الساحل الغني كنموذج لمكافحة تغير المناخ | آخر الأخبار


تحولت كوستاريكا "الساحل الغني بالإسبانية"، لقبلة للعالم كأهم الدول التي تسير منذ أكثر من خمسين عاماً على خطاً ثابتة في السياسات البيئية التي تصب اليوم في مقاومة خطر التغير المناخي والاحتباس الحراري الذي يهدد كوكبنا.

تقع كوستاريكا في وسط القارة الأميركية، تحدها شمالاً نيكاراغوا، ومن الجنوب الشرقي بنما وغرباً المحيط الهادي، ومن الشرق البحر الكاريبي.

وتمتد بين خطي العرض 8 و 12 شمال خطّ الاستواء، وتتمتع بمناخ معتدل بشكل عام على مدار السنة، لكنه يتغير اعتماداً على معدلات هطول الأمطار والارتفاع والتضاريس.

وتبلغ مساحتها حوالي 51 ألف كيلو متر مربع، ما يعادل تقريباً خمسة أضعاف مساحة لبنان ويبلغ عدد سكانها خمسة ملايين نسمة في عام 2019، وتعتبر من الدول ذات معدلات الأعمار المرتفعة والتي تصل لنحو 79.3 عاماً.

في عام 1948 أعلنت الحكومة الكوستاريكية حل الجيش بشكل كامل، وتحويل ميزانيته للتعليم والصحة والتنمية، الخطوة التي جعلتها وقتها حالة فريدة، تثير اهتمام الكثيرين حول العالم.

حققت كوستاريكا معدلاً متقدماً في مستوى التنمية البشرية حسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وعلى السلم البيئي احتلت المرتبة الخامسة عشرة في عام 2006، والخامسة في 2008، والثالثة في 2010 على مستوى العالم، نتيجة لتحقيقها المعايير الخمسة لقياس مستوى اهتمام الدول بالبيئة.

وعلى مؤشر الكوكب السعيد احتلت المرتبة الأولى عالمياً لمرتين في عامي 2009 و2012، ومن المتوقع أن تتصدر القائمة في عام 2050 على هذا المؤشر.

بينما حصلت كوستاريكا ممثلة برئيسها "كارلوس ألفارادو" والبالغ من العمر 41 عاماً، عام 2019 على جائزة أبطال الأرض، وهي أعلى جائزة في العالم تمنحها الأمم المتحدة تقديراً للجهود المقدمة للحفاظ على كوكب الأرض، والذي يقود سياسة مفادها أن حلول ظاهرة الاحتباس الحراري تتلخص بالتخطيط الطويل الأمد المستدام.

في عام 2007 أعلنت الحكومة عن خطة واعدة لجعل الساحل الغني بلداً خالياً من ثاني أوكسيد الكربون، وحققت كوستاريكا خطتها خلال هذا العام الجاري رغم أزمة كورونا التي تعصف العالم، وتحولت لبلد خالي من غاز ثاني أوكسيد الكربون بنسبة 99%، وفق عدة مؤشرات دولية، نتيجة استخدام الطاقات المتجددة.

 

المدينة الناعمة

 

تشكل كوستاريكا ما يقارب من 0.1% من مساحة سطح اليابسة، وتعتبر من البلدان الغنية بالنباتات والحيوانات بمختلف أشكالها، إضافة لشواطئ ساحرة، وتنفرد بـ 5% من التنوع البيولوجي في العالم، وتشكل المساحات الخضراء العامة والمحميات الطبيعية بـ 25 بالمائة من مساحة البلاد، في حين يبلغ معدل المساحة الكلية للمناطق المحمية في الدول النامية بـ 13%، وفي الدول المتقدمة بـ 8%.

مع بدايات القرن العشرين كانت الغابات تغطي مساحات واسعة، ثم تعرضت لحملات إزالة واسعة بحجة التجارة والتوسع، بعد ذلك بدأت حملات واسعة لإعادة إحيائها، وقدرت مساحة الغابات في عام 1980 بـ 20%،  واليوم تغطي هذه الغابات 55% من إجمالي المساحة، وفي 2005 تمكنت من تقليص معدل إزالة الغابات إلى صفر بالمائة الأمر الذي يجعلها اليوم واحة، تطل خضراء عند البحث عنها على  "غوغل ماب".

تعتمد الحكومة الكوستاريكية على خطة تنمية مستدامة متكاملة متوسط وطويلة الأمد بالشراكة مع القطاع العام والخاص والمجتمع المدني، إضافة للانفتاح على الاستثمارات الأجنبية، هذه الخطة حققت قفزات تدريجية نوعية للبلاد.

جوهر الخطة يعتمد على منح السلطات المحلية إمكانية وسهولة العمل بشكل يتماشى مع طبيعة كل منطقة بيئياً وجغرافياً، في ضوء خطة حكومية عامة، فعلى سبيل المثال  أطلقت بلدية "كوري دابات" أو المدينة الناعمة، والمجاورة للعاصمة "سان خوسيه"، مشروعاً رائداً، قوامه تجديد المدينة بشكل يتلائم مع مخاطر ظاهرة الاحتباس الحراري، ما حولها لمدينة تمتص ثاني أكسيد الكربون الضار بالبيئة أكثر مما تنتجه، واستطاعت انجاز مئة حديقة عامة خضراء تتماشي مع البيئة المحلية لسكان المدينة البالغين خمس وستين ألفاً، ليتحول نصيب كل فرد فيها لأكبر نصيب فرد في العالم من المسطحات الخضراء، كما سمحت المساحات الخضراء التي جرى العمل على تجدديها لعودة الرونق الطبيعي للنهر الذي يخترق المدينة، ما حافظ على التنوع الحيوي فيه، والذي يهدف أيضاً إلى إعادة جميع أشكال الحياة الحيوانية، التي تضاءلت نتيجة المدّ العمراني.

يعتبر القائمون على هذه الخطة أن مشروعهم هو رؤية للعالم بأكمله تنسجم مع رؤيتهم الخاصة لمدينتهم، وهي نظرة حديثة تذهب إلى أن عودة المدينة لتنوعها التاريخي مع مراعاة الحلول الخضراء والزرقاء، يعتبر أحد أبرز عوامل مكافحة تغير المناخ.

في الأربعين السنة الماضية انتشرت في كوستاريكا الأشجار القادمة من إفريقيا وآسيا وجنوبي أوروبا، بالمقابل شهدت السنوات الماضية عودة للزراعات المتجددة ولزراعة للأشجار المحلية، نتيجة توصيات مراكز الأبحاث الزراعية التي تشجع على زراعة الأشجار البيئية، التي نمت في الغابات المحلية واندمجت مع الظروف المناخية المحلية و شروطها،  إضافة لذلك تجري محاولات لتطويرها لجعلها أكثر تحملاً لقلة المياه وللظروف المناخية القاسية.

كما تنتشر ثقافة الحدائق المنزلية الاستوائية بشكل كبير بين أفراد المجتمع، وأصبحت أسلوب حياة لدى الكثيرين من فئة الشباب، والتي كانت تعتمد بشكل رئيسي على الأسمدة والمبيدات الحشرية الكيماوية، أما اليوم فتنتشر الأسمدة العضوية الطبيعية.

وتشجع الحكومة تصنيع هذه الأسمدة منزلياً عن طريق تقديم تجهيزاتها اللوجستية مجاناً، إضافة لدورات تعليمة لتحويل النفايات المنزلية لأسمدة عضوية مفيدة للحدائق المنزلية.

وعلى الرغم من إجماع الخبراء عن سير بلادهم بالاتجاه الصحيح، فإنهم مازالوا يعانون من مشاكل معقدة، أبرزها استخدام المبيدات الحشرية الكيماوية، في زراعات البن والأناناس والموز، وتعتبر كوستاريكا أكبر مصدر للأناناس في العالم، مما يعود بمردود عالي للعاملين في هذا القطاع، كما تعتبر أعلى دولة في العالم تستخدم 52 كغ من المبيدات لكل هكتار مزروع، الأمر الذي يدفع الحكومة للبحث عن حلول جذرية لهذه المشكلة، بشكل يحافظ على المردود الاقتصادي منها.

 

السياحة البيئية

 

غالباً ما تعكس السياحة توجه الدولة وسياساتها، وبعد تراجع الغابات في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، عادت الحكومة لوضع خطة تحث السكان على الاستثمار في السياحة البيئية، بعد تأمين الشروط اللازمة للمستثمرين المحليين، ما دفع الكثيرين لإعادة إحياء الكثير من الغابات، ما جعلها قبلة للسياحة البيئية الدولية، فعلى سبيل المثال يقدم منتجع "ماكنكي" ظروفاً طبيعة خالصة للزوار، فالتنقل والمواصلات فيها يتم بالسيارات الكهربائية، ولا يوجد مكيفات هواء ولا أجهزة تلفاز، جميع الأغذية الحيوانية والنباتية المقدمة يتم إنتاجها في غابة المنتجع.

الأرباح المادية الوفيرة التي تجلبها هذه المشاريع، والتي أصبحت قبلة للسياح البيئيين من كل دول العالم، دفعت الصيادين ممن امتهنوا الصيد في الغابات الاستوائية وسيلة لكسب المال، لترك هذه المهنة والتحول نحو السياحة البيئية!

 

الطاقة

 

تعتبر كوستاريكا بلداً غنية من ناحية المناخ والجغرافيا، فالرياح الملائمة لتشغيل العنفات الريحية منتشرة في جميع أنحاء البلاد، كما أن مواصفات شدة الإشعاع الشمسي و استمراريتها تجعلها مصدراً لا ينضب للطاقة، إضافة لانتشار البراكين، التي تجعل استثمار الطاقة الحرارية الكامنة في طبقات الأرض أمراً متاحاً واقتصادياً، وينتج قطاعات الكهربا ضعف الطلب الوطني.

لم يكن الحديث عن تغير المناخ وغازات الدفيئة في خمسينيات القرن المنصرم موجوداً في غالبية الأوساط السياسية والعلمية حول العالم، فالنقاش خرج للعلن سياسياً في أوربا في ثمانينيات القرن العشرين.

بخلاف دول العالم جاء النقاش حول أهمية الحفاظ على التنوع الحيوي وحماية البيئة في صناعة السدود المولدة للطاقة الكهرومائية مبكراً وشكل هاجساً منذ عام 1949 تاريخ تأسيس شركة الكهرباء الحكومية، والتي اعتمدت على استخدام الموارد المتاحة، والحفاظ على التوازن بين مصادرها، هذه السياسات حققت تنمية متوازنة في قطاع الطاقة وملحقاته.

فعلى سبيل المثال يعتبر سدّ "ريفونتازون" والذي يولد 8% من الكهرباء الإجمالية للدولة، مثالاً يحتذى به حول العالم من قبل الشركات الهندسية، نتيجة مراعاته  لشروط حماية البيئة والتنوع الحيوي، حيث تم الحفاظ على مجرى خاص من جسم النهر لاستمرار حياة الأحياء المائية والبرمائية، بعيداً عن العنفات المولدة للكهرباء، إضافة للحفاظ على الهوية الثقافية والحضرية للنهر الذي أنشأ عليه السدّ، نتيجة استخدام طرق حسابية مبتكرة، للحفاظ على تدفق النهر بشكل شبه طبيعي بما يضمن استمرار الأنشطة البشرية كصيد السمك والسباحة وركوب الزوارق والسياحة البيئية، إضافة لاستثمار مياهه لتوليد الطاقة الكهربائية.

من ناحية أخرى يشهد قطاع السيارات الكهربائية نموا متسارعاً منذ سنوات، ويزيد عددها اليوم عن ألفي سيارة، ما يشكل نحو 1% من إجمالي عدد السيارات، وتنشر قرابة سبعين محطة شحن لها، تغطي جميع أنحاء البلاد، ويشهد هذا القطاع اليوم نمواً أسيّاً، ومن المتوقع أن تغطي ما يزيد عن 50% من السيارات الإجمالية حتى عام 2032.

وفي هذا السياق تشجع الحكومة استخدام هذه السيارات الحديثة السيارات عن طريق تخفيض تكلفة شحنها بنسبة 65%، ويعتبر هذا السوق هو القطاع الوحيد الذي لم يحقق خسائر اقتصادية أثناء أزمة كورونا، ما يعكس إقبالاً واسعاً عليها رغم الأزمة التي تعصف بالعالم.

 

السياسة

 

تعتبر كوستاريكا من أكثر دول العالم دفاعاً عن السياسات البيئية ونموذجاً للدول النامية، التي تعاني من تلوث كوكب الأرض، رغم مسؤوليتها القليلة عن هذه الملوثات.

وترى وزيرة البيئة الحالية أن معالجة الأمر يتعلق بالرؤية والتخطيط طويل الأمد، فدول أمريكا الوسطى تعاني من الظواهر المناخية الشديدة، كالأعاصير التي تزهق آلاف الأرواح سنوياً، وتسبب دماراً في البنية التحتية، وتخلف نزوح آلاف السكان المحليين، وترى الوزارة أن الحل هو باعتماد خطط مبتكرة تقوم على حماية البيئة والتحول نحو الاقتصاد البيئي.

وفي ذات السياق قدم الرئيس الكوستاريكي مقترح خطة لقمة المناخ التي جرت في شهر تشرين الثاني من العام الجاري في العاصمة الاسكتلندية غلاسكو، تتضمن وجوب قيام كل حكومة في العالم بالتعهد بتحويل ثلاثين بالمائة من مساحة اليابسة والمياه لمحميات طبيعية، كمحاولة للتخفيف من مخاطر تغير المناخ.

 

الماضي

 

تعتبر كوستاريكا اليوم الأفضل ديمقراطياً في أمريكا اللاتينية، وتصنف من أقدم 22 دولة ديمقراطية في العالم.

غالبية السكان من البيض بنسبة 94% و 2% من أصول إفريقية و  0.8% من أصول هندية، والباقون من أصول أخرى متنوعة. ويشكل الروم الكاثوليك غالبية السكان بنسبة تقترب من 70.5%، وينتمي 4.3% لديانات أخرى كالصينية والهندوسية والإسلام واليهودية، ويقدر اللادينيون بحوالي 11.3%، ويتكلمون الإسبانية كلغة رسمية بلهجتها الكوستاريكية، إضافة لوجود عشر لغات أخرى مسجلة، وعبر تاريخها كانت ملاذاً للاجئين من الصراعات السياسية في دول أمريكا اللاتينية، التي أعطاها تنوعاً ثقافياً غنيناً.

بدأ الاستيطان الاسباني فيها مع وصول كريستوفر كولومبس في عام 1502، وعانى سكانها من سياسات استعمارية مجحفة ومن العبودية التي كانت منتشرة حول العالم وقت ذاك، وبعد خروج التاج الاسباني منها، تناوبت عليها عدة جهات، ففي عام 1856 احتلتها قوات جاءت من الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن تم تحريرها بشكل كامل، وجرت أول انتخابات وصفت بالحرة وقتها في عام 1889، واستمرت الدولة المستقلة، بعيدة عن العواصف السياسية والانقلابات العسكرية نوعاً ما، والتي انتشرت  في دول أمريكا الجنوبية والوسطى في القرن التاسع العشر والنصف الأول من القرن العشرين.

تعتبر كوستاريكا مستقرة اقتصادياً، ذات معدل تصخم معتدل، وقدّر معدل النمو الاقتصادي بـ 2.6% في عام 2017، ويتميز الناتج المحلي الإجمالي بأنه مرتفع يتميز بالاعتدال المدروس، حيث ارتفع من 41.3 مليار دولار أميركي في عام 2011، إلى 52.6 مليار في 2015، وفي 2017 وصل لـ 61.5 مليار، فيما يقدر الناتج الإجمالي التقديري للفرد اليوم بـ  12382 دولار وهو أحد مقاييس القوة الشرائية للفرد.

تضم كوستاريكا ذات الخمسة ملايين نسمة سبع جامعات حكومية وعدد من الجامعات الخاصة، أعرقها جامعة "دي كوستاريكا" الاسم الجديد لجامعة "سانت توماس" التي تأسست في عام 1843، وتضم الآن في ثناياها ما يزيد عن 40 ألف طالب جامعي وأكثر من ثلاثة آلاف مدرس.

عمر هذه الجامعة والذي يزيد عن مئة وخمس وسبعين عاماً، جعلتها منطلقاً لتكون منارة لتأهيل الكوادر عالية المستوى لقيادة البلد، وتوجيه التنمية فيه بما يتلاءم مع موارد البلد وإمكانياته، وتحولت هذه الجامعة لتكون قبلة للباحثين عن حلول الاستدامة المنسجمة مع الإمكانيات المحلية للمجتمعات.

 

بقلم مؤيد الشيخ حسن، عضو مجلس إدارة جمعية الطاقة والتنمية وحماية البيئة الفرنسية.

 

                                                                                                                                                                                                                                                                                          

تاريخ الخبر: 2022-01-14 10:20:02
المصدر: CNBC عربية - الإمارات
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 76%
الأهمية: 78%

آخر الأخبار حول العالم

إضراب وطني جديد يشل قطاع الصحة بالمغرب

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-13 15:26:35
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 52%

إضراب وطني جديد يشل قطاع الصحة بالمغرب

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-13 15:26:36
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 54%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية