الإنتخابات العامة في سياق بناء الديمقراطية في السودان: تحليل الممكن والمستحيل


د. سَامِي عبد الحليم سَعيد

على أكثر من صِعيد تم تناوُل مَوضُوع إجراء الانتخابات العَامة في السُودان، و مَدى امكانية إنعقادها في شَهر يوليو 2023. مِن ضِمن ذلك كانت تَصريحات من أعلى مُستويات الحُكم في الدولة قد أشارت الى ضَرورة إنعقاد إنتخابات عَاجِلة في السُودان، كَشرط أساس لانتقال السلطة الى حكومة مدنية، يتم إختيارها عبر الانتخابات، و تكتسب شرعيتها من إنتخابات نزيهة. جاء الوعد من السلطات العليا في الدولة بإقامة الانتخابات في شهر يوليو، على أساس أن الانتخابات ستكون محفز للاستقرار السياسي و عملية سياسية لانتقال السلطة لحكومة مدنية ديمقراطية. و لكن هل تستطيع الانتخابات تحقيق ذلك؟ و إذا كانت الاجابة بنعم!! ما هي الترتيبات و التدابير المطلوبة في الانتخابات حتى تنجز تلك الاهداف المهمة؟
لا شك إن الانتخابات الشَفافة، و النزيهة، التي يَشارك فِيها كُل مَن له الحَقْ في المُشاركة، بِدون إقصاء او تَمييز، و بِمُوجب قَانُون ديمقراطي، و بإشراف هَيئة مُستقلة و كُفؤة، ستكون بلا شك مَدخلاً للاستقرار السياسي و السلام المُستدام في السودان. إلا ان الانتخابات في كثير من التجارب في الدول النامية، و بخاصة تلك التي ظلت تعيش حُروب و نزاعات و عدم استقرار سياسي، كما هو الحال في السودان، كانت مدخلاً لعدم الاستقرار السياسي و سبباً في نشوب النزاعات المسلحة، و محفز للصراعات الاثنية. حتى تكون الانتخابات هي المدخل الصحيح للانتقال السلمي الديمقراطي في السودان، لابد من مراجعة العديد من الجوانب، من بينها مراجعة البيئة القانونية الناظمة للانتخابات، و هذا الجانب قد يشمل موضوعات متصلة بإعتماد النظام الانتخابي الأمثل للسودان، كما يستلزم إجراء إصلاحات مؤسسية سريعة، و التأكد من ن الاوضاع الامنية أصبحت مستقرة، و أن الدولة أصبحت قادرة على فرض سيطرتها في أقاليم السودان. الأهم من كل ذلك هو التأكد من ضرورة مُشاركة جميع من لهم حق المُشاركة، في العملية الانتخابية. و المُشاركة في هذا الصدد تكتسب مَضمون أكثر شمولية، فهي مُشاركة حُرة و ديمقراطية و نَاتجة عن رغبة، دون ضُغوط ، و كذلك هي مُشاركة في المُمارسة الانتخابية كناخبين و مُرشحين، و في إدارة العملية الانتخابية، و رصْدها و مُراقبتها. مثل تلك المُشاركة تتطلب تحسين مجموعة من القوانين المتصلة بتفعيل المُشاركة الشعبية في الانتخابات العَامة.

(1) الإطَار القَانُونِي للانْتخَابات

عند الوَّعد بِشكل قاطِع بِعَقْد الانْتخَابات في السُودان في يوليو 2023، من المُهم الاشارة إلى المَرجعيات القَانونية التي تُؤسس لتلك الانتخابات، وتجعل إنعِقَادها مُمكناً في ذلك التَاريخ. إن الحديث عن الاطار القانوني الناظم للعملية الانتخابية هو العَمود الفَقري للانتخابات العامة، لأنه الحَاكم للنظام الانتخابي و المُؤسس للمَبادئ و المَعايير التي يَقُوم عليها، و كذلك النَاظِم للعِلاقات بين الاطراف، و الفَيصل في نِزاعاتِهم. و بشكل خاص يعكف فقهاء النظم الانتخابية بناء إطار قَانُوني يُنَظم بَعض الموضوعات المُهمة في أي إنتخابات عامة مثل: نظام التصويت الانتخابي ، وتوزيع المقاعد ، و ترسيم الحدود إذا لزم الأمر، وطريقة تسجيل الناخبين، وترتيبات التصويت والفرز، و غير ذلك.
في أبريل 2010 إنعقدت آخر إنتخابات تَعددية، إستناداً على دَستُور 2005 المُؤقت، و وفقاً لِقانون الانْتِخابات لِسنة 2008، و هي الخَامسة من نوعها مُنذ إستقلال السُودان في 1956. و بِحسب تقرير صَادر عن الاتحاد الاوربي، إنخرط في تلك الإنتخابات أكثر من 16000 مُرشح في السباق الإنتخابي بينهم ما يقارب 1400 مُرشح مُستقل. تم تسجيل إثنين وسبعين حزباً سياسياً إلا أن عدداً صغيرا منها فقط انخرط في الحملات الإنتخابية ولم يتم أبداً توفير الدعم المادي المنصوص عليه في قانون الإنتخابات.
و في السِياق الانْتقالي، من المُهم أن يقوم القَانُون الذي تتأسس عليه الانتخابات العَامة، عَلى تَوافُق سِياسي بين أهم الفَاعِلين في المَرحلة الانتقالية، و كذلك يَجب أن يقُوم على أساس دستُوري تَوافُقي. و كان الفَريق عَبد الفتاح البُرهان، القائد العَام لقُوات الشَعب المُسلحة، قد قام إثر إنقلاب 25 اكتوبر 2021، بتعطيل مُعظم أحكام الوثيقة الدستُورية الخَاصة بتكوين السُلطات و مُمارستها خلال الفترة الانتقالية. و كانت الوثيقة الدستُورية هي الاطار الدستُوري التي توافقت عليه القِوى المَدنية و المجلس العسكري الانتقالي في أغسطس 2019 ليكون الناظم لكل العمليات السياسية في فترة الانتقال بما فيها تحديد آلية صناعة التشريعات، و تكوين المفوضيات المستقلة، و تعيين الوزراء و المفوضين العموميين. في آخر أيامه في السلطة، قام الرئيس المخلوع عمر البشير بإجازة قانون 2018 للانتخابات، و الذي تمت صياغته على هُدى مُخرجات ما عُرف بمؤتمر(الحِوار الوَطني) الذي كانت قد قاطعته مُعظم الاحزاب السياسية الفَاعِلة وقتها.
كَان وَزير العَدل السَابِق الدكتُور نَصرالدين عَبد الباري قَد إجتهد كثيراً في صِناعة قَانون، تُقتبس اهم أحكامَه من الوثيقة الدستُورية لِسنة 2019 و من إتفاق جُوبا لسَلام السُودان المُوقع في اكتوبر 2020. و كان قد إجْتهد في إجراء مُشاورات واسعة بِقصد خَلق تَوافُق عَريض بِخُصُوص القانون، و الذي من المفروض ان يساعد في عملية تنظيم و ممارسة إنتخاب ديمقراطية نزيهة. المشاورات الواسعة مُهمة لبناء الثقة، و في إنتهاج اسلوب ديمقراطِي في صِناعة التشريعات الخَاصة بالتحول الديمقراطِي. على كل حَال تلك الجُهود تَعْطَلت هي أيضا بَعد 25 اكتوبر و لم تَعد إجراءات اصلاح التشريعات و المُؤسسات التي تقوم عليها العملية الانتخابية مَوجودة، بعد أن تم تعطيل الاحكام الدستورية التوافقية التي تنظم الانتقال السياسي في السودان.
مِن الواضِح، إنه بَعد يَوم 25 إكتوبر، و بَعد ان تم تَعطِيل مُعظم أحْكام الوثيقة الدستُورية الخَاصة بِمُمارسة الحُكم، قد تَعطَلت كَذلك أي آلية لاقتراح القَوانِين و إجازتها. و بالتَالي حَتى لو تَوفرت الارادة السِياسية لِلقِيام بإجراءات عَاجلة لاصلاح البيئة التَشريعية للانْتخابات، سيكون هذا الامر عسيراً بسبب غياب المؤسسات و التشريعات التي كانت ستساعد في تأسيس التشريعات و المؤسسات بما فيها مفوضية الانتخابات. بموجب أحكام الوثيقة الدستوري ، كان في حال عدم تكوين المجلس التشريعي الانتقالي يقوم مجلس الوزراء و مجلس السيادة في إجتماع مُشترك بإجازة التشريعات، لكن إنقلاب 25 أكتوبر و لآحقاً الإتفاق السياسي بين حمدوك و البرهان في 21 نوفمبر 2021 ، عَمدا على تعطيل تِلك الآلية دون الانتباه إلى تأسيس آلية تشريعية بديلة. بالنظر إلى الأهمية التي يجب ان تتمتع بها الهيئة التشريعية في وضع الانتقال، فانه من المُهم جداً وضع آلية تشريعية تتمتع بالشرعية الشعبية و تحقق أهداف التحول الديمقراطي و الاستقرار السياسي و بناء السلام في السودان.
فِيما يتصل بإصْلاح التَشريعات الانْتخابية، بالقَدر الذي يَجعلها مُلائمة للاوضَاع الانْتقالية التي يمر بِها السُودان، من الضَروري بِمَكان، إكستْمال المَنظُومة التَشريعية التي تُنظم العَملية الانْتِخَابية. و بإستخدام عِبارة (المَنُظومة التَشريعية) نَقصد بِجانب قَانُون الانتخابات و قانون إنشاء مفوضية الانتخابات، كافة التشريعات التي تنظم فضاء حرية التعبير و حرية الحصول على المعلومات و حرية التنظيم و التجمع، فعملية التشريع للانتخابات لا تنفصل عن عمليات الاصلاح التشريعي الاخرى، بحيث تكون عملية إصلاح تشريعي متكاملة تجعل الفضاء السياسي مهيأ لممارسة العملية الانتخابية بشفافية و نزاهة. و في كل الاحوال يظل من المهم الإحتكام بالمعايير الدولية المتصلة بصياغة القوانين المنظمة للانتخابات و جعلها راسخة و معلومة و مفهومة و مطبقة بقدر معقول، و قبل وقت معقول من تاريخ بدء الانتخابات، بما يعكس رسوخ معايير مبادئ سيادة حكم القانون. وفقاً للممارسة الدولية الصحيحة، من المهم أن تكون تلك القوانين الرئيسية موجودة على أرض الواقع، و مطبقة قبل فترة كافية، لا تقل عن ثمانية عشر شهرًا من التاريخ المحدد لعملية الاقتراع المتوقعة.
فِي خِتام هَذا الجَانب، من المُهم القَول إنه، في ظِل غِياب المُؤسسة التَشريعية، لَيس مِن السَهل إجراء إصْلاحات تَشريعية عَاجلة فِي مَنْظُومة الانْتخابات. و من جَانب آخر، لَما كَانت مَسألة التَوافُق السِياسي أمر مُهم، فَبالتالي لا يَتوقع في غِياب ذلك التَوافُق، إنْجاز إنْتِخَابات تُحقق أهْداف التَحول الدِيمُقراطِي و الاسْتِقرار السياسي و بِناء السَلام في السُودان.

(2) جَدليّة الانْتخَابَات و الديمُقْراطِية و السلام

من المُهم المُواصلة في مُناقشة الاطار القَانوني بِتحليل احْكام اتفاقية جُوبا و التي أصبحت لاحقاً جزءا مِن الوثيقة الدستُورية لسنة 2019 بِمُوجب المَادة 79 – بعد تَعديل الوثيقة في 2020. و أهمية ذلك تكمن في النَظر في مُتطلبات الانْتخابات العَامة وفقاً لاحكام الاتفاق. هذا التحليل يستهدف أيضاً دراسة مَدى تأثير هذه الانْتخابات في تَرسِيخ المُمارسة الديمُقراطِية و صناعة و استدامة السَلام في السُودان.
نَصت المادة 13 من اتفاق القَضايا القَومُية في اتفاق جُوبا، على عدد من الشُروط الاستباقية لانعِقَاد الانْتخابات العَامة. يَتطلب تَحقُق تلك الشُروط بالضَرورة انجاز تدابير و اجراءات طَويلة و مُعقدة، و يُمكن تَصُور تلك التَعقيدات بالاطلاع عَلى المَادة 13 نَفسها. تَحليل هذه المَادة يُساعِد بالضرورة مُتخذي السياسات العَامة في وضع خَارطة طَريق لانجاز الانْتخابات كَما هو مُقرر لَها. نَصت المَادة على ضرورة تَحقُق خَمس شُروط اساسية قَبل انْعِقَاد الانْتخابات العَامة ، و تَلك الشُروط هِي:
أولاً: ان يَتم تَنفِيذ خُطة قَومِية خَاصة للعَودة الطَوعِية للنَازِحِين و اللآجئين، كما وردت في اتفاقيات المَسارات المُختلفة.
ثَانياً: عَقد المُؤتمر الدستُوري
ثَالثاً: إجراء التِعداد السُكاني. و هذا الجَانب تَم التأكيد عَليه ايضاً في المَادة 12 من الاتفاقية حَيث اشْتَرطَت المَادة على ضَرُورة انْجاز التِعْداد السُكاني بِمُراقَبة دَولية نَزيهة.
رَابعاً: إصْدار قَانون الانْتخَابات و قَانُون الاحْزاب السِياسِية
خَامساً: تَكوين مُفوضِية مُستقلة و كَفؤة للانْتخَابَات.
مَع التَأكيد بَأن اتفاقية جُوبا هِي تَدبير تَوافُقِي و انْتقَالِي يسعى إلى وقف النزاع المسلح و يعمل على معالجة جذور النزاع و يهئ الفرصة للحوار الديمقراطي حول مستقبل السودان و أفضل السبل لإدارته وفق منهج ديمقراطي يحقق أحلام الشعب السوداني. و بموجب المادة 79 من تعديل الوثيقة الدستورية اصبحت إتفاقية جوبا جُزءاً من الوثيقة الدستورية الانتقالية، و التي يَنتهي اجلها باعْتماد دَستُور دائم، تتم صِياغته من خِلال إجْراءات تَشَاورية شَفافَة. و بالتَالي نَفهم انْ اتفاقية جوبا هي احد صُور التَوافُقات التي تم انْجازها خِلال الفترة الانتقالية و التي تِستهدف المُساعدة في انجَاز الديمقراطية و السَلام في السُودان. و بالتالي الشُروط أعلاه، قد تَم وضعها بِتقدير أهميتها في مَسار إنْجاز انْتخَابات حُرة و نَزيهة، و بأن تتم إدارتها بِصُورة مُستقلة، و يتم الاتفاق بِخصُوص اجراءاتها بِصُورة توافقِية، و بالتالي تُعزز الانْتخابات – وفق الشُروط أعلاه – المُمارسة الديمُقراطية و بناء السلام المُستدام و التعايش السلمي. و وفقاً للاشتراطات التي وضعتها الاتفاقية، فلن تكون الانتخابات شرعية، و مُنجزة لاهدافها، إذ غَابت تلك الشُروط، و ستكون مُجرد إجراءات فوقية لا تُساعد الا في تعميق ازمة الحُكم و الديمقراطية و السَلام في السُودان. و بالتالي من الضَروري التفكِير بِصُورة عِلمية وواقعِية عِند تَحديد مِيقات انعقاد الانتخابات العَامة في السُودان، التي لا يُمكن ان تتحقق و تُنجز اهدافها الا بِتحقُق شُروطها.
لقد نَصت الوثيقة الدستُورية عَلى ان تَكُون الدولة السُودانية دَولة فِيدرالية ديمُقراطِية، و جَاءت اتفاقية جُوبا و فَصَّلت مَفهوم الدولة (الفِيدراليِة) من خِلال العَديد مِن الاحْكَام، و التي لم تِجد سبيلها للتنفيذ حتى الان. من المهم بمكان ان يتم تحديد مستويات الحكم و كذلك النظام الانتخابي الذي سيتم تطبيقه في اطار تقسيم السُلطة في السودان خلال الفترة الانتقالية. كانت المادة 10 من اتفاقية القضايا القومية قد تَنبهت لذلك حين اشترطت ضرورة قيام مُؤتمر نظام الحُكم. قد جاءت المَادة بالعَديد من الاحْكام التي تُساعد الحَكُومة في الفترة الانتقالية على تحديد نَظام الحُكم. فيما يلي أهم أهداف انعِقاد ذلك المُؤتمر، و كذلك اهم الاحكام التي يَجب إقَامتها قَبل إنعقاد الانتخابات و التي بدورها تُساعد في صِياغة نَظام انتخابي و تُحدد مُستويات الحُكم في السُودان:
أولاً: إنْشَاء نَظَام الحُكم الاقليمي
ثانيا: مُراجعة الحُدود و التقسيم الاداري للاقاليم
ثالثا: تَحديد مُستويات الحُكم المُختلفة و هَياكل و صَلاحِيات و إخْتِصَاصَات الاقاليم.
هذا المُؤتمر مُهم لِكونه يأتي في إطار إقتسام السلطة، و مهم كذلك لكونه يُساعد في رسم الخَارطة الادارية للسُودان ، و يُحدد مُؤسسات الحُكم و يُحدد صَلاحيات كل مُستوى من مُستويات الحُكم، و يُبين العِلاقات الرأسية و الافقية بين تلك المُستويات. و بالنَظر الى تلك المُوضوعات من زاوية عِلاقتها بالانْتخابات العَامة، يُمكن أن نتوقع أن يَكُون لكل هذه العَمليات تَأثيرات انتخابية مهمة، من حَيث الهيئات أو المؤسسات الدستورية التي سيتم انتخابها، وتَسلسُل الانتخابات زمانياً، والتأهيل للمُشاركة الانتخابية و غَير ذلك من مَوضُوعات إنْتخَابِية.
يبدو ان فِكرة مُؤتمر نَظام الحُكم، قد مَرت بِتعقِيدات كَثيرة مُتصلة (بالمَفهُوم) و كَذلك مُتصلة (بالاجْراءات). عُموماً تَكْمُن أهمية هَذا المُؤتمر بالنسبة للانتخابات، في إنه سيُحدد ( مُستويات الانتخابات و ترتيباتها الزمانية)، إنتخابات المجلس التشريعية القومِي ، و المَجالس التشريعية للاقاليم، و ما دون ذلك من ولايات و مَحليات. هل سيتم إنتخابات اعضاء مَجلس السيَّادة؟، و ماذا بِخصُوص رئيس مَجلس السيادة؟ ام سيختفي مجلس السيادة من خارطة المؤسسات الدستورية؟ كلها اسئلة مهمة تحتاج الى اجابات واضحة. عموماً من الثابت ان الوثيقة الدستُورية قد نصت على أنه يتطلب إجراء انْتخابات (بَرلمَانِية). اذن لابد من الاتفاق على بعض الأُسُسْ و المَعايير الخَاصة بِتقسيم السُلطة، و لا شَك ان المُؤتمر سيكون مَكاناً مُناسباً لتداول الافْكَار و الاتفَاق بِخُصُوصِها.
من جَديد تُؤكد احْكام الوثيقة الدستُورية و اتفاقية جُوبا على اهمية إجراء الانْتِخَابات العَامة خِلال الفِترة الانْتقالِية. مع الوضع في الاعتبار إن إجراء الانتخابات في الفترة الانتقالية مِن المُوضوعات المُعقدة للغَاية، و التي تتطلب اصلاحات جَوهرية في اهم مَفاصِل اجهزة الحُكم، و تِتَطلب كذلك إجراء عَملية اصْلاحَات تَشريعية واسِعة.
هناك احْكام ذات صِلة بِمُمارسة الحُكم، و ذات صِلة مُباشِرة بالنَظام الانْتخابي الذي يَجب اعْتِماده. مِثال لِذلك – بدون حَصر: مَبدأ تمثيل الاقاليم في السُلطة وفق ثُقلها السُكاني، و ايضاً مَسالة التمييز الايجابي للمناطق الاقل نمواً و تلك المُتضررة مِن الحِروب، و كذلك مَبدأ تَمثيل المَراة بنسبة 40 في المائة في جَميع مُستويات الحُكم، بِجانب الوضع المُتميز الذي أقرته الاتفاقية للعَاصمة القَومية. كُلها مَبادئ يَجب ان يَعالجها النَظام الانْتخابي المَأمُول بالقَدر الذي يُحقق أهداف التَحول الديمقراطِي. حَسناً فَعلت المَادة الاولى مِن اتفاقية جُوبَا في بَاب المَبادئ العَامة حين نَصت في سِياق تَقاسُم السُلطة، عَلى ضَرورة مُمارسة ذلك في اطار بِناء السَلام و الوحدة الوطنية. نَقرأ الفقرة 12من المَادة الاولى كَما يلي: ان لتقاسُم السُلطة بِصورة عَادلة أهْمِية بِالغة لِوحدة السُودان و أمنه و استقراره، و يَمثل التداول السِلمي للسُلطة عَبر إنتخابات حُرة و نَزيهة … ضَماناً للاستِقرار و أساساً مَتيناً للحُكم الديمقراطِي في السُودان.
من النَصْ أعْلاهُ نَفهم أن فَلسفة الانْتخَابات فِي الفِترة الانْتقالية يَجب ان تَقُوم على عَدد من المَبادِئ، من بينها العَدالة و السَلام و الديمُقراطِية و الوحدة الوَّطنية. و بالتَالِي لا يَجُوز إبْتدار إجراءات للانتخابات العَامة فِي السُودان دون مُراعاة و اسْتِهداف تِلك المَبادئ.

(3) تَحْسِين البِيئَة السِيَّاسِية و الامْنِية

تكمن أهمية تَحْسين البِيئة السِياسِية و الأمْنية لكونِها تتصل بِعملية استدامة الدِيمُقْراطِيَّة، و تعزيز الأمن الاجتماعي و تَمَاسُك النَسيج الاجْتماعِي. إن عدد من الإنْتِخَابَات التي شَهدتها القاَرة الافريقية، إنتهت الى نتائج كارثية بِسبب ضُعف التَحليل المَنطِقي للظُروف السِيَّاسِية و الامنية و المَخاطر المُتصلة بِعملية إدارة الإنْتِخَابَات في ظروف الإنْتِقَال من الحُروب و النزاعات و الكَراهِية السِيَّاسِية.
من المُهم بِناء نَظام الإنْتِخَابَات العَامَة في السُودَانْ، ضمن التَخطيط الإستراتِيجي، بِمعْنى ان تَكُون الإنتخابات مُنتجة و مُؤثرة في بِناء الوحدة الوطَنية و السَلامْ و التَنمية المُستدامة . إن البيئآت التي تَمر بها المُجتمعات الإنْتِقَالِيّة، كما هُو الحَال في السُودَانْ، تكون غالباً مُعقدة و مُتشابكة، سِياسياً و إجتماعياً و إقتصادياً، و لِتجاوز تلك العَقبات و التعقيدات، لا يَستقيم إلا وضع تَصورات لِمُستقبل البِلاد، في إطَار تَفكير شَامِل يُساعد السُودَانْ و شعبه في بناء مستقبلهم بالطريقة المثلى، و يضمن وجودهم الفعال في إطار بناء السَلامْ الشَامل و الاستِقرار السِيَّاسِي و التعافي الاقتصادي . يَتطلب إجْراء إنتِخَابَات ذات مِصداقِية ، توفير بِيئة مُواتية توفر المُمارسة الكَاملة لحُريات تَكوين الجَمعيات و الاحْزاب والتَجمع والتَعبير. منذ سُقُوط نَظَامْ عُمر حَسن البَشير، ظلت تَتصاعَد الاصوات مُطالبةً بعمل مَجموعة مِن الاصلاحات التَشرِيعِية، و التي بِمقدورها ان تَساهم في تَحْسِين فَضاء الحُريات، و تُيَسِر الإنْتِقَال الديمُقراطِي في السُودَانْ. إن تَرسانة القَوانِين التي تُحِد من الحُريات، المَوروثة مِن النَظَامْ السَابِق، و التي كانت كلها مُخالفة لمَعايير اتفاقيات حقوق الانْسان، حَسب تقارير مَكتب المَفوض السّامي لِحُقُوق الانْسَان. إن مِثل هذه الإصْلاحات ، بِمَا في ذلك البِيئَة الإعْلامِيّة وإزالة القِيود المَفروضة على عمل المُجتمع المَدني في جَميع أنْحَاء البِلاد، سَتكون ضَرورية حتى يتم خَلق البِيئَة المُواتية و التي تَساعِد كل الاطراف على المُشاركة في هَذه الإنْتِخَابَات. إذن الإنْتِخَابَات لا تبدأ و لا تنتهي بِعَملية الاقْترِاع و الفَرز، بل هي عملية متكاملة لا يمكن الاعْتراف بها كإنتخابات دِيمُقْراطِيَّة إلا بإزالَة كُل القِيُود التَشرِيعِية التي تُحِد مِن مُمارسة المُواطنين لِحَقهم في رسم سِياسات الإنْتِخَابَات، و إخْتيار إدارتها المُؤهلة، و مُراقبتها و رصدها، و المُشاركة في التَصويت و الانْتخاب و الترشُح للمَناصِب الرسمِية. إن الحُكم على مُصداقِية و نزاهة الإنْتِخَابَات يبدأ منذ المراحل الأُولى و قَبل البدء في عَمليات الترشح و الاقْتراع. إن قِياس البِيئَة المُحيطة، ظل على الدوام مُؤشر حَقيقي لِنزاهة و دِيمُقْراطِيَّة الإنْتِخَابَات، إذ تنعقد اليوم في العَالم مِئآت الإنْتِخَابَات ، على مُستويات مُختلفة، و لكن القَليل جِداً مِنها تلك الذي يتم في سِيّاق ديمُقراطي مُتكامِل. بِجَانب مَسألة الاصْلاحَات التَشرِيعِية، تنعكس سُلوكِيات السُلطات العَامَة، سِلبياً او إيجَاباً على قِياس درجة مُواءمة الفَضاء العَامْ مَع مُتطلبات إجراء إنتخابات حُرة و نَزيِهة. كما كاَن فَرض عَمليات إغْلاق الهَاتِف و قَطع خَدمات الإنترنت مُؤخرًا انتهاكًا لِحُقُوق الإنْسان السُودَانْية التي لا ينبغي السَماح بها فِيما يتَعلق بِالفِترة الإنْتِخَابِيّة .
و من ضِمن الشُروط الاسْتِباقية لإنْعِقَاد الإنْتِخَابَات، هو إنجاز التَوافُق السِيَّاسِي بين أهم عَناصِر العَملية السِيَّاسِية، و هذا التَوافُق يَتطلب ان يِشمل التَوافق بِخصُوص النَظَامْ الانتخابي و تكوين المَفوضِية التي ستقود العَملية الإنْتِخَابِيّة. و أهمية هذا تَكمُن في أن عَملية التَراضِي تَعكس القُبول بالإجْراءات المُتبعة. و لن يَتأتى مِثل هذا القُبول الا من خِلال مُشاركة جَميع الأطراف المَعنية في كل عَمليات الإنْتِقَال و بِشفَافِية.

مَوضُوعات التأمين و التَعايُش السِلمِي

للإنْتخَابات صِلة مُباشرة بِعملية بِناء السَلامْ، لانها عَملية تتصل بشكل أساسي بِمسالة التَوافُق الاجْتمَاعي حَول العَملية السِيَّاسِية بِصُورة سِلمِية. تِتَطلب المُشاركة الدِيمُقْراطِيَّة في الإنْتِخَابَات ، أن يَشعر الشَعب السُودَانْي بأنه يعيش في بيئة تسمح له بمُمارسة الحُريات السِيَّاسِية بِدون قُيود. و حُرية مُمارسة الحُقوق و الحُريات السِيَّاسِية مَسألة تَتطلب تَوفير الامن، من خلال وجود مُؤسسات أمنية حِرفِية. بجانب ذلك من المُهم أن تكون تَدابير السَلامْ قد شَملت كُل أرجاء البلاد، فلا يستقيم ان ينعم بَعض المُواطنين بِحرية إخْتيار مُمثليهم في السُلطة، بينما مَجموعات مُقدرة تُعاني من غِياب الامن و تَخاف من مُمارسة حَقها الديمُقراطي. كانت الوثيقة الدستورية لسنة 2019 وضعت مسالة إنجاز كشرط إستباقي لنجاح الانتقال الديمقراطي، حتى ان الوثيقة نصت على ان يتم إبتدار خطة تنفيذ السلام خلال ستة أشهر من بدء الفترة الانتقالية. إن إستمرار وجُود أعداد من المواطنين في معسكرات خارج الوطن بسبب غياب السلام و الامن، و غياب السلطات الامنية ، كما هو الحال الان في بعض مناطق السُودَانْ، يجعل من العَسير تنظيم الإنْتِخَابَات في مثل تلك المَناطق، و بالتالي يفقد المواطنين حقهم في ممارسة المُشاركة الإنْتِخَابِيّة. كذلك من التحديات التي تواجه السُودَانْ بوصفه دولة مُتعايشة مع النزاعات المُسلحة منذ زمن بعيد، هو إنتشار السلاح خارج نطاق المؤسسات الامنية الرسمية، مما يهدد بصورة واضحة عملية الإنْتِخَابَات الحُرة النزيهة، لان السِلاح في مَراحل التنازع السِيَّاسِي يَكون مُهدِد كَبير لِسلمية ذلك الصِراع السِيَّاسِي و مع ضُعف بِنية الدولة و مُؤسساتها، يَتم حَسم أي نِزاع سِياسي باللجُوء للعُنف الذي يَتم استخدام السلاح فيه بِصورة تِلقائية. في حَالة الاعلان عن إنْعِقَاد الإنْتِخَابَات في زَمن مُعين من المُهم، و بصورة إستباقية، وضع خُطة أمْنية شاملة للانتخابات، يتم وضعها وتنفيذها من قبل الشرُطة السُودَانْية ، التي ينبغي أن تؤدي إلى توفير الأمن الانتخابي ؛ لا شك، سيستغرق تَطوير الخُطة الأمنية ثم التدريب على تنفيذها بعض الوقت.
من الموضوعات المُهمة في إدارة الإنْتِخَابَات، أن يَكُون هُناك آلية وطنية لِحل النِزاعَات الإنْتِخَابِيّة. في بَعض الدُول الدِيمُقْراطِيَّة، و التي فِيها نَظَامْ إنْتخابي راسِخْ تَكُون السُلطة القَضائية هي الآلية التي تَقوم بِحل النِزاعات الإنْتِخَابِيّة. و لَكِن في السُودان ظَلت السُلطة القضائية طِيلة فترة الحُكم الدِكتاتُوري، تتعرض لِسياسة مُنظمة من الاستِغلال و التدجين، و حَتى تَستَعِيد دورها في فَض النزاعات الانتخابية بنزاهة، يتطلب إجراء إصلاحات تشريعية و مُؤسسية واسعة على النظام القضائي في السُودان. إن ضعف الثقة في النَظَامْ القضائي المَوروث لا ينعكس فَقط في الاشخاص من قضاة و مَوظفين في الحَقل القَضائي، بل تنسحب أيضاً على القَوانِين و النظم الناظمة لعملية التقاضي. و لضمان السَلامْ الانتخابي و ضمان نزاهة العملية الإنْتِخَابِيّة من المُهم الاتيان بآلية يَثق فيها المتنافسين في العملية الإنْتِخَابِيّة. و أيضاً من المُهم في هَذا الصَدد إجراء تَعْديلات تَشرِيعِية و اصلاحات مُؤسسية في نَظَامْ الشَكاوي و الاستئنافَات و الطُعون الإنْتِخَابِيّة.

تَحْسِين ظُروف المُشَاركة السِيَّاسِية:

حتى يتوفر الأيمان بدور الإنْتِخَابَات، و ينمو الاعتزاز و التقدير بالعملية الدِيمُقْراطِيَّة، سيكون من المُهم توفير بيئة تُشجع و تُساعد كل ابناء و بنات الشعب، من لهم الحق في المشاركة في الإنْتِخَابَات، أن يمارسوا ذلك الحق دون أدنى قيود. لقد ظلت مجموعات كبيرة ترفض المشاركة في الإنْتِخَابَات، بل العديد منها ظل يقاطع الإنْتِخَابَات لعدم الثقة في نزاهة الإجْراءات أو لكونها تنعقد في ظل نَظَامْ دكتاتوري و قمعي. إذا كان عدم المشاركة ذلك ناتج عن رغبة في عدم المُشَاركة لموقف سِياسي من النَظَامْ الانتخابي المتبع او في النَظَامْ السِيَّاسِي الذي يتحكم في المنظومة السِيَّاسِية و في اجهزة الحُكم، إلا أنه في العديد من الحالات يكون عَدم المُشَاركة ناتج عن ظُروف مَوضوعية، قد تكون ظُروف اقْتصادية، او إجْتماعية أو سِياسية ، او حتى صِحية. ظلت مَجموعات من المواطنين يَعَانُون من التهميش في المُمارسة الإنْتِخَابِيّة، مثل النساء والأشخاص ذوي الإعاقة والمجموعات البدوية والنازحين واللاجئين، بجانب المجموعات التي لم تحظى بالتعليم . إن التفكير في إدماج هذه المجموعات، من خلال إجراء إصلاحات تَشرِيعِية و مؤسسية أو من خلال التوعية و التدريب، يتطلب إتخاذ سياسات قومية واضحة و صارمة لمصلحة تلك الفئآت التي ظلت مهمشة لفترات طويلة. يمكن تكليف مفوضية الانتخابية لدراسة أفضل الوسائل لدمج هذه المجموعات في تخطيطها وأنشطتها ، ستحتاج اللجنة إلى وقت للتشاور وفهم احتياجاتها بالكامل. تستغرق بعض الاستراتيجيات لضمان الإدماج – مثل توفير خدمات تسجيل الناخبين والتصويت خارج البلاد ، وتوعية الناخبين والمعلومات بشكل عام – وقتًا ومالًا لتقديمها. و بالتالي تقف هذه الجزئية كحالة واقعية تستدعي إعادة التفكير في تحديد موعد لإنْعِقَاد الإنْتِخَابَات إلى حين ايجاد آليات تضمن المشاركة الفعالة لكل المواطنين في الانتخابات العامة.

التَرتِيبَاتْ المُؤسَسِيَّة:

لقد قامَ النَظام الحَاكم، تحت قِيادة عُمر البَشير بِتكوين مُفوضية قَومِية للإنْتخَابات، للأشراف عَلى الانْتخابات العَامة بِموجب قَانُون الانتخابات لسنة 2008. و قد تم تَكوين تلك المُفوضية بِغرض إضْفاء المَشروعِية على الانْتخابات التي ظَل ينظمها النظام الدكتاتوري وقتها، و بالتالي لم تنل تلك الانتخابات إهتمام المواطنين، و لم تكن مُحفزة للإحْزاب السِياسية للتَنافُس في ظِلها. و مِن ضِمن المُؤسَسَات التي كانَت ذات صِلة بالانتخابِات العَامة في ذلك الوقت، كان مَجلس تنَظيم الاحْزاب السِياسية و مَفوضِية حُقُوق الانْسان. لقد ظَلت تلك المُؤسسات الثلاثة قَيد الدراسة و التَفكير بِغرض إعادة هَيكلتها او إعادة صِياغة قَانُونها، حتى تَفِي بالمَعايير المَطلوبة لتلك المُؤسَسات، و حتى تَكون فَاعلة في عَملية تَأسِيس الديمُقراطية في السُودان. بالتَأكيد لا يجب أن تكون تلك المُؤسَسات ديكُور في المَشهد العَام للإنتخَابات، بل لها ادوار مُهمة، في إدارة العَملية الانتخابية و في مُراقبتها، و في كفالة الحُقوق، و في تُقديم الآراء الفَنية الآزمة.

مَجلس شُئون الاحْزاب، و المُفوضِيات: 

مُنذ بداية الفِترة الانتقالية، و بَعد تَكوين الحَكُومة ظَلت المَساعِي و الجُهود مُتواصلة من أجل إجراء إصلاحات تَشريعية و مُؤسسِية، في تلك الهيئآت و بِجعلها قَادرة عَلى القِيام بِدورها بِصورة فَعالة. إلا أنه و حتى يَومنا هَذا لم يتم إجراء تلك الاصلاحات المَطلوبة. و كانت وزارة العَدل قد وضعت مَشروعاً قانون لإنشاء مَفوضية انتخابية جَديدة في سِبتمبر 2021 ؛ و كانت تلك الوثيقة بداية حَقيقية للشُروع في وضع الاسَاس التَشريعي و المُؤسسي للنَظام الانْتخابي. و بمثل ذلك فَعلت وِزارة شُئون مَجلس الوزراء، حِين طَرحت مَشروعاً لقانون تَسجيل و تَنظِيم الاحْزاب السِياسية، إلا أن ذلك المَجهُود لم يُغادر مَرحلة صِياغة النُسخة الأولية. أما مَفوضية حِقوق الانْسان، يجب ان يتم تَكوينها وفق المَعايير العَالِمية للمُفوضِيات و اللِجان الوطَنية لِحقُوق الانْسان، بِحسب ما أقره مَجلس حِقوُق الانسان في عام 1993 فيما عرف بمبادئ باريس لمؤسسات حقوق الانسان. إلا أن مفوضية حِقُوق الانْسان لم يتم تكوينها حَتى الآن و قد قام مَجلس السِيادة بتعيين مَجموعة من الخُبراء كهيئة مُؤقتة إلى حِين إستكمال التَرتيبات المُتصلة بِتكوين مَفوضِية لحقوق الانسان وفق مَبادئ باريس. نفس الأمر ينعكس على مفوضية المَرأة. و بغياب تلك المُؤسسات، من الصَعب جداً الحديث عن إجراء إنتخابات حُرة و نَزيهة، إذ أن على تلك المُؤسسات أن تَكُون مَوجُودة أولاً، لِقيادة التَخطيط والتَنسيق للانْتخابات و أن يكون وضع قانون إنشاء المفوضية من المهام ذات الأولوية القصوى. يجب أن يكون القَانون والمَفوضِية مُؤسسات انتقالية ، وخاضعة للتعديل أو الإلغاء من قِبل البرَلمان المُنتخب في المُستقبل.

تَسجِيل النَاخِبين:

بِجَانِب الترتيبات التَشريعية و المُؤسَسِية، من المُهم كذلك الانْتباه الى العَديد من التَحضِيرات اللُوجستِية، المُتصلة بإستكمال سِجلات النَاخِبين، و وضع سِياسات مُتصلة بالنَاخبين الرُحَل و في مَواقع النِزُوح و المُهاجرين و اللآجئين. بِجانب ترتيبات مُتصلة بمَواجهة ظُروف الامْطار المُوسمية و تَفشي جَائحة كَرونا.
يعد تَجميع سِجل النَاخبين هو الجُزء الأكثر إزعاجا و تَعقِيداً و يَتطلب الكَثير من المَال و الوقت و الخِبرة الفَنية. و هذه العَملية مُهمة لانها المُؤشر الذي بموجبه يُمكن الحُكم على العَملية الانتخابية بانها نَاجحة. إن السجلات المُتاحة حَالياً هي سِجلات قَديمة، إذ أن آخر سِجلات تم إعْدادها بِصورة مِهنية و بِمُساعدة من الامم المُتحدة، كاَنت في عام 2010 خلِال العَملية الانتخابية التي تَلت تَوقيع إتفاقية السَلام الشَامل في 2005. بعد ذلك التاريخ تَم تنظيم عَملية إنتخابية بِدون إعتراف سِياسي و لا دعم دُولي، و ذلك كَان في عام 2015. خلاصة القُول إن تلك السِجلات لم تَعد مُناسبة و لا تعكس الواقع السُكاني، و لا تَحصر المُواطنين الذين لهَم حَق الانْتخاب.

الإحْصَاء السُكَانِي:

أي تَخطيط لِعملية إنتخابات في السُودان، سيواجه عدد من الصُعوبات التي تتعلق بالإحصاء السُكاني، فالسُودان يُعاني من عدم وجود بيانات سُكانية مَوثوقة وحَديثة. يكتسب الاحْصاء السُكاني حيوية خاصة في النظام الانتخابي بسبب اتصاله بعمليات أخرى مِثل تَحديد الدوائر الجُغرافية. بِشكل عام ، يجب رسم الحُدود الانتخابية باستخدام بيانات التِعداد الحَديثة والسليمة إحصائياً ؛ و يجب أن تكون البيانات السُكانية مُتوفرة في وقت مُبكر جدًا من الجدول الزمني المُحدد للإنتخابات. لا شك، إن إعداد تلك السِجلات أمر شَاق جداً خُصُوصاً في بلد مِثل السُودان ظلت تعاني فِيه الادارات الحَكومية من الاهْمال و عَدم التحديث و التجديد و غياب نظام الكتروني فعَال لِحفظ المَعلومات و البَيانات.
سوف يحتاج تحديد مَوعد للانتخابات في السُودان، إلى مُراعاة الظُروف و العَوامل المُوسمية، التي ظَلت على الدوام عَوامل مُؤثرة في الانتخابات السودانيةُ، مثل صَلاحية الطُرق في الارياف، و إنقطاع بَعض الانحاء عن بَقية الدولة بِفعل السِيول و الفًيضانات. تحتاج الأحزاب السياسية والمرشحون إلى الوصول دون عوائق للمواطنين و لمراكز الانتخابات في جميع أنحاء البلاد. كما قد لا يضمن مُوسم الأمطار وصول مَفوضية الانتخابات والناخبين والأحزاب والمرشحين إلى مؤسسات و مكاتب و لجان العملية الانتخابية.
و من جهة أخرى، مُنذ تفشي وباء كوفيد -19 ، تَعطلت العَديد من الأنْشطة الكَبيرة بما فِيها المُؤتمرات و الإجْتِماعات الكَبيرة بما في ذلك اداء فَريضة الحَجْ و العُمرة و بطولات كُرة القَدم، و من ضِمن ذلك ايضاً تَعطلت العَمليات الانتخابية في جميع أنحاء العَالم. و تعرضت العمليات الانتخابية الى التأجيل وتغيير طرائق مُمارسة الحُقوق الانتخابية، و تنوعت طرائق تنفيذها في ظل قواعد الصَحة العَامة المُتغيرة ديناميكيًا. مع استمرار تفشي الوباء و ظِهُور نُسخ جديدة مُتحورة منه ، ستحتاج الانتخابات المُقبلة في السُودان إلى التَخطيط الدقيق لتكون آمنة من فيروس كوفيد.
و إستناداً على كل ذلك، لا يمكن اعلان إنْعقاد الانْتخابات العَامة في يوليو 2013 كما تم تناقله عبر الوسائط، بدون مُراعاة المَشاكل التي أثرناها هنا. و كذلك لا يُمكن إنعقاد إنتخابات حُرة بِدون الشُروع بِصورة مُبكرة في وضع تلك التدابير اللآزمة لانجاح هذه الانْتخابات.

التمَويل و الدَعْم الفَني:

للانتخابات تَداعيات اجْتماعية و امْنية خَطيرة على الاستقرار السياسي و الاجتماعي في السُودان. و بالتالي لا يتصور ان تقوم انتخابات حُرة و نزيهة، في سِياق التَحول الديمقراطي في السُودان، قبل ان يتم انجاز توافق سياسي حول الدستور الانتقالي و كذلك النظام الانتخابي. بجانب ذلك، من المهم أن يتم بناء النظام الانتخابي في سياق بناء الديمقراطية، و بموجب اعتراف دولي و بالتعاون مع الامم المتحدة و الاتحاد الافريقي. تاتي أهمية الاعتراف الدولي بالانتخابات السودانية في ظل التحول الديمقراطي، في انها تفتح المجال للدعم اللوجستي و الفني و حشد الدعم الدولي للانتخابات.
ما هو النظام الانتخابي الذي ستتم الانتخابات في ظله؟
من الواضح انه الاجابة على السؤال أعلاه، غير واضِحة حَتى الان، بِسبب غِياب الاتفاق السِياسي. نَصت الوثيقة الدستُورية على أنه يتطلب إجراء انتخابات عَامة عند نِهاية المَرحلة الانْتقالية ، ولكن الوثِيقة الدستُورية لم تَنُص على وجه التَحديد النَظام الانْتخابي الذي سِيتم اعْتِماده. قَد يَتوقع البَعض إجْراء انتخابات رئاسية مباشرة بينما قد يتوقعها البعض الاخر ان تكون برلمانية، او مختلطة. و لان عملية الانتقال السِياسي قد تَم تَصمِيمها بِحيث تنَجز العَديد من المَهام، من بينها الاصْلاح التَشريعي و المُؤسسي، و اجراء العَديد من الاصلاحَات الدستُورية ، يُمكن أن نتوقع أن تؤثر عَملية الإصْلاح الدستُوري على المَواقع الدستُورية في الدولة و شَكل الحَكُومة و المُؤسسات التَشريعية التي سَيتم انْتخابِها.
لقد جاءت اتفاقية جُوبا لِسلام السُودان المُوقعة في اكتُوبر 2020، بالعَديد من المبَادئ الدستُورية الجَديدة الخَاصة باقْتسام السُلطة، و التي توثر بالضرَورة على شَكل الحَكومة، و بالضرورة تؤثر على النَظام الانْتخابي. لقد اقترحت الاتفاقية تَطبيق النَظام الاقْليمي في اطار النَظام الفِيدرالي، و لكن الاتفاقِية لَم تحدد الطبيعة الدستورية للنظام الاقليمي المُقترح، و لم تُحدد الاتفاقية، و لا الوثيقة الدستُورية مُستويات الحُكم في الاطار الفِيدرالي الجَديد، و كيفية اخْتيار المُسؤلين في تلك المُستويات من الحُكم في السُودان. و كان من المُتوقع ان تنجز الحَكومة الانتقالية مُؤتمرا للحُكم خِلال سِتة اشهر بعد تَوقِيع اتفاقية السلام، الا ان ذلك لم يحدث في الموعد المحدد. بالضرورة ان تحديد طبيعة النظام الانتخابي يُسَاعِد بِصورة مُباشرة في تَحديد عدد، و رسم حُدود الدوائر الانتخابية. ان هذه التَحديات مُهمة للغَاية في التفكير الاستِبَاقِي في التَحضير للانتخابات.

تَمويل العملية الانْتخَابِية:

ليَس من السَهل تحديد التَكلفة الكُلية للعملية الانتخابية، بدون تحديد النَظام الانتخابي، او قَبل ايجاد المُؤسسة المَعنية بادارة الانتخابات. و لكن بِحسب التَجارب الانْتخابية في الظُروف الانْتقالية، مِن المُتوقع أن تَكون التَكاليف كَبيرة ، و ذلك بِسبب انها تُؤسس النَظام الانتخابي من جَديد، على عَكس تَكلفة الانْتخابات في الديمقراطِيات المُستقرة، و التي يَكون فِيها النَظام الانْتخابي قد تم تَاسِيسَه في زمَن سَابق.
ان العَمليات الانتخابية في الديمقراطِية الجَديدة، تتضمن بجانب التكاليف الاساسية للعَملية الانْتخابية. تِكاليف التِعداد السُكاني، و تَكاليف الترتيبات الامْنية للانْتخَابات. و تَكون غَالباً هذه التكاليف عَالية جداً، و ليس في مُستطاع السُلطات الانتقالية في تلك البِلدان توفير تلك الاموال من مُوازنتها الوطنية المَحدودة. و برغم ذلك، يظل على الحَكومة الانتقالية ان تُوفر تلك الاموال من مَواردها الوطنية و بِحشد الدعم الدولي لتمويل الانتخابات العامة. و لان الانتخابات هي التزام سياسي في المَقام الاول، يجب انجازه خلال الفترة الانتقالية، يمكن للحَكومة الالتزام بحصتها التمويلية، قبل الاتصال بالشرُكاء و الداعمين للحُصول على المُساعدة الدولية ، إذا كان ذلك مَطلوبًا.
و بِمُناقشة تَحديد مَوعد للانتخابات في السُودان، او القَطع بامكانية انْعقادها في يوليو 2023، يجب الوضع في الاعتبار انه هُناك مُحددات مَوضُوعية – اذا توفرت – تجعل تلك الانْتخابات مُمكِنة في ذلك التاريخ او غيره. و في خاتمة القُول، من المهم الاشارة الى ان اقامة الانتخابات العامة في السودان، يجب ان يكون في اطار التفكير الاستراتيجي في بِناء الديمقراطية و السَلام في السُودان، ان إغفال هذا الاعتبار في تنظيم عملية الانتخابات في السُودان في الارجَح ان يتَسبب في المزيد من الاضطراب السياسي، و ربما تعميق ازمة النزاع المسلح في السودان. إن الانتخابات الحرة النزيهة هي الطريق الامْثل للسُودانين لتبادل السُلطة بصورة سلمية، و كذلك تُساعد الانتخابات السِلمية النزيهة بِصورة مباشرة في بِناء الوحدة الوطنية، و تحد من العنف السياسي بين السلطة الحاكمة و المواطنين او بعضهم، كما تُساعد عَلى الاستقرار و تسارع مُستويات التنمية الاقتصادية. و بالتالي لا يجب ان تتم مُعالجة مَسالة الانْتخابية عَلى اساس انها عَملية شَكلية لاستكمال الترتيبات السِياسية لِصَالح مَجموعة و اقْصاء مَجموعات اجتماعية و سياسية، و لكن يجب النَظر اليها دائماً على انها عَملية استراتيجية في بناء سلام و ديمُقراطِية السُودان.

تاريخ الخبر: 2022-03-07 18:21:34
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 45%
الأهمية: 51%

آخر الأخبار حول العالم

تراجع جديد في أسعار الحديد اليوم الخميس 2-5-2024 - اقتصاد

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 06:21:03
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 54%

مع مريـم نُصلّي ونتأمل (٢)

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-02 06:21:50
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 50%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية