ليالى ميادة الحناوى

عدوى الأول هو النسيان. مع أن من الممكن اعتباره صديقًا لا غنى عنه بما أنه يمنحنى راحة لا شك فيها من جراء عدم قدرتى بفضله على تذكر تفاصيل بعينها فى ظل ذاكرة انتقائية مراوغة. كم عمر الصغيرة «أحلام» الآن؟ خمس سنوات تقريبًا. اندهشتْ حين رأتنى أصلى ذات صباح وسألتنى: هو إنت بتصلى يا جدو؟ قلت لها: أيوا بصلى يا حلا. كان سبب سؤالها هو أنها ربما لم ترنى من قبل أصلى. ترى جدتها تصلى باستمرار وتقلدها. تقلدها أيضًا فى الاحتفاء بالحَمَام الذى نربيه فى بلكونة شقتنا. تنثر الحَبَّ على الأرض: صباح الخير يا حمام. ميح ميح ميح. صلاة النبى صلاة النبى. صبَّحنا وربَّحنا وبين عبيدك ما تفضحنا. وحين تقف أمها للصلاة، تقف إلى جوارها وتفعل مثلما تفعل، ثم تعود إلى حضنى لنواصل ألعابنا. 

باهر، أيضًا فوجئت به يسألنى، وكان راقدًا على الكنبة فى الصالة فيما كنت أنا أجلس على كنبة مقابلة أتابع فيلمًا على «روتانا سينما»: يا بابا إنت ليه بطلت تصلى؟

لم يكن من اللائق أن أتجاهل سؤاله الذى بدا لى ممزوجًا بأسى ابنٍ يخشى على أبيه من العذاب فى نار جهنم. باهر نفسه نادرًا ما يصلى. لكن حجته التى لم يضطر لأن يجهر بها بعد، تتلخص، على ما أرى، فى أنه لا يزال شابًا ويمكنه لاحقًا تعويض ما فاته من صلاة. هو يصوم. لكنه ينام معظم نهار رمضان.

قلت: أنا أصلى يا باهر، بس مش ضرورى تشوفنى وأنا بين إيدين ربنا.

خشيت أن أقول له الحقيقة وهى أننى أتكاسل عن الصلاة، باستثناء صلاة الجمعة، التى لا أؤديها أيضًا بانتظام. خشيت أن أصارحه بأن هذا الأمر يؤرقنى، وأننى أرغب فعلًا فى الانتظام فى الصلاة والإقلاع عن التدخين، ولكن دون أن أتمكن من تحقيق هذا ولا ذاك. 

فى الكوثر، كنت أصلى بانتظام. حتى صلاة الفجر كنت أجد مَن يوقظنى لأصليها فى وقتها. يشعل معظمنا السجائر قبل موعد الشاى بالحليب، ثم نتوضأ ويتقدم أحدنا لإمامة مَن استيقظوا للصلاة، فى ظل إضاءة خافتة فى صالة العنبر. فى تلك الأثناء يكون المكلف بحراستنا من العاملين فى المصحة غارقًا فى النوم. فهو سيستيقظ حتمًا فى السادسة والنصف صباحًا ليتمم علينا ويسلم كلّ واحدٍ منا كوب الشاى بالحليب الخاص به. ثم فى الثامنة تمامًا يُفتَح الباب الحديدى لنخرج إلى الفناء استعدادًا لوجبة الإفطار وما يتبعها من جرعة الأدوية وقياس الحرارة والضغط والسكر، والتوجه إلى البوفيه لطلب الشاى والقهوة والسجائر.

فى آخر نسخ مكتب جريدة «العرب اليوم»- قبل إغلاقها- كنت أحتفظ بسجادة للصلاة. كنت أصلى هناك الظهر والعصر. وصلاة الجمعة كنت أؤديها فى مسجد أسفل البناية الواقعة أمام السور الخلفى لحديقة الميريلاند. إجازتى كانت يومًا واحدًا هو السبت من كل أسبوع. أما فى الوكالة فقلَّما أستجيب لنداء طارق عسل الجهورى لأداء صلاة الظهر أو العصر، فى ردهة خلفية فى الطابق الثالث. غالبًا لا يزيد عدد مَن يؤمهم فى الصلاة عن أربعة أو خمسة أشخاص، مع أن نداءه للصلاة يصل إلى كل حجرات الطابق الثالث والطابقين الأعلى والأسفل على الأقل. أنا أطلقت عليه يا طاهر لقب «عسل»، بينى وبين نفسى، لأنه يبيع برطمانات عسل النحل داخل الوكالة فى موعد محدد ببداية الصيف فى كل عام. وأنا اعتدت أن أشترى منه كمية تكفى عامًا كاملًا. أما وظيفته فهى سكرتير أحد أقسام التحرير. 

....

لا أعرف ما إذا كانت هذه نهاية أم بداية. لقد كتبتْ حنان أخيرًا لى على الخاص. تزامن ذلك مع الذكرى الأولى لرحيل زوجها. هذا ما عرفتُه مما كتبتْه على حائط صفحتها: ذكرى وفاة زوجى الحبيب طيّب الله ثراه وألحقه بالصديقين والشهداء والصالحين... آمين يا رب العالمين. نسألكم الدعاء.

هل سبق أن التقى جسدانا فى عناق؟ لا أتذكر أن هذا قد حدث. لكنى أتذكر يا طاهر أنها طلبت ذلك وأننى صُدِمْتُ، وصفعتُها على خدها، ثم هِمتُ على وجهى لساعات لا أفكر سوى فى الانتحار. أظن أنى كنت وقتها فى إجازة منتصف السنة الأخيرة من سنوات دراستى الجامعية. ثورة قوات الأمن المركزى كانت أهم أحداث تلك السنة، ومعها بالطبع موت سليمان خاطر الغامض، وكذلك- على الصعيد الشخصى- حصولى على البكالوريوس، مع ملاحظة أنه لا علاقة مباشرة تربط تلك الأحداث المتتالية حتى منتصف ١٩٨٦ ببعضها البعض.

كان والدها، فؤاد الشربتلى يبيع العرقسوس والخروب والسوبيا فى محل ضيق فى ميت حدر؛ يأتيه الناس من مختلف أنحاء المنصورة ويزداد الإقبال عليه فى شهر رمضان. كان يحب احتساء البيرة. هذا ما أسرَّتْ به حنان لى ذات ليلة من لياليها، أو بالأحرى ليالى ميادة الحناوى. فدائمًا ما كان صوتها الدافئ ثالثنا فى عتمة الليل. ربما كانت تتعمد رفع صوت المسجل حتى لا يسمع أحدٌ فى البيت همسها لى وهمسى لها. هى فى شباك حجرتها المطل على شارع شمس الدين وأنا تحت الشباك الذى لطالما رأيتنى أقفز منه لأنفرد بها جسدًا لجسدٍ. كانت مجرد فكرة مجنونة لم أجرؤ بالطبع على تنفيذها سوى فى خيالى.

كان يحب احتساء البيرة فى البيت. ولأن الأمر يصعب أن يبقى فى طى الكتمان، كان يقول حتى لمن لم يسأله إنه إنما يشرب البيرة كدواء أوصى به طبيبه لعلاج قصور فى عمل كليتيه. غالبًا كان صادقًا فى ما يتعلق بمعاناته من متاعب الكلى. كانت حنان، بحسب ما فهمتُ من حديثها معى بهذا الخصوص، هى الوحيدة بين أشقائها التى ذهب بها الفضول بعيدًا لتعرف أكثر عن ذلك المشروب المحرَّم والذى يمكن أن يصبح حلالًا إذا رأى طبيب أنه يساعد فى تفتيت حصوات الكلى. 

أنا علَّقت بأن ترحمتُ عليه ودعوتُ له كما دعتْ هى. كنتُ أعرفه معرفة سطحية بحكم الجيرة. فى الواقع لم أنتبه إلى وجوده أصلًا إلا بعد أن علمتُ أنه تزوَّج من حنان. 

فى اللحظة نفسها تقريبًا كتبتْ حنان لى: يا أستاذ حسين إنت على دماغى من فوق، وفاكراك طبعًا، بس تفتكر إن أنا آجى أدام الناس وأهلى وأتكلم مع حضرتك، إنت كنت جارى وعلى دماغى بس ميصحش تكلمنى وتفتح مواضيع أدام الناس.

من رواية قيد النشر

تاريخ الخبر: 2022-06-05 00:21:54
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 46%
الأهمية: 53%

آخر الأخبار حول العالم

بسبب الهلال.. لجنة الانضباط تعاقب فريق الاتحاد السعودي وحمد الله

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 15:26:02
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 67%

طلبة الطب يعودون إلى الاحتجاج

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 15:26:19
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 67%

طلبة الطب يعودون إلى الاحتجاج

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 15:26:25
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 57%

بسبب الهلال.. لجنة الانضباط تعاقب فريق الاتحاد السعودي وحمد الله

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 15:26:10
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية