أبو بكر الجنيد واستيفاء شرط الشوق

د. أسامة تاج السر

حين أعلن الشوق ميقاته، حلّقت بنا (الأجنحة) بعيداً في سماء الإبداع، وقد كان (المطر مستوفي شرط الشوق):

طير بيحلّق وغيمة مطيرة

الماء، والأجنحة وأروقة:

في المركز الثقافي التركي كان لقاؤنا، في حضرة الشاعر أبي بكر الجنيد يونس، وهو يُشهِرُ ويُوقّعُ ديوانه الثاني (مطر مستوفي شرط الشوق)، وقد جاء باللغة العاميّة السودانيّة، بعد ديوانه الأول، الذي فاز به بجائزة التميّز في مهرجان سحر القوافي 2008م، وصدر عن مؤسسة أروقة للثقافة والفنون. وقد حمل اسم (ما سرّ سحر الماء).

ليرتبط الجنيد ارتباطاً حميماً بالماء، والذي غمر ديوانه الثالث كذلك، والذي سيصدر قريباً عن دائرة الثقافة.

بصمة خاصة:

أبو بكر الجنيد شاعرٌ ذو بصمة واضحة، مفتونٌ بالماء، وبالتفاصيل. ولأنّ موضوعه الشعريّ الأثير هو العشق والعاطفة، لا يخفي ولعه بالماء الذي هو مصدر الحياة نفسها.

دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر

ولمعرفتي بتميّز القصيدة عند أبي بكر الجنيد- وقد كنت محظوظًا بما يكفي لمتابعة تجربته الشعرية كلها عن قربٍ لا فاصل فيه- طلبت منه جمع ديوانه العامي، لنشره بدار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر، عندما كنت مديراً لها قبل شهور قلائل من صدور الديوان، رفقة دواوين فارهة باللغة المحكيّة:

شف التيلة لنهى كباشي

وادي المطاميس لعمر السناري

النعناع لفيصل خليفة

بواقي طير لمحمد حسن السيد

جرح المناديل لعزام عبد العاطي

غفاري لمحمد الشيخ

وقد صدرت جميعها، وهي متوافرة الآن في انتظار قرائها.

رحّب وشرع في ترتيب وانتقاء قصائد الديوان، ثم كان النشر من نصيب دار الأجنحة للطباعة والنشر، ولصاحبها الشاعر متوكل زروق، الذي أضاء ساحة الشعر بعدد من المطبوعات التي سيكون لها أثرها الكبير في خارطة الشعر السوداني.

هذا الديوان:

تكوّن الديوان من ست عشرة قصيدة، اتّسمت جميعها بالحبّ والعاطفة، ولكنّها تنوّعت واختلفت اختلافاً كبيراً في معالجتها، وفكرتها.

فعلى تدفّق الأغنية العاطفية يقول:

(مبتهجة بيك ومدفّقة الأوتار غنا

طربانة حتى النشوة بيك فرهد أريجا وسوسنا)

منتقلًا إلى الهتاف الثوري الكورالي، عاطفيّاً لا سياسيّاً، وهو يعلن الرفض والثورة:

(مرفوض تماماً أي حل:

ما برجّع الموج للبحر

ما برجّع الضو للشمس

ما برجّع الضل للشجر

مرفوض تماماً أي حل ما برجّع الغنا للوتر)

ثم ينتقل إلى لون جديد ومدهش، ذي طبيعة ثقافية اجتماعية، في قصيدته (عرب رُحّل)

(عرب رُحّل

أنا ونار ريدك المجنون عرب رحّل

نسافر من بلاد لبلاد

نفتش للكلا والزاد

نكوس للروعة في الأعياد

نرافق ذكرتك ننقاد

ورا طيف طاف عليكِ وعاد

كأننا بس عرب رُحّل)

وفي لونٍ آخر قريب إلى الشعر الحلمنتيشي في سمته، ولكنّه يحمل كل مظاهر الإبهار والجد، تطلّ علينا (بت شريرة) والتي استطاع فيها الجنيد أن يحشد كل طاقته الإبداعية:

(مرّة سرت في الأفق غمامة

ورفّت قمريتين وحمامة

وكان الجو في النشوة تماما

وحصلت حاجة كأنو كرامة

طير بيحلّق وغيمة مطيرة

تاري الطير والمطرة اتّفقوا

إنو يلطفو ليها مسيرا)

وهكذا يتنوّع الديوان في طرق معالجته، بين كل نصٍ وآخر، وإن اتفقت النصوص جميعها في الحبّ والعاطفة.

جيل الجنيد:

حين بدأت كتابة الشعر في خواتيم سنوات القرن العشرين، كان أبو بكر الجنيد يكتب شعراً شاهقاً عالياً، توّجه شاعراً بين أقرانه في جامعة الخرطوم، في أول مرّة استمعت إليه أدركتُ أنه شاعرٌ متفردٌ، في لغته، وانتقاء موضوعاته، وأن له بصمته الأسلوبيّة الخاصة. فتتلمذت وأقراني على شيخنا الجنيد، الذي امتدت أياديه لتشمل كباكب من الشعراء.

وقفت أكثر من وقفة نقدية عند ديوانه الأول، منتخباً من شعره قصيدتين (صيغ المنتهى) و(ستنال أجملهن).

ثمّ بالاشتراك مع الدكتورة رندا الإمام، تناولنا في دراسة موسومة بـ(القصيدة المعجميّة عند أبي بكر الجنيد يونس) بالتركيز على قصائده التي استوفى فيها مفردات عناوينها (ما سر سحر الماء، ضد الدكتاتوريّة، حبٌّ دموي). إذ استوفت الأولى المعجم المائي، والثانية المعجم السياسي الدكتاتوري، والثالثة الدم في كلّ دلالاته.

سعيدٌ أنا بما يكفي أن تعلمت منك معنى أن تعيش وتنتصر، وسعيد بصحبتك ورفقتك عقدين نضيرين من السنوات.

ينتظركم المطر الذي استوفى تمام شوقه، فلا تبخلوا على المطر بالمشاعر الحميمة.