حتى منتصف ليل الأمس، كان الاعتقاد العالمي السائد هو أن الشركات العملاقة هي الجيوش الكبرى في عصر الثورات التكنولوجية وحروب الجيل الرابع، إلا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتو قد أعاد التذكير بوطأة الترسانات وجنازير الدبابات وحسمها للحروب.

تقول الروايات إن رجل الكرملين منذ 15 عاماً بالتمام والكمال وقف أمام قادة العالم وبالتحديد في مؤتمر ميونيخ للأمن وضرب بيده الطاولة التي كان يقف عليها ملوحاً بأنه "لا يمكن أن تخطونا"، مؤكداً أن النموذج أحادي القطب بالنسبة للعالم الحديث ليس بالأمر غير المقبول فحسب، بل والمستحيل أيضا، كما أن آلية صنع القرارالوحيدة بشأن استخدام القوة العسكرية كملاذ أخير لا يمكن أن تكون إلا ميثاق الأمم المتحدة.

الآن يقف رجل الكرملين أمام فوهة المدفعية مُذكراً العالم بما لم ينساه أو خطط له، ولم يسمع له أحد حينها أو يعره اعتبارا، وقد آن له الوقت ليسخر ممن أعطوه ظهورهم في محاولة لتغيير خريطة العالم الجغرافية والاقتصادية.

وعندما قال الفقيه والأديب السوري على الطنطاوي بأن "تلك هي الحرب آفة الحياة وعار الإنسانية"، ربما كان ليرى الخط الذى ربط بين بلاده السورية الذي كان يتدرب فيها الدب الروسي على خطط الصواريخ والطائرات قد تصل الآن إلى الجارة الأوكرانية وتحول المنطقة لساحة الحرب المتجددة في التاريخ الحديث.

لكن كيف بدأت الحرب؟، من بالتحديد الذي أطلق أول قذيفة وصاروخ؟، وكما كان التوقيت حينها، حيث يغط العالم في نومه ليستفيق على إثر الضجيج؟، وما هي الاستراتيجية والتكتيك العسكري الذي استعان به الروس؟، هل من البر والبحر كما جرى سلفاً مع جورجيا؟، أم بالهجمات السيبرانية التي تشهداها أول حرب حقيقية؟.

ما بعد ليس كما قبل

نحاول هنا أن نضع نقطة حول العلوم العسكرية الفنية والتقنية التي نُفذت بها "الضربة الأولى" لربما يعود التاريخ إليها مرة أخرى حينما تتبدل الأحوال، لأنه كما وصفها أحد الفلاسفة بأن ما بعد ليس كما قبل، لا سيما أن بداية الهجوم الروسي كانت عبر الخطة الروسية التي هدفت لإفقاد الخصم توازنه عن طريق إجهاض مراكز القيادة والسيطرة ومن ثم البدأ في عملية هجومية استباقية شاملة أو ما يعرف بـ Offensive counter Air (OCA).

تغيير تكتيكي

يظن الخبراء والمراقبين أن التكتيكات العسكرية الروسيه قد تجددت وأصبحت متطورة وأكثر مواكبة للحرب الحديثة نتيجة للخبرات المستفيدة من الساحة السورية وليس فقط الاعتماد على ما تم في حرب جورجيا أغسطس 2008، حيث تم الاعتماد على المدفعية من طرادات البحرية الروسية، والتي نفذت القصف المدفعي من الساحل الجورجي على البحر الأسود، بدعم من  القوات الجوية الروسية التي نفذت ضربات قاسمة للأهداف البعيدة عن مدى المدفعية، ما أفقد الجيش الجورجي السيطرة، ومن ثم بدأت هجمات انتقائية لأهداف بعينها مع تحييد الدفاع الجوي الجورجي وخطر الطيران الجوري بواسطه الدفاع الجوي الروسي.

أما الآن وفي 2022 فقد تغير الأمر إلى تكتيك لم يكن في الفلسفة الروسية من قبل.

يقول الباحث والمدون العسكري مينا عادل، إن الهجوم من الجانب الروسي بدأ بتحييد الدفاع الجوي ومن بعدها الاجتياح الجوي وتأمين ومرافقه القاذفات ومن بعدها الدوريات القتالية بالتناوب لإسقاط أي مقاتلة معادية وتقديم الدعم الجوي القريب للقوات الأرضية والمظلية والإنزال البحري ضد الدفاعات الموجودة والأعتراض الأرضي المتقدم لإجهاض عملية الدعم للقوات المضادة.

الأهم هنا، أن السيناريو الروسي المعتمد في هذه العملية تم التدرب عليه وتنفيذه بدقة في العام الماضي في شهر سبتمبر تحت اسم (ZAPAD 2021) مع بيلاروسيا، حسبما قال مينا لـ"الدستور".

كيف ومتى كانت الطلقة الأولى؟

تسلسل الأحداث بدأ بعد منتصف ليل الثالث والعشرين من فبراير، حينما تواجدت طائرتين من نوع  (Rq4 block 40 global Hawk) في الأجواء الأوكرانيه في مهمة مراقبة القوات الروسية، وهذا النوع من الطائرات – كما ذكر الباحث العسكري -  أنه بدون طيار مخصص لعمليات الاستطلاع الاستخباراتي والإشاراتي للتصنت ومنظومة كهروبصرية، وقد تواجدت لرصد ومتابعة القوات الروسية لتوقع توقيت الهجوم، تتطير هذه الطائرات في قاعدة سيجونيلا في إيطاليا.

الثالثة فجراً بتوقيت أوكرانيا

تلى ذلك في تمام الثالثة فجراً بتوقيت أوكرانيا، حيث بدأ هجوم سيبراني على المواقع الحكومية الأوكرانية لوزارة الدفاع وغيرها ما أوقف الشبكة الإلكترونية وشتتها، وإثر ذلك في تمام الساعة الرابعة فجرا بتوقيت أوكرانيا، علم الأمريكان بالهجوم ومن بعدهم الأوكرانيين، وأصدر سلاح الجو الأوكراني قرارا بوقف حركة الطيران المدني تحسبا لهجوم صاروخي، في تمام الساعه الرابعة وخمسون دقيقة بتوقيت أوكرانيا، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمراً ببدء عملية عسكرية في الدونباس.

يؤكد باحث الشئون العسكرية مينا عادل،، أن قصفا مدفعيا شديدا تم على ميناء ماريوبول في دونتسك، تبعه هجوم بواسطة الصاروخين (بي إم 30 و27) مع اندفاع الوحدات البرية للهجوم إيذاناً للبدء بتجهيز مسرح العمليات للسيطرة الجوية.

تدمير البنية التحتية

بالفعل بدأ القصف الصاروخي بصواريخ (الإسكندر إم) الباليستية التي كان تم تحريكها بالقرب من الحدود قبل يومين، وبصواريخ "الكاليبر" من البحرية الروسية بالتوازي مع الهجوم بواسطة القاذفات الاستراتيجية من طراز (تو 95 وتو 160) وصواريخ الكروز من طراز (كا- اتش 101 و555) على مراكز العمليات وقياده الجيش الأوكراني، لشل حركته وقراراته لإدخاله في صدمة وإفقاده توازن القيادة والسيطرة والمطارات لسلاح الجو الأوكراني لغرض تدمير البنية التحتية وتعطيلها عن العمل لتفقد قدراتها على إخراج واستقبال الطائرات لأطول فترة ممكنة تحت حماية من مقاتلات السيطرة الجوية من طراز (سو 30-35) من مطارات سيفاستوبول وميلوروفو ومطار بارانوفيتشي من بيلاروسيا، وقد حاولت بالفعل الدفاعات الجوية الأوكرانية في محاولة التصدي للصواريخ ولكن في النهاية فشلت بسبب كثافة الهجوم.

تحييد الدفاع الجوي

إلى هنا بدأت عملية تحييد الدفاع الجوي الأوكراني بواسطة التشويش الكثيف من القاذفات الروسية من طراز (سو 24 و34) والهجوم بواسطة صواريخ (كا إتش- 31 ) لتدمير ردارات الإنذار المبكر بعيدة المدى، ومن ثم منظومات الرادار العاملة في وحدات الدفاع الجوي في شرق أوكرانيا، كما أن الإنزال البحري تم على شواطئ أوديسا من البحر الأسود.

يوضح مينا عادل، أن بعض المقاتلات الأوكرانية من طراز (سو 27) خرجت من مطار أوديسا في مهمات اعتراض، مشيراً إلى أنها لم تفلح في إسقاط شيء، وعندما عادت كان تم تدمير مطارها وهرب على الاقل طيار إلى رومانيا، وحاولت أيضا قاذفات أوكرانيا من طراز سو 24-25 من مطار (كولباكينو) إيقاف التوغل الروسي، ولكن حسب وزاره الدفاع فقد تم إسقاطها، واستكمالا لمحاولة إيقاف الروس أيضا، خرجت طائرات بدون طيار (بيرقدار) تركية الصنع تابعة لسلاح الجو الأوكراني من مطار خيميلنتسكي، ولكن تم أيضا الإبلاغ عن إسقاطها بواسطة منظومات الدفاع قصير المدى المرافقة للقوات الروسية على الأرض.

استطلاع نتائج الهجمة الأولى 

فى هذا التوقيت، خرجت طائرات الاستطلاع الروسية من طراز (سو 24) لاستطلاع نتائج الهجمة الأولى، ومن ثم بدأ تنفيذ الهجمة الثانية من الهجوم مع التوغل السريع للقوات البرية مع مرافقة الهليكوبتر المقاتل الروسي من طراز (كا52) لتحييد أي مخاطر تواجهها، ومع اقتراب منظومات الدفاع الجوي الروسية من الحدود الأوكرانية من طراز (إس-400) تستطيع أن توفر تغطية للقوات البرية الروسية وحلفائها مع تواجد دوريات قتالية مسلحة من المقاتلات الروسية لحمايتها خوفا من مهاجمتها على ارتفاع منخفض من القاذفات الأوكرانية التكتيكية.

هنا وفي تلك الأثناء، كانت الأجواء الأوكرانية أصبحت خالية وانسحبت طائرات الاستطلاع الأمريكية، وتعمل الآن من الأجواء مقاتلات طراز (آر- سي 135) أمريكية من الأراضي البولندية لمراقبة القوات الروسية، وأخرى من قاعدة "سودا" الجوية في اليونان، ومثيلاتها البريطانية وطائرات "آي-8) والتي تعمل من قاعدة (رامستين) في ألمانيا، وهي طائرات مخصصة بقدرات للاستطلاع الاستخباراتي والإشاراتي المتقدمة، لرسم صورة كاملة للوضع في الميدان لتقييمه والدعم المعلوماتي والاستخباراتي للأوكرانيين لمساعدتهم في معركة الاستنزاف ومحاولة إدراك الموقف وإعادة التنظيم، وبالأخص في وسط وغرب أوكرانيا، إذ ما زالت الدفاعات الجوية الأوكرانية تمتلك شبكة قوية من الممكن أن تعطل الطيران الروسي ومن الممكن أن تكون هدفا في خلال ساعات بضربات أخرى.

في تلك الأثناء، ربما قد نجح الجيش الروسي في الاستفادة من الخبرات المكثفة في سوريا لاستخدام الطيران والدفاع الجوي وحتى الهجوم الصاروخي ضد المنظومات الغربية في مسرح عمليات متعدد المنظومات، لذلك أدار المعركة بجودة عالية في التخطيط والتنفيذ، ولم يترك للأوكران أي خيارات سوى معارك الاستنزاف وتغطيتها بطائرات بدون طيار على الأرض، بجانب العمل على إعادة تنظيم الدفاعات الجوية، لتستطيع أن تقدم الحماية لأطول وقت ممكن لسلاح الجو الأوكراني لإصلاح مدارج الطيران وإخراج بعض المقاتلات التي تقدم التغطية والقاذفات التي تقدم الدعم للقوات الأرضية، مع محاولة إخراج الطائرات من مدارج طائرات سرية أو حتى استخدام شبكة الطرق الممهدة لذلك الغرض.

ويختتم مينا عادل هنا في حيثه لـ"الدستور"، بأن الأوكرانيين قد تدربوا على هذا الأمر سنة 2020، وتستطيع مقاتلات (ميج 29) الأوكرانية أن تقوم بعمل كمائن جوية لطائرات الاستطلاع الروسية والقاذفات لإلحاق الخسائر بالقوات الروسية وتعطيل وتيرة الهجوم.