المبادرة الأولى


ينظر فريق من الباحثين والمؤرخين إلى مبادرة السلام التي طرحها الرئيس السادات (٤ فبراير ٧١)، باعتبارها لم تكن جدية ولا يجب التعويل عليها، فقد كان يريد الحرب ويسعى إليها، هو فقط كان يريد كسب بعض الوقت حتى يستكمل الاستعدادات لخوض المعركة.

وجهة النظر تلك أضيف إليها رأى سمعته مؤخرا من شاهد عايش تلك الأيام، ورأيه يجب أن يكون موضع اهتمام وتقدير، قال إن السادات كان يعرف جيدًا أنه إذا بدأ السلام دون حرب ودون كسر الصلف الإسرائيلى، فإن حكومة تل أبيب لن تسلم مصر سيناء كاملة، وحتى الحدود الدولية ما كانوا ليتزحزحوا أبعد من «العريش» في الشمال ورأس محمد في الجنوب، وكانت الولايات المتحدة ستساندها في ذلك، ولم يكن ممكنا أن يقبل السادات بغير سيناء كاملة غير منقوصة شبرًا واحدًا.

ولدينا رواية السادات نفسه مع أنيس منصور، ضمّنها أنيس في كتابه «من أوراق السادات»، يقول السادات: «كنت أتطلع إلى أن تحقق هذه المبادرة التي تنص على انسحاب إسرائيل إلى المضايق وتترك قناة السويس وتتجه قواتنا إلى الشرق ويتولى في نفس الوقت د.يارنج سكرتير الأمم المتحدة هذه المهمة بيننا وبين إسرائيل لإتمام عملية الانسحاب سلميًا»، ويضيف السادات متحدثًا إلى أنيس منصور: «وكان في نيتى أن أعطى ستة شهور أخرى إذا سار كل شىء على الصورة التي نرجوها، ينطبق هذا على مصر وعلى الجبهات العربية الأخرى.. وبذلك تحل المشكلة بلا قتال». (صفحة١٢٧).

ورغم هذا الاعتراف فإنه يقدم ما يكشف أنه لم يكن مقتنعًا تماما ولا كان ذلك هو الحل الأفضل، إذ يذكر بعدها مباشرةً «ولحسن الحظ كان اليهود أغبياء في هذا الموقف»، فقد رفضوا المبادرة بما أتاح للجيش المصرى أن يتم استعداده للحرب وأن ينتصر عليهم.

حكى السادات عن هذه الوقائع مع أنيس بعد أن حقق الانتصار في أكتوبر ودخل في مشروع السلام، لذا نجد في حكيه نبرة تشفٍّ في حكومة «جولدا مائير»، التي تعاملت مع مبادرته الأولى باستهانة، بينما كان هو مهتما وحريصا على السلام من اللحظة الأولى، وأنها بتلك الاستهانة منحته الفرصة والوقت للاستعداد العسكرى ومن ثم الانتصار عليهم، أي أنهم هم المسؤولون عما وقع لهم يوم العبور.. الرسالة يمكن أن تكون موجهة أو مقصودا بها- وقت أن أدلى بهذا الحديث- حكومة مناحم بيجين، كى لا تتباطأ في إتمام الانسحاب من سيناء إلى الحدود الدولية. كل المقربين منه أكدوا أنه كان لديه هاجس بأن تعرقل إسرائيل إتمام الانسحاب، فيبدو وكأنه عمليًا لم ينجز ما أراده بتحرير كل الأرض المحتلة.

عمومًا، هم حاولوا ذلك فعليا في الشريط الحدودى عند طابا، وأخذناه بالتحكيم الدولى.

هل تصور السادات- فعلًا- سنة١٩٧١ أن إسرائيل يمكن أن تقبل بالمبادرة وتنسحب من سيناء وتتركه يفتح القناة وينتعش اقتصاديا وسياسيا، بينما الوضع العسكرى كما هو؟ صحيح أن حرب الاستنزاف أرهقتهم وأزعجتهم، لكنها لم تكسرهم.

كان السادات سياسيًا وذكيًا، لكنه أحيانًا كان يتحدث ويعبر برومانسية شديدة وحالمة، هل أخذته الرومانسية لحظتها وتصور أن إسرائيل سوف تقبل طوعا بالسلام وتعيد «سينا كاملة لينا»- بالعامية المصرية تنسحب (بَلّوشى)- أم أنه كان يبحث عن مخرج ويريد أن يتجنب خوض الحرب فعلًا بعد تجربة ٦٧ المريرة؟!.

الغريب أنه يتصور أن إسرائيل كانت ستنسحب من سيناء بناء على مبادرة ٧١، بل تنسحب من كل الأراضى العربية المحتلة وتنتهى المشكلة تماما بلا قتال.

الجانب الآخر من المشهد نراه في متابعته الدؤوب مع وزير الحربية الفريق محمد فوزى لوصول بطاريات الصواريخ إلى الصعيد من الاتحاد السوفيتى، وبشره فوزى بأنها ستصل ١٨فبراير، لكنه كان متأكدا أن السوفيت لن يرسلوا الصواريخ في ذلك الميعاد، فلم يحددوا موعد تحرك السفن المحملة من ميناء «أوديسا»، كى يتم تجهيز ميناء الإسكندرية لاستقبالها وسرعة تفريغها، فضلًا عن سرية نقلها إلى الجبهة.. وهكذا طلب ترتيب زيارة سرية وعاجلة جدا يقوم بها إلى موسكو، لكنهم هناك لم يكونوا متعجلين، حددوا له موعدًا في مطلع مارس.

تلك كانت زيارته الأولى كرئيس إلى موسكو، ربما كان مهمًا للسوفيت ألا تكون الزيارة سرية، كى تكون رسالة إلى الولايات المتحدة والمعسكر الغربى أن السياسة المصرية لم تتغير بغياب عبدالناصر، الذي كان يوصف بالصديق الكبير للاتحاد السوفيتى.. بالنسبة للسادات كان مطلب السرية يعنى أنه متوجس من علاقاته بهم، وأن مبادرته للسلام مقصود بها الولايات المتحدة، التي هي السند المطلق لإسرائيل، فضلًا عن قناعته أن ٩٩% من «أوراق اللعبة» في أيدى الولايات المتحدة، وفق تعبيره الأثير، وتلك كانت قناعته منذ أن كان نائبا للرئيس عبدالناصر. الأمر المؤكد أن السوفيت استوقفهم ذلك الرئيس الذي يبدأ تعاملاته معهم سرًا، ولعله أراد أو تصور أنه بذلك يستثير قلق السوفيت فلا يرهقونه كما أرهقوا عبدالناصر.

وربما أراد بسرية الزيارة ألا يستثير قلق بعض الدول العربية التي تتوجس من الارتباط بالسوفيت، فضلًا عن القوى المحافظة في المجتمع المصرى، خاصة أن خطاب الديمقراطية بدأ التبشير به في الصحافة المصرية مع مقدم السادات، وزادت تلك النبرة مع إلغاء الحراسات في ديسمير ٧٠ في الداخل المصرى، وفى الخارج أيضا كان التعامل مع السوفيت يوازى تراجع الديمقراطية.

في المجمل، لم تنجح الزيارة، ذهب يطلب السلاح وقال لهم «نريد أن نحرر أرضنا ونسترد ما فقدناه.. وأنتم أصدقاؤنا»، وراح يقارن فارق التسليح بين مصر وإسرائيل. لم تكن المقارنة في صالحنا بتعبيره هو «إنهم متقدمون عنا بعشر خطوات، وهم العداة، ونحن متخلفون عنهم، ونحن المعتدى علينا».

سمع منهم ما يشى أنهم ليسوا راغبين في إمداده بالسلاح الذي يريد «قالوا في هذا الاجتماع إنه لا داعى للحرب.. وإنه لا يوجد إلا الحل السلمى».

واقع الحال أن ذلك كان مطلب السوفيت طوال الوقت منذ أزمة مايو ٦٧، وتناقشوا مطولًا في ذلك مع عبدالناصر وقدموا له الكثير من المقترحات في هذا الجانب، ولعلهم أرادوا إبلاغ السادات رسالة بأنهم يؤيدون المبادرة، أو ربما يقولون له: إذا كنت اخترت طريق السلام وأعلنت ذلك في مبادرة، فلماذا تريد السلاح وماذا ستفعل به؟.. ويبدو أنه فهم ذلك، إذ نجده، طبقا لحديثه مع أنيس منصور يرد عليهم قائلا: «أنا موافق تماما على ذلك.. ولكن من الذي يستطيع أن يتكلم عن السلام وهو ضعيف. إن السلام لا يمكن أن يتم إلا في ظل القوة. إذا أصبحت قويًا وأيقنت إسرائيل ذلك استطعت أن أتحدث عن السلام وأنا أهددهم بالحرب».

اختلف بشدة مع «نيكولاى بدجورنى» رئيس الاتحاد السوفيتى، وكان مقتنعا أن بدجورنى يكرهه بشكل شخصى، أما «كوسيجين» رئيس الوزراء فكان السادات على يقين بأنه لا يحب المصريين ولا يثق بقدراتهم.. بقى «بريجنيف» الذي كان السادات دائم الإشادة به «رجل صديق ومتفاهم»، تدخل بريجنيف لتهدئة غضب الرئيس المصرى، فقال له الأخير: «بدون تحرك عسكرى لن يحدث شىء».

نحن بإزاء رئيس طرح أمام العالم مبادرة للسلام، أبلغت بها الأمم المتحدة، وهو يريد السلاح لـ«تهديد» إسرائيل بالحرب وهو يطلب السلام، ثم يقول لبريجنيف: «بدون تحرك عسكرى لن يحدث شىء».. مرة أخرى، لم يستعمل كلمة «حرب»، بل «تحرك عسكرى».. وهو تعبير دقيق منه، ربما تسرب الحديث إلى الأطراف الأخرى، فيفهم أنه بصدد الحرب، فلا يثق أحد بمبادرته وحديثه عن السلام، وربما تذهب المعلومات إلى إسرائيل، فتقوم بضربة استباقية ضدنا. كان رأيه أن معظم القادة السوفيت ينحازون إلى إسرائيل، وفيهم من ينقل كل شىء عنا إلى إسرائيل.

المهم أن المبادرة لم تحقق نجاحًا.

زيارة موسكو لم تصل إلى أهدافها.

السلاح الذي نطالب به من أيام عبدالناصر لم يصل بعد.

باختصار، كل الطرق مسدودة أمامه.

.. والحديث ممتد..

* نقلا عن " المصري اليوم "

تاريخ الخبر: 2022-04-17 21:18:13
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 83%
الأهمية: 95%

آخر الأخبار حول العالم

الإمارات: تغريم امرأة سبّت رجلاً على «الواتساب» - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:23:58
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 55%

استمرار التوقعات بهطول الأمطار على كافة مناطق السعودية السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:24:02
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 66%

موعد مباراة الأهلي والإسماعيلى فى الدورى والقناة الناقلة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:22:03
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 43%

مواعيد قطارات السكة الحديد من القاهرة لأسوان والعكس

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:22:05
مستوى الصحة: 31% الأهمية: 46%

وزارة الصحة: 860 مركزا لتقديم خدمات الرعاية الصحية لكبار السن بالمجان

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:22:09
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 45%

البداية مع الإسماعيلى.. مباريات مصيرية تنتظر الأهلى محلياً وأفريقياً

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:22:07
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 41%

تعرف على موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم للعاملين بالقطاع الخاص

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:22:01
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 41%

حاكم تكساس يهدد المتظاهرين في جامعة الولاية بالاعتقال

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-30 06:22:11
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 39%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية