تأملات في لحن “جى إفسماروؤت” الصيامي


بقلم: م. منير وصفي بطــرس

باحث في موسيقى الألحان القبطية

مـدرس مــــادة اللــــحن الكنــــسي

بمعــــهـــد الرعـــــاية والتـــــربيـة

إن كنيستنا القبطية كنيسة عميقة في فكرها أعطت لكل مناسبة ألحانا مميزة تجعل المصلي يعيش في أجواء روحية تتوافق مع المناسبة الطقسية المطلوبة، كما تربط كلمات ألحانها بالفكر الموسيقي الذي يخدم أيضا الحالة الطقسية.

وفي فترة الصوم المقدس نجد الكنيسة تستخدم ألحانا تتناسب مع حالة الصوم، من خشوع ووقار وزهد ونسك وتقشف وتذلل وتوبة، لكي نستعد بهذه الأجواء الروحية لمعايشة أسبوع الآلام الذي نتذكر فيه موت المسيح على الصليب بسبب خطايانا، ولقد قَسَمَت الكنيسة الصوم إلى فترتين، الأولى تسمى سبوت وآحاد الصوم (تكون أقل تقشفا وزهدا بسبب ذكرى فتح الفردوس والقيامة المجيدة)، والثانية تسمى أيام الصوم (من الإثنين إلى الجمعة) وتكون أكثر نسكا وألحانهم أكثر تقشفا، مثل اللحن موضوع المقال جي إفسماروؤت، وكلماته: “لأنه مبارك الآب والابن والروح القدس الثالوث الكامل نسجد له ونمجده”، وكلمة “لأنه” تعود على المزمور ال 150 الذي يقال قبل هذا اللحن والذي نقول فيه “سبحوا الله….”،وكأننا نقول نحن لا نسبح الله فقط لأجل أعماله ولكن نسبحه أساسا لأنه مبارك في شخصه وفي صفاته.

وموضوع اللحن هو تمجيد الثالوث القدوس، ونحن خلال القداس الإلهي نسبح بمردات وألحان تمجد الثالوث، ولكن تتكثف هذه الألحان والمردات بعد إستدعاء الروح القدس ليحول القرابين، وأصبحت الكنيسة تخاطب الله المثلث الأقانيم بصورة متكررة في نهاية القداس، ويحدث حوار مهيب بين الكاهن والشعب في هذه اللحظات المقدسة التي فيها نقترب من تناول الأسرار، يبدأ بصراخ الكاهن “القدسات للقديسين مبارك الرب يسوع المسيح ابن الله وقدوس الروح القدس آمين”، وهي تحذير للمتقدمين للتناول بأن القدسات (الجسد والدم) هي للقديسين فقط أي التائبين النادمين على خطاياهم المعترفين بها، والمهتمين بأن يعيشوا كما يليق بإنجيل المسيح، فيسجد جميع الشعب بخوف ورعدة طالبين غفران خطاياهم، وصارخين أيضا بلحن معبر يرد على كلام الكاهن حاشا لنا أن نعتبر أنفسنا قديسين بل خطاة، والله من رحمته يعطينا هذه النعمة، كما قال السيد المسيح ” متى فعلتم ما أمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون لأننا أنما عملنا ما كان يجب علينا” (لو 17: 10)، أما الله فهو كامل في قداسته هو القدوس الله المثلث الأقانيم ” آمين واحد هو الآب القدوس واحد هو الابن القدوس واحد هو الروح القدس آمين”، وفيها يعطون المجد لله الذي هيأ لنا أن نتناول من جسد الرب ودمه ليثبت فينا فيطمئنهم الكاهن قائلا ” سلام لكم “، ويرد الشعب ” ولروحك أيضا “، وبعد إعتراف الكاهن يصلي الكاهن هذه الصلاة السرية أثناء مرد الشماس آمين آمين آمين …” إن كل مجد وكل كرامة وكل سجود كل حين يليق بالثالوث القدوس الاب والابن والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين”، وبعد إنتهاء مرد الشماس يقول الشعب “ذوكصاسي كيريي ذوكصاسي” (المجد لك يارب المجد لك) وعندما يشرع الكاهن لمناولة الشعب، يتجه إلى الغرب ماسكا الصينية إلى أعلى يرشم بها الشعب قائلا “القدسات للقديسين مبارك الرب يسوع المسيح ابن الله وقدوس الروح القدس آمين”، فيسجد الشعب ويصرخ ” مبارك الآتي باسم الرب”.

كل هذه الأمور تجعل الشعب والمرتلين يسبحون الله بالمزمور ال 150، ثم يعطون المجد لله المثلث الأقانيم في لحن “جى إفسماروؤت” شكرا وامتنانا للتدبير الإلهي الذي صنعه الله من أجلنا، حتى يسكن داخلنا ويقدسنا ويجعلنا مؤهلين للسكنى معه في السماويات.والقداس الإلهي يعلن لنا أننا باسم الثالوث نتقدس لنحسب قديسين أهلا للقدسات وتتقدس المادة أيضا معنا فتصير القرابين جسدا ودما مقدسا لإلهنا.

دراسة اللحن من الناحية الموسيقية:

تم الاستعانة بالنوتة الموسيقية حسب تدوين أبونا الراهب القمص إبرآم جرجس

اللحن من مقام البياتي فيه نغمة (مي سيكا) ونغمة (سي بيمول)، وركوز اللحن الأساسي على نغمة الأساس وهي (رى)، المساحة الصوتية الأساسية محدودة حوالي خمس نغمات (رى مي فا صول لا) وتعتبر هذه المساحة مناسبة لروح الزهد والتقشف في الصوم الكبير، كما أن النغمات حركتها متقيدة نوعا وليس بها قفزات كثيرة أو عالية، والجمل اللحنية منسابة في هدوء ووقار، الوزن الإيقاعي رباعي، والسرعة التقريبية للحن (من 95 إلى 100 نبضة في الدقيقة)، وهي تعتبر سرعة بطيئة متوسطة، وهذه التركيبة الموسيقية تعطي إحساس الرقة والشجن، كما تعطي إحساس الهدوء والتأمل، كذلك هو مقام الشوق والحب، وهذه المعاني مرتبطة بالفكر الروحي لللحن، فالكنيسة تريد أن تهدىء نفوس المؤمنين وتساعدهم على التأمل الروحي، كما تشجعهم على التحلي بالرقة والعطف على المساكين، كما تساعدهم على الإلتجاء لله بالحب والاشتياق، كما تغرس في قلوبهم روح الشجن لتساعدهم على التوبة حتى يستفيدوا من روح الصوم والنسك والتوبة، حتى يلتقوا مع مسيحهم الفادي المحب، واللحن بصورة عامة ليس إيقاعيا ولكنه متمهل ومنساب ليتوافق مع جو الصوم الروحي.

واللحن يبدأ بقفزة بمسافة رابعة من نغمة (رى حتى نغمة صول) ليعطي إنتباه واهتمام للموضوع والفكرة الهامة التي سيتكلم عنها وهي إعطاء المجد للثالوث القدوس،وبصورة عامة القفزات في هذا اللحن محدودة وهي موجودة في المقدمة والختام فقط.

أما من ناحية قالب اللحن الموسيقي، فهو يتكون من مقدمة صغيرة عبارة عن عبارتين صغيرتين متكررتين تقريبا (من مازورة 1-5) ونسميها (A1)، وبها إحساس السجود لأنها نغمات هابطة سلميا (صول، فا، مي، رى، دو) وفيها تعبير “جى إفسماروؤت” (لأنه مبارك)، وفيها نرشم الصليب وننحني إكراما لاسم الثالوث القدوس، ثم تأتي الفكرة الوحيدة التي تتكرر خمس مرات (من مازورة 6-49) ونسميهم (B1,B2,B3,B4,B5) كل منهم 8 موازير موسيقية (المازورة هي المقياس المستخدم في قراءة الموسيقي)، ما عدا القكرة الثانية (B2) فهي 12 مازورة بسبب الإمتداد النغمي فيها، وتنتهي دائما بالركوز الأساسي للمقام وهو نغمة (رى)، وهذا الركوز على الأساس يعطي راحة للأذن وعدم التشتت.

لقد حرص الملحن الكنسي الذي وضع نغمات هذا اللحن الوقور “جى إفسماروؤت) أن لا يعطي أفكارا أو جملا لحنية مختلفة، حتى لا يصل إلى أذهاننا إختلاف في الأقانيم الثلاثة أو إنفصالهم، ولكن إلتزم بوضع فكرة لحنية واحدة وكررها في تشابه حتى يعطي معنى الوحدانية في الأقانيم الثلاثة من حيث الجوهر كما أن الأفكار اللحنية هي واحدة، وهذا الفكر التلحيني في الكنيسة القبطية يتكرر في ألحان أخرى مثل لحن إكئسماروؤت الذي يقال بعد المزمور ال150 أيضا في الطقس السنوي، كذلك يقال في استقبال الآباء الأساقفة،كما يوجد في لحن البركة تين أوأوشت الذي يقال في الأجزاء الأولى من القداس الإلهي.

ولكننا نجد ملاحظة واحدة في الفكرة الأساسية المتكررة للحن، أنه أطال التكرار الثاني (B2) الذي يتكلم فيه عن الروح القدس، وفي رأيي أن هذا التطويل الوحيد هنا مقصود لأنه كان بإمكانه أن يجعل الفكرة اللحنية بنفس طول الأفكار المتكررة، كما فعل في المقدمة وفي الختام عندما دمج كلمات أكثر في جمل لحنية قصيرة، والإطالة هنا لا تتعلق بالمساواه بين الأقانيم ولكن ربما لتوضيحعمل الروح القدس معنا، وهنا نذكر تعليقا لأبونا القمص داود لمعي ” إن كانت الصفات الإلهية واحدة في الثلاثة أقانيم إلا أن العمل الإلهي ليس واحدا، فنعمة الابن الوحيد يقصد بها تجسده وفداءه، وشركة الروح القدس يقصد بها سكناه في المؤمنين بالميرون وعمله فينا ومعنا لخلاصنا وتوبتنا وتقديسنا، أما محبة الله الآب فهي سبب خلقتنا وسبب إرساله لابنه الوحيد وروحه القدوس لخلاصنا”، كذلك تعبيرا عن عمله في تحويل القرابين إلى جسد ودم المسيح، وفي هذه المناسبة نذكر صلاة سرية قوية وعميقة جدا من الكاهن وقت استدعاء الروح القدس في القداس الكيرلسي مخاطبا الآب” أرسل إلى أسفل من علوك المقدس ومن مسكنك المستعد ومن حضنك غير المحصور ومن عرش مملكة مجدك الباراقليط، روحك القدوس الأقنوم غير المستحيل ولا متغير، الرب المحيي الناطق في الناموس والأنبياء والرسل، الحال في كل مكان والمالىء كل مكان ولا يحويه مكان، وهو يُجري التقديس بسُلطَة مسرتِكَ للذين يحبهم، البسيط في طبيعته، الكثير الأنواع في فعله، ينبوع النِعَم الإلهية،المساوي لك المنبثق منك، شريك عرش مملكة مجدك”.

وأخيرا ينتهي في ختام اللحن بفكرة موسيقية صغيرة متشابهة مع لحن المقدمة ونسميها (A2)، وفيها الهبوط السلمي بنفس النغمات، وفيها تعبير عن عبارة “تين أوأوشت إمموس” (نسجد له)، وفيها أيضا ننحني ونرشم الصليب إكراما لله مثلث الأقانيم، وتنتهي أيضا بنغمة الركوز الأساسي (رى).

إن ألألحان في كنيستنا القبطية هي معلم كبير للإيمان واللاهوت والفضائل والأسرار الكنسية والحياة الليتورجية وعمق العلاقة مع الله.

اللينك الخاص بلحن جى إفسماروؤت الصيامي:

تاريخ الخبر: 2022-04-07 09:21:09
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 57%
الأهمية: 68%

آخر الأخبار حول العالم

مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال الـ24 ساعة الماضية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 18:26:18
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 60%

مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال الـ24 ساعة الماضية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 18:26:25
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 54%

نصف ماراطون جاكرتا للإناث.. المغرب يسيطر على منصة التتويج

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 18:26:26
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 50%

نصف ماراطون جاكرتا للإناث.. المغرب يسيطر على منصة التتويج

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 18:26:31
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 60%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية