يحلو للبعض حين يتحدث عن معرض القاهرة الدولى للكتاب أن يذكر السلبيات على اعتبار أنه لو تم تلافيها فيمكن أن يكون فى هذا حالة من حالات الاكتمال، ولكن هل مَنْ يذكر السلبيات يحيط بالمشهد الكامل؟، ثم إن بعض السلبيات التى يذكرها البعض هى إيجابيات عند آخرين، مثلما ذكر بعض الشعراء عن الأمسيات التى أقيمت على هامش معرض الكتاب أمام القاعة «١»، وكان لها جمهورها وكانت تجربة تستحق حتى وإن لم تعجب البعض.

معرض القاهرة الدولى للكتاب هو جزء حقيقى وأصيل من هوية مصر، كما يقول شعاره هذا العام، وكانت شخصيتاه هما يحيى حقى وعبدالتواب يوسف، وأنا تمنيت مثلًا أن تطبع هيئة الكتاب أعمال يحيى حقى وتوزع بأسعار زهيدة لكى يعرف مَنْ لا يعرف من هو يحيى حقى، وأنه ليس فقط الروائى صاحب «البوسطجى»، ولكنه صاحب العديد من الكتب والترجمات، أما عن عبدالتواب يوسف فهو كاتب للأطفال وتوزع أعماله بسعر معقول.

مثل كل عام يكون هناك عدد من المزايدات، فمن قدم فى جائزة المعرض يرى أنه الأحق بحكم أنه يرى نفسه بعين نفسه لا بعيون لجان التحكيم، ولو نحّى رؤيته لنفسه جانبًا لرأى أن من فاز يستحق، فمثلًا سمعت شاعرين يضحكان لفوز عبيد عباس وسعيد شحاتة، وكيف أن ديوانيهما صدرا عن هيئة الكتاب، ضحكت جدًا لأن معظم الدواوين الشعرية تصدر عن هيئة الكتاب وقصور الثقافة بعد عزوف الكثير من دور النشر الخاصة عنها لأنها على حد قولها «لا تبيع وليس لها جمهور»، ومعظم الدور الخاصة التى تنشر الشعر والقصة القصيرة ينشر ديوانًا ومجموعة أو ديوانين على الأكثر حتى تكتمل الحالة، ويقول صاحب الدار إننى أنشر الشعر وإنه ليس مغتربًا.

فى المعرض هذا العام رأيت الكثير من الشعراء ينتصرون للشعر من خلال شراء دواوين أصدقائهم، ورأيت روائيين يشترون روايات أصدقائهم، ليس لأنهم قراء مجيدون ولكن لنصرة الفعل نفسه، وقرأت بعض الأفعال عن محاولة البعض حث القراء على شراء رواية إحداهن بحكم أنها اتفقت على بيع خمسين نسخة وإلا ستضطر لدفع ٢٠٠٠ جنيه للناشر، وكان هذا شرطًا بينهما.

هناك العديد من الأشياء الغريبة الفردية والمضحكة التى حفل بها معرض الكتاب، فمثلًا كانت هناك كاتبة جمعت كتب الدكتور محمد المخزنجى وذهبت للروائى محمد المخزنجى الفائز بـ«كتارا» العام السابق لكى يوقّعها لها، فضحك وأخبرها أن الدكتور محمد المخزنجى قيمة كبيرة وأنه أمامه الكثير لكى يكونه، ورأيت حالة من الاحتفاء بالكتب الفكرية والتاريخية التى فرضت نفسها بقوة وراحت تسحب البساط من تحت أقدام الرواية، وكانت الأعلى مبيعًا فى دور مثل الرواق ودون والعين والمصرية اللبنانية وغيرها.

ما لفت نظرى هذا العام هو عدد من المترجمين والكتّاب الأجانب الذين احتفوا بمعرض القاهرة الدولى للكتاب هذا العام أكثر من أهله، وراحوا يقارنونه بمعرض فرانكفورت، ويشيدون بحجم وعظمة التنظيم وما يفعله المتطوعون من الحث على ارتداء الكمامات والتعامل بجدية مع متحور أوميكرون، وما فعله جنود مجهولون لكى يخرج المعرض فى أجمل حالاته كما حدث تمامًا.

الكثير يتعامل مع المعرض على أنه سوق لبيع الكتب، لكنه أكثر من هذا بكثير، فهناك برنامج مهنى عظيم وضعه أناس لهم أبعاد معرفية وحقيقية بعالم النشر، وهناك أجواء كرنفالية مبهجة، هو لقاء بين الكاتب والمؤلف، وتخليد عظيم لتلك اللحظة بتوقيع الكتب، هو حالة من البهجة تضمن مرورًا آمنًا لعقول الكثيرين للتطور والإدراك.

يجب هنا أن نشير لمجهود جرجس شكرى، أمين عام النشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة، بإصداره ١٧ كتابًا من سلسلة الهوية التى صدر منها فى ثلاثة أعوام ٤٠ كتابًا، ولفتت انتباه الكثيرين، وأصبحت على مدار ثلاثة معارض هى الأكثر مبيعًا، الأمر الذى يضمن لقارئ تلك السلسلة التصاقًا جميلًا بوطنه ومعرفة حدوده وأبعاده وهويته وإدراك ما لم يكن يدركه، جرجس شكرى بهذا المشروع أعاد الكثير من الناس لبلدهم، ولو كانت هذه السلسلة قد صدرت قبل أعوام لردت الكثير من المتطرفين لعقولهم التى فقدت تحت ضغط السمع والطاعة.. وجرجس شكرى هو صاحب الفضل فى اختيار شعار المعرض «هوية مصر». وكان من قبل قد أصدر السلسلة تحت عنوان «سلسلة الهوية».

بقى أن نقول إن معرض هذا العام أقيم وسط تحديات كبرى أثبتت أن هذا البلد قوى بناسه، قوى بعقول مَن يدبرون أمره، قوى برؤيته واستشرافه المستقبل، قوى بأبنائه وقرائه الذين سيكون من بينهم من يحمل لواء المعرفة ويشير به للعديد من الناس.