أم الشهداء جميلة.. فى وداع الأب أرسانيوس وديد


فى يوم حزين ودع أهل الإسكندرية يوم الجمعة 8 أبريل 2022 الأب أرسانيوس وديد – كاهن كنيسة السيدة العذراء والقديس بولس الرسول بكرموز – الذى كان ضحية الأرهاب الأسود يوم الخميس 7 أبريل 2022 والكنيسة تحتفل بعيد البشارة. فإن كان الإستشهاد هو التضحية بالنفس من أجل المبادئ السامية، فكم وكم تكون قيمة الإستشهاد إن كان من أجل العقيدة الإيمانية، ولم تكن هذه التضحية أمراً هيناً على النفس البشرية، ولكن شهداء القبط بذلوها طواعية وبنفس راضية ومحبة كاملة ورجاء ثابت لا يخزى فلم يكن إيمانهم فى لحظة من اللحظات مبنياً على رياء لكنه كان بيقين كامل، بل كان الإستشهاد شهوة فى نفوسهم لينالوا حياة أفضل. هؤلاء الذين قال عنهم القديس بولس الرسول – فيلسوف المسيحية – فى رسالته إلى العبرانيين قائلاً: (.. وآخرون عُذبوا ولم يقبلوا النجاة لكى ينالوا قيامة أفضل. وآخرون تجربوا فى هُزء وجلد ثم فى قيود أيضاً وحبس. رُجموا نُشروا جُربوا ماتواً قتلاً بالسيف طافوا فى جلود غنم وجلود معزى مُعتازين مكروبين مُذلين. وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم. تائهين فى برارى وجبال ومغاير وشقوق الأرض ..).

الإستشهاد فى الكنيسة القبطية هو قصة شعب تبدأ بالشجاعة النادرة، والوطنية الصادقة، والبطولة المذهلة، حينما واجه القبط عاصفة الأضطهاد التى شنها عليهم الرومان الوثنيون فى القرون الميلادية الأولى، بعد أنتشار الديانة المسيحية فى مصر على يد القديس مرقس الذى حضر إلى مدينة الإسكندرية فى عام 64م وأخذ يجول فى شوارعها حتى أستشهد فى يوم الأحد 8 مايو 68م ومن هنا كانت كرامة مدينة الإسكندرية والتى على أثرها أصبح أسقف الإسكندرية يأخذ لقب “بابا وبطريرك”. بلغ الأضطهاد شدته فى عهد الأمبراطور دقلديانوس الذى حكم فى الفترة (284 – 305م) وكان عدد القبط فى عهده لا يقل عن 20 مليوناً، أستشهد منهم نحو المليون!! ولعنف الأضطهاد، وكثرة عدد الشهداء، أقام الأقباط نصباً تذكارياً ليخلد ذكرى الإستشهاد فأطلقوا على عصر الأمبراطور دقلديانوس “عصر الشهداء” وبدأوا تقويمهم القبطى بالسنة الأولى التى تولى فيها الحكم وهى سنة 284م، وأطلقوا على كنيستهم اسم “كنيسة الشهداء”، فتغنى شباب وأطفال الكنيسة القبطية بالعديد من الأناشيد باللغتين القبطية والعربية. ومن الأناشيد التى رددناها فى الكنيسة، ومازال الأطفال يرددونها:

(1) نشيد كنيستى القبطية كنيسة الإله:

(كنيستى القبطية كنيسة الإله .. قديمة قوية أرجو لها الحياة .. فى أول العصور لمولد المسيح .. مرقس أتى بنور إيمانه الصحيح .. وجال فى البلادِ ينادى بالخلاص .. باسم المسيح الفادى من يرفع القصاص/ فآمن الأقباطُ بربنا يسوع .. وحل الأغتباطُ فى كافة الربوع .. فى أمد قريب قد حطموا الأوثان .. وأرتفع الصليب وراية الإيمان .. إبليس حالاً قام يحارب ابن الله .. فهيج الحكامَ والجند والولاة/ فأشهروا السلاحَ على بنى الإيمان .. هيا انكروا المسيحَ أوتُلقوا فى النيران .. آباؤنا الكرام كبار مع صغار .. لم يثنهم آلام وشدة وعار .. بل قالوا بانتصار للخلف لا رجوع .. لا نجزعُ من نار إلهنا يسوع/ كم ضُربوا كم سُجنوا كم عاشوا فى إكتئاب .. كم قُتلوا كم حُرقوا كم ذاقوا من عذاب .. بقوة اليقين قد غلبوا الآلام .. وداموا ثابتين فى ملك السلام .. بالدمِ والعناءِ قد أشتروا الإيمان .. واحتفظوا لنا باسم الفادى الرحمن/ هيا بنا نقومُ من شدة الكسل .. وللعُلى نروم ونسعى بالعجل/ كنيسة الآباء أنتِ افتخارنا .. إلى نجاحها هيا هيا بنا/ كنيستى القبطية إيمانها صحيح .. إلى الأبد قوية يا مصرُ للمسيح)

(2) نشيد أم الشهداء جميلة:

(أعروس الفادى القبطية .. وضياء بلادى المصرية .. بمحبة قلبى النارية .. اهواك يا أرثوذكسية/ أم الشهداء جميلة .. أم الشرفاء نبيلة .. عبرت بحرَ الالآمات .. حفظت بدماها الحق قويم/ يا أمى حبك احيانى .. الآمك بذرة ايمانى .. قد جُزتِ امر الأزمانِ .. وخرجت خروج الشجعانِ/ ضربوك الأعداء طردوك .. سجنوكِ وأيضاً قتلوك .. وطعام وحوش جعلوكِ .. ولكل عذاب دفعوك/ يا أمى كم كنتِ أمينة .. وبحب عريسك مفتونة .. أسراره عندك مكنونة .. وبقوته أنت مصونة/ ما أحلى أمى المطرودة .. من أجل الفادى وعبيده .. يا وعده معطيكِ وداده .. من يُنهض بيعة أجداده/ يا ليت فؤادى يهواكِ .. كى احيا فى ظل حماكِ .. واطارد دوماً اعداكِ .. وأجدد أيامَ صباكِ/ يا أمى أثارك فى الوادى .. وحنانك يغلى فى فؤادى .. ها عهد وفائى وودادى .. أن أخدم بيعة أجدادى).

ومازال هذا النشيد الكنسى يردده الأطفال مع الشباب مع الشيوخ أعتزازاً بأمجاد كنيستهم الخالدة، ومن شدة أعجاب المؤرخين الأجانب بصلابة الشعب القبطى وقوة ايمانه بعقيدته، قالت المؤرخة الأنجليزية مسز “بوتشر” كلمتها المأثورة: (لو تزحزح الهرم الأكبر عن مكانه، لن يتخلى القبطى عن إيمانه).

(3) نشيد مارمرقس كاروز الديار المصرية:

(نُحيى البشير الجليل المقام .. مارمرقس عالى الهمم .. فرب الكنيسة قد خصه بحمل البشارة بين الأمم/ فجاء مصرَ ونادى لنا ببوق الكرازة بشرى الخلاص .. وأهدى البلادَ طريقَ الحياةِ .. وبشر مصرَ برفع القصاص/ فيا مرقس الأسد الضيغمِ .. أضئت البلادَ بنور المسيح .. بناء الكنيسة قد أسسته .. على صخر حق وثيق صحيح).

وكنا نردد هذا النشيد بحماس شديد باللغة القبطية حيث قام الشماس يوسف حبيب – أستاذ اللغة القبطية – بتلقيننا هذا النشيد باللغة القبطية ونحن صغاراً.

(4) نشيد ما أحلاكِ يا كنيستنا:

(ما أحلاك يا كنيستنا .. وما أحلى أسرارك.. شمعة فى طريقنا .. بها نتبارك/ الشهداء أولادك .. فدوكِ بدمهم .. وإحنا صغارك .. نعمل زيهم/ لما ندخلك ..نرشم الصليب .. قدام هيكلك .. نسجد للحبيب/ وسط قداسك .. نرفع قلوبنا .. نرنم ألحانك .. ننسى همومنا/ فيكِ العدرا مريم .. أم المؤمنين .. قدمت إلينا .. فادى العالمين/ فيك أستفانوس .. أول الشهداء .. فيك الأنبا بطرس ..خاتم الشهداء/ فيكِ مارمرقس .. كاروزنا الحبيب .. فيكِ مارجرجس .. أمير الشهداء/ فيكِ الأنبا أنطونيوس .. أول الرهبان .. فيك الأنبا بولا .. أول السواح).

(5) نشيد لينا جدود شجعان أبطال:

(لينا جدود شجعان أبطال .. هم أسود وأحنا الأشبال .. ذكصاصى فيلا نثروبى (أى المجد لك يا محب البشر)/ صمدوا أمام بطش الرومان .. باستعداد وثبات وأمان .. ذكصاصى فيلا نثروبى/ عمر ما كان فيهم خواف .. م السجان أو م السياف .. ذكصاصى فيلا نثروبى/ قابلوا وحوش جعانين هايجين .. ما تخضوش راحوا مبسوطين .. ذكصاصى فيلا نثروبى/ دخلوا كمان جوه النيران .. باستعداد وباطمئنان .. ذكصاصى فيلا نثروبى/ كانوا للدين أحسن حُراس .. مليانين غيرة وحماس .. ذكصاصى فيلا نثروبى).

ويشهد التاريخ أن الأقباط على مر العصور كان رؤسائهم الدينينيتسابقون إلى الإستشهاد ويهربون من الكرامة والكراسى الرئاسية، فسجلوا تاريخاً مشرّفاً لكنيستهم المجيدة. فالأسقف الذى يشتهى كرامة الرئاسة لا يقبل الإستشهاد، والكاهن المحب للمال لا يقبل الإستشهاد، والشاب المرتبط بأمور العالم وشهواته لا يقبل الإستشهاد. الإستشهاد يقبله من وضع فى نفسه حكم الموت الإرادى اليومى. ليت التاريخ يعود!!

بدأ اضطهاد المسيحية يأخذ شكله العنيف على عهد الامبراطور تراجان (98 – 117م) حيث أمر بمنع اجتماعات المسيحيين حتى أُطلق على هذه الفترة اسم “مسيحية تحت الأرض” إذ كان المسيحيون يقيمون كنائسهم فى كهوف الأرض ليقيموا صلواتهم سراً فقد كان من يُقبض عليه يُلقى للوحوش. وفى هذه الفترة نشأت الرموز المسيحية ومن أهمها “السمكة” التى ترمز للمسيحية. مع نهاية القرن الثانى جاء أضطهاد الأمبراطور ماركوس أوريليوس (161 – 182م) الذى أهتم بالقبض على رؤساء الكنيسة لتشتيتهم إذ كانت المسيحية قد أنتشرت بشكل ظاهر، وفى مصر بصفة خاصة كانت قد وصلت إلى الصعيد وبدأت تنفذ إلى كل مدينة وقرية. ثم شن سبتيموس سيفيروس (أو ساويرس) (193 – 211م) الذى حضر بنفسه إلى الإسكندرية اضطهاد عنيفاً إذ أمر بهدم الكنائس، وأقام معبداً ضخماً لأصنامه، ورغم ذلك فقد كان من شهداء هذه الفترة الحاكم الرومانى “فيليب” الذى أعتنق المسيحية هو وأسرته ولاقى الموت مستشهداً فى سبيلها. فى منتصف القرن الثالث وبالتحديد عام 249م أصدر الأمبراطور ديكيوس (249 – 251م) أوامره لمحو المسيحية فوضع مرسوماً يمنح بمقتضاه شهادة لكل من يقدم قرابين وذبائح للأوثان، أما من يرفض الأمر فيتم تسليمه للتعذيب. وفى شجاعة معهودة واجه كثيرون من المسيحيين يتقدمهم الأساقفة الأتقياء الشجعان الذين كانوا فى ذلك الوقت قدوة طيبة لشعبهم، واحتملوا العذابات والالآلم فى ثبات عجيب، فكان على رأسهم البابا ديونيسيوس البطريرك 14 الذى تم إبعاده إلى تابوزيرس الواقعة غرب الإسكندرية والمعروف بدير الزجاج، فأنتهز هذا البطريرك المبارك هذه الفرصة وكتب مؤلفه المعروف عن “الإستشهاد” إذ لم يكن الإستشهاد عند هؤلاء الآباء الأتقياء مجرد عظات بل كان حياة يعيشونها ويمارسونها يومياً. بعد ذلك تم نفيه إلى ليبيا فأخذ يبشر هناك بالمسيحية. هذا البطريرك العظيم أطلق عليه البابا أثناسيوس الرسولى البطريرك 20 لقب “معلم الكنيسة الأرثوذكسية”. كذلك أستشهد الأسقف “فابيان” أسقف روما، ولعنف الاضطهاد كان قبول وظيفة الأسقفية معناه التقدم للموت.

قام المصريون بالمطالبة بحريتهم الدينية وضحوا بكل شئ من أجل المحافظة على إيمانهم، وأستشهد منهم الألوف، وقد سالت دماء معظم هؤلاء الشهداء على أرض الإسكندرية ومدينة أنطينوى (حالياً الشيخ عبادة) بجوار ملوى. ونظراً لجفاف الأرض فى الوجه القبلى، فإن قطع النسيج القبطى الشهيرة فى متاحف العالم أُخذت من أكفان الشهداء فى تلك المنطقة. بفضل هذه الأضطهادات أضاءت كنيسة الإسكندرية فى التاريخ بمجد لا يبارى حتى أنها أخذت اسماً متميزاً بين كنائس العالم وهو “كنيسة الشهداء”.

إن قصة الكنيسة القبطية هى قصة شعب تمسك بقوميته وعقيدته أمام الطغاة فحافظ على كنيسته بكل أمانة، وحافظ على الهوية المصرية. أم الشهداء جميلة.

وبعد ففى هذا الموكب الجنائزى المهيب المحاط بكل إجلال يحق لنا أن نحنى الرأس إكراماً وإجلالاً لكل شهداء الكنيسة على مدى التاريخ المصرى العريق الذين أستشهدوا فى ميدان الشرف دفاعاً عن السلام والعقيدة والأرض فكتبوا بدمائهم صفحة مجيدة فى تاريخ مصر والإنسانية.

تاريخ الخبر: 2022-04-10 12:21:29
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 63%

آخر الأخبار حول العالم

أرامكو تعلن عن النتائج المالية للربع الأول من عام 2024 السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-07 12:24:19
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 70%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية