توقيع اتفاق بدون حوار اجتماعي


في استقراء للتجربة المغربية، لم يولد الحوار الاجتماعي ولادة طبيعية ولم يترعرع في مجال علاقات الشغل الجماعية، فمنذ فجر الاستقلال سنة 1956 لم يعرف الحوار الاجتماعي كاصطلاح سياسي طريقه إلى الخطاب الرسمي إلا بعد منتصف التسعينات من القرن الماضي، حيث وقع  أول اتفاق سنة 1996 توّجته جولات من الحوار الاجتماعي بين ثلاث مركزيات نقابية ووزير الداخلية إدريس البصري الذي وقّع على هذا الاتفاق (فاتح غشت 96) بعد ذلك تم التوقيع على ثلاث اتفاقيات أخرى ( 2000 – 2003 – 2011)  إلا أن اتفاق 26 أبريل 2011 شكل استثناء من حيث قيمة مخرجاته، فجولات الحوار مرت تحت أعين الملك مباشرة، وتحت ضغط حراك 20 فبراير والربيع العربي فلم يكن للمخزن بد من المناورة والالتفاف على المطالب المركزية، فأقر زيادة عامة في الأجور لم تكن في الحسبان.

في مرحلة ما قبل الثمانينات وحين كانت النقابات متشبثة بخطها الكفاحي، عبرت بمصداقية عن هموم وتطلعات الطبقة العاملة، كانت دائما ترفع من سقف المطالب ولا تتنازل، فيضطر معها في كثير من الأحيان القصر للتدخل المباشر، وتحدث اصطدامات ومضايقات وصلت حد الاغتيال. لكن وبعد أن صار الحقل النقابي مجالا للضبط الاجتماعي، وبدأ الأفول يتسلل للإطارات النقابية التاريخية بعد أن أنهكها التفكك والتفريخ التنظيمي، تراجع المنسوب النضالي وأصبح الحوار الاجتماعي متحكما في مخرجاته سلفا فلا ضير من تفاوض شكلي بين حكومة محكومة لا قرار لها وبين نقابات لا مد جماهيري لها ولا زخم نضالي تتكئ عليه لتمارس الضغط المطلوب لانتزاع المطالب.

ومن المفارقات العجيبة لجلسة حوار هذه السنة (2022)، هو غياب تام للنقابات كفعل، وحضور المخزن بشكل مباشر على طاولة الحوار بعد أن ترأس حكومة الواجهة أحد أعضاء حكومة الظل، فأصبح زواج السلطة والمال مكشوفا “وعلى عينيك ابن عدي” وفي مشهد ادرامي طلعت علينا ليلة فاتح ماي هامات منخورة تستجلب الشفقة بابتسامة صفراء لتعلن بعد تردد توقيعها على اتفاق لا يساوي الحبر الذي كتب به، ولا يرقى إلى الحد الأدنى من انتظارات الشغيلة المغربية، فقد كان مخيبا للآمال بكل المقاييس، أفرز موجة غضب عبر عنها مناضلو هذه النقابات الموقعة قبل غيرهم دفعت الكثير منهم لعدم المشاركة في فعاليات فاتح ماي لهذه السنة.

لقد استدعيت النقابات لجلسة يتيمة سميت زورا وبهتانا بحوار اجتماعي، توج بالتوقيع في جلسة ثانية على اتفاق قيمته المادية كانت قريبة من الصفر ومخرجاته لم تعالج المطالب الحقيقية المرفوعة، في مقابل تمتيع المخزن بسلم اجتماعي مجاني. فالزيادة في أجور موظفي القطاع العام والجماعات الترابية وعمال ومستخدمي القطاع الخاص صار ذات أولوية قصوى، خاصة بعد تبعات جائحة كورونا وأزمة أوكرانيا وما تبعه من موجة غلاء غير مسبوقة في أسعار المحروقات والمواد الأساسية تدهورت معها القدرة الشرائية لفئات عريضة من المجتمع، لقد كانت اللحظة تقتضي وعي كل الأطراف بدقة المرحلة وكان من المنتظر أن يتنازل المخزن قليلا ويستجيب لمطالب لم تكن أبدا لتعجزه، ويتحقق نسبيا انفراج وسلم اجتماعيان. فقيمة 600 درهم التي تطالب بها النقابات كزيادة في رواتب الموظفين والتي تكاد تعادل متوسط القيمة السلبية لإصلاح تقاعد الموظفين عن كل منخرط منهم في الصندوق المغربي للتقاعد مطلب جد بسيط، أضف إلى ذلك الانتقائية غير المبررة في المطالب كحذف السلم السابع الذي لا يكاد يكلف ميزانية الدولة شيئا، والإبقاء على السلم السادس الذي تقبع فيه فئات عريضة من مساعدين إداريين وتقنيين، والمنطقي والمطلوب هو حذف السلالم الدنيا جملة وتفصيلا وتقليص فجوة الفوارق بين الأجور، أما رفع الحد الأدنى للأجور إلى 3500 درهم فهو مجرد فرقعات فارغة لأنه لا يعني إلا الموظفين الجدد في السلم السادس (أي الرتب الأولى ضمن السلم السادس)  وبما أن التوظيف ظل مجمدا منذ مدة خاصة في هذه الفئة فالاستفادة من هذا الرفع لن يشمل سوى عدد جد محدود، أما زيادة 10% على دفعتين في القطاع الخاص فهو مجرد ذر الرماد في العيون ولا يستحق ذكره في ظل الظروف المعيشية الحالية، أما التبجح بالميثاق كإنجاز في حد ذاته فهو مجرد مكسب صوري غير مسيج بضمانات قانونية ولا ثقة بالوعود.

بالمحصلة فتوقيع اتفاق بدون حوار اجتماعي حقيقي، بدون مفاوضات عسيرة وبدون شد وجذب، لن يكون إلا ضعيفا وهزيلا، وتشوبه شبهة إبرام صفقات تحت الطاولة غير معلن عنها، فهو شبه فارغ من مكاسب حقيقية ودون التطلعات المرجوة، ومتراجع عن اتفاقات سابقة حتى، وهذا ما يؤكد مرة أخرى عزم الدولة عن التخلي عن مهامها الاجتماعية، فلازالت الدولة للأسف تصر على تكريس التبعية، وتتمادى في رهن البلاد لإملاءات صندوق النقد الدولي وباقي اللوبيات المالية العالمية المستكبرة، ما زالت الدولة تمعن في نهج سياسات جائرة لا شعبية، تضرب في العمق كل التوازنات الاجتماعية، وتتنصل من كل واجباتها الاجتماعية…

أما النقابات فوظيفتها ليس الإطفاء الاجتماعي لصالح السلطة السياسية، دورها الرئيس هو تحرير القوى العاملة من كل أشكال الحيف والظلم والاستغلال، واجبها هو المطالبة بتوزيع عادل للثروة في الاقتصاد وبالديمقراطية الحقيقية في الحكم، والفعل النقابي الجاد والمثمر يقتضي تنظيمات قوية، فلا ينتزع الحق إلا قوي، وخيارها الوحيد لتعبئة الطبقة العاملة والتأثير النضالي في قرارات السلطة هو توحيد الصف النقابي في إطار جبهة نقابية موحدة وقوية توحد الجهود وتصمد أمام التسلط المخزني وتعنته. 

 

 

 

 

تاريخ الخبر: 2022-05-30 15:20:22
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 48%
الأهمية: 52%

آخر الأخبار حول العالم

الشعباني: "سنواجه فريقا متمرسا في نهائي الكونفدرالية"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:27:20
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 57%

الشعباني: "سنواجه فريقا متمرسا في نهائي الكونفدرالية"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:27:21
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 60%

رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:26:13
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 63%

سانشيز يتراجع عن قرار الاستقالة ويقرر البقاء في منصبه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:26:31
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 53%

سانشيز يتراجع عن قرار الاستقالة ويقرر البقاء في منصبه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:26:37
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 50%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية