نصائح العقاد للشباب للصبر على مشاكل الحياة

يعتقد كثيرون- لا يخالطهم شك فى ذلك- أن الانتحار وارد هذا العصر وهذه الأيام، حتى اعتبره عدد ليس بقليل «ظاهرة» تستدعى التحقيق والبحث عن الأسباب والدوافع التى تجعل إنسانًا يتخلص من حياته بكامل إرادته واختياره الحر، رغم ما عُرف عن العمر بأنه «غالٍ».

لكن هل تتخيل أن الانتحار أقلق منام المفكر والكاتب والأديب الكبير عباس محمود العقاد، قبل ما يقرب من ١٠٠ عام كاملة، بل وصفه بأنه «داء قديم عرفته الأمم الغابرة»؟ هذا ما حدث بالفعل، فى مقال حمل عنوان: «الصبر على الحياة»، بتاريخ ٧ يناير ١٩٢٧.

فى السطور التالية، نتركك مع هذا المقال الشيق الغنى، كعادة كل ما يكتبه صاحب «العبقريات»، الذى يأخذك عبر سطوره فى رحلة معرفية، يستعرض فيها آراء الفلاسفة والشرائع السماوية فى الانتحار.

ينتقل بك من محطة مَن حرّموا الانتحار باعتباره عصيانًا لله وتمردًا على إرادته، أو حتى عدوانًا على حق الدولة المفروض على الأفراد، إلى محطة مَن اعتبروه يدخل فى إطار حرية الإنسان، بل الغاية التى لا غاية بعدها للكائن العاقل، وما بينهما من فريق ثالث يرى ضرورة تحقق شروط محددة للإقدام على التخلص من النفس- إن صح التعبير.

الصبر على الحياة 

لفت نظرى من أخبار الصحف كثرة حوادث الانتحار التى تقع فى هذه السنوات، وتفاهة الأسباب التى تبنى عليها بالقياس إلى ما يعده الناس سببًا كافيًا لنبذ الحياة ومفارقة الدنيا، والمفارق لها باختياره على ثقة من العدم بعدها إن كان من منكرى الديانات، كما يُظن بالمنتحرين، أو على ثقة من العذاب إن كا مؤمنًا بالله واليوم الآخر، ومصدقًا بتحريم قتل النفس ولو كان القاتل صاحبها وأحق الناس بصيانتها أو التفريط فيها.

ففى مصر وفى أوروبا نسمع أنباء عجيبة من أنباء الانتحار ألفها الناس فكانت إلفتهم لها عجبًا آخر من عجائبها الكثيرة، فهذا يقتل نفسه سآمة ومللًا ولديه المال والصحة والوجاهة، وهذه تقتل نفسها حزنًا على فنان كانت تحب رواياته أو تأنق بشخصه، وغيرهما يقتل نفسه لغير سبب ظاهر، أو مع ما يبدو للناس من وفرة دواعى الحياة عنده، وكثرة وسائل المتعة لديه، وتنتقل من هذه الفئة التى لا يكاد يكون انتحارها تبرعًا لغير سبب إلى فئة أخرى تعرف أسباب سخطها على الحياة، ولكنك لا ترى فيها وجهًا لطلب الموت والإقدام على أيأس اليأس الذى يقدم عليه إنسان، وقد يسهل علينا تعليل ذلك كله باضطراب الأعصاب، واختبال الحواس، ولكنها مسألة يبقى فيها وراء هذا التعليل مجال للنظر، وموضع للاعتبار.

إن الانتحار داء قديم عرفته الأمم الغابرة، فأحله أناس وحرمه آخرون، وكانوا فى تحريمهم إياه على رأى يقرب من آراء المعاصرين فى هذا الموضوع، ولكننا لا نخال النظرة التى كان ينظر بها الأقدمون إلى «الموت المختار» تشبه نظرتنا نحن إليه، ولا نحسبهم كانوا يفكرون فى دنياهم كما نفكر نحن فى دنيانا الآن.

فكان فيثاغورس ينكر الانتحار كما ينكره رجال الدين من المسلمين والمسيحيين، أى أنه كان يعتبره عصيانًا لله وتمردًا على إرادته، وينهى الناس أن يبرحوا موقفهم فى الحياة بغير إذن القائد الذى وقفهم فيه وهو الله، وكان «بيوليوس» شارح فلسفة «أفلاطون» يقول: إن الرجل العاقل لا يطرح بدنه أبدًا إلا بمشيئة الله، وحرَّم أفلاطون الانتحار لأسباب كأسباب فيثاغورس، ولكنه أباحه عندما تقضى به الشريعة، أو يهبط الإنسان إلى الدرك الأسفل من الفاقة.

أما أرسطو، وهو رجل الدولة بين الفلاسفة، فقد حرمه، لأنه عدوان على حقوق الدولة المفروضة على الأفراد، وهو سبب كما ترى قارب السبب الذى بنى عليه تحريمه فى القوانين الحديثة، واستحقاق صاحبه العقوبة والملام.

وقد وجد من المفكرين الأقدمين من أباح الانتحار كما أباحه «دافيد هيوم» الإنجليزى، و«شوبنهور» الألمانى، فى هذه العصور، وكان طليعة أولئك المفكرين «سنيكا» الذى كان هو أحد عظماء المنتحرين المشهورين فى تاريخ الرومان، ولكن «سنيكا» تجاوز كل حد وصل إليه فلاسفة الزمن الأخير فى هذا المعنى إلى تحبيذ الانتحار، والإطناب فى مدحه، ووصف ترفيهه عن المتعبين والمعذبين.

يقول «ليكى»، مؤرخ الأخلاق الأوروبية من أوغسطس إلى شارلمان - وهو الذى نعتمد عليه فى رواية هذه الآراء - إنه «لا محل للشك فى أن حكم الأقدمين على الانتحار يختلف اختلافًا بعيدًا من حكمنا نحن عليه، فقد تعاقبت المدارس الفلسفية باستحسانه، ولم يبلغ قط فى رأى منكريه مبلغ هذه الشناعة التى نسمه بها فى الوقت الحاضر، ويرجع ذلك من الوجه الأول إلى رأى الأقدمين فى الموت، ثم إلى اعتبار آخر علينا أن نذكره، وهو أن المجتمع متى تعود مرة أن يقبل الانتحار فقد تزول وصمة الإجرام عن الفعلة، بعد أن تزول عنها صبغة العار والمسبة، لأن الذين يعتقدون أن الخجل والألم اللذين يجنيهما المنتحر على أسرته ليسا هما كل جريمة الفعلة، يسلمون أنها من دواعى الغلو فى الحكم عليها، فهذا الغلو إذن لم تكن له من داعية فى تفكير القدماء. بلد لقد كان أبيقور ينصح الناس أن يزنوا ويدققوا الوزن ليعلموا هل هم يؤثرون أن يأتى الموت إليهم أو أن يذهبوا باختيارهم إلى الموت، وقد أمات الشاعر «لوكريتس» أحد تلاميذه بيده كما فعل كسيوس، وأتيكوس صديق شيشرون، وبترونيوس الشهوان، وديودروس الفيلسوف، وكان بلينى يقول: «إن حظ الإنسان أرجح من حظ الآلهة فى شىء واحد على الأقل، وهو أنه قادر على الفرار بنفسه إلى القبر! وكان يقول: إن من دلائل كرم العناية أنها ملأت الأرض عقاقير شتى، يجد يها المتعبون طريقهم إلى الموت بغير عناء ولا إبطاء، ومن الذكريات التى تخطرها على بالنا الإشارة إلى شيشرون ذكرى هجسياس الذى كان الأقدمون يلقبونه بخطيب الموت، وكان معلمًا نابغًا من معلمى المدرسة القيروانية يرى أن الموت هو الغاية التى لا غاية بعدها للكائن العاقل، وأنه لما كانت الحياة موقرة بالهموم وكانت مسراتها زائفة سريعة الزوال كان الموت هو أسعد نصيب يتوق إليه الإنسان، ولقد بلغ من فصاحة لسانه ومن فتنة السحر الذى أحاط به القبر أن كان تلامذته يقبلون فرحين على تحقيق وصاته، وأن كثيرين منهم أراحوا أنفسهم بالانتحار من مضانك الحياة، وقد اشتدت عدواه حتى قيل: إن بطليموس اضطر آخر الأمر إلى نفيه من الإسكندرية».

ولكنه فى روما بين الرواقيين الرومانيين كان للانتحار شأنه العظيم وفلسفته المتقنة، فقد كان قتل النفس منذ عهد عهيد، كما روى فى حادثتى كرتيوس ودشيوس، شعيرة من شعائر الدين، كأنها كانت بقية لشعيرة التضحية الآدمية، ثم جاءت فى أواخر الأيام الوثنية حوادث عدة جنحت بالآراء إلى هذه الوجهة، منها أمثولة «كاتو» الذى أصبح قدوة الرواقيين، وأصبح انتحاره المسرحى عندهم سياقًا للبلاغة والبيان، ومنها قلة المبالاة بالموت التى بثتها فى النفوس مناظر المصارعة والجلاد، وحوادث المئات من الأسرى الذين كانوا يأبون أن ينحروا أبناء وطنهم أو يسخروا لتلهية آسريهم فيدورون نصالهم إلى أعناقهم، أو يلتمسوا لهم مهربًا إلى الحرية أبشع من هذا وأنكى، ومنها سنتهم التى استنوها بإلزام المسجونين السياسيين أن يقضوا على أنفسهم بأيديهم، وأعظم من هذا كله كان طغيان القياصرة الذى ارتفع بالانتحار إلى أجل مقام، فقل أن نسمع بشىء أبلغ فى النفس أثرًا من ذلك الفرح الذى استقبله به «سنيكا» فى عهد نيرون واجدًا فيه الملجأ الوحيد للمظلوم، والمعقل الأخير للعقل المنهوك، فهو يقول: «إنما بفضل الموت لا تكون الحياة عقوبة، وبفضل الموت أستطيع أن أقف رافع الرأس بين يدى الجد العابس، فأحتفظ بعقلى سليمًا وجأشى رابطًا. إن لى مرجعًا أعتصم به وأحتكم إليه. أرى أمامى الصلبان على أشكالها، وآلات العذاب والسياط بأنواعها لكل عضو من أعضاء الجسد، وكل عصب فى البدن، ولكنى كذلك أرى الموت! آراه وراء ما يسمو إليه أعدائى الهمج الضراة، وأبناء وطنى المتغطرسين، وأن الاستعباد لتذهب عنه مضاضته حين أعلم أنها خطوة واحدة أخطوها فتخرجنى من الأسر إلى الحرية».

وقد أخذ الكاتب بسرد الأمثلة العديدة من التاريخ الرومانى عن العظماء المنتحرين، وأقوال الفلاسفة فى الانتحار بما لا يختلف عما سبق، وفى ذلك إجمال للنظرة التى كان ينظر بها الأقدمون إلى قتل النفس نعرضه فنعلم أنها غير نظرتنا نحن إلى هذه الفعلة من جانبى الفكر والأخلاق، فإن الأديان قد علمتنا أن الحياة نعمة الله على الأحياء، فمن رفضها وأبق منا فإنما يكفر بنعمته ويهرب من قضائه، ثم جاءت المذاهب الحديثة فعلمتنا أن الحياة واجب وتبعة فمن نقضها عنه فإنما ينكص ويعجز فيعاب عليه ضعف الإقدام ونقص الاقتدار، وكذلك تجرد الانتحار من حلية الفخر والشجاعة التى كان يزان بها فى أيام الوثنية، ولا سيما على عهد الدولة الرومانية، وظهر لنا فى هيئة أشرف ما تناله منا العذر والرثاء، وأغلب ما تقابل به بين الناس التأفف والازدراء، ولكنه بعد هذا لا يزال باقيًا كما كان بين جميع الطبقات، ولا يزال اللاجئون إليه على مثل نسبتهم فى الأزمنة الغابرة إن لم تقل إنهم يزيدون، فكيف نفسر هذا؟ وكف لم تنقص هذه الآفة مع اختلاف النظر إليها؟ أترى أن الحياة أهون علينا وأصغر فى أعيننا مما كانت فى أعين القدماء؟ أترى أن أولئك القدماء كانوا يجدون فيها سعة وجمالًا لا نجدهما، ويصيبون بين أحضانها متعة وراحة فوق ما نصيب! لا نظن! وإنما المسألة هنا مسألة صبر لا مسألة رغبة، ومسألة ضعف عن احتمال الآلام لا مسألة زهد فى جمال الحياة.

فما نرجحه ونكاد نؤكده أننا الآن أهيب للآلام الجسدية والنفسية، وأضعف منه على الأذى من أجدادنا الأولين، وقد يظهر لهذا الخلق فينا جانبه الحسن كما يظهر لنا جانبه القبيح، فنحن لا نطيق اليوم أن نرى مسجونًا يجلد أو أسيرًا يلقى بين براثن السباع، ونحن لا نستحسن تلك المشاهد الدموية التى كان يستحسنها الأقدمون، لو أنها عرضت علينا كما كانت تعرض عليهم. هذا جانب حسن فى ذلك الخلق الذى أومأنا إليه، فأما الجانب السيئ، فهو أننا لا نطيق الصبر على مكاره الحياة، ولا نحجم عن نبذها على وتيرة أبناء العصور الماضية، مع أنهم كانوا ينبذونها مبجلين غير ملومين، ونحن لا ننبذها إلا مهانين أو معذورين.

وقد لاحظ المطران الفيلسوف «آنج» ذلك الخلق فى فصل عقده على الدين بين القدماء والمعاصرين فعجب لغفلة أولئك - واليونان منهم على الخصوص - عن دمامة المناظر القاسية التى كانوا يتلهون بها، ويخفون إليها على ما فى فطرتهم من حسن الذوق وحب الجمال. وحسبنا أننا قد ترقينا عليهم فى ذوق الجمال الأدبى، وإن كنا لا نبذهم فى أذواق الجمال الحسية، وما تتراءى فيه من مبدعات الفنون، وقال: «من المحقق أن مقتنا لهذه المناظر يصدر عن أسباب ذوقية أكثر من صدوره عن الأسباب الخلقية، وأذكر أننى ذهبت قبل سنوات عدة إلى رواية حمقاء موضوعها روما القديمة، عرضت فى ليلتها الأولى فجىء فيها بمسيحى من صدر المسيحية ليعذب على المسرح عذابًا هينًا، فما هو إلا أن سقطت عليه ضربة السوط الأولى حتى وثب جيرانى صارخين: يا للعار! يا للفضيحة! دعونا من هذا! فاضطرت الفرقة إلى إلغاء المنظر فى الليالى التالية، وحدث أن العمال فى بعض المصانع عطلوا المصنع كله ساعة، لأنهم سمعوا بين العدد هرة تموت فلما أنقذوها بشق النفس خنقوها! وإننى أترك تفسير هذا الإحساس المفرط لجماعة النفسيين، ولكننى على يقين أننا هنا حيال تطور فى إحساس الجمال».

إن هذا الذى يحسبه المطران «آنج» تطورًا فى إحساس الجمال، لا نحسبه نحن إلا مظهرًا لضعف الاحتمال الذى فشا فى العصر الحديث بين سكان الحواضر وبيئات الصناعة والضوضاء، والمطران الحكيم يلاحظ العلاقة بين فرط الإحساس وانتشار الصناعة، ولكنه لا يريد أن يجعل لهذه أثرًا فى إضعاف الاحتمال ونهك الأعصاب، فنحن لا نظلمها إذا رددنا إليها بعض الأثر، وضفنا إليها أثرًا آخر من شيوخ المخدرات وكثرة تكاليف الحياة، وسرعة أعمالها واشتداد زحامها، ولا نخالنا أرفع من اليونان ذوقًا فى الجمال الأدبى، لأنهم يجلدون الجوارى الضعيفات ونحن نشفق من جلد الحيوان الأعجم! فإنما سبب ذلك فيما نعتقد أن الألم البدنى لم تكن له رهبة على نفوس اليونان كرهبته علينا نحن فى هذا الزمان، فلقد كانوا يزاولون الصراع، ويَجرحون ويُجرحون فى الميدان، ويرون الصبر على الألم بعض مستلزمات البطولة وجمال الجسد وصحة الأعضاء، أما اليوم فقد أصبحت البطولة عندنا بطولة رصاصة تطلق من بعيد ولا تريك من شناعة قتليها بعض ما تراه فى ميدان الحرب بالسيوف والرماح، وما أخلق الرجل الذى تعوّد أن يغمد سيفه فى لحم رجلم مثله، وأن يفخر بهذه الشجاعة وهذه المهارة فى تقليب السلاح، ألا يحس من هيبة الألم الجسدى ما يحسه مطلق الرصاصة وراء الخنادق والأسوار!

فداؤنا الحديث - داء الانتحار وداء كل عجز ونكوص - هو أننا نهاب ألم الجسد، ولا نصبر على عنت البلوى وتبريح العذاب. هذا هو الداء فما هو الدواء؟ الدواء كما يقول الأطباء من جرثومة الداء: رياضة على المشقة واليأس، وصراع بالأيدى وجلاد بالسيوف، ثم تخفيف لوطأة الزحام تشترك فيه حكمة الحكماء وسلطان المشترعين.

من كتاب «ساعات بين الكتب»

تاريخ الخبر: 2022-07-01 21:21:23
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 54%
الأهمية: 53%

آخر الأخبار حول العالم

انهيار صفقة الاستحواذ على «التلغراف» و«سبيكتاتور» - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-01 03:23:38
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 62%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية