الثورّة السودانية وأحلام اليسار


أحمد ضحية

عندما نسمع عبارّة “الثورَّة الوطنية الديمقرّاطية”، ندرك أنها تنطوي على مفهوم يختلف من شخص لآخر، فبالنسبة للسواد الأعظم من الثوّار في “لجان المقاومة” أن هذه الثورة هي لنيل الحرّيات واسترداد الحقوق وتحقيق العدالة والسلام، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية..
لكن نفس العبارة: “الثورة الوطنية الديموقراطية” تعني بالنسبة (لليسار) مفهوماً عميق الاختلاف عن المفهوم أعلاه الذي يعنيه الثوار!
فاليسار ينظر إلى هذه الثورّة من خلال أحلامه الأيديولوجية، ويتوّهم أنها الطريق الى “مرّحلة الثورّة الوطنية الديمقرّاطية”، ومن ثم “الاشتراكية” كما ورد ذكرهما في الكتاب؟!
ولنكون أكثر تحديداً، نجد أن اليسار (صنف) إبتداءً كل (قوّى الثورّة) باستثناء (لجان المقاومة) كقوى (لا ترقى) للتحالف معها، فالتحالف الذي يريده اليسار، ينهض أساسا في “العمال والفلاحين والفقراء، والشرّيحة الفقيرّة من البورجوازية الصغيرة” وبطبيعة الحال (الرّأسمالية الوطنية؟؟) التي لطالما تحدّث عنها، وفي ظننا لو وُجدت هذه الرأسمالية الوطنية، بعد كل سنوات اقتصاد الهدم الإسلاربوي الطفيلي، لن يكون مستبعداً ارتباطها بجماعات المصالح والانتهازيين والرأسمالية الطفيلية للحركة الاسلامية!
ما أعنيه أن القوى السياسية، لا يمكن أن تلتزم برؤيتك أنت الفردية كحزب، التي في التحليل النهائي تهدف -هذه الرؤية- إلى تحقيق الاشتراكية وإقامة المجتمع الاشتراكي، أي تحقيق مشروعك أنت وهو ليس بالضرورة مشروع (قوى الثورة).
في الواقع لن تجد حزباً واحداً، يتواضع معك لتحقيق هذه الرؤية، فأساساً إذا أراد تبنيها لعبأ استمارّة عضوّية في الحزب الشيوعي!
وهذا لا يعني انها ليست رؤية نبيلة، أبداً، المعنى أن نُظم التفكير تختلف من حزب لآخر، إلى جانب أن نظام تفكير هؤلاء الشباب الثوار، في لجان المقاومة يختلف عن الجميع، وفي الوقت نفسه كي تحقق هذه الثورّة الحد الأدنى من أهدافها على الأقل، لابد لها أن تتوحد على برنامج حد أدنى، يلتقي فيه الجميع.. لكن الاصرار على تنفيذ رؤية حزب دون سواه، أو رفض التحالف مع الآخرين طالما هم لا يتبنون رؤيتك!! مثل هذه التوجهات تخصم من هذه الثورّة ولا تضيف إليها في أهم مبادئها: “القبول بالاختلاف!”
وغنّي عن القول أن هذه الثورّة ليست طبقية، ولا يتوجب عليها كي تناضل ضد كل أشكال التبعية والتخلف والاستغلال والاستبداد، أن تكون طبقية، فالطبقية شرط الثورّة الوطنية الديمقراطية اليسارية. لكنه ليس شرطاً لهذه الثورّة، التي هي أيضاً ليست ضد كافة قوى اليمين أوالليبرالية أو الإسلام السياسي، فقط لكونها يمين أو ليبرالية أو اسلام سياسي، فهي مثلما لا تريد أن تتعارض مع الديمقراطية، وحق الآخرين في اختيار ما يناسبهم من أوعية سياسية وتوجهات، فهي أيضا  حددت بوضوح أنها كثورّة ضد القوى التي استولت على السلطة في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ عبر انقلاب، وغني عن القول إنها قوى إسلام سياسي، تحالفت مع الطائفية في مراحل مختلفة من تاريخ السودان، وقد تم خلال هذه المراحل تدمير البلاد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، بل وتم تفتيت وحدتها ورهنها للأجنبي!
بمعنى أن الأصل في هذه المسألة، ليس لأن هذه القوى اسلامية أو طائفية، لذلك الثورَّة ضدها، بل لأنها استبدادية وارتكبت جرائم تقع تحت طائلة القوانين المحلية والدولية، ولذلك المفهومين بقدر ما هما لا يلتقيان من ناحية أيديولوجية فكرية، الا أنهما سيلتقيان من ناحية سياسية تكتيكية، فغمار الثوار واليسار مع اختلاف فهمهما لهذه الثورّة، إلا أن الاثنان يستهدفان تحقيق الاستقلال الوطني، والسيادة الكاملة على الأرض التي تم اقتطاعها (حلايب، الفشقة، إلخ.. والموارد التي يتم نهبها (المعادن والمواشي على وجه الخصوص)، لكن فيما يستهدف غمار الثوار التوزيع العادل (للسلطة والثروة) يستهدف اليسار التوزيع العادل (للثروة والدخل)، فاليسار بالأساس ينظر لهذه الثورة، كثورّة ضد القوى البورجوازية، و مظاهر الافقار والاستغلال الرّأسمالي!..
ولذلك كان اليسار منذ البداية واضحاً عندما أثار النقع حول البرنامج الصحي (دكتور أكرم)، والاقتصادي للفترّة الانتقالية، وتحقيق دولة الرّعاية الصحية والاجتماعية..
وهو في الحقيقة برنامج راديكالي، من الصعب تحقيق إجماع للالتفاف حوله من الفاعلين وقتها، ولهذا السبب كان لابد من إزاحة العقبات التي قد تواجهه، وتغيير الموازين بصعود فاعلين مؤثرين آخرين، بإمكانهم الالتفاف حول هذا البرنامج بطبيعته الراديكالية، ومما لاشك فيه أن هؤلاء الفاعلين هم الشباب اليافعين الذين إما هم (طلاب، برجوازية صغيرة محتملة؟؟) أو هم (مثقفين ثوريين محتملين؟؟)، وأما هم خريجين عطالى عجزت الدولة عن توفير فرص عمل لهم، وأما هم موظفين محدودين الدّخل، ويمكن إدراجهم في (طبقة العمال قسراً، فالمفارقة هنا أن الخريطة الطبقية في السودان غير واضحة، ففي الواقع لا يوجد في السودان عمال بالمعنى الماركسي، فالسودان دولة استهلاكية غير منتجة، إدراجها كدولة زراعية أو صناعية، لهو إدراج مجازي يفتقر للدقة، ولهذا السبب نجد أن من يقود هذه الثورّة في الشارع الآن هم جيل الشباب المحرومين، الذين سيكون عسيرا توصيفهم ب”الطبقات الشعبية الفقيرة من العمال والفلاحين الفقراء”..
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن العمال والفلاحين الفقراء، حسب اليسار يجب أن تقودهم  أحزاب ماركسية ثورية، أما هذه الثورّة فهي في حالة (إفراز) مستمر لقيادتها من بين صفوفها من الشباب، الذين فتحتهم وسائل التواصل الاجتماعي على العالم، ووّسعت مدارّكهم الثقافة المهيمنة للصورة والمحتوى، والذين من المستحيل (تأطيرهم) داخل نظام تفكير اليسار أو اليمين أو أي أيديولوجيا.
أنا لا أُريد أن أقول إن الحلم الذي داعب خيال اليسار، بتحقيق مرّحلة الثورّة الوطنية الديموقرّاطية لن يتحقق، مطلقاً، ولكن ثمَّة كثير من الشواهد تقول، أن (إمكانية إعادة إنتاج هذا الحلم الرّاديكالي) داخل نظام تفكير هؤلاء الثوار الشباب، الذين لا يحللّون الواقع على خلفية (الطبقات) أو (الثقافة).. هذه الامكانية واردة بشدّة ودون مواجهة وصراع، والسؤال هنا: هل سيتكيف اليسار مع ذلك أم سيسعى لفرض إرادته بكل السبل، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؟
في تقديري أن التوجه العام لهؤلاء الشباب، كما كشفت عنه مواثيقهم وشعارّاتهم، إذا تم الالتفاف حوله، وتم انجاح ثورتهم المجيدة، ستترتب على ذلك تحوّلات نوعية وكمية، ديمقرّاطية ثورّية، من شأنها تدمير البنى الاقتصادية الطفيلية، التي التفت على الموارد والثروات السودانية، لأكثر من ثمانية عقود!
وهي خطوة ضرورية لإعادة بناء الاقتصاد الوّطني، وتحقيق التنمية المستدّامة، التي لا تغفل تخفيف الضغط الاقتصادي على المواطن، وتوفير مدخلات الإنتاج للمزارع و”الصنايعي” ووضع الضوابط التي ترّاعي المصالح الوطنية، بوجه التهريب و التجارّة العابرّة للجغرّافيا السودانية.
ونحن هنا لا ننكر نُبل “برنامج مرّحلة الثورّة الوطنية الديمقراطية” من ناحية نظرية، لكننا نفكر في أجندة الثورّة السودانية الجارّية الآن بكل تنوعها الفكري والثقافي، وهي أجندة غير مؤطرة ببرامج اليسار، ولم تُصاغ من داخل نظام تفكير اليسار، ومع ذلك تطمح مثله إلى تصفية التخلف الاجتماعي الثقافي التعليمي، وتطوير النظام الصحي، بحيث تتولى الدولة مسؤولية التعليم والصحة المجانية، للفقراء ومحدودي الدخل، وبناء القوات النظامية بطريقة احترافية ومهنية ووفقا لعقيدة وطنية واحدة، ونظام تدريب وتسليح وتأهيل حديث، وكذلك إعادة بناء والمؤسسات التي تخدم أغراض الدولة المدنية الديمقراطية، خاصة المؤسسات المتعلقة بمشاريع البنى التحتية. وهي أجندة مقبولة للجميع، وليست محل اختلاف.

تاريخ الخبر: 2022-07-08 15:23:26
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 60%
الأهمية: 62%

آخر الأخبار حول العالم

المفاوضات لإقرار هدنة في قطاع غزة "تشهد تقدما ملحوظا"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 15:26:01
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 57%

المفاوضات لإقرار هدنة في قطاع غزة "تشهد تقدما ملحوظا"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 15:26:05
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 63%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية