"أستاذي العزيز ماتسوشيما، آمل أن تكون في أتم صحة وسعادة، مضى وقت طويل منذ آخر مرة تشرفت فيها بلقائكم، أرفق لكم في هذه الرسالة كتاباً استعرته من مكتبتكم العامرة قبل أكثر من عشرين سنة عندما كنت أتتلمذ على يدكم، أعتذر إليكم عن تأخري في إرجاع الكتاب وتقبلوا فائق تقديري واحترامتي. طالبكم عصام".. كانت تلك الرسالة التي بعثتها إلى استاذي في جامعة واسيدا اليابانية لأعيد إليه كتاباً استعرته عام 2000م ولم تسنح لي الفرصة لإعادته طوال السنوات الماضية. لكن كان أحد الأسباب الرئيسة التي دفعتني لإرجاع الكتاب هو دخولي لعمية جراحية خطيرة قبل عدة أشهر.

كحال الكثير من الموظفين والتنفيذيين فالأعمال لا تنتهي والمشاريع تتابع والجداول المزدحمة تفرض عليك أن تؤجل أموراً كثيرة. في حالتي كانت الآلام والأوجاع هي ما حاولت تجاهله لسنوات للتركيز على العمل، حصل معي أكثر من مرة أن اضطررت للذهاب إلى الطوارئ في منتصف الليل بسبب تفاقم الوضع، وبعد أن حسمت أمري وأخذت موعداً مع الطبيب المختص كان القرار الحاسم بأنه لا بد لي من إجراء العملية الجراحية بشكل عاجل خلال أسبوع واحد ولا مجال للتأجيل.

لم يكن أمامي وقت كبير، بدأت في ترتيب أموري العائلية ومحاولة كسب أكبر وقت ممكن مع والدتي وزوجتي وأبنائي وإخوتي، لم أتحدث بهذه التفاصيل مع الموظفين كيلا أحدث أي إرباك ولكن اكتفيت بأشخاص محدودين في الإدارات العليا مع تنظيم الملفات المختلفة والمشاريع بحيث لا تتأثر بسبب غيابي، وكنت ممتناً جداً للتعاون والتفهم من الإدارات والجهات التي أعمل معها، ولعل ما سهل الموضوع كثيراً هو اتباعي نصيحة السيدة توكميتسو كيوكو رئيسة الشركة اليابانية التي كنت أعمل بها في مقتبل حياتي المهنية حين كانت ترتب مكتبها قبل المغادرة قائلة: "احرص على أن تكون أمور الشركة منظمة بحيث لو حصل لي أي مكروه فجأة فلن يتعطل العمل"، ولكن، بقي الموضوع الأهم، ألا وهو ترتيب أموري مع الناس بحيث أكون مطمئناً أنني لم أظلم أحداً أو لم أرد لأحد حقه، كان الأمر أشبه بعمل مراجعة شاملة لكامل التعاملات والقرارات مع الجميع، هذا ما قادني إلى مراجعة مكتبتي وإعادة الكتاب إلى أستاذي في اليابان.

وجاء يوم العملية، وكانت شهادة التوحيد هي آخر كلمة قلتها قبل التخدير الشامل وانقطاعي عن الدنيا، استيقظت بعد ساعات بشكل مفاجئ وشعوري كميت عاد للحياة من جديد، ورغم نجاح العملية، فقد مررت بمضاعفات خطيرة جعلتني على حافة الموت وهي حالة تحصل لشخص واحد من بين كل عشرة آلاف شخص يجرون العملية، وطوال الليل كانت زوجتي الوفية مرابطة إلى جواري وعائلتي من بعد يتابعون حالتي مع الأطباء والفريق المختص، كانت لحظات لا تنسى علمتني الكثير وأعادت تعريف المفاهيم والأوليات لدي، أتذكر كلمات الطبيب لي: "هذه العملية كانت بمثابة الكرت الأصفر لتنبيهك ومراجعة نفسك، ولكن احذر لأن الكرت الأحمر سيعني الطرد والخروج النهائي".

وختاما، من المهم أن تنجح مهنياً وأكاديميا وتحقق أكبر الإنجازات، ولكن إياك أن تنسى أسرتك وصحتك ونفسك، ومهما انغمست في مشاغل الحياة، عش حياتك بحيث تكون جاهزاً للقاء الله في أي لحظة!