الامتحانات بالمغرب بين وهم التقويم وتقويم الوهم


تعد الامتحانات والاختبارات محطات تقييمية وتقويمية تقيس درجة تحقق غايات وأهداف المنهاج الدراسي في المنظومات التربوية، فيها يرى المتعلم نفسه من خلال التعرف على مدى اكتسابه لمختلف المعارف والمهارات والقيم، ويرى فيها المدرس سيرورة إنجازه الصفي في بعدها النقل – معرفي والمنهجي، وترى فيها المنظومة ككل مدى تقدمها في بلوغ ما رسمته السياسات التعلمية، كل ذلك عبر آليات قياس متعددة ومتنوعة تراعى فيها معطيات علمية يعرفها أهل الاختصاص، وهي إلى جانب أبعادها التقييمية والتقويمية تلك قد تؤدي وظائف متعددة باعتبارها محطات تكوينية تكون منطلقا لتعزيز الإيجابيات واكتشاف مكامن العثرات وبناء خطط للمعالجة والتطوير.

وهم التقويم

في تعليم كارثي كتعليمنا يعاني من اختلالات متعددة تكون الامتحانات لحظة مفصلية يقام لها و لا يقعد، ليس باعتبار وظائفها التكوينية والتوجيهية والتقويمية، إنما وبالشكل الذي تسوق به باعتبارها لحظة أمنية تتجند لها مختلف الأجهزة السلطوية والتربوية والأمنية والإعلامية. غاية غايتها أن تمر بسلام وأمان من دون أن تحدث احتجاجات من أي جهة كانت.

لا تستحضر الامتحانات عندنا في بعدها النفسي التربوي من حيث مراعاة الضغوط النفسية الرهيبة التي تقع على المتعلمين، ولا تستحضر في بعدها الاجتماعي من حيث مراعاة وضع الأسر والآباء الذين ينفقوا كسبهم على فلذات أكبادهم عساهم يبلغوا شأنا ما في مجتمع البطالة والعطالة، كما لا تستحضر من حيث تعزيز أبعادها البنائية للمنظومة التربوية تعديلا وتقويما وتجديدا وتطويرا. إنما الذي يستحضر في بهرجة إعلامية هو الجانب الأمني بداية وانتهاء، وضمن هذا المستوى جاز لنا أن نقول: إننا في الامتحانات عموما، وفي الاختبارات الإشهادية منها خصوصا، بصدد عملية وهم على درجة كبيرة من الاحتيال.

لا وجود للتقويم عندنا على النحو الذي يعرفه العقلاء، وكل ما وراء هذا الهريج المريج مما يقدم في واجهات الصور، واجتماعات القاعات، وشكليات التنظيم، وإعدادات الإجراء، إنما يخفي حقيقة وهم كبير يحسه الكل، يعيشه الكل، يكتوي بناره البعض، ويقتات من بقاياه البعض.

تقويمنا وهم لما نركز على جوانب الأمن التربوي في مؤسساتنا التعليمية، كما هو تركيزنا على الأمن الروحي في مساجدنا، وعلى الأمن الترفيهي في “موازيننا”، وعلى أمن الحاكمين في وقفاتنا وتجمعاتنا، وكما يعذب حراس الأمن التربوي في مراقبة الأنفاس يبدع المتعلمون في تقنيات جلب المعلومات واستيراد الأجوبة مدججين بمختلف أنواع الآليات العالية الدقة في مجال النقل/الغش الديداكتيكي ولكل نقله على أية حال.

تقويمنا وهم لما يتم الحرص على الإجراءات الشكلية أساسا عبر ملء كم كبير من الأوراق، فهذا محضر لفتح أظرفة الامتحان، وذاك محضر لإغلاقها، وآخر لمطابقة الموضوع لما في الظرف، ورابع لمطبوع الإجراء، وخامس لتقرير الملاحظ والمدير، وهذا يرسل هناك وذاك يرسل هنالك، وهواتف رنانة من مختلف الأجهزة تحصي الحاضرين والغائبين وتسأل عن الغاشين وأشباه الغاشين وذوي النيات في الغش.

تقويمنا وهم لأن كل ما سبق إنما يستحضر الجانب التقنوي الصرف الذي يهمه احترام التعليمات التي تأتي في شكل مذكرات وقرارات ومساطر ودلائل تحمل في طياتها تناقضات كثيرة، ويدخل بعضها في باب “الاجتهاد” الذي يفتح به على بعض القائمين على الأمر القاعدين على الأرائك.

يتم إذن إيهام المتعلمين والآباء والمجتمع كله، بفضل هذا الذهاب وذلك الإياب وتلكم الحركية، بأننا أمام عملية تقويم حقيقية تحترم الشروط العلمية والعملية، العقلية والنفسية، التربوية والاجتماعية. بينما نحن في الجوهر بصدد عملية أمنية شكلية لا خبر لها عن البعد التربوي والتعليمي لعنصر التقويم.

تقويم الوهم

إن ذهبنا إلى أننا نحيا في مجال الامتحانات في تعليمنا لحظة وهم التقويم، فما ذاك إلا لأننا نمارس تقويما للوهم فنكون عندئذ أمام عملية وهم بوجهين؛ وهم أول عندما نعتقد أننا بعمليات أمنية شكلية تقنوية نكون إزاء تقويم علمي عقلي، ووهم ثان لما نصدق أن المتعلمين قد اكتسبوا شيئا يمكن أن يكون موضع تقييم وتقويم. هنا يعظم الاحتيال ويكبر المكر.

إن التقويم عنصر أساسي في بناء المنهاج التربوي، يأتي ليجسد تتويجا لسيرورة من عمليات التعلم والتلقي، ولصيرورة من الدمج لموارد متعددة تشمل المعارف والمهارات والقيم السلوكية في إطار وضعيات مختلفة. إننا لا نقوم الشيء إلا بعد امتلاكه، والحال أن تعليمنا بشهادة القائمين عليه أنفسهم لا يجعل متعلمينا يكتسبون معارف أو يمتلكون مهارات أو يضمرون قيما يتمكنون بفضلها من تكوين شخصياتهم، وتدريب قدراتهم، والعيش في محيطهم، والإسهام في تأسيس الإنسان وبناء العمران.

في مجال تحصيل المعارف تخبر التقارير الدولية والوطنية أن عددا هائلا من التلاميذ لا يجدون لهم مكانا في ظل مدرسة تقيهم حر الجهل وقر الضياع، وحتى هؤلاء الذين ولجوا فصولا تفتقر لمعايير الفصول لا يتعلمون شيئا، وقد سجلت المدرسة المغربية تراجعا كارثيا في التعلمات الأساسية، سواء في مجال القراءة حيث سجل تدن سواء في مستوى التحصيل القرائي بهبوط في متوسط النقط من 350 في 2001 إلى 310 في 2011، أو في مجال الرياضيات بتراجع من متوسط نقط 347 عام 2003 إلى 335 عام 2011. كما سجل تراجع في مجال العلوم بنسبة تصل إلى 40 نقطة، مما جعل التلاميذ المغاربة يحتلون المراتب الدنيا في مجال التقويمات الدولية في مجال التعلمات،وهي التقويمات التي كلفت المغرب سنة 2011 ما يقرب من 5.5 مليون درهم) .

في مجال اكتساب المهارات العملية انتظرنا ما يقرب من عشر سنوات منذ أن استوردنا وصفة الكفايات السحرية لنجد أننا لم نكتشف بعد سبل استعمال هذه الوصفة على مستوى الأجرأة البيداغوجية، ولما تفضل الغالبون المتقدمون فصدروا لنا تلكم النبتة المسماة إدماجا، وبعد أن أنفقنا على غرسها وسقيها الملايين جاء من ألغاها بجرة قلم، لنخلص إلى أن تعلماتنا غير قادرة على بناء الكفايات العليا لدى المتعلمين، وأن حجم ما يصرف على المنظومة لا يوازيه تناسب لا على مستوى تلقي المنهاج أو في اكتساب الكفايات الأساسية، ولا في تنمية التعلمات المختلفة ولا في استدماج التقنيات الحديثة ولا في تعلم اللغات) .

على مستوى القيم ما عادت المدرسة المغربية منتجة للقيم ولا حاضنة ولا حارسة لها. بل لقد أصبحت مشتلا لإنتاج مختلف الظواهر المشينة من عنف بمختلف مظاهره اللفظية والجسدية، وتخريب للممتلكات وغش وتحرش جنسي، تحولت معها المدرسة إلى فضاء مفتقد للأمن والأمان) .

لم نكتسب إذن تعلمات، ولم نمتلك مهارات، ولم نتشبع بقيم، فكيف يمكن أن ننجز تقويما لشيء هو السراب أو كالسراب لا وجود له إلا على سبيل الوجود الكسيح الهزيل؟

لم لا نلغي الامتحانات؟

غدت الامتحانات عندنا غاية في حد ذاتها، بل إنها أضحت مرمى تعلم المتعلمين يحضرون بنية اجتيازها لا بنية التعلم، من هنا التركيز على المضامين والمحتويات وعلى الشحن والحفظ والتلقين، فصرنا وإن صدرنا اختياراتنا الكبرى بمداخل الكفايات والقيم فإنه في تدريسيتنا كلها لا نولي الأهمية إلا للمعارف من دون جانبها المنهجي الكفائي، ولا جوانبها القيمية الاستراتيجية. وامتحاناتنا عاجزة عن تقويم هذه الجوانب بل إنها مسكوت عنها مفقودة غائبة مغيبة.

ومع الأطر المرجعية التي أصبح المدرسون يعتبرونها بوابة لتمهير المتعلمين على الامتحانات ازداد ضياع التعلمات لصالح الحرفية و التقنوية، فأصبح المتعلمون متقنين لحرفة الإجابة عن الأسئلة عبر المحاكاة والتقليد، وما عاد للتعلمات معنى، وما عدنا نستهدف التعلم ودوام التعلم، وتعلم كيفيات التعلم.

إنما الغاية النقطة الموجبة للنجاح عبر التدريب والحرفية. وغابت العمليات العقلية الكبرى من تحليل وتركيب وحجاج وإبداء للموقف والرأي ومواجهة للحياة.

يعيب القائمون المتنفذون على التلاميذ الغش ويتشدقون بضرورة توفير المصداقية والمساواة في الفرص وتفعيل مقتضيات النزاهة والأمانة، وينسى هؤلاء أن الغش أداة حكم ومنظومة حكامة عندنا، وهو ما يعني أن العملية التعليمية عندنا في أصلها ومند بدايتها مغشوشة مفتقدة لكل دلالة، وذلك أن تعليما لم يستطع منذ عقود من الاستقلال الصوري للبلاد أن يضمن كرسيا لمن هم في سن التمدرس، ولم يخرج عبر تاريخه الطويل سوى جيوش من “الرعايا” الصالحين للحكام، ولم يمتلك تصورا تربويا مؤسسا على مشروع مجتمعي يستجيب لهوية الأمة ولحاجياتها الآنية والمستقبلية ليس إلا تعليما مغشوشا باعتراف المؤسسات الرسمية التي لا تنطق إلا بعد إذن لتخبرنا بعدم قدرة المغرب على تحقيق أهداف الألفية للتنمية على مستوى المؤشرات الخاصة بالتربية والصحة والتنمية المستدامة سواء المتعلقة بتعميم التمدرس (60.3%بالنسبة للتمدرس الأولي خلال 2012-2013) أو تحقيق المساواة أو محو الأمية. وبأوجه العجز الكبيرة في البنيات التحتية الاجتماعية متمثلة في التربية والتكوين غير المتلائمين مع متطلبات التنافسية، وارتفاع مستويات الهدر وضعف التحصيل من خلال الحصول على مستويات ضعيفة في الاختبارات المعرفية الدولية وإلى البطالة العالية في صفوف خريجي التكوين المهني وإلى عدم تلاؤم المنظومة مع الحاجيات الحالية في التجديد والتكييف المتواصل للتكوين، مركزا على أن مستوى التربية والتجديد والأخذ بالتكنولوجيا غير كاف لدعم التنافسية خاصة في مؤشر اقتصاد المعرفة الذي لا يتجاوز 3.61 مما جعل المغرب يحتل المرتبة 102 من بين 142 في هذا المؤشر) .

وإذا تركز لدينا أننا بصدد منظومة تربوية مغشوشة تصورا وبنية، وترسخ عندنا أن التقويم في هذه المنظومة بالشكل الذي يتم به وفي السياقات العامة التي تحكمه وهو كبير، فإن المقترح الذي نعرضه هو أن نلغي هذه الامتحانات جملة وتفصيلا .

إنها وضعية تجعنا نقول ونعيد – لا نمل من تكرار ذلك – إن ما تتعرض له ناشئتنا بسبب السياسات المستبدة يرقى إلى أن يكون جريمة بشعة ضد الإنسانية بسبب هذه الحرب المعلنة على الثروة العظمى لأي أمة تروم التقدم في زمن السطوة العولمية على مقدرات المستضعفين.


[1] أورد ذلك تقرير المغرب في سنة 2013 – عن المركز المغربي للأبحاث وتحليل السياسات -مطبعة المعارف الجديدة الرباط 2014، و تراجع أيضا تقارير الدراسة الدولية حول الاتجاهات في الرياضيات والعلوم (تايمس) والدراسة الدولية حول التقدم في القرائية( بيرلس) الصادرتان في 11/12/2012. وتقرير الجمعية المغربية لتحسين جودة التعلمات مارس 2013.\
[2] تقرير المغرب في سنة 2013 قطب التعليم والثقافة.\
[3] الملخص التنفيذي لتقرير المغرب في سنة 2013.\
[4] تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي لسنة 2012. وانظر أيضا تقرير المغرب في سنة 2013 مرجع سابق.\
تاريخ الخبر: 2022-06-20 12:20:16
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 54%
الأهمية: 62%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية