بعد مرور نحو عقد على اندلاع الموجات الاحتجاجية فيما يُعرف بـ"الربيع العربي" أفل نجم الإسلاميين تدريجياً في بلدان الثورات العربية والبلدان المجاورة لها التي كانت أجرت إصلاحات سياسية ملحوظة تجنباً لسيل الاحتجاجات.

ولم يسلم إسلاميو المغرب من موجة تراجع الحركات الإسلامية التي عانتها مثيلاتها في "دول الربيع"، فجاءت نتيجة الانتخابات التشريعية في المغرب على نحو صادم، إذ شهدت عزوف غالبية الناخبين عن التصويت لحزب العدالة والتنمية المغربي ذي المرجعية الإسلامية، إذ حصل على 12 مقعداً فقط بالبرلمان محتلاً المرتبة الثامنة بين الأحزاب المتنافسة بالانتخابات، وذلك بعد عقد من تصدّره نتائج الانتخابات بالبلاد.

وتعددت أسباب ذلك الأفول والنتيجة واحدة هي هبوط حاد في شعبية الحركات الإسلامية في العالم العربي على نحو مثير للتساؤل.

فما أسباب انخفاض شعبية الحركات الإسلامية في العالم العربي؟ وأي مصير ينتظرها الفترة المقبلة؟ وهل أفل نجمها إلى الأبد؟

سقوط متكرر

اكتسحت الأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية الانتخابات التي أُجريت بعد تهاوي أنظمة ما قبل "الربيع العربي"، بل وأجرت بعض الدول العربية الأخرى التي لم تطلها موجة الثورات مثل المغرب والأردن إصلاحات لدمج الإسلاميين في نظامها السياسي وتقليل حالة الاستقطاب في مجتمعاتها.

وشهدت تلك الحالة تحوّلاً مفاجئاً لم يعتده الإسلاميون من قبل، إذ تحولوا من صفوف المعارضة إلى سدة الحكم، ليصبحوا بصدد تحديات مصيرية غير مألوفة بالنسبة إليهم.

وسرعان ما اندلعت الأزمات وظهرت كيانات مناوئة لوجود الحركات الإسلامية في الحكم، وبدأت شعبية الحركات الإسلامية في الهبوط تباعاً وسط تصاعد لحالة الاستقطاب المجتمعي جرّاء حملات دعائية سلبية مناهضة لمشروعهم السياسي.

ففي مصر مثّلت "جبهة الإنقاذ الوطني" عقبة أمام حكم حزب الحرية والعدالة المصنّف وقتها "ذراعاً سياسية" لجماعة الإخوان المسلمين، فبعد تولّي الرئيس السابق محمد مرسي رئاسة الجمهورية المصرية، تصاعدت موجات احتجاجية نددت بأزمات معيشيّة توالت أثناء حكمه.

وعلى الرغم من وجود رأي قائل إن جزءاً لا بأس به من تلك الأزمات كان مُفتعلاً، فإنّه في نهاية المطاف لم تستطع الإدارة التنفيذيّة وقتها السيطرة على الأزمات ووقف حالة الاحتقان بالبلاد، لتتصاعد وتيرة الأحداث سريعاً وتدعو حملة "تمرُّد" إلى مظاهرات في 30 يونيو/حزيران 2013 تزامناً مع الذكرى الأولى لتولي مرسي الحكم، وهو الحدث الذي أدّى إلى انقلاب عسكري أنهى حكم الرئيس مرسي، وكتب أول سقوط مدوٍ للحركات الإسلامية عقب الثورات.

وإبّان تعثّر العديد من "دول الربيع" في أن تنعم باستقرار ومناخ من الحرية، دائماً ما كان يُنظر إلى تونس باعتبارها الدولة العربية الوحيدة التي نجحت في إجراء عملية انتقال ديمقراطي من بين دول عربية أخرى، شهدت أيضاً ثورات شعبية أطاحت بالأنظمة الحاكمة فيها، ومنها مصر وليبيا واليمن.

غير أن التخبّط المستمر في إدارة البلاد وتفاقم أزمة صحيّة أثناء انتشار جائحة كورونا أدّى إلى موجة احتجاجات في تونس، ليتخذ الرئيس التونسي قيس سعيّد في 25 تموز/يوليو الماضي قرارات اعتبرها البعض "انقلاباً على الدستور"، فأقال رئيس الحكومة التونسية وجمّد اختصاصات البرلمان، ورفع الحصانة عن النواب.

ووضعت قرارات سعيّد البلاد في مصير مجهول حتى الآن، وسط مخاوف من انحراف تونس عن المسار الديمقراطي، غير أنّه بغض النظر عن قرارات الرئيس التونسي يرى خبراء أنّه بدا الآن جليّاً عدم تمتع حركة "النهضة" ذات المرجعية الإسلاميّة بنفس الشعبية التي حظيت بها وقت اندلاع الثورة التونسية، خصوصاً مع اصطفاف جزء لا بأس به من الشعب التونسي مع قرارات سعيّد غير آبهين بآليات الديمقراطية، وهو ما يعكس وفقاً لخبراء وجود مسافة بين الحركة المحافظة والشارع التونسي.

وفي المغرب التي رأى فيها البعض نموذجاً لنجاح الحركة الإسلامية في الاندماج مع النظام السياسي الملكي الدستوري، حملت الانتخابات التشريعية الأخيرة تأكيدات لكون إسلاميي المغرب ليسوا بمنأى عن تراجع شعبية الحركات الإسلامية في المنطقة، إذ احتلّ حزب العدالة والتنمية المغربي ذو المرجعية الإسلامية المرتبة الثامنة في نتائج الانتخابات التي أُجريت بالبلاد الأربعاء، مُسجلاً تراجعاً حاداً وسقوطاً مدوياً باقتصاره على انتزاع 12 مقعداً بالبرلمان المغربي، وذلك بعد أن حلّ في صدارة الفائزين بأصوات الناخبين في التشريعيات المغربية عامَي 2011 و2016.

انتفاء "الاستثنائية الإسلامية"

صاحب اندلاع ثورات "الربيع العربي" العديد من الآمال بتأسيس "عقد اجتماعي جديد" يقوم على مبادئ الحرية والممارسات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

وتصدّرت الحركات الإسلامية في بلاد الثورات مشهد التحوّل الديمقراطي، ليصبح أغلبها ولأول مرة بصدد تبوؤ الحكم والحصول على مناصب تنفيذيّة بدلاً عن الوجود في صفوف المعارضة على قوائم انتخابيّة مستقلّة غير حزبية.

ومثّل هذا التحوّل اختباراً حقيقياً لشعارات قادة الحركات الإسلامية على مر السنين بأن مشروعاً حقيقياً لديهم لتنفيذه حين تسنح لهم الفرصة، وأنهم بمنأى عن الأدبيات الكلاسيكيّة الإقصائيّة التي كثيراً ما توجّهت إليهم أصابع الاتهام ملوّحة بها، وسط مزاعم حول نبذهم الروح والإرادة الوطنيّة الجامعة لأطياف مجتمعاتهم.

ويتذرّع قادة الحركات الإسلامية في العالم العربي التي تجرّعت مرارة الهزيمة مرةً تلو الأخرى بسردية "لا للوم الضحيّة"، ذاهبين إلى أن نتائج الانتخابات لا ينبغي أن يُعتد بها نظراً إلى ما يتردد من شبهات تزوير وتلاعب وشراء للأصوات التي تتخلل عملية الانتخاب أو كونِهم يُحارَبون عبر "ثورات مضادة".

غير أن العديد من المتابعين يرون أنّ تلك السرديّة لا تُعبّر بشكل كامل عن واقع الأمر، وبتعبير الباحث هشام جعفر فإن استهلاك "رأس المال الرمزي للإسلاميين" بعد عقد كامل من تفجّر الثورات يضع الحركات الإسلامية أمام خيار لا بديل له، وهو أن تُعيد النظر في ممارساتها وخطابها قبل إلقاء اللوم على أطراف خارجية.

ويرى جعفر أن ممارسات الإسلاميين أثناء وجودهم بالسلطة أو حتى في صفوف المعارضة لم تحمل اختلافاً جوهرياً عن "الفواعل السياسية الأخرى، حين يُحرّكهم إدراكهم لمصالحهم الذاتية التي يبغون تحقيقها، ويبنون تحالفاتهم ليس وفق أسس أيديولوجية بل وفق التنافس فيما بينهم الذي هو أشد من تنافسهم مع الآخرين".

وبدت ممارسات قادة الحركة الإسلامية في أعقاب الثورات كأنهم "يتصرفون كأي حاكم عربي، فمن تصرفاتهم الانتهازية السياسية التي طبعت ممارسة كثير منهم في الحكم وخارجه، وتقلبات مواقفهم وتحالفاتهم، وتعدد انتقالاتهم من خندق إلى آخر، وتفشي مظاهر الفساد في بعض أوساطهم" هو ما "أسقط عنهم لباس التقوى"، حسب تعبير جعفر.

ونظراً إلى المارسات المذكورة أدى ذلك الأمر إلى "انتهاء الاستثنائية الإسلامية"، التي دائماً ما وُصِمت بها الأحزاب ذات المرجعيّة الإسلامية في العالم العربي عبر "تابعيها ومعارضيها على حد سواء، وإن اختلفت الدوافع بينهما"، إذ حاول الأتباع إضفاء نوع من "القداسة، في خلط واضح بين النص المنزّل والتعبير عنه خطاباً وممارسة"، أما المعارضون فقد ابتغوا بذلك التشكيك في قدرة الإسلاميين على الاندماج في النظام السياسي.

ويذهب مراقبون إلى أن المنطقة العربية لا تزال بصدد حالة سائلة ومحطة فاصلة، يمكن معها للإسلاميين "التقاط مقومات هذه اللحظة بمقدار ما سيستردون حضورهم وزخمهم الذي تراجع إلى حد كبير"، وذلك عقب "تراجع شعبيتهم في الاستحقاقات الانتخابية المتواصلة، والأهم هو فقدان المصداقية والثقة في قدرة الإسلاميين على إيجاد حلول للواقع المأزوم".

TRT عربي