خالد فضل
بالطبع الكل يتحدث عن ضرورة حل المأساة السودانية عن طريق الحوار ، والتفاوض ، هذه حدوتة ظلت تلوكها الألسن لعقود من استمرار الجريمة الوطنية التي تنفذها الأيدي السودانية ضد شعبها السوداني ووطنها المفترض ، بينما ما يجري هو في الواقع حوار البنادق ، نعم أطول وأكبر حوار سوداني جرى وما يزال يجري هو هذا الحوار البائس ، وأكبر وأفدح نتائج لهذا الحوار المستمر هو حزم من آلاف بل ملايين القتلى ومثلهم من الجرحى والمعاقين والمصابين والمشردين والنازحين واللاجئين.
قصدت استخدام لفظ (حزم)، لأنّ القتلى عندنا يحسبون بالأرقام الكبيرة وليس بالأفراد المعدودين وهذها هو أحد أبشع الحقائق الوطنية ولعل صلاح أحمد إبراهيم كان متفائلا وهو يحصي عشرين دستة من البشر في وصف فجيعة عنبر جودة في الخمسينات من القرن الماضي هذه هي الوقائع بدون أي تزويق وتحسين وما تزال بلادنا في ذيل قائمة أفقر البلدان في العالم المثقلة بالديون وما يزال عشرات الملايين من أهلنا السوادنة في حاجة إلى من يمدهم بالغذاء والكساء والدواء وما تزال طوابير المنتظرين أمام مقار المنظمات الدولية تطول ولا تقصر , وما يزال المنتظرون أمام السفارات يأملون في نيل فيزا خروج ربما في وعيّ البعض أبدياً.
ومع ذلك، تسمع وتشاهد وتتابع ألوان من الفصاحة والكلام الممطوط الممجوج عن الحوار الوطني يتحكر البعض في ستوديوهات التلفزيون البائسة وأمام الكاميرات الصدئة ومع مذيعين سمجين وضيوف ثقلاء فارغين لينصحوا ويوجهوا وينثروا من لغوهم وحشوهم ما يسبب ( طمام البطن) والكل ينبح الحوار والآلية السباعية والخماسية والثلاثية.
أرشيف الحوار الوطني
إنّ أرشيف ما يسمى بالحوار في السوداني مكتظ بملايين الصفحات مئات أو آلاف المجلدات لم يغادر صغيرة أو كبيرة إلاّ وأحصاها عددا ، أها النتيجة شنو ؟ كل حقبة قتل وتدمير تتبعها موجة قتل وتدمير أسوأ منها والسبب الواضح حتى الآن هو الإنقلابات العسكرية التي تقطع الطريق منذ الإستقلال وحتى 25 أكتوبر من العام الماضي. نعم، لم تكتمل دورة واحدة من الحوار الوطني الفعّال حتى الآن وفي تاريخ حواراتنا المزعومة لا يمكن الجزم بنجاعة أي حوار سوى مؤتمر المائدة المستديرة الذي عقد في منتصف الستينات في أيام ثورة أكتوبر المجيدة أكتوبر صاحبة الاسم وليس أكتوبر البرهان. ولأنّ انقلاب مايو 1969م قطع الطريق على اكتمال ذلك الحوار الحر، فقد عادت دورة حوار البنادق أشد شراسة في جنوب السودان الذي كان جزءا من الخارطة الوطنية , وبحلول العام 1983م كان كل شئ قد تغيّر نحو الأسوأ حتى انفصل الجنوب كليا وغادر السودان في 2011م مأسوفا على فراقه لمن في قلبه ذرة حب ولمن في رأسه بذرة عقل .
قلنا إنّ حوار المائدة المستديرة يعتبر أنجح حوار وطني سوداني لأنّه جرى في ظروف سياسية صحية نسبيا ، لم يك هناك معتقلون سياسيون يرحلون من سجن إلى سجن ، لم يك المتظاهرون /ات يقتلون ويقتلن في الطرقات ، لم تك الصحف مصادرة والإعلام مكبّل والتلفزيون تسيرة التعليمات العسكرية الفضاء الحر هو الضمان الوحيد لحوار وطني ناجع وناجح ولا يتوقع عاقل أن تثمر الشجرة في اسبوع أو سنة كاملة حتى لابد من صبر سنوات على استمرار الحوار الوطني عبر استمرار فضاء الحريات خلال تلك السنوات يبدل الشعب حكومة بأخرى ينتخب الناس بحرية زيد أو عبيد الحزب الشيوعي أو الاتحادي على كيفهم يجددون الثقة في هذا ويسحبونها من ذاك هذا هو المنطق السليم في نجاعة ونجاح الحوار الوطني المثمر والمستمر حتى يصل آخر المترددين إلى قناعة تامة بأنّ سبيل بناء الوطن واستقراره لن يكون بتصويب البندقية نحو صدور ورؤوس المختلفين , ساعتئذ نبدأ في بناء وطن يسعنا جميعا عوضا عن هذا الضيق الذي يفرز في كل يوم قتلى وجرحى ومعاقين ومعتقلين. وإذا كانت هناك آلية تسمى بالثلاثية تسعى الآن لعقد حوار بين السودانيين فإنّ جهدها مشكورا لكنه لن يصل لأي نتيجة فالمشكلة ليست في تمنّع لجان المقاومة أو تعنّت قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي المعضلة ليست في فيتو الحزب الشيوعي أو عبد الواحد محمد النور، المعضلة الأساسية هي انعدام الفضاء العام الذي يجري فيه الحوار الوطني، المشكلة في الحكم العسكري وأذياله ممن لا يعيشون إلا تحت قبعة العسكر. وما أكثر القيح الذي يتجمع حول جرح الوطن ما أقذره.
