الفنان اللبنانى رفيق على أحمد: الرقابة على الإبداع هى الموت نفسه وهى ألد أعداء المسرح

استمرارًا لتقليد سنته الهيئة العربية للمسرح منذ سنوات متمثلًا فى الاحتفاء بيوم المسرح العربى والذى حددته بالعاشر من يناير كل عام، اختارت الهيئة الفنان اللبنانى رفيق على أحمد لكتابة وإلقاء كلمة المسرح العربى للعام ٢٠٢٢. والفنان رفيق على أحمد هو أحد كبار المسرحيين العرب، قدم العديد من الأعمال المسرحية، سواءً من إخراجه أو من إخراج آخرين. وهو من الفنانين المهمومين بحال المسرح العربى والمؤمنين بدوره فى كشف عيوب المجتمع والحريصين على هويته الخاصة. 

من سطور كلمته الطويلة اخترنا هذا المقطع الذى يربط فيه رفيق على أحمد بين الكشف عن عيوب المسرح العربى وكيفية النهوض به فى ظل عالم سيطرت عليه وسائط وجائحات كثيرة... يقول رفيق: 

أسباب كثيرة أدت إلى ابتعاد الناس عن المسرح، منها ما يتعلق بالواقع العام، ومنها ما يخص أهل المسرح وصناعه، وإذا كانت الأعمال المسرحية مرآة المجتمع فأبناء مجتمعاتنا لا يرون أنفسهم ولا واقعهم فى هذه الأعمال. ومن أهم أسباب هذه الغربة هو «التغريب» الذى وقع فيه كثيرون منا، إذ إن تقليد الأساليب الغربية من قبل بعض المسرحيين تطلعًا «للعالمية» وطمعًا بالجوائز، بات موضة ودليلًا على الحداثة و«العصرنة»، وللأسف فإن الكثير من المهرجانات المسرحية العربية تسهم فى تشجيع هذه الظاهرة، حيث تمتلئ القاعات بالمسرحيين المشاركين بأعمال يسمونها «نخبوية» فى ظل غياب مؤسف للجمهور الذى من أجله وجد المسرح، بل إن بعض «المسرحيين» يذهب فى تنظيره الغريب المجحف إلى حد القول إن الجمهور ضد المسرح والمسرح ضد الجمهور!

كأن المسرح لا تكفيه التحديات الكثيرة التى تواجهه فى عصر الذكاء الاصطناعى، حيث تحل الأجهزة الآلية مكان البشر، ويواجه الإبداع الفنى تحدى التفاعل مع التكنولوجيا الحديثة، تأتى هجرة جيل كامل من المسرحيين إلى الأعمال التليفزيونية بحثًا عن فرصة عمل ومصدر رزق أو جريًا وراء نجومية تائهة. هذا الأمر خلق فجوة واسعة بين الأجيال، وأدى إلى فقدان حلقة وصل أساسية بين جيلين: الرواد والشباب. وكما هو معلوم فإن التواصل المباشر بين الأجيال أمر مهم وضرورى لا تعوضه النظريات والدروس والكتب مهما بلغت من الجودة والقيمة.

ولا يسعنى فى اليوم العربى للمسرح سوى التساؤل عن أسباب استمرار غياب التربية الفنية والمسرحية عن مناهجنا الدراسية اللهم إلا قلّة منها؟ والتمادى فى تهميش المسرح وتجاهله من قبل العديد من وزارات الثقافة فى بلداننا العربية، وعدم دعمها الأعمال المسرحية الجادة والمجددة بذريعة شح الميزانية ونقص الإمكانات، فيما نلاحظ كيف تُصرَف الأموال الطائلة على أمور سطحية واستهلاكية تافهة، وكأن الأمم والشعوب تنهض وتتقدّم بلا آدابها وفنونها وفى مقدمها المسرح!

أما الطامة الكبرى والدائمة فهى الرقابة المستمرة على الإبداع المسرحى، وهى رقابة برءوس متعددة مثل كائن خرافى: رقابة رجال السياسة ورجال الدين ورجال الأمن وسواهم من «رجال» يقفون سدًا منيعًا فى مواجهة رجل واحد، هو رجل المسرح أينما كان فى هذه المدينة أو تلك، على هذه الخشبة أو سواها، ويضعون الحواجز والعثرات فى طريقه. وإذا كان مَن يراقب الناس يموت همًّا، فإن الرقابة على الإبداع هى الموت نفسه، وهى ألد أعداء الفعل المسرحى. لأن الإبداع صنو الحرية. لا إبداع بلا حرية، لا مسرح، ولا حياة. 

الرقابة من أى نوع كانت هى اعتداء على حرية المبدع المسرحى، لأنها تعطيل لإبداعه وحكمٌ عليه بالولادة ميتًا، فالمسرحى متى خضع لأوامر السياسى أو الفقيه تعطل دوره كباحث وناقد ومحاور وتحول إلى مجرد موظف «رسمى» يتلقى التعليمات وينفذ الأوامر…وكفى الله «المسرحيين» شرّ القتال!

لا، ليس هذا ما يريده أهل المسرح، ولا هذا ما يرضيهم أو يقبلون به، لأنهم خط الدفاع الأول عن الحرية، مثلما هم خط الدفاع الأول عن الحب والخير والجمال، أى عن الحياة، وإلّا لما كان المسرح أبا الفنون.

الكلام على المسرح فى يومه العربى كلامٌ ذو شجون، ما إن تسطّر فكرة حتى تداهمك أختها. فمن الرقابة إلى ضعف الإمكانات المادية التى تشكل حجر عثرة وعائقًا أساسيًا أمام صناعة المسرح. وبرغم الإشارة والإشادة بكل المؤسسات والهيئات الداعمة معنويًا والمانحة ماديًا للمسرحيين العرب، يظلّ التوجس مشروعًا من أن يميل هؤلاء المسرحيون إلى إنتاج أعمال «نخبوية» يتمحور هدفها من المشاركة فى المهرجانات حول الحصول على جائزة مادية أو معنوية.

إن المسرحى الحقيقى المهجوس بالتعبير، من خلال المسرح، عن همومه وهموم ناسه لا يقف عند حدود ومصاعب، بل يبقى دائمًا فى شغف وترصد دائمين لواقع مجتمعه، وفى علاقة عضوية مع محيطه، يحكى لغة ناسه، لكنه فى الوقت عينه ينفتح على ثقافات الآخرين لينهل منها ما يغنّى تجربته التى تقربه من جمهوره وتقرب الناس من مسرحه وتخلق ذاك الحوار المرجو والتفاعل المنشود.

أتوجه إليكم برسالتى هذه، وأنا آتٍ من بلد تتنازعه المصائب والنوائب والتشظيّات السياسية والطائفية. بلد من زمن عزه، يوم كان يطلق عليه وطن الإشعاع والنور وصولًا إلى يومنا هذا لا تزال عاصمته تفتقد لقاعة مسرحية تبنيها وتتبناها الدولة أو الهيئات المحلية من بلديات وسواها، فضلًا عن غياب جهات إنتاجية داعمة للمسرحيين، باستثناءات نادرة من هنا وهناك، ومع ذلك ورغم قساوة الزمن فإن هذه المدينة العصيّة على الموت «بيروت» لا تزال تنتج سنويًا ما بين ثلاثين إلى أربعين عملًا تتنوع وتتوزع على شتى المدارس والأساليب المسرحية المختلفة. حتى فى المهرجانين المسرحيين الأخيرين فى عامى ٢٠١٧ و٢٠١٨ اللذين أقيما تحت شعار «مهرجان المسرح اللبنانى» برعاية معنوية ومادية من قبل «الهيئة العربية للمسرح» تم اختيار ثمانية أعمال من بين أكثر من عشرين عملًا مسرحيًا كانت قد عرضت للجمهور خلال العام بعد أن تم إنتاجها بموازنات مادية بسيطة، وبحماس وجهد عظيمين من قبل شباب شغوف بانتمائه للمسرح، وانتمائه للحياة.

أستطيع القول، انطلاقًا من تجربتى الطويلة، بأن المسرح رغم كل معاناته ما زال فاعلًا ومؤثرًا وجاذبًا للجمهور. فبرغم الحواجز النفسية التى تفرضها الحدود الجغرافية المصطنعة، أو تفرضها السياسة ومصالح الساسة، يبقى المبدعون فكرًا وفنًا وثقافة وعلى قدر استطاعتهم، ورغم ضيق هوامش الحرية والإمكانات، صلة خير بين شرائح مجتمعاتنا وبناة جسور تواصل وتفاهم بين شعوبنا.

المسرح، كما تعلمون، ورغم مساحته المحددة والمحدودة، يصبح بإبداع صنّاعه ومخيلة متفرجيه أرحب من الحياة نفسها، ويغدو فضاءً لا حدود له، يحتوى الوجود الإنسانى كله، وفى الوقت نفسه يظل مكانًا للتواصل الواقعى والتلاقى المباشر بين البشر على اختلاف ميولهم وأهوائهم وأفكارهم. 

ولعل السؤال الأكثر إلحاحًا الذى يواجهنا كمسرحيين عربًا هو كيف نعيد وصل ما انقطع مع أجيالنا الشابة التى تتطلع لمشاركتنا هذه المسئولية؟ إذ إن استعادة الجيل المأخوذ بـ«السوشال ميديا» ولغتها وإشاراتها ورموزها، والمستلب من لغته وثقافته وهويته، مهمة شاقة لا يقوى عليها المسرح وحده، وإنما هى مهمة كل المشتغلين فى الشأن العام. لكن ربما علينا، نحن أهل المسرح وصنّاعه، أن ننزل إلى الشارع ونرصد هواجس الناس وهمومهم وتطلعاتهم ونحولها أعمالًا فنية جذّابة تكون مرآة يرى الناس أنفسهم فيها دون تقليد أعمى للغرب، ولا إغراق فى الموروث الشعبى، بل وفق مقولة المهاتما غاندى: أشرع نوافذى لكل ثقافات العالم شرط ألا تقتلعنى من أرضى.

نريد مصالحة شبابنا عبر مسرح بسيط، لا مُبَسَّط، يجعلنا نرى صورة ناسنا وواقع مجتمعاتنا. وأن يكون هذا المسرح بصيص أمل فى ظل ظلام التطرف بشقيه الأصولى والاستهلاكى، وفى مواجهة التعصب الأعمى والكراهية المتعاظمة من الإنسان لأخيه الإنسان، وما ينتج عن هذا الواقع المظلم من خراب جماعى عصى على الإصلاح وإعادة البناء.

نحن فى أمسّ الحاجة إلى مسرح يهدم الحواجز النفسية والجغرافية بين البشر، ويقيم جسور التفاهم المتبادل بين الأخوة.

ولن يتسنى للمسرح تحقيق ما يصبو اليه إلّا إذا كان حرًا لا يعترف برقابة، ولا تحده حدود، لينتج ويقدِّم ما يُعبِّر عن هويتنا الثقافية والإنسانية التى تشكّل مكوِّنًا عضويًا من هوية العالم برمَّته.

ننتصرُ للمسرح ولحريته، ننتصر للحياة.

تاريخ الخبر: 2022-01-02 20:25:27
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 53%
الأهمية: 64%

آخر الأخبار حول العالم

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:39
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 56%

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:45
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 67%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية