الوجودية..والإنسان العربي
الوجودية..والإنسان العربي
منذ بضعة عشر عاما صدرت أول ترجمة عربية لكتاب الوجودية فلسفية إنسانية من تأليف جان بول سارتر.
وقبل أن ينسي القارئ العربي هذا الكتاب, صدرت ترجمات عربية أخري له, فظلت قضاياه مطروحة أمام الناس, بعد أن تخطاها الزمن,وتجاوزتها حياة الإنسان العربي بالذات..
الكتاب دفاع في الوجودية ضد الاتهامات الموجهة إليها,فناقدو الوجودية يصفونها بأنها دعوة إلي الاستسلام واليأس, أساسها أن كل الحلول مستحيلة, وإذن فالعمل في هذا العالم مستحيل, ولا جدوي منه وناقدو الوجودية يأخذون عليها أنها تبرز النواحي البشعة في الموقف الإنساني, وتصور كل ما هو قائم في الإنسان, وتهمل مواطن الروعة والجمال والإشراق في الطبيعة الإنسانية..
أما سارتر فيري أن الوجودية فلسفة متفائلة تضع الإنسان مواجها لذاته, حرا طليقا, يختار لنفسه ما يشاء.
وبهذا المعني تكون الوجودية مذهبا للعمل,ولا يمكن اتهامها باليأس.. وإذن فهي فلسفة إنسانية!
ولكن ما هي حقيقة الأمر؟,,
إن نقطة الانطلاق في الوجودية هي الصرخة التي أطلقها الكاتب الروسي دستويفسكي في إحدي رواياته إذا كان الله غير موجود, فكل شيء إذن مباح فالإنسان عندئذ وحيد مهجور,لا يجد ذاته, أو خارجها, ما يتشبث به!
وفي نهاية التحليل يصبح الإنسان بلا قيود.. حرا تماما.. بل يصبح هو الحرية!
واضح طبعا أن مقدمات هذه القضية ونتائجها, مؤسسة علي المنطق الشكلي القديم الذي يتيح لمن يشاء أن يقلب بين يديه الأفكار الكبيرة والصغيرة علي الوجه الذي يحلو له..
فالسوفسطائي القديم ـ قبل أرسطو ـ كان يستطيع أن ينقل البحر كله في إناء صغير بألاعيبه اللفظية التي لا يمكن عند التحليل الأخير لها أن تسفر عن شيء حقيقي, داخل الذات البشرية أو خارجها, علي امتداد المجتمع والكون..
ولهذا, فإن الوجودية ـ بوجه عام ـ تضرب يجذورها إلي عهد سقراط, بل إلي عهد جماعات السفسطة قبل سقراط, عندما كان الفكر يستخدم الحيل اللفظية لإثبات ما لا يمكن إثباته.. ولنفي ما لا يمكن نفيه.. مصير الإنسان ـ بداهة ـ لا يمكن أن يتعلق في هذا الكون بمجموعة من الألفاظ يتعذر الاتفاق علي معناها في مجمع لغوي واحد, أو في حلقة فلسفية واحدة, أو حتي في مقهي واحد من مقاهي باريس أو القاهرة!
تؤكد الوجودية أن الإنسان وحيد مهجور ولهذا السبب بالذات, فهو حر وهو بالتالي يملك منهجا للعمل والتفاؤل!
وبرغم إعجابنا بعبقرية الفلاسفة الوجوديين, لا نستطيع أن نفهم التفاؤل القائم علي اليأس, إلا كما فهمه قدماؤنا حين قالوااليأس إحدي الراحتين أو كما فهمه شاعرنا أبو العتاهية حين يئس من وصال محبوبته فقال
ووجدت برد اليأس بين جوانحي
فغنيت عن حل وعن ترجال
فالإنسان الذي يجد نفسه وحيدا ضائعا مخفقا ولا خلاص له من مأزقه, لن يستطيع ـ حقا ـ أن يتخذ منهجا للعمل, ولن يستطع أن يتفاءل وقد شرح سارتر نفسه هذا الموقف بقوله حكم علي الناس باليأس, لأنهم يجدون أن جميع الأعمال الإنسانية متساوية في الإخفاق, فسواء أن يتعاطي المرء كئوس الخمر في عزلته, أوينبري لقيادة الشعوب.
هذه الكلمات وردت في كتاب الكينونة والعدم الذي شرح فيه سارتر فلسفته بافاضة قبل عشرين عاما.
ومؤدي هذه العبارة ـ إذا طبقناها علي الواقع العربي ـ إن الوطني الذي يحارب أعداء بلاده يتساوي مصير جهوده ومصير جهود شخص خامل ينفرد بكأس في حانة!
وقد صدر كتاب الكينونة والعدم في فرنسا سنة 1942حين كانت تحت الاحتلال النازي..
ولهذا يقول ناقدو سارتر إن تطبيق آرائه ـ إذا راعينا تاريخ صدور الكتاب ـ معناه بالضبط أنه سيان لدي المواطن الفرنسي أن يكون مناضلا في حركة المقاومة السرية ضد النازي, أو خائنا عميلا للجستابو!!
ثمة أيضا الوجودي الديني جيرييل مارسيل يقول بصراحة إن الجلاد مثل ضحيته, والفاشستي مثل الديموقراطي, والخائن مثل البطل.. فالإخفاق مصير جميع الأعمال!
إن الفكرة الوجودية الصحيحة, فكرة الإخفاق وتساوي مصائر الأعمال, لا يمكن أن نؤسس عليها فكرة التفاؤل التي يشرحها سارتر في كتاباته..
فامتلاك ناصية الواقع, لا يأتي بالوقوف علي أرضية فلسفية تشبه الرمال المتحركة أرضية من القضايا اللفظية: القلق.. الإخفاق.. الهج.. الحرية.. اليأس.. الاختيار.. الالتزام, وما إلي ذلك من الألفاظ التي لا تصمد لأي احتكاك بواقع الحياة خارج الحلقات الفلسفية, ولا تصمد أية تجربة تتعلق بقوانين الكون والمجتمع..
إن أية فلسفة إنسانية لابد أن تؤكد قبل كل شيء أن الإنسان يستطيع أن يهزم الإخفاق واليأس.. فهذا التأكيد نفسه هو النواة الصحيحة لكل فكرة إنسانية, مهما كانت متواضعة.
ومن مسن الحظ أن الوجودية لم تستطع أن تبهرالإنسان العربي, فلم ير فيها أكثر من قضية فلسفية لا تصمد للواقع..
وهي ـ كقضية فلسفية ـ يمكن أن تبقي طويلا منارا للمناقشات اللذيذة, ولكنها لن تتعدي أبدا هذا المجال.. فكل ما يقوم علي الكلام المجرد, يظل دائما كلاما مجردا, وتمضي الحياة في طريقها..
إن سارتر نفسه قد التزم مسلكا جديدا, فبعد أن كان في الماضي نصيرا لحلف الأطلنطي, أصبح نصيرا للشعوب, بوجه عام.. وهو بمسلكه الجديد, لا يثبت الوجودية وقضاياها, بل يهدمها ويعلن إفلاسها.
إن التاريخ يتقدم, والمجتمع يتطور, والعقل يفكر ويتسلح بالعلم ويصارع الطبيعة ويخضعها للإنسان.
والشعوب لا تعاقر الخمر في الحان, بل تناضل وتبني, وهذا دليل علي أن فكرة الإخفاق مازالت حبيسة الحلقات الفلسفية الضيقة, والكتب التي تصدر عن هذه الحلقات..
إننا نرحب بسارتر في القاهرة, ونعتبر دفاعه عن السلام والحرية عملا واقعيا مناقضا في جوهره للمثالية الوجودية وما تتضمنه من تبرير أو دعوة لليأس والإخفاق وتساوي مصير الأعمال الجيدة والرديئة.