خيوط من دخان


يرصدون الوافدين على المكان لالتقاط الصور و التصريحات من الذين سيمثلون منهم أمام التحقيق أو أولئك الذين جاؤوا للتضامن، النواب المحالون يومها كانوا ينسقون مع محامييهم أمام أعين عدد كبير من رجال الشرطة بالزي المدني المحتشدين أمام الباب.
عموما الأجواء كانت هادئة ولا توجد أي مظاهر توتّر رغم أهمّية الحدث، فمن كان يتصوّر قبل سنوات قليلة أن تتمّ إحالة أغليّة نواب مجلس نوّاب الشعب على فرقة مكافحة الإرهاب للتحقيق معهم في التهم الخطيرة الموجهة إليهم من طرف رئيس الدولة مثل « تكوين وفاق إجرامي والتّآمر على أمن الدولة» بسبب تحدّيهم لرئيس الدولة وعقدهم لجلسة عامّة رغم قرار التعليق الذي كان اتخذه بخصوص أشغال المجلس
ويعيد هذا الحدث إلى الذاكرة محطّات سابقة استخدمت خلالها الدولة القضاء لحسم صراعاتها السياسية مع خصومها ...ولثكنة بوشوشة تاريخ عريق في مثل تلك المحطات، صحيح أنّ سمعتها لم تبلغ سمعة مقرات وزارة الدّاخلية ، لكنها كانت علامة من علامات القمع باستقبالها عشرات المتهمين والموقوفين في كلّ «الحرائق» السّياسيّة» التي كانت اشتعلت بالبلاد، وقد تحدّث النقابيون بإطناب عن ظروف اعتقالهم القاسية وعن الشدّة التي عوملوا بها أثناء التحقيق وخاصة في أحداث 26 جانفي 1978خلال معركة الاستقلالية الخالدة التي خاضها الاتحاد بقيادة الأسد العجوز» الحبيب عاشور،
فما الذي دفع الرئيس قيس سعيد إلى العودة لمثل تلك الأساليب والمرور فجأة إلى السرعة القصوى نحو تنظيم محاكمات السياسية ضدّ خصومه ؟ أ لهذا الحد أزعجته جلسة مجلس النواب المجمّد حتّى ينقلب على موقفه بمئة وثمانين درجة في غضون اثنين وسبعين ساعة ويلجأ إلى اعتماد الفصل الثاني والسبعين من الدستور الذي لا علاقة له من بعد ولا من قرب بحلّ مجلس النواب ويحشد حكومته ووكالة الجمهورية ويدعوهم لفتح تحقيق ضد النواب بعد أن حدّد التهم بنفسه؟.
قد لا يكون عقد الجلسة هو الذي أزعج الرئيس في حد ذاته، فلقد سبق لعدد من النواب أن عقدوا جلسة في 27 جانفي الفائت بمناسبة ذكرى ختم صياغة الدستور ولم يقم بأي ردّ فعل، يبدو أنّ الذي الرّئيس يدخل في تلك الحالة من الّتشنّج والغضب هو توفّر نصاب تلك الجلسة ممّا يعكس التململ داخل النواب من خارج الائتلاف الذي كان يحكم والتصويت على وضع حدّ لإجراءاته الاستثنائية التي يراها تستهدف شرعيّته الجديدة التي منحها لنفسه
فبعد مرور ثمانية أشهر من انفراده بكلّ السلطات بدأ الرّئيس يشعر بأنّ الريح لم تعد تهبّ لأشرعته كما يشتهيها أو كما كانت عليه في الاوّل، فالفشل الكبير التي منيت به استشارته الإلكترونية والتي كان يعوّل على نتائجها لإضفاء شرعيّة شعبيّة على ما ينوي القيام به، واتّساع دائرة المستائين من كيفية معالجاته لوضع البلاد، وتزايد الضغوطات الخارجية عليه، جعله يشعر بالخطر ودفعه لإخراج العصا الغليظة.
فالرئيس ليس في حسابه التراجع او المراجعة لما هو مسطر في ذهنه منذ الوهلة الأولى، وهو مؤمن مطلق الإيمان بصحّة خياراته وأنّ «قوى الشر» هي التي تقف في وجهه على لإحباط عمليّة الإنقاذ التي انطلق فيها، فهو يعتقد أنّه لا يجب أن تقتصر مهمّته على إجراء بعض الإصلاحات على مؤسسات معطوبة لإعادتها للاشتغال كما كانت، بل يجب تفكيك كامل المنظومة القديمة والائتلاف الطبقي الذي تقوم عليه وتشكيل ائتلاف الطبقات المتضرّرة من المنظومة السابقة وتغيير القاعدة الاقتصاديّة والنظام السياسي تغييرا جذريا، ولذلك هو غير منزعج كثيرا لتدحرج الأوضاع الاجتماعية نحو الأسوأ ويرى في ذلك كلفة طبيعيّة للعبور إلى المرحلة الجديد ولا يرى أي داع للاستعجال كما يريد مناصروه وحلفاءه، واضطراره لحلّ المجلس الذي كان وضعه في حالة موت سريري في انتظار «دفنه» مع المنظومة القديمة، بالنّسبة إليه ليس سوى تعديل تكتيكي طفيف لن يخرجه عن مساره ولو قيد أنملة، لذلك سارع بالتوضيح بأنّ ليس في نيّته إجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها كما ينصّ على ذلك الفصل 89 من الدستور، وكان توضيحه بمثابة الصفعة لأولئك الذين طمعوا في الاستفادة من حلّ البرلمان بإجراء انتخابات في غضون الثلاثة أشهر إثر ذلك القرار
لكن مهما كانت نوايا الرّئيس في استعمال القضاء لمعاقبة النواب على «تمرّدهم»، بعد الإطاحة بالمجلس الأعلى للقضاء المنتخب، سيُدخله في منعطف شديد الخطورة وفي مزيد إضعاف السرديات التي أقام عليها مشروعه.
فسرديّة استناده للدّستور أصبح باتت غير مقنعة، بعد أن جعل من الدستور مخزن قطع غيار ، يستعمل منها ما يحتاجه ويتخلّى عمّا لا يحتاجه ، وسرديّة المنقذ من هي أيضا أخذت تتراجع ولو ببطيء أمام مزيد تدهور والأوضاع المعيشية دون أن تلوح بوادر تحسّن ، وسرديّة عدم تورّطه في الفشل الذي صاحب ما سمّي ب»العشرية السوداء» ، أخذت بعض الأصوات ترتفع اكثر فأكثر بعض الأصوات مذكّرة بأنّه هو من عيّن رئيسي حكومتين كانا من أكبر عناوين الأزمة والفشل، وأنّه لم يستعمل صلاحياته الديبلوماسية لجلب اللقاح من الخارج ضدّ وباء كورونا إلاّ بعد أن تعقّد الوضع الصحي بالبلاد وباتت حكومة المشيشي عاجزة على مجابهته.
يبدو أنّ الغيبوبة التي وقع فيها الجميع وجعلتهم عاجزون عن الفعل وعن إدراك حقيقة ما يحصل حولهم ما زالت ستتواصل ، فلا هم نجحوا في المحاسبة وتصفية تركة الماضي الذهاب إلى الأمام، ولا هم توقفوا عن التطاحن واجترار المعارك الإيديولوجية وأعلنوا هدنة لفسح المجال للإصلاحات الضرورية والمستعجلة ليبقى الغموض سيّد الموقف في انتظار لون الدخان الذي سيرتفع من أروقة القضاء.

تاريخ الخبر: 2022-04-07 12:18:31
المصدر: جريدة المغرب - تونس
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 54%
الأهمية: 68%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية