الجلال.. والصدق.. والموسيقي في أنشودة آتون!
الجلال.. والصدق.. والموسيقي في أنشودة آتون!
مقالات في وطني من زمن فات
نشر بتاريخ 1970/2/22
لا يتوقف إعجابنا أبدا كلما تأملنا ودرسنا الحضارة المصرية القديمة التي قامت علي ضفاف نيلنا الخالد.
وخلفها لنا أجدادنا المصريون القدماء. ووقفتنا اليوم أمام أول ثورة فكرية عرفها التاريخ, تلك الثورة التي قادها الملك أمنحتب الرابع أو أخناتون أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة, لقد أحدث هذا الفيلسوف انقلابا في الحياة المصرية التي عاشها الشعب المصري آلاف السنين, في الدين والفن.
* تولي أخناتون عرش مصر وقد هاله تعدد الآلهة التي عبدها المصريون ويمثل بعضها قوي الطبيعة مثل الشمس والقمر والسماء والأرض والهواء والرياح والمحيط, كما قدسوا بعض الحيوانات الضارية والأليفة.
.. وكان إله الدولة من الأسرة الثامة عشرة آمون, قد شيدت له المعابد العظيمة ومنحت النصيب الأكبر من المغانم التي عاد بها الملوك من غزواتهم المظفرة, هذا النفوذ الذي وصل إليه كهنة آمون وجعل كهنة الآلهة الآخرين يقفون موقفا معارضا من آمون ويحسون بالحسد خاصة أن آمون كان قد أخذ من صفات رع وأصبح اسمه آمون ـ رع ـ
هال أخناتون هذا التعدد والانقسام والتشاحن بين الكهنة, فأخذ يفكر في ثورة يقضي بها علي هذه الأوضاع, ولم يخرج بفكرته مرة واحدة, فأعاد عبادة رع, ثم نادي بعد ذلك بأن إلهه هو قرص الشمس فقط, وصوره بشكل قرص تمتد منه عشرات الخطوط تمثل الأشعة, وهي في نفس الوقت سواعد ينتهي كل ساعد منها بكف حمي الناس من الشر ومنحهم الخير..
* صمم أخناتون علي الوحدانية, ورفض أن يكون لإلهه شريك ولو كان يمثل رع الذي عرفه المصريون وعبدوه منذ فجر التاريخ. تمسك بأن يكون هناك إله واحد, وأخذ يمحو أسماء الآلهة الأخري من الآثار كلها واستبدلها باسم آتون, وتعقب كهنة آمون الذين حاولوا التآمر عليه فشن عيهم حربا لا هوادة فيها وأراد أن يكون كل شيء جديدا, فهجر العاصمة القديمة ذات المجد العريض ـ طيبة ـ وأقام عاصمة جديدة في تل العمارنة قرب ملوي سميت (أخيتاتون) شيد فيها المعابد الكثيرة لعهده الجديد وكذلك في العواصم الكبري والبلاد الأجنبية.
.. هكذا أحدث أخناتون ثورته التي يعتقد أنها أول حركة تدعو إلي التوحيد قبل ظهور الديانات السماوية.
* ثورة في الفنون..
ولا تقتصر ثورة أخناتون علي الناحية الدينية وهي في حد ذاتها نقلة كبري في تاريخ البشرية, بل تعدتها إلي كل ما يتعلق بالحضارة المصرية, لقد كانت ثورة عندما طلب من الفنانين أن يلتزموا الحقيقة ويتركوا طرق التعبير الجامدة فليظهر الشخص كما هو في الواقع ولتظهر عيوبه, وليتوفر عنصر الحركة, فكان أن ظهر أخناتون بين أفراد عائلته وأبنائه, ولتصور حياته الخاصة, وهذا ولا شك ثورة في اختيار الموضوع.. وفي اختيار أساليب جديدة للتعبير..
* أنشودة آتون..
ثم وضع أخناتون تلك الأنشودة الرائعة لمعبوده الجديد, وهي صلوات تؤدي في معبد آتون تنشد في الصباح عند الشروق وفي المساء عند الغروب.. وهي تسابيح للخالق من قلب مؤمن يملؤه التقي والإيمان بعظمة الخالق الذي خلق الأرض والإنسان والحيوان, وتفيض بمشاعر العرفان بالجميل, والحمد للإله الذي إذا أشرق عاش الناس, وإذا غربأظلمت الأرض وأصبحت كأنها ميتة يخيم عليها السكون.
وهي أنشودة تتميز بالعاطفة الصادقة المدتينة في عبارات قوية وحية, تتهادي خلال سطورها الشعرية نفحات موسيقية عذبة.. كأنها تأتينا من عوالم سحرية تهز النفس وتستثمر الخيال.
ولا بأس من أن يورد بعض مقاطعها لكي نتبين ما يتضوع خلالها من نفحات الجمال, وآيات الجلال..
***
ظهورك جميل في أفق السماء..
يا آتون الحي.. يا بدء الحياة..
إنك إذا أشرقت من جبل النور الشرقي..
ملأت كل بلد بجمالك
إنك جميل.. إنك عظيم.
إن أشعتك تغمر البلاد وكل شيء خلقته.
إنك الإله الذي دان الجميع بحبك.
إن أشعتك تنفذ إلي أعماق البحر.
إنك خالق النطفة في الرجال.
إنك تعطي الحياة للجنين في أحشاء النساء.
إنك تهب نسيم الحياة.
لتحيا به جميع مخلوقاتك.
ما أكثر مخلوقاتك.
وما أكثر ما خفي علينا منها..
أنت يا إله.. يا أوحد..
لقد خلقت الأرض حسبما تهوي أنت وحدك.
خلقتها ولا شريك لك.
أنت الوحيد الذي تشرق في صورته كآتون الحي.
ساطعا متلألئا رائحا وغاديا.
لقد خلقت من نفسك لك الأشكال التي تعد بالملايين.
مدنا وقري وجبالا وأنهارا.
كل العيون ترنو إليك.
إنك في قلبي..
ليس هناك من يعرفك غير ابنك أخناتون.
إنك أنت أمددته بالحكمة.
الأرض في يديك كما فعلتها..
أنت تضيء وهم يعيشون وحين تغيب يموتون..
إنك أنت الحياة.. ولا يحيا الناس إلا بك.