هذا فضلا عن موقفه المحتمَل من فتح وحماس، إذا قُدر لبلاده العودة إلى الجامعة العربية التي علقت عضويتها بسبب قمع النظام الوحشي لمطالبات الشعب السوري بالحرية.

وقد عُرف النظام السوري باحتضانه للمعارضة الفلسطينية منذ الثمانينيات، وذلك على وقع سياسة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد الذي تبنى استخدام القضية الفلسطينية لتعزيز مكانة دمشق الإقليمية، خصوصاً وأن دمشق نادت دائماً بما يسمى السلام العادل والشامل، والتزمت اتفاقية الهدنة عام 1949، وتعهدت بحراسة حدودها مع الكيان!

واللافت أن القوات السورية التي دخلت إلى لبنان بعد اندلاع الحرب الأهلية في السبعينيات قدّمَت دعماً عسكريّاً سخيّاً للقوى الانعزالية المسيحية، بدلاً من المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة معها، لترتكب هذه القوات في 1976 مجزرة تل الزعتر بحق الفلسطينيين، الأمر الذي يدلّ على أن النظام السوري لم يكن يسعى لدعم المقاومة بقدر ما كان يسعى للهيمنة على الساحة الفلسطينية، وهو منهج يستمر هذا النظام فيه. ويعود ذلك بالأساس إلى تخوفه من استبعاده من أي اتفاق يُبرَم مع إسرائيل دون أن تكون سوريا طرفاً أساسيّاً فيه.

لعب على المتناقضات

وتبنى النظام السوري الانشقاق في فتح عام 1983 بسبب المواقف السياسية لقيادة فتح وعلاقاتها مع الأردن ومصر، ووقف ضد اتفاق أوسلو الذي وقّعَته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993. وكان السبب الكامن وراء معاداة قيادة المنظمة وفتح هو الرغبة في التحكم بالقرار الفلسطيني الذي كانت ترى أنه يغازل الأردن ومصر.

وفي هذا الوقت استثمرت القيادة السورية صعود حماس كمنافس قوي لفتح، وتوّجَت ذلك باستقبال الشيخ الشهيد أحمد ياسين في دمشق عام 1998 على الرغم من العداوة الشديدة للنظام مع الإخوان المسلمين، كما احتضنت قيادة هذه الحركة بعد خروجها من الأردن عام 1999، وقدمت لها دعماً سياسياً بالتزامن مع تسلُّم بشار الأسد للحكم عام 2000، وتناغمه مع إيران في سياساتها المعادية لإسرائيل في المنطقة، ليتشكل بعد ذلك ما سُمّي بمحور الممانعة الذي ضمّ أيضاً حماس وحزب الله.

ولكن اندلاع الثورة السورية دفع بحماس إلى مغادرة دمشق مبرّرة موقفها بعدم الرغبة في التورُّط بتأييد قمع النظام لشعبه المطالب بالحرية وارتكابه المجازر بحقه، إذ إن النظام السوري الذي كان يستفيد على الصعيد الداخلي والخارجي من دعمه للمقاومة الفلسطينية، أراد هذه المرة أن يحصل منها على ثمن سيخصم من مكانتها في شعبها وأمتها.

ورغم أن العلاقة بين الطرفين قامت على أساس مصالح متبادلة تحقّق حماس منها مكاسب سياسية عبر وجودها في ساحة مواجهة أساسية مع الاحتلال (وعسكرية أيضاً مثل الدعم الذي قُدّم لها في معركة غزة عام 2008 مع الاحتلال الإسرائيلي)، فإنها قررت التضحية بهذه المكاسب والانحياز للمبادئ، فخرجت من الساحة، حتى لا يُحسَب على حركة مقاومة أنها تقف ضد الشعوب العربية في مطالبتها بالحرية!

وأثار ذلك غضب النظام السوري، وقام بشنّ هجمات إعلامية على حماس، واتهمها بأنها دعمت المعارضة السورية بالسلاح والمال، ووصف قيادتها بأنها منكرة للجميل، رغم أن دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته ليست منّة يمنّها، بل هي التزام قومي تُملِيه عليه شعاراته التي يتغنى بها.

وما فعله هذا النظام بحماس عام في 2012 بعد خروجها إلى قطر ولاحقا تركيا، يشابه في المنهج ما فعله بمعاداة قيادة المنظمة وفتح لأنها لم تنقل قيادتها لسوريا بعد خروجها من لبنان عام 1982، ونقلتها بدلاً من ذلك إلى تونس واليمن والجزائر.

انتهازية وأخطاء متكررة

وفي المقابل، اتخذت قيادة المنظمة وفتح موقفاً مغايراً منذ بداية الثورة السورية، إذ دعا رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس منذ البداية إلى عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية، وقام بتهنئة الرئيس السوري بشار الأسد بتجديد انتخابه من شعبه المسحوق عامَي 2014 و2021.

وكشف أمين سرّ اللجنة المركزية لحركة فتح جبريل الرجوب، حقيقة الموقف في زيارته الأخيرة لدمشق التي التقى فيها الأسد، حينما قال إن حركته "رفضت منذ البداية الحرب على سوريا وكل مظاهر التدمير"، متناسياً أن التدمير والتخريب وفظاعات القتل بالبراميل المتفجرة والجرائم ضد الإنسانية هي من فعل النظام لا غيره. وأكد وقوف قيادته ضدّ إرادة الشعوب بالحرية والاستقلال.

وحتى حينما تكلم عمَّا عاناه مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، قام بتبرئة ساحة النظام السوري، والتغطية على جرائمه بحقّ الفلسطينيين والسوريين، متبنياً رواية النظام البائسة بتحميل جهات خارجية المسؤولية، في تعبير عن انحياز حركته للرسمية العربية في أشنع صورها ممثلة بالنظام السوري!

وإذا كان بديهياً أن يرحب هذا النظام بأي مبادرة للعلاقة معه، بما يعزز المطالبات بعودته إلى الجامعة العربية، فإنه من المستغرب أن يعطيه أي فلسطيني شرعية لا يستحقها، وهو الذي قتل وشرد عشرات الآلاف منهم في سوريا.

ويبدو أن قيادة فتح تسعى من تحركها هذا لسد الفراغ الذي تركته حماس في سوريا، وذلك على حطام الشعب المنكوب والمشرد هناك.

كما أنها ربما رأت أنها بمبادرتها هذه تسترضي الدول المطبعة مثل الإمارات ومصر والأردن، وتلحق بركبها في إعادة سوريا إلى الجامعة العربية.

وبهذا الموقف فإن قيادة المنظمة وفتح تكرر خطأها الذي ارتكبته عام 1990 بانحيازها إلى الرئيس العراقي صدام حسين عندما قام باحتلال الكويت لتلحق الضرر الشديد بمئات الآلاف من الفلسطينيين المقيمين هناك، وتقف خارج منطوق العدالة والحق.

خيارات الديموغرافيا

ويبدو أن النظام السوري المسكون بعقدة الشرعية المتمثلة في الأقلية الطائفية التي تحكم السوريين، يسعى اليوم لتبديل اصطفافه حينما يرفض عودة العلاقة مع حماس ويستقبل بالأحضان قيادة فتح التي قدمت كل التنازلات الممكنة لإسرائيل، والتي تتناقض على الأقل مع ما يدعو إليه النظام السوري من سلام شامل مع إسرائيل.

كما يتناقض هذا الموقف مع تحالفه مع إيران التي تدعم حماس والمقاومة ضمن محاولاتها لإحياء ما يُسمَّى بمحور الممانعة، الذي لم يعد موجوداً أصلاً، ذلك أن حزب الله تَورَّط في أوحال سوريا والعراق واليمن ليرتكب الفظاعات بحق أهل هذه البلاد، بدلاً من أن يتفرغ لمقارعة الاحتلال على حدود لبنان الجنوبية، أما سوريا فهي لا تكاد تحمي رأسها من الضربات الإسرائيلية المتتالية دون أن تتمكن من الرد عليها، لأنها منشغلة بقمع شعبها.

وربما رأى النظام أن علاقته مع حماس في هذا الوقت لا تخدم محاولات عودته إلى الجامعة العربية أو إعادة ترتيب أوضاعه إقليمياً ودولياً على اعتبار تصنيف هذه الحركة بالإرهاب. وربما راعت إيران، الموجودة على الأرض والتي تشكل درع حماية للنظام، هذا الاعتبار ولم تمارس ضغطاً حقيقياً على النظام في هذا الاتجاه.

كما أن حماس نفسها لا تبدو متشجعة للعودة رغم بعض التصريحات التي خرجت هنا وهناك، ذلك أن هذه الساحة لم تعُد حاضنة للمقاومة ولا النظام شريكاً في الممانعة، ولا الظروف مواتية أخلاقياً ووطنياً لتفعل كما فعلت فتح، ما دام هذا النظام على رأس السوريين، ما لم يتم التوصل إلى تسوية سياسية يقبل بها السوريون أنفسهم.

وسيحدد مستقبل معطيات الديموغرافيا السياسية التي تعيش فيها حماس، في ظل دول تتقاطع معها في مساحات معينة، القرار الذي قد تتخذه في ما يتعلق بالعودة إلى الساحة السورية، والذي لا يبدو أنه قرار قد يُتّخذ في المستقبل القريب، ما لم تحدث تطورات سلبية -غير مرجحة في المدى المنظور- في ساحات وجودها، تدفعها إلى اتخاذ قرار قاهر من هذا النوع، وتُضطرّ ساعتها إلى الاستعانة بإيران لتأمين عودتها إلى سوريا.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي