تحظى أوكرانيا، وكييف خصوصاً، بأهمية خاصة بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، لدرجة أنه عندما دخل الشعب الروسي في المسيحية الأرثوذكسية في نهاية القرن العاشر، كان من المقبول أن يكون المركز الأرثوذكسي الأول هو كييف. لذلك، بصرف النظر عن أطروحة القوميين الروس بأن الشعب الأوكراني تاريخياً جزء لا يتجزأ من الهوية الروسية، فإن أوكرانيا جزء لا يتجزأ من المسيحية الأرثوذكسية الروسية لكنيسة موسكو.

وفي أوكرانيا، حيث 78% من السكان هم من الأرثوذكس، كانت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية تابعة تقليدياً للكنيسة الأرثوذكسية الروسية منذ عام 1686 وحتى انفصالها عنها عام 2018 بسبب الغزو الروسي للقرم عام 2014، وبذلك قُبلت الكنيسة الأوكرانية رسمياً ككنيسة مستقلة.

وبطبيعة الحال، اعتبرت كل من كنيسة موسكو والإدارة الروسية هذا الانفصال بأنه مؤامرة غربية لفصل أوكرانيا عن روسيا ليس سياسياً وحسب، بل أيضاً ثقافياً ودينياً. وهو ما دفع البعض للاعتقاد أن فلاديمير بوتين وحربه الحالية على أوكرانيا ما هي إلا محاولة لتحسس خطى جده فلاديمير الأول (الكبير)، أمير كييف بين عامي 978 و1015، الذي اعتنق المسيحية بعدما كان وثنياً وجعلها ديانة شعبه.

على خطى جده فلاديمير الكبير

في أعقاب اعتناق فلاديمير الأول (الكبير) المسيحية رغبةً في بناء حلف سياسي مع باسيل الثاني، إمبراطور بيزنطة، الذي طلب منه اعتناق المسيحية شريطة قبول زواجه من شقيقته الأميرة آنا، أمر فلاديمير بتأسيس بطريركية كييف لتكون مركز نشر للأرثودكسية في عموم الإمبراطورية الروسية التي كانت تدين بالوثنية.

ونظراً للرمزية الكبيرة التي تحظى بها الكنيسة وكييف عموماً في وجدان الروس وتاريخهم الديني، يرى القس البريطاني جيل فرايزر أن بوتين يطمح لاستعادة كييف، "المدينة الأم للأرثوذكسية الروسية"، في محاولة لاستعادة أمجاد فلاديمير الكبير، بحسب مقال نشره على موقع "أن هيرد" يحمل عنوان "مصير بوتين الروحي".

وعلى الرغم من تراجع دور الكنيسة في روسيا خلال حقبة الاتحاد السوفيتي، إلا أنها بدأت في استعادة جزء من نفوذها خلال التسعينيات، لكنها في عهد بوتين حظيت بفرصة استعادة صدارتها وباتت تعتبر رمزاً من رموز قوة بوتين، حيث استخدمها لتعزيز مكانته ولدعم سياساته الداخلية والخارجية.

حرب الكنائس

حتى عام 2018، كانت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية تابعة رسمياً إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، لكن العلاقة بين الكنائس الأرثوذكسية في أوكرانيا وروسيا قد تغيرت منذ عام 2019 بعد أن اعترف بارثولوميو الأول، البطريرك المسكوني الحالي ورئيس الكنيسة الأرثوذكسية الواقعة على ضفاف خليج القرن الذهبي بإسطنبول والمعروفة باسم "الفنار"، باستقلال الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية.

وما أن أُعلن عن قرار الانفصال، حتى وصف الرئيس الأوكراني السابق بترو بوروشينكو الأمر بأنه "انتصارٌ للشعب المؤمن في أوكرانيا على شياطين موسكو". فيما أدان بوتين إنشاء الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية ووصفها بأنها محاولة "لإضفاء الشرعية على المجتمعات الانشقاقية الموجودة في أوكرانيا تحت سلطة اسطنبول، وهو انتهاك صارخ للشرائع الأرثوذكسية"، وفقاً لمقابلة له مع وسائل الإعلام الصربية.

وكانت الفترة التي تلت احتلال روسيا للقرم عام 2014 شاهدة على بدء مناطق خدمة الكنيسة الأرثوذكسية في جميع أنحاء أوكرانيا في الانضمام إلى الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية. لدرجة أنه في وقت قصير، انضم 7500 من حوالي 19000 منطقة خدمة كنسية إلى كنيسة كييف. ومن المعروف أن المشاركة في الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة من خلال ترك الولاء للكنيسة الأرثوذكسية الروسية قد زادت بشكل أكبر في بيئة الأزمة الروسية وأوكرانيا.

وتجدر الإشارة إلى أن الكنيسة الأرثوذكسية تعمل بموجب نظام الاستقلال الذاتي، حيث لا يقدم الأساقفة تقارير فنية إلى أي شخص أعلى منهم. كما ويعتبر البطريرك المسكوني (Primus Inter Pares) بمعنى "الأول بين متساوين"، لكن ذلك لا يعني أن لديه سلطة حقيقية على الكنائس الأخرى.

بوتين يرغب بالاحتفال في كييف

يجادل بعض المؤرخين بأن أحد أهم الأسباب المبطنة للحرب الروسية على أوكرانيا يرجع لأسباب دينية تعاظمت بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 وبدء النزاعات في شرق أوكرانيا، حيث ازدادت أهمية الانفصال بالنسبة لكنيسة كييف التي حلمت طوال العقود الثلاث الماضية بالانفصال عن كنيسة موسكو.

من جانبها تقول المؤرخة الأمريكية البارزة ديانا باتلر باس، المختصة بتأريخ المسيحية، في مقال نشرته قبل أيام إن "الغزو الروسي لأوكرانيا الذي نشهده اليوم، ليس إلا فصلاً جديداً من حكاية قديمة، ستكون نهايتها "السعيدة" من وجهة نظر بوتين، الاحتفال بقداس الفصح في كييف".

كيف لا، وشغل بوتين الشاغل هو جعل الكنيسة الأرثوذكسية رأس حربة لتحشيد الروس خلفة في مشروعه لإعلاء القومية الروسية، وجوهر ايديولوجيته السياسية التي يسعى من خلالها جعل روسيا قوة عظمى يعترف بها العالم أجمع.

TRT عربي