ما بين الصفق والفروع والشجر والغابة: في فهم الثورة والتغيير في بلاد السودان


ما بين الصفق والفروع والشجر والغابة: في فهم الثورة والتغيير في بلاد السودان

بكري الجاك

هنالك تعبير شائع باللغة الإنجليزية يقولMissing the forest for the trees ويمكن ترجمته حرفياً بأن “التركيز في الشجر يحجب عن رؤية الغابة”، أما دلالته المعرفية فتعني عدم القدرة في فهم أو تقدير الإطار والسياق الكامل لمشكلة بعينها أو وضع ما بسبب الإصرار على التركيز على أجزاء أو جوانب محددة وإهمال البقية.

النتيجة الطبيعية في حالة وقوع الباحث أو المحلل في ورطة الـMyopia أي ضيق الأفق وقصر النظر هي أن قراءاته وخلاصاته في فهم وتفسير الواقع ستكون قاصرة لأنها ستوصف شجرة أو شجراً بعينه وتنصرف عن بقية الغابة، وعليه الخلاصات التي سيتوصل اليها المحلل والتي قد تربط حدوث ظواهر بعنيها بأسباب محدّدة (كتطبيق عملي لما يعرف بالـRationality أي العقلانية) ستكون قاصرة، ومثلها ستكون التدخلات المقترحة في معالجة الظواهر لأنها لا تخاطب كل جوانب المشكلة.

في علوم السياسات العامة مثل هذا الخطأ أصبح بمثابة البديهيات كحصيلة طويلة لتطبيقات نظرية التعقيد Complexity Theory القائمة على محاولة فهم الظواهر من عدة جوانب لتجنب الخلاصات القاصرة، وفي علوم اجتماعية أخرى نفس مبادئ نظرية التعقيد تعرف بالـintersectionality أو التقاطعية وتعني في جوهرها أخذ عدة عوامل وجوانب في فهم وتحديد المواقع الاجتماعية للأفراد.

في تقديري أن جزءاً كبيراً من أسباب التباين في المواقف السياسية بين جل الفاعلين الثوريين ليس له علاقة بما هو ظاهري كما يبدو أو كما يصوره كتاب البيانات والمواثيق التي تظهر جوهر الخلاف وكأنه ما بين قوى محافظة تسعى إلى السيطرة على التغيير والتحكم في مآلاته حتى لا يحدث خلخلة كبرى في البنية الاجتماعية مما سيحافظ على شبكة المصالح التقليدية وفق الشروط القائمة لعلاقة السلطة بالثروة (وفي أحسن الأحوال نتيجة هذا المدخل هو تغيير شكلي لا يغير في طبيعة علاقة السلطة والثروة كما يُصوّر) وقوى تسعى إلى تغيير جذري أهم ملامحه هو تجذير السلطة في القواعد وبناء نظام سياسي ودولة وفق عقد اجتماعي جديد سيؤدي بالضرورة إلى إعادة تعريف المصالح بما في ذلك تقاسم الموارد المادية ومصادر القوة نفسها بتفكيك أصل السلطة وانهاء مركزيته.

للذين يكترثون لقراءة كل البيانات التي تصدر من كل الفاعلين السياسيين من أمثالنا ربما يكون ما أوردته في عاليه هو ما يبدو كجوهر وأصل الخلاف، ولكن سرعان ما يتأمل القارئ المدقق في بيانات القوى الموصومة بأنها قوى محافظة وتعمل على تصفية الثورة حتى تتضح حقيقة واحدة بائنة أن كل هؤلاء الفاعلون (المختلفون افتراضاً) يتحدثون عن نفس المطالب والتطلعات.

أصل الخلاف يمكن إرجاعة إلى: إما 1) أحكام مسبقة من قبل الفاعلين عن بعضهم البعض نتيجة لممارسات سابقة، أو 2) غياب الثقة، أو 3) محض عبثية سياسية لا علاقة لها بما هو موضوعي وعقلاني، هذا فيما يتعلق بتفسير أسباب الخلافات التي هي موجودة في مخيلة الفاعلين السياسيين عن بعضهم البعض أكثر من وجودها في مواقفهم المعلنة. موضوعياً ليس هنالك ضرورة لأن تتطابق الرؤى بين كل الفاعلين بل الضروري هو كيفية إدارة التنوع في الرؤى.

هنالك جانب آخر مهم في أسباب الخلافات وهو جوهري ومعرفي وهذا يتعلق بقراءة الواقع وتفسيره، في ظني أن هنالك بعض الفاعلين الذين ما زالوا يتحدثون عن الدولة السودانية كشئ خيالي في المطلق وليس له أدنى معرفة واقعية بطبيعة هذه الدولة الآن وما آلت إليه، وهذا الأمر الذي يجعل البعض يتحدّث عن مطالبة الدولة بالاضطلاع بمهامها الأساسية المتمثلة في احتكار العنف واستخدامه وفق إطار دستوري وقانوني ومنع الآخرين من استخدامه، إنفاذ التعاقد، وتنظيم المجتمع باستخدام السياسات العامة.

اندهش في كثير من الأحيان حين اقرأ البيانات والمواثيق التي تطالب بتقديم الجناة إلى محاكمات عادلة وتوفير العلاج المجاني والتعليم المجاني، وسبب دهشتي ليس في عدالة ووجاهة هذه المطالب بل هي في اعتقاد كتاب هذه البيانات أن هنالك دولة وجهاز دولة به أي قدر من الكفاءة والاحترافية والنزاهة لتلبية أي من هذه المطالب. ففي التحليل الذي يفترض وجود دولة يكمن الخلاف الابستمولوجي، فظللت أحاجج منذ وقت أن الدولة السودانية مختطفة وأجهزتها المختطفة توظف لاكتساب شرعية اجتماعية وسياسية لعصابات منظمة لها امتدادات إقليمية.

الأحرى بنا بدل مطالبة هذه الدولة بتحقيق العدالة وإنصاف المظلومين وتوفير التعليم المجاني ومعالجة المرضى بأن نعمل على استعادتها وإعادة بناءها، فهي بالفعل قد تلاشت في جل أرجاء البلاد ولم يبق منها إلا مظهر عنف السلطة. سوء فهم الحقيقة المتعلقة بطبيعة الدولة هو في ظني جوهر الخلاف وليس ما ينشر في هذه البيانات.

وسواء لأسباب الخلافات الظاهرية أو لسوء فهم وتحليل الواقع كما أشرت في عاليه، حالة الثورة السودانية وحراكها السياسي أوصلنا إلى مرحلة الضياع ما بين الصفق والفروع بل قليل منا من يرى الشجرة أو الشجر، أما الغابة فاصبحت وكأنها من عوالم الميثولوجيا حين تذكر في متن التحليل.

الصفق هو افتراض ما يقوم به أي فاعل سياسي هو الشئ الوحيد في المشهد السياسي، والفروع هي افتراض أن ما يقوم به بعض الفاعلين لا يصب في نفس الهدف الذي يسعى له فاعلون آخرون، أما الشجر فهو معركة ذات المواثيق والمبادرات رغم أنها موضوعية من حيث المسوغات والسياق.

خلاصة القول إن الغابة التي أصبحت نسياً منسياً في خطابنا السياسي هي الهدف الكلي المتمثل في الوصول إلى دولة مدنية ديمقراطية تقوم على المواطنة المتساوية وتصون الكرامة والحقوق، والأهم هو التوافق على آليات بناء هذه الدولة مع تطوير وسيلة ندير بها خلافاتنا الظاهرية وتصوراتنا الناتجة من مقاربات معرفية متعدِّدة في قراءة الواقع.

12 مايو 2022م

تاريخ الخبر: 2022-05-13 03:22:07
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 61%

آخر الأخبار حول العالم

النقابة الوطنية للعدل تدعو إلى إضراب وطني بالمحاكم لثلاثة أيام

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:17
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 51%

سعيد بنكراد.. يكتب "تَـمَغْربيتْ"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:00
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 69%

سعيد بنكراد.. يكتب "تَـمَغْربيتْ"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:25:52
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 52%

النقابة الوطنية للعدل تدعو إلى إضراب وطني بالمحاكم لثلاثة أيام

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:11
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 68%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية