فعملية سجن غويران تشير إلى هذا الأمر بوضوح، فالتنظيم لم يتبع هذا التكتيك منذ مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي، لذا كان من أهم أهداف عمليّة الإنزال الجوي التي طالت زعيمه الحالي "أبو إبراهيم الهاشمي القريشي" هو القضاء على المركز، ووضع حد لإعادة تشكله من جديد.

فغياب المركزية لدى أي تنظيم قائم على أساس راديكالي، يؤدي إلى تحول عمله من الشكل العمودي إلى الشكل الأفقي، بمعنى أنّ فصائل التنظيم تتشتت إلى مجموعات صغيرة، وبدل أن تأخذ تعليماتها من الرأس تصبح تدير أمورها وتتخذ قراراتها وتنفذ عملياتها بنفسها، وتتحول إلى استراتيجية حرب العصابات، وهذا ما يرهق الجيوش المنظّمة.

الأمر الآخر، أصبح من المعروف أنّ لكل رئيس للولايات المتحدة الأمريكية عملية عسكرية تلقى صدى إعلامياً، يصرفها في ميدان السياسة الداخلية والخارجية، هكذا فعل دونالد ترمب عندما وقّع على عملية إنزال جوي تستهدف أبو بكر البغدادي في أكتوبر 2019، وكذلك فعل الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في مايو 2011 عندما أمر بعملية أسماها "جيرانيمو" تستهدف زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، لتأتي عملية أطمة التي استهدفت "أبو إبراهيم الهاشمي القريشي" من نصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن، ولا شك أنّه سيستثمرها كما استثمر من سبقوه عملياتهم.

عملية الإنزال الجوي التي نفّذت في منطقة أطمة الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام لا تعكس بالضرورة ما يشاع عن أنّ الهيئة تشكّل غطاء لقيادات تنظيم داعش الإرهابي، فعلى الرغم من أدبيات هيئة تحرير الشام التي تحتّم عليهم عدم التواصل أو التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإن حديث المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا جيمس جيفري حول أنّ هيئة تحرير الشام تُعتبر مصدر قوة استراتيجية للولايات المتّحدة في إدلب، يؤكّد بما لا يدع مجالا للشك ضلوعها ولو بشكل غير مباشر في هذه العملية وعملية قتل البغدادي من قبلها، هذا من ناحية.

من ناحية ثانية فإنّ انشطار التنظيمات القائمة على أساس إيديولوجي يخلق عداء بينها يفوق عداء الولايات المتحدة الأمريكية لتلك التنظيمات، حيث إنّ المشكلة بينهما أكبر من مشكلة الإسلاموفوبيا، وترتكز على ثلاثة أمور، أولها وأهمها الخلاف الفقهي حول فهم النصوص وتفسيرها، وبناء استراتيجيتهم على أساس هذا التفسير، وعلى اعتبار أنّ الفقه من نتاج البشر، فإنّ الاختلاف في فهم النصوص يؤدي إلى الانشطار المبني على قناعة كل طرف بهذا الفهم وإقناع الآخرين به.

وأما الثاني فهو الصراع على السلطة الناجم عن الصراع الفقهي، فالاستحواذ على السلطة يمكنهم من طرح الأفكار وإقناع الناس بها من خلال التغلّب، مما يعني أنّ الصراع على الأفكار يتحوّل إلى صراع عسكري يمكّن المنتصر من نشر هذه الأفكار عبر الخطابات الشعبوية للسلطة التي ستحكم حينها.

وثالثها هو النزعات الشخصية التي تلعب دوراً حاسماً لدى منظري تلك التيارات للجنوح إلى الانشطار، فصراع الأفكار لابد من أن يتحول في لحظة ما إلى صراع شخصي، وهذا لا يمكن إنهاؤه إلّا بتنازل أحدهما للآخر أو استمرار المعارك حتّى يتغلّب أحدهما على الآخر، وهذا بالضبط ما حصل بين زعيمي هيئة تحرير الشام وتنظيم داعش الإرهابي.

وبالعودة إلى عملية الإنزال الجوي التي نفذتها الولايات المتحدة الأمريكية فإنّ المعلومات الاستخباراتية من المخبرين الأرضيين ودخول طائرات أمريكية إلى منطقة خفض التصعيد التي تقع تحت حماية تركيا، تشير بوضوح إلى علم الأخيرة بكل تفاصيل العملية، وهذا يعكس الدور التركي في مكافحة الإرهاب ابتداء من دعم الجيش السوري الحر من خلال غرفة عمليات حوار كلس لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي منذ أغسطس/آب 2016 وحتى اليوم.

إنّ المناطق الخاضعة لنفوذ المعارضة من خلال الحكومة السورية المؤقتة ومنطقة إدلب الخاضعة لنفوذ هيئة تحرير الشام، تعاني من ثلاثة أعداء يشكلون خطراً كبيراً عليها وهم نظام الإبادة القابع في دمشق وتنظيمَي PKK وداعش الإرهابيين، ووجود خليط من المحافظات السورية كافة يقارب أربع ملايين نسمة يجعلها عرضة للاختراق الأمني أكثر من مناطق سيطرة الأسد وPKK الارهابي مجتمعين، وهذا ما جعل الخيار متاحاً أمام قيادات تنظيم داعش الإرهابي للتخفي فيها، إلى حد أنّ القوى المسؤولة عن حماية المنطقة شكّلت وحدات خاصة بتعقّب ومكافحة خلايا التنظيم، ومع ذلك فإنّ تلك الخلايا استطاعت تنفيذ عمليات بحق قياديين وإعلاميين كادت أن تؤدي إلى زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى لو لم يجرِ اكتشاف عناصرها وملاحقتهم على الدوام.

التغيير الواضح في عقلية هيئة تحرير الشام وعمل قائدها على إبعاد جميع القيادات المتصلبة فكرياً عن المشهد، فضلاً عن سعيها إلى رفع التصنيف عنها من خلال التركيز على العمل التنفيذي، وفتح الباب مشرعاً أمام منظمات المجتمع المدني بما فيها منظمات تمكين المرأة، فضلاً عن حماية المسيحيين والطوائف الأخرى والسماح لهم بممارسة طقوسهم، ووجود قوة مجتمعية لا تقبل التطرف أو الانصياع لأي شكل من أشكاله، تجعل من مهمة اختراق كبير لداعش الإرهابي في المنطقة أمراً صعباً يصل إلى حد الاستحالة، هذا بالإضافة إلى عدم وجود أي منفذ يربط داعش سوريا بداعش العراق، باستثناء الطرق التي يسهّل تنظيم PKK الإرهابي مرور خلايا التنظيم من خلالها.

في المحصلة، لا يوجد أي خطر وجودي على فصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام إذا ما جرى القضاء على تنظيم داعش الإرهابي، بعكس الهدف الاستراتيجي الذي يربط استمرار نشاط تنظيم داعش مع وجود وبقاء PKK الإرهابي في سوريا، فاستخدام الولايات المتحدة لهم في محاربة الإرهاب لن يكون له مبرر في حال القضاء التام على داعش، وبالتالي فإنّ المصلحة المشتركة الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية في إطار مكافحة الإرهاب يكون بشراكة أبناء المنطقة لا بتسليط تنظيم عابر للحدود على رقابهم بحجّة مكافحة داعش.

ويبقى السؤال الأهم في خضم تلك الأحداث، كيف استطاع القريشي والبغدادي اجتياز مناطق سيطرة PKK الإرهابي من الحدود العراقية وصولاً إلى مناطق نفوذ المعارضة السورية؟

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي