهوالميدان الذي برز فيه العالم الكبير وأثر من خلاله على صناعة القرار في البيت الأبيض في واشنطن من جهة، وفي أروقة الأمم المتحدة في نيويورك من جهة أخرى.

هذا الأسبوع فقط، أعدت قراءة تقرير الدكتور فرانسيس دينق وستيفن موريسون (سياسة الولايات المتحدة لإنهاء حرب السودان) الصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن (سي إس آي إس) في فبراير عام 2001. هذا الشهر تحل ذكرى مرور ١٩ عاماً على نشر هذا التقرير وهوأحد أخطر التقارير التي مست الشأن السوداني في فترة ما بعد الاستقلال. تأسس ذلك التقرير على عمل دؤوب شارك فيه خمسون شخصاً ما بين متحدث ومناقش من بينهم رجل الأعمال المعروف أنيس حجار والذي ما انفك يلعب دوراً سياسياً هاماً وراء الكواليس كما تروي مجالس المدينة في الخرطوم دون حتى يهتم ولولمرة واحدة بالحديث إلى الرأي العام السوداني بالإضافة إلى (محمد خليل وأحمد البشير اللذان خطت أسماءهما على الطريقة الإفرنجية مما قاسي من حسم تعريفهما وفق الأسماء الثلاثية والرباعية المعتمدة في السودان). هذا التقرير هوالذي وضع اللبنة الأولى لقيام دولتين في السودان الموروث عن الإدارة الاستعمارية. لقد أنفقت إدارة الرئيس جورج بوش كثيراً على تمويل ذلك العمل البحثي الكبير عبر منحة من معهد الولايات المتحدة للسلام، ثم تبنته بالكامل ونفذت توصياته بدقة متناهية فخلصت إلى النتيجة المرتجاة والحتمية. إذا فرانسيس دينق بخطه ومساهماته في الغرفة الخلفية لمطبخ السياسة الأمريكية هوالأب الروحي لدولة جنوب السودان، دون الانتقاص من تضحيات الآخرين الذين وضعوا إنشاء دولتهم كهدف أسمى ورأوا تحقق الحلم أوفاضت أرواحهم في الطريق إليه.

بعد سبعة أشهر على تقرير فرانسيس دينق المشار إليه قامت إدارة بوش بتعيين السيد جون دانفورث مبعوثاً خاصاً للسودان، ونجح الرجل في مقبل فترة عمله في تحقيق ما عهد باتفاق النقاط الأربعة، وهي النقاط التي نشر على نطاق واسع أنها كانت للتعبير عن تأكيد طرفي النزاع على الإلتزام بتحقيق السلام عبر التفاوض.

نجح دانفورث في فصل جبال النوبة عن الجنوب، وبدأ في مهارة حائك دقيق في حل المشكلة عبر تقسيمها إلى مراحل وقطاعات وما هجره دانفورث للمستقبل هوالمشكلة الكبرى التي يقابلها السودان من أجل الحفاظ على استقلاله ووحدته بل على بقائه أصلاً.

هكذا صنعت مساهمات دينق القطيعة التي نتذوق فجيعتها الآن في البلدين والتي سيظل يغذيها للإبد فكر من نوع حتى "التحيزات الشمالية ضد الجنوب منتشرة وسهلة الكشف في تعريفهم الجمعي للزنجي كعرق أدنى يمثل المصدر التقليدي للعبيد. وبينما يملك العرب النفوذ للإبقاء على سطوتهم السياسية وعلى تفوقهم المادي، فإن الجنوبيين يكرهونهم بعمق وينظرون إليهم من علٍ. إذا هذا الإزدراء المتبادل، مضافاً العزلة الجغرافية والمناطقية، يجعل من التعايش أمراً صعباً للغاية". سيتحدث دينق في زيارته هذه عن ضرورة حل الإشكالات – التي ساهم في صنعها عبر عقود- وسيصفق له الموجودون في القاعة من طائفة المنبهرين الذين سيحتشدون دون حتى يقرأوا كتاباً واحداً له، وهويتحدث عن احتمالات الصداقة والوحدة بين البلدين الذين تربطهم شروط الجغرافيا والقرابات والمصاهرات والإقتصاد والسياسة.

سيكون تكريم الدكتور فرانسيس دينق لائقاً ومناسباً فقط إذا قامت الأوساط الثقافية في جنوب السودان بتكريم السيد الطيب مصطفى على قلة إسهامه في القطيعة مقارنة بضيف الشرف هذا أما إذا لم يتحقق هذا فالأحرى حتى نقول له بلغة فصيحة: عد إلى بلدك، وسنراه يتجنب العودة إلى بلد صنعه بجهده الدؤوب على مدى ستة عقود ثم اختار حتى يعيش بعيداً عنه أبداً.

الهامش