قبل قرنين وخمسة عشرة عام، أصدرت بريطانيا قرارا بمنع تجارة الرقيق بين أفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية، علي أن المتتبع لتاريخ الأمبراطورية التي غابت عنها الشمس منذ أواسط القرن المنصرم، يري بما لا يدع مجالا للشك أن مثل هذه القرارات وغيرها مجرد كلمات لا تلبث أن تذوب في الهواء قبل أن يجف حبر كتابها. 

حيث يكشف الطبيب أنطون برتيلمي كلوت بك ــ والذي حصل علي لقب بك من محمد علي باشا مكافأة علي جهوده ونجاحه في مقاومة وباء الكوليرا في مصر عام 1820 هو وتلاميذه ــ في مذكراته التي حملت عنوان "لمحات عامة إلي مصر"، النظرة الدونية التي ينظر بها الغرب والرجل الأبيض إلي غيره من الشعوب والأمم الأخري التي يختلف لون بشرتهم عنه لون بشرته.  

يعقد كلوت بك مقارنة بين نظرة الرجل الأبيض والغرب إلي الرق والرقيق، وبين نظيرتها في الشرق، مشيرا إلي: هناك في الحقيقة فرقا باليا بين الاستعباد الأمريكي والاسترقاق الشرقي. فعند الشرقيين لم يكن الرق من الأنظمة القاسية أو الحاطة من قدر الإنسان لأنهم لا يرون في الرقيق متاعا أو شيئا ماديا كما كان الرومانيون في قديم الزمان يرونه كذلك بحسب قوانينهم، كما أنهم لا يتخذونه صنفا من الأصناف التي يجري عليها التصدير والتوريد وتكون موضوعا للمضاربات في طلب المزيد من الربح بالتصرف فيها بيعا وشراء ولا يعتبرونه بمثابة آلة يقدرون قوتها كما تقدر قوة الآلات بالأحصنة. فأن المستعمر الغربي لا ينظر إلي العبد الأسود إلا من جهة قيمته المادية ناسيا أنه إنسان مثله ذو آداب وفضائل فيكون فعله هذا باعثا علي تغيير ذاتيته وتحويل طبيعته.  

ويضيف "كلوت بك": أما المسلم فإنه علي العكس مما تقدم يري في رقيقه إنسانا مثله لا يختلف عنه في شئ ما. فلذلك يعامله بحيث يخيل للواقف علي طرائق هذه المعاملة أن الرق الشرقي لم يكن إلا تبنيا صحيحا للرقيق وأن هذا الأخير يندرج باسترقاقه في سلك الأسرة التي اشترته بمالها.

ــ هكذا تمتع الأرقاء بكل حقوق الإنسان في الشرق
يرصد "كلوت بك" الحقوق والمزايا التي تمتع بها الأرقاء في الشرق وخاصة مصر قبل أن يلغي الخديوي إسماعيل الرق، مشيرا إلي أنه: ليست حالة هؤلاء الأرقاء في شئ من الرداءة كما يتبادر إلي الخاطر أول وهلة، إذ كثيرا ما تكون هذه الحالة سببا في أرتقائهم إلي مستوي لم يكونوا ببالغيه لو جمدوا علي حالتهم الأولي. فإن الأرقاء البيض يستطيعون الصعود إلي أعلي المراتب في الهيئة الاجتماعية والحلول في الوظائف الكبيرة والمراكز السامية، ومع أن الأرقاء السود قضي عليهم لونهم الأسود بمزاولة الأعمال الدنيئة، فإنهم يحظون من الهناء والسعادة والنعيم بما لم يخطر ببالهم أن يتوقعوا الحظوة به لو بقوا علي فطرتهم الأولي، وهناك أمثال كثيرة يفهم منها أن كثيرين من السودانيين نالوا شرائف الرتب وبلغوا إلي أرفع المناصب وتحلوا برتبة البيكوية، فما الاسترقاق بالنسبة إليهم في الحقيقة إلا حياة جديدة كتبت لهم في لوح القدر ونجاة لهم من الموت. ذلك لأنهم بعد أسرهم يذبحون بلا رحمة بأيدي المتغلبين عليهم إذ لم يتقدم النخاسون لشرائهم بالمال.  

ويشدد "كلوت بك" علي: أن الاسترقاق الشرقي يتحول في ظل هذه الأخلاق الأبوية التي امتاز بها الشرقيون إلي صفة مغايرة لما وجدناه إليه في الديار الأمريكية، دع أن الشريعة في الإسلامية نصوصا تقضي بحماية الرقيق من جور مولاه وتكفل له الاعتصام من قسوته وعسفه وتظله بجناح الحماية والرعاية الواجبتين علي المؤمنين للضعفاء ولم يكن اختلاف المعاملة هو ما استوجب دهشتي فان الاسترقاق الشرقي يباين الاسترقاق عندنا مباينة تشرف الأول وتفضله علي الثاني لا سيما وأنه يحترم الكرامة الإنسانية ويؤيدها.