يسمى التكتيك "الكرة الحرارية". تنتظر النحلات، بصبر، الدبور المهاجم، وتحيط به فيما يدخل إلى الخلية، من دون أن تلمسه. فجأة، وفي أقلّ من لحظة، تنقضّ عليه بالمئات، وتشكّل حوله ما يشبه الكرة، ثم تروح تحرّك أجنحتها بسرعة هائلة، فترفع حرارة أجسامها الصغيرة وتولّد ثاني أكسيد الكربون. تصير الكرة جحيماً صغيرةً يمكن للنحلات أن تتحملها، أما الدبور فيُشوَى حيّاً.

مذ أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحرب على أوكرانيا، بدا كمن وقع في فخّ شبيه بالذي وقع فيه الدبور أعلاه. فمع أن أوروبا والولايات المتحدة حذّرتاه من عقوبات تنتظره لحظة تشغيل محرك أول دبابة، فإن أحداً لم يتطوع لأن يبعث إلى روسيا بلائحة ردّ فعل الغرب على اجتياح دولة أوروبية.

واللائحة القاسية التي تُركت بمثابة مفاجأة غير سارة لبوتين عزلت الدولة المنهكة اقتصادياً، وبدت كما لو أخرجتها فجأة من خارطة العالم، كما جعلت الأسلحة والتكنولوجيا والأموال تتدفق إلى أيدي الأوكران ليدافعوا ليس عن بلدهم فحسب، بل عن الغرب برمته.

وإذا كانت العقوبات مكلّفة، فالحروب أكثر كلفة بكثير، وهي، حرفياً، محرقة نهمة لا تشبع من التهام كل الموارد. هذه الحرب التي تنبأت مصادر أمريكية في حينها، للمفارقة، أن كييف لن تصمد أمامها أكثر من 96 ساعة، قبل أن تسقط، ها هي ذي تقترب من نهاية شهرها الثاني، وقد زال الخطر نظرياً عن العاصمة الأوكرانية، فيما خسرت الآلة العسكرية الروسية الهواء الذي نُفخ فيها قبل الحرب، وانكشفت عن مكامن خلل جذرية على الصُّعُد كافة، وبدت مصدومة ومن دون حيلة.

وانصبّت التحليلات على دراسة بوتين نفسه، وعُزْلته التي جعلته يتوهّم جيشاً روسياً مختلفاً عن واقعه، ويتوهّم بلداً جاراً أضعف بكثير مما ظهر فيه، ويتوهم غرباً سيترك بلداً مثل أوكرانيا لمصيره المحتوم، من دون أن يرمي بكل ثقله في دعمه.

هل كان أسوأ سيناريو ممكن، كهذا الذي حدث، في حسابات بوتين؟ المنطق يقول أن نعم. ومع ذلك فقد أصرّ على هذه المواجهة شبه المفتوحة مع الغرب كله. ما سوّقه بوتين لشعبه بأنه "عمليات عسكرية لاجتثاث النازيين الجدد"، رأته أوروبا حرباً كبرى أيقظت أسوأ كوابيسها.

اقرأ أيضا

ما بين اليمين "الصلب" و اليمين "الناعم" أين يجد المسلمون أنفسهم؟

ساحات مواجهة متعددة والمقاومة واحدة

استثمارات الصين في العراق.. الفائزون والخاسرون


هذه القارة لن تقبل العودة إلى الحرب العالمية الثانية من جديد، لتدفع ثمن مغامرات مجنونة انقساماً طالها لعقود، وجعلها مجرَّد باحة خلفية لصراع دولتين عظميين في حرب باردة. ومع أنه لا شيء مُطلَق في السياسة، فإن الغرب بدا كمن اتخذ قراره بالعداء المطلق لفلاديمير بوتين.

وقد انقلبت صورته في الغرب من لاعب دولي مشاغب على رأس دولة نووية كبيرة، إلى دكتاتور خطر على البشرية جمعاء، ومواجهة هذا الخطر الداهم ارتقت فجأة إلى مسألة حياة أو موت الحرية والديمقراطية الغربيتين.

فُتحت دفاتر الرئيس الروسي القديمة كلها، فإذا به رجل "كي جي بي" سابق، ووطني سوفييتي فخور، لكن سابق أيضاً، يعيش مرارة سقوط الإمبراطورية ويسعى بالحديد والنار لعودتها. إذا كان على الروس أن يظنُّوا الحرب عمليات عسكرية محدودة، فعلى الأوروبي أن يظنّ، في المقابل، أن السوفييت عائدون، ولو أن الراية ليست حمراء، ولا منجل ومطرقة عليها. تَجدَّد الذعر الغربي من المنظومة التي لفظت أنفاسها في أول العقد الأخير من القرن الماضي، وعادت المخاوف التي تبدأ من بطش الدول البوليسية وتنتهي عند الرعب من الأبوكاليبس النووي.

هذه الحرب ليست حرب فولوديمير زيلينسكي وحده، وقد قالها أكثر من مرة، هذه حرب أوروبا برُمَّتها. والرئيس الأوكراني كان البادئ بالتهويل بالسؤال الصعب: ما الذي يمنع بوتين من الهجوم على دولة أوروبية ثانية بعد أوكرانيا؟

نظرياً، لا شيء يقف في وجه بوتين، فقد سقط، إلى غير رجعة، الخط الأحمر الوهمي الذي كان يفصل روسيا عن الغرب، ومعه سيسقط حياد آخر المحايدين في أوروبا.

لكن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفييتي العظيم. لم تجد من يتطوع ليقف معها في وجه بقية العالم إلا أنظمة منبوذة أصلاً، مثل نظام الأسد في سوريا. حتى إيران تحاول كعادتها أن تخرج بأكبر مكاسب ممكنة من مشهد الصراع الدولي القائم.

لن يجد فلاديمير بوتين حلفاء حقيقيين يمكنه أن يعوّل عليهم، بل إن خريطة العالم بين يديه تتبدل ألوانها بسرعة. فنلندا، التي عبرت القرن العشرين من دون إزعاج الجار حين كان سوفييتيّاً بالبقاء على الحياد، أعلنت حكومتها إنهاء حالة الحياد هذه، برغبتها في الانضمام إلى حلف الناتو، وأكثر من نصف شعبها بات مع هذه الرغبة بعد الحرب. وقد لاقت من الآن ترحيباً من الرئيس جو بايدن. حدود هذه الدولة مع روسيا تمتدّ 1300 كيلومتر. هذه ستصير حدوداً مشتركة بين بوتين والناتو، وسيكون أي اعتداء عليها اعتداءً على دول الحلف مجتمعة.

ومع أن عدد سكانها يبلغ 5.6 مليون نسمة، فإنها، حسب فورين بوليسي، لديها جيش يبلغ 250 ألف عسكري ويمكن أن يصل في حالة الطوارئ إلى 900 ألف، ولديها عتاد جوي وبري واستعداد سيبراني واستخباراتي وتكنولوجي كبير، يكفيها لأن لا تكون بحاجة إلى قواعد عسكرية أجنبية في أرضها حسبما نقلت فورين بوليسي عن مسؤول فنلندي.

هذه مثلاً دولة كسبها بوتين عدوّاً لحظة أعلن الحرب. السويد كذلك، حسب رويترز، فإن استطلاعاً للرأي كشف أن 59% من السويديين يؤيدون انضمام بلدهم إلى الناتو في حال انضمام فنلندا إليه. ليس في السيرة الذاتية لهاتين الدولتين أنهما من هواة الحروب، ولا حتى النزاعات، لكنه الذعر الحقيقي من فلاديمير بوتين يجعلهما تتخليان عن حياد خسره بوتين الذي يبدو أنه سيضيف بمجهوده الحربي دولتين أخريين إلى لائحة عدوه الأكبر وستُغيَّر خريطة العالم السياسية لمصلحة الناتو.

ألمانيا طالبت بدورها الاتحاد الأوروبي بتسريع إجراءات انضمام ألبانيا ومقدونيا إليه. أوروبا تسعى لبناء أكبر تحالف ممكن في وجه روسيا.

ومع أن الولايات المتحدة في ظهرها، فإن أوروبا ترى نفسها، مرة من جديد، في خط الدفاع الأول. العالم برُمَّته يموج، بغضّ النظر عن النهاية التي ستؤول إليها الحرب الروسية في أوكرانيا. هل يرتدع فلاديمير بوتين إذا ما حُشر في الزاوية، أم ينقضّ على الجميع؟

كرة الجحيم التي تصنعها النحلات حول الدبور تشويه حيّاً وتقتله في نهاية المطاف، لكنه مجرد دبور مسكين. ليس روسيا. لا يملك أكبر ترسانة نووية في العالم، وليس لديه مرافق شخصي يرافقه حيثما ذهب حاملاً حقيبة تحوي الرموز السرية لإطلاق صواريخ برؤوس مشعَّة في جهات العالم الأربع.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي