عملاء أم مراكز قوى؟


اختار الأستاذ محمد حسنين هيكل أن يطلق عبر صفحات الأهرام مصطلح «مراكز القوى»، على مجموعة المسؤولين الذين اختلفوا مع الرئيس السادات وتقدموا باستقالاتهم في مايو١٩٧١، استعمل هيكل ذلك المصطلح بعد إقالة على صبرى مباشرة، وليس بعد ١٥ مايو، كما يتصور البعض، وانتقل المصطلح إلى خطب وتصريحات الرئيس السادات، ومنه إلى كل الصحف، فضلًا عن الإذاعة والتليفزيون، غير أن المصطلح لم يكن جديدًا فقد سبق أن استعمله هيكل بعد هزيمة ٦٧، تحديدًا في وصف حاشية المشير عامر ومن كانوا محيطين به، وكذلك «صلاح نصر» مدير المخابرات العامة الأشهر، كما ورد التعبير نفسه على لسان عبدالناصر في بعض الاجتماعات الرسمية باللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى العربى، فيما يبدو، ارتاح السادات إلى هذا التوصيف الذي أعطاه مساحة لإعلان أنه يواجه مشكلة سبق أن تعرض لها عبدالناصر وتعود إلى أيامه، لسان حاله كان يقول إن عبدالناصر لو كان على قيد الحياة لفعل ما يفعله هو، أو أنه يكمل ما بدأه عبدالناصر. بعض الصحف رددت ذلك حرفيًا وقتها.

التركيز على «مراكز القوى»، رسالة إلى الاتحاد السوفيتى أن ما جرى مسألة داخلية بامتياز، رئيس جديد ليس على توافق مع عدد من كبار المسؤولين، لم يخترهم هو، لكنه رسالة لعدد من الدول العربية التي لم تكن ترتاح لوجود عبدالناصر ورجاله وسياساته، إن شئنا الدقة من تنفسوا الصعداء بوفاة عبدالناصر، أما من كانوا يطمئنون لوجود عبدالناصر، فلم يكن يعنيهم كثيرًا من يكون نائبا للرئيس أو وزير الداخلية، فضلًا عن مدير مكتب الرئيس، وغير ذلك من المسؤولين، يضاف إلى ذلك أن السادات ظل محتفظا بعدد من الشخصيات المهمة التي عملت طويلًا مع عبدالناصر مثل هيكل ومحمود فوزى ومحمود رياض وآخرين. وقام السادات بتصعيد أحد أفراد أسرة عبدالناصر وهو أشرف مروان زوج كريمته، وهو تصعيد لم يقدم عليه عبدالناصر، ومن شبه المؤكد أنه ما كان ليفعله لو امتد به العمر.

غير أن السادات أضاف مصطلحًا آخر إلى جوار «مراكز القوى»، وهو «عملاء موسكو»، لم يستعمله سنة ٧١، حيث كان حريصًا على العلاقات مع موسكو والاتحاد السوفيتى، ذكره في كتابه «البحث عن الذات»، سنة ٧٨، وفى العديد من تصريحاته، وحدد من يقصدهم بهذا التعبير، على صبرى. شعراوى جمعة. سامى شرف، قال في كتابه «جميعهم عملاء للاتحاد السوفيتى»، وقد اختص نائبه السابق على صبرى ببعض التنويعات مثل «عميد العملاء الروس في مصر»، أو «كبير العملاء الروس»، كان السادات قد تباعد كثيرًا عن السوفييت وبدا على استعداد لقطع كل العلاقات معهم، حيث صار رهانه الأكبر على الولايات المتحدة، كان قد أطلق مقولته الشهيرة أن ٩٩ في المائة من أوراق القضية بيد أمريكا، في سنة ٧٨، كان ملف قضية مايو ٧١ تجاوزه الزمن وجرت مياه كثيرة في نهر الحياة، لذا يبدو أن الغرب كان هو المستهدف بتلك التسمية، فضلًا عن مغازلة جماعات الإسلام السياسى التي كان لا يزال يراهن عليها وعلى استمرار التحالف معها؛ الغريب أن هذا التعبير «عملاء موسكو» ظل يتردد، بكثير من التزيد، حتى سنوات قليلة مضت، في بعض البرامج التليفزيونية التي زعم من يقدمها أنها وثائقية أو تاريخية، رغم أن الاتحاد السوفيتى كان قد تبدد تماما وكان الرئيس السادات في ذمة الله.

أن يطلق على مسؤول ما أنه «مركز قوة»، مفهوم ومقبول، في النظم الرئاسية، قيل ذلك عن البعض في نهايات حكم الرئيس السادات وقيل عن آخرين زمن الرئيس مبارك، وسوف يقال عن كل مسؤول يشعر خصومه وكارهو وجوده أن نفوذه متضخم، وربما تقال لخلق مناخ يساعد على إقالته، أشياء مشابهة قيلت عن هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى، مع الرئيس نيكسون، قيل كذلك عن رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكى زمن بوش الابن وتدميرالعراق؛ أن يقال عن مسؤول ما إنه مركز قوة، ليس اتهاما طالما أنه لا يخرق القانون ولا يتجاوز اختصاصه.

الاتهامات بالعمالة، وما يشبه من أوصاف وتعبيرات، خاصة إن كان البلد في حالة حرب، والعمالة لعاصمة معينة، تحديدًا إذا كانت عاصمة دولة عظمى، فهذا يقترب من الخيانة بأسوأ معانيها، إنها الخيانة مضافًا إليها الاستقواء بالدولة العظمى ضد الدولة وضد الرئيس شخصيًا، بل ضد مصلحة الوطن، دعك الآن من المخاطر والدلالات القانونية لهذا الاتهام، يكفى ازدراء الرأى العام، نعرف ذلك جيدًا في التاريخ المصرى، حين اختلف الزعيم العظيم سعد زغلول مع بعض رفاقه من قادة ثورة ١٩١٩، بشأن التفاوض مع الإنجليز، إذ رماهم أمام الشعب المصرى بأنهم «برادع الإنجليز»، كان تعبيرًا غاية في القسوة بحق زعماء وطنيين، لكنه كان صاحب كاريزما وسطوة شعبية طاغية، وبهذا المصطلح أعدم شعبيتهم إلى الأبد، رغم دورهم غير المنكور، يكفى أن رجلًا في قامة عدلى يكن، كان على رأسهم.

وأن يطلق مثل هذا الاتهام «عملاء موسكو»، من رئيس الجمهورية، على أناس بلغوا وشغلوا مناصب رفيعة في الدولة فإنه لا يسىء إليهم فقط، بل يسىء إلى الدولة ذاتها ويهز مصداقيتها والإيمان بدورها وهيبتها.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتى سنة ٩٠، تكشف الكثير من الوثائق ونشر العديد من مذكرات كبار المسؤولين السوفييت، وفتحت ملفات العلاقات السوفيتية مع مصر والعالم العربى، وتحدث عدد من المسؤولين السوفييت، الذين عملوا بسفارتهم هنا في القاهرة أو في دمشق، فضلًا عن تل أبيب.

المدهش أن ما تكشف يثبت أن القيادة السوفيتية أخذت جانب الرئيس السادات في أزمة مايو١٩٧١، حيث أكدوا بوضوح أنها أزمة داخلية لا شأن لهم بها، عمليًا وقفوا إلى جوار السادات لعدة أسباب:

- خبرتهم في التعامل مع مصر أن مركز النظام وعقله هو الرئيس شخصيًا، وليس أي مسؤول آخر، الرهان يكون على الرئيس أولًا وأخيرًا، هو من يتخذ القرار، مهما كانت صعوبة ودقة القرار، الرئيس هو صاحب الشرعية، وهو الذي ينصت له الشعب. أي مسؤول آخر يرتبط وجوده في موقعه بالرئيس شخصيًا. كان هذا الفهم، وهو إلى حد كبير دقيق، يتسق كذلك مع طبيعة نظامهم هم، رغم الفارق الأيديولوجى الكبير، هكذا كان ستالين، الذي أطاح بالكثيرين سجنًا أو إعداما ثم خروشوف، الذي أعدم رجل ستالين الموثوق «بريا» سريعًا جدا ومن بعدهما ليونيد بريجنيف الذي تعامل معه الرئيس السادات شخصيًا، وكثيرًا ما عبر عن التقدير والامتنان له، بينما عبر عن امتعاضه من الآخرين، خاصة، رئيس مجلس السوفييت الأعلى «نيكولاى بدجورنى»، الذي شعر السادات أنه- بدجورنى- لم يكن يحبه.

- في الوقت الذي قام فيه الرئيس السادات بهذه الخطوة أقدم على ما يمكن أن نعتبره تهدئة أو فتح شهية لموسكو، بأن اختار اثنين من القيادات الشيوعية أعضاء في حكومته.

- الرئيس السادات كان أعلن مبادرة السلام في الرابع من فبراير ٧١، وهذا يعنى أنه لا يريد خوض حرب مع إسرائيل، على الأقل يسعى لتجنبها، بينما على صبرى كان يريد دخول الحرب «فورًا»، هم كانوا يريدون من سنوات بعيدة إحلال السلام بين مصر والعرب من جانب وإسرائيل من جانب آخر، مارسوا الكثير من الضغوط على الرئيس عبدالناصر لخوض السلام، حدث ذلك بشدة في مايو٦٧. لا يجب أن ننسى أن الاتحاد السوفيتى اعترف بإسرائيل قبل أقل من ربع ساعة على إعلان «بن جوريون» قيامها في مايو ١٩٤٨.

الاتجاه نحو السلام أو تجنب الحرب، كان يتوافق مع مناخ تبنته الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى بالتهدئة في المنطقة العربية، كانت حرب فيتنام تلملم أشلاءها، وبدا أن السوفييت شعروا بأن الولايات المتحدة لم تحقق نصرا هناك وكان ذلك مرضيًا لموسكو، وكانت الرغبة تزداد بين القوتين للتهدئة في منطقتنا، كانت إسرائيل منتصرة وهذا مرضٍ لهما معا، أما مصر والعرب فيمكن ترضيتهم، مع عدم التشجيع على خوض حرب، حين طلب الرئيس عبدالناصر مستشارين عسكريين سوفييت، أحاطت موسكو واشنطن علما بالأمر، حتى لا يحدث صدام من أي نوع بينهما هنا، كان لدى كل منهما اهتمامات وانشغالات أكثر.

عدم خوض الحرب يعنى ألا تطالب مصر بأسلحة هجومية، وإذا طالبت يمكنهم الرفض بملء الفم وليس التسويف، كما كانوا يفعلون، غاية ما يمكن لهم تقديمه أسلحة دفاعية، كما لا تطالب بمزيد من المستشارين العسكريين، هم كذلك لم يكن لديهم ثقة في قدرة الجيش المصرى، فضلًا عن أي جيش عربى، على خوض حرب مع إسرائيل وتحقيق انتصار عليها. كانت تجربة يونيو ٦٧ عندهم حكما فاصلًا علينا.

الحديث متصل.

نقلا عن "المصري اليوم"

تاريخ الخبر: 2022-05-08 21:17:50
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 79%
الأهمية: 94%

آخر الأخبار حول العالم

الأونروا: رفح تحولت الآن إلى مدينة أشباح

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-14 09:22:19
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 59%

الشيلي والمغرب يوقعان اتفاقية للتعاون في مجال التراث الوثائقي

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-14 09:24:57
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 66%

علم فلسطين يضيء أحد مباني جامعة أكسفورد

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-14 09:22:13
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 61%

المغرب يستعيد من الشيلي 117 قطعة أحفورية يعود تاريخها إلى 400 مليون سنة

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-14 09:24:54
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 56%

الذهب مقابل المسيرات!! – صحيفة التغيير السودانية , اخبار السودان

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-14 09:22:51
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 59%

الاحتلال يدمر آبار المياه وشبكات الصرف الصحي بحي الزيتون

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-14 09:22:25
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 64%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية