خالد فضل
رمضان كريم , ولكن ! مرّت رمضانات وكل سالف منها يسلمنا للاحق , لن نجازف بالقول ؛ أفضل , هناك علل مزمنة في تاريخ تطورنا السياسي والإجتماعي والإقتصاي ولابدّ , ود. عبدالله حمدوك رئيس وزراء حكومة الفترة الإنتقالية الحالية ما فتئ يكرر الحديث عن ضرورة ابتدار مشروع وطني جديد بملامح مغايرة , لقطع الطريق على دوامة التردي المتلاحق .هذه دعوة مهمة وعملية , فتاريخ اجتماعنا الحديث بل والوسيط , تكلل مع الأسف بالقتل الجماعي والنزوح والتشريد , وما تزال معسكرات النزوح واللجؤ تمثل حقيقة اجتماعية مريرة لا يمكن غض الطرف عنها , فكيف السبيل للعبور من هذه الورطة التاريخية والولوج إلى مستقبل كلنا ننشده وإن اختلفت رؤانا في الوصول إليه .
في تقديري تبدو مسألة إيقاف نزيف الدم السوداني من الأولويات , من المستحيل الحديث عن مستقبل للعيش الجماعي وسط أرتال القتلى كل يوم _ولأتفه الأسباب _(العبارة تنسب للمخلوع البشير في إحدى تجلياته واعترافاته النادرة بالخطايا التي ارتكبها ), كيف نعالج هذه القضية ؟ اتفاقات السلام التي تُبرم لم توقف النزيف , هنا يبرز خلل في هذه الاتفاقات على ما يبدو , هناك تاريخ حافل من الغبائن المتبادلة بين المجموعات السودانية , أبناء الغرب يتهمون الشمال النيلي كله بظلمهم والهيمنة عليهم وتهميشهم , خطاب الكراهية والعنصرية يملأ الأسافير , والخطاب المضاد (ما بقصّر) , الأوهام تختلط بالحقائق في هذه الموجة العاتية من التحرش اللفظي , بينما الواقع يقول , صحيح هناك تهميش وظلم تاريخي , أصاب بعض مناطق السودان بصورة أكبر وأوضح وأقسى من بعض مناطقه الأخرى , كنتيجة الخلل التاريخي , وغياب المشروع الوطني الشامل الذي يجمع الشتات ويرتب الأولويات ويبرز الميزات التفضيلية , كما في الأحزمة التنموية الخمس التي أشار إليها د. حمدوك , وهنا لابد من إيقاف العداء التاريخي بين المجموعات السودانية , ولن يحدث كل ذلك دون تواطؤ أو مساومة تاريخية بين الشعوب السودانية , وفي ظل دولة ديمقراطية علمانية مدنية حرّة , تقوم فيها الحقوق على أساس المواطنة فقط , ويحكمها دستور مصاب بعمى الألوان كما يقولون .
هل يمكن طرح مبادرة موضوعية للتعافي الوطني الشامل , مائدة مستديرة قوامها ممثلون لكل مجموعة وطنية جهوية , سياسية , قبلية , … إلخ , لا يهم العدد , ألف أو ألفان , المهم كل مجموعة صغيرة أو كبيرة تكون حاضرة , تطرح على المائدة كلّ مظالمها وهمومها وطموحاتها , ثمّ تقدّم رؤيتها للعبور , وتعهدها بتجاوز الماضي وبدء حياة جديدة , لا أحد يقاطع أحد فيما يطرح مهما بدا قاسيا وحادا , الهدف واضح , إفراغ كل ما في الصدور من هواء ساخن , الدولة يجب أن تبنى على مخرجات هذه الرؤية الجماعية , والمحاسبة تكون بمقياس الإتفاق , وأعتقد أنّ الأستاذ عبد الواحد محمد النور يدعو لشئ من هذا القبيل . كما أنّ تجارب بعض الدول تسعفنا في هذا المجال , هنا رواندا التي تجاوزت محنة القتل على الهوية بين الهوتو والتوتسي , لتبني دولة حديثة خلال أقل من عقدين , هناك جنوب إفريقيا , سيراليون , الأرجنتين , تجارب بلدان وشعوب قررت في لحظة مفصلية العبور من واقع المظالم إلى سكة العبور والتقدم ففعلت عندما سمت فوق الجراحات والمرارات , وبلادنا في أمسّ الحاجة لهذه الخطوة التاريخية للبداية من جديد , فما فات قد فات , وحبس المستقبل في أضابير جراحات الماضي لن يبرئ جُرحا ولن يبني وطنا , بل تستمر الدوامة الفاسدة , شكوى وتذمر , وشكوى وتذمر مضاد , اجترار الماضي الأليم يجب أن يكون فقط لأخذ العظة والعبرة وليس للبناء عليه , مثل هذا الطريق العدمي لن يخرجنا إلى بر الأمان . والدنيا رمضان , ربما فيه تنتاب الناس بعض نفحات روحية فيؤوبون إلى ذواتهم بالنفس اللوامة , ويعود المقروحون إلى هدأة قبول (ما شاء الله قد حدث)!!