لم يفكِّر طويلاً، شَرَعَ في تهريبه والاتجار به، ثم انتقلَ به الحال ليكون أحد أهم زعماء الكوكايين في العالم، الفلاح الذي أغرقَ أمريكا بالموتِ الأبيض!

بعد تحوُّله إلى ملياردير، بقي في داخله شيءٌ من النَّقص لم تتمكن الأموال المهولة أن تعالج الوجع الذي يتشكَّل أمامه راسماً صورة رجلٍ فلاح يملكُ أمولًا لا يعرفُ أن يضعها.. ثم ماذا؟ لا شيء، ثريٌّ فارغٌ إلا من الثَّراء!

من مرارة النبذ إلى وهم الاصطفاء

لهذا، شَرَعَ في تقمُّص شخصيةٍ تسهمُ في تغيير نفسه أمامَ نفسه، قرَّرَ أن يكون أباً للفقراء، مرْهماً للموجوعين، صوتاً لهم أمام تغول السَّاسة وأصحاب الثراء الفاحش الذين لا يلتفتونَ إلى الضُّعفاء.. ليتحسنَ قليلاً من وطأةِ أسئلةِ الماضي!

ثم تطور به الحال، واشتدَّ به سعار الاندماج للتخلصِ من الكائن الذي عاشه فترةً من العمر، قرَّر أن يكون سياسياً، نائباً برلمانياً مشرعاً، يحمي صوت البؤساء بماله وسلطانه، وعندما فاز بطريقةٍ ملتوية، فوجئ بأنه غير مرغوبٍ به في عالمِ السِّياسة، إذ ظهر لديه سجلٌ سابقٌ محفوف بالظلام، فاضطر إلى الاستقالة لأنه لم يكن جديراً بذلك.

من هنا، نشأ في داخله دافع الانتقام لحقِّه المسلوب، مثَّل له هذا الدَّافع جوهر الطَّاقة التي كانت تمده للانتقام ممن لم يسمحوا له أن يكونَ سياسياً، جامعاً بين ثروة المال، وسطوة الجاه، وقد رأى من نفسه مختاراً دون الخلائق!

تحول بابلو اسكوبار من ثري، وسياسي ترفضه العدالة، إلى رئيس منظمة ترفع شعار العدالة، وتقفُ في وجه الدَّولة، وتنشر الكوكايين إلىٰ العالم!

في واحدة من أهمِّ المفارقات التي اجترحها بابلو، خرقه للقانون، تدميره لكلِّ شيء يسخطُ عليه، فإذا وقعَ في مأزقٍ خانق، استدعىٰ الصّحافة ليتحدث عن حقه في أن يُعامَل معاملة أي رجلٍ كولومبي له الحقوق الكاملة! يتعامل كأنه نصفُ إله، وعندما تُحاطُ به الجدران، يتحول إلىٰ حارسِ معبد، رقيق المشاعر!

كان ذكيًا ذكاءً فطرياً كعادةِ أبناء الأرض الذين انتشروا من ذرَّاتِ الرَّمل، عقدت كولومبيا وأمريكا قانوناً يسمحُ بمحاكمةِ تجار الكوكايين في أمريكا، وهنا وجد اسكوبار ضالته، وبدأ مشوراه التَّحرري لطلبِ العدالة، ورفض التَّدخل الأجنبي، معتبراً إياه ضربٌ من ضروبِ العدوان!

سمَّمَ اسكوبار العالم بموته الأبيض، وعبثَ بأمنِ الوطن، جاعلاً منه ساحة لقوى العالم من أجل التَّدخل وانتهاكِ السِّيادة, وشكَّل التنظيمات واخترق القوانين بل ووضع نفسه مقام الزَّعيم الملهِم أمام أتباعه، ثم يشيحُ عن كلِّ ذلك، ويناشد الشَّعب الكولومبي أن يقف في وجه العدوانِ الأمريكي الذي يرغبُ في محاكمةِ أباطرة الكوكايين في محاكمِ أمريكا!

من يصدِّق أنَّ رجلاً كهذا كان يؤمنُ به مئات الآلاف من أبناءِ كولومبيا، لأنه يقفُ في وجه الظلم والصَّلف الأمريكي! ولهذا غرَّر بآلافِ الشَّباب في معاركه ضدَّ السُّلطة، وقتَلَ الآلاف من الشُّرطة لأنها تقفُ أمامه وتحدُّ من طموحه الجامح الذي لم يتسع له شيء.

الشيء الغريب أنَّ اسكوبار لم يعد يلتفت لأصلِ الفكرة التي نشأ عنها كل شيء، تجارة الموت، التَّهريب العالمي، تهديد السّلم المجتمعي، نسي كل شيء، وتحول في داخله إلى رجل يقفُ أمام أعتى دولةٍ في العالم، ومن حقه أن يقفَ ضدَّ أدواتهم في الدَّاخل، ولهذا شرَّع لأتباعه استهداف الجميع بلا استثناء، تحقيقاً للعدالة!

كانت تسيطر عليه فكرة "الاختيار"، ظنَّ لوهلةٍ أنه الوحيد الذي وُفِّقَ ليكون بابلو، الاسم الذي يتردَّدُ صداه في أروقة البيتِ الأبيض، بدأت تتسلل إليه "فكرة الاختيار" دون أن يشعر، توهَّمَ، كما يتوهَّم الكثير، أنَّ قدرةً عظمى اختارته ليكونَ سيِّداً، لأيّ سببٍ من الأسبابِ التي يتعذَّر بها لهذا الاختيار.

فكرة الاختيار التي يتلبَّس بها بعض المهووسين، تأتي مقرونة بالتّيه، تتسقُ مع الأفراد، والجماعات، والمجتمعات على حدٍّ سواء، ثمة أفراد يرونَ أنفسهم من المختارين، وثمة جماعات كانت تظنّ أنَّ الله اختارها لتكون في هذه الأرض حارسةً للكون! وثمة مجتمعات من فرطِ النِّعمة التي تحيطُ بهم، يظنونَ أنهم قد اختيروا منذُ الأزل، لأنهم أهلٌ للمكرُمات! وجميع هؤلاء، أفراداً وجماعات ومجتمعات وأسر ونُخب سيُصابون حتماً بالتِّيه، التِّيه المزلزل لفكرةِ الاختيار، لأنهم وقعوا فريسةً لأفهامهم وأهوائهم!

المعصية والتيه

عاش بنو إسرائيل ،على سبيلِ المثال، طوال حياتهم، وهم يظنون أنَّ الاختيار وقعَ عليهم، وبات مفهوم الاختيار لديهم عقيدة، ومن سواهم من الخلق "أغياراً"، وُجِدوا لخدمتهم، وهكذا، استمرَّ بهم وهْمُ الاختيار ينخر في تفكيرهم إلى اللحظةِ التي نَزَلَ بهم التِّيه، فضُرِبَ عليهم أربعينَ سنة يتمرغون في رمالِ الصَّحراء!

زلزلت حادثة التِّيه فكرة الاختيار، ووضعتهم في مكانهم الحقيقي، المكان الذي يقفُ فيه الإنسان أمام السُّنن الكونية التي لا تحابي أحداً، جاء التِّيه ليقول لهم: "كان لكم شيء من التَّفضيل، لأنَّ رسالةً كانت بين أيديكم، كان ثمة أمل في أن تكونوا صلحاء في هذه الأرض، وأملاً في نجاتها من تغول الظلم، فنسيتم هذا التَّكليف العظيم وتدثرتم بالتَّشريف الموهوم وسحبتم التفضيل إلى نسبكم وقومكم، وكأنَّ الله خلقكم من طينةٍ خاصة دون الخلائق، وتركتم أمر الإله وراء ظهوركم، فكان التيه لائقاً بكم".

بالعودةِ إلى اسكوبار، فبعد أن تربَّعَ كأغنىٰ رجلٍ في العالم مدة طويلة، ضاقت به الدَّائرة، لأنه لزاماً لكلِّ دائرةٍ أن تضيق، وتناثر عنه الصَّحْب واشتدت عليه القيود وضاق به الخناق، وبدأت تتلاشى فكرة الاختيار التي أوهمَ بها نفسه وأتباعه، ليموت كما يموت النَّاس كل يوم في شوارع كولومبيا، ولتنتهي أسطورة الفلاح الذي بدأ مهرباً عاديًاً ثمَّ مهرباً عالمياً، ثم صاحب أسطورة كتب عنها ماركيز في إحدى رواياته، وتحدَّث عنه العالم باعتباره أحد الأساطير المعاصرة!

التيه قد يأتي على صورةِ انتكاسةٍ تهدمُ كل شيء، لخللٍ في المنظومة الداخلية لـلفرد والمجتمع والجماعة، وقد تأتي على هيئة حروب طاحنة تدخل الجميع في دوامةِ الصراع المرير، وقد تأتي على شكل انهيار اقتصاديٍّ بعد طول رغد، وهذا ما وقع فيه "لبابلو" الذي قبض الرَّيح بعد امتلاء.

على ذكر غابريل ماركيز، الرِّوائي الكولومبي الشهير، خَطَر في ذهني فور انتهائي من الوقوفِ على سيرة بابلو اسكوبار التي كُتبت، وجُسِّدت في دراما شهيرة NARCOS، قلتُ في نفسي: "كيف أغفلَ ماركيز ذكر هذا الرَّجل في رواياته؟".

ثم تتبعتُ الأمر واتضح لي أنه كتبَ عنه رواية تحمل عنوان: "خبر اختطاف"، تدور أحداثها حول الشَّخصيات الكولومبية البارزة التي اختطفها بابلو بهدف استخدامها كأوراق ضغط في مفاوضاته مع الحكومة.

وبعين الأديب وأسلوبه، يصف ماركيز محنة الضَّحايا وظروف احتجازهم المحفوفة بالمخاطر، والدراما الغريبة لمفاوضات تحريرهم من قبضةِ اسكوبار.

هل ما زال التَّفكير أو النَّموذج الاسكوباري موجوداً؟

نعم، لكن بطرق مختلفة، لكنَّ النتيجة واحدة، نسيان الجريمة الأولى ثمَّ التَّأله ثمَّ اكتساب الشَّرعية الموهومة والعيش في وهْم الاختيار، ومن ثمَّ الشروع في ملاحقةِ الأعداء الذين يخدمونَ قضيتهم، ويستثيرون بهم الشعب لتحقيقِ مآربهم.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي